|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
المُستَحِقُّون لدُخول مَلكوتِ السَّمَوات المُستَحِقُّون لدُخول مَلكوتِ السَّمَوات (متى 20: 1-16) النص الإنجيلي (متى 29: 1-16) 1 فَمَثلُ مَلكوتِ السَّمَوات كَمَثلِ رَبّ بَيتٍ خَرَجَ عِندَ الفَجرِ لِيَستأجِرَ عَمَلةً لِكَرْمِه. 2 فاتَّفقَ معَ العَمَلة على دينارٍ في اليَوم وأَرسَلهم إلى كَرْمِه. 3 خَرَجَ نَحوَ السَّاعةِ التَّاسِعة، فرأَى عَمَلةً آخَرينَ قائمينَ في السَّاحَةِ بَطَّالين. 4 فقالَ لَهم: ((اِذهَبوا أَنتُم أَيضاً إلى كَرْمِي، وسَأُعطيكُم ما كانَ عَدْلاً))، 5 فذَهَبوا. وخرَجَ أَيضاً نَحوَ الظُّهْر ثُمَّ نَحوَ الثَّالِثَةِ بَعدَ الظُّهْر، ففَعلَ مِثلَ ذلك. 6-وخَرَجَ نَحوَ الخامِسةِ بَعدَ الظُّهْر، فَلَقِيَ أُناساً آخرينَ قائمينَ هُناك، فقالَ لَهم: لِماذا قُمتُم هَهُنا طَوالَ النَّهارِ بَطَّالين؟ )) 7 قالوا له: ((لم يَستأجِرْنا أَحَد)). قالَ لَهم: ((اِذهَبوا أَنتُم أَيضاً إلى كَرْمِي)). 8 ولمَّا جاءَ المساء قالَ صاحِبُ الكَرْمِ لِوَكيلِه: ((أُدعُ العَمَلة وادفَعْ لَهُمُ الأُجرَة، مُبتَدِئاً بِالآخِرين مُنتَهِياً بِالأَوَّلين)). 9 فجاءَ أَصحابُ السَّاعةِ الخامِسةِ بَعدَ الظُّهْر وأَخَذَ كُلٌّ مِنهُم ديناراً. 10-ثُمَّ جاءَ الأَوَّلون، فظَنُّوا أَنَّهم سيَأخُذونَ أَكثَرَ مِن هؤُلاء، فَأَخَذَ كُلٌّ مِنهُم أَيضاً ديناراً. 11 وكانوا يأخُذونَه ويقولون مُتَذَمِّرينَ على رَبّ البَيت: 12 ((هؤُلاءِ الَّذينَ أَتَوا آخِراً لم يَعمَلوا غَيرَ ساعةٍ واحدة، فساوَيتَهم بِنا نحنُ الَّذينَ احتَمَلْنا ثِقَلَ النَّهارِ وَحَرَّه الشَّديد)). 13 فأَجابَ واحداً مِنهُم: ((يا صَديقي، ما ظَلَمتُكَ، أَلم تَتَّفِقْ مَعي على دينار؟ 14 خُذْ ما لَكَ وَانصَرِفْ. فَهذا الَّذي أَتى آخِراً أُريدُ أَن أُعطِيَهُ مِثلَك: 15 أَلا يَجوزُ لي أَن أَتصرَّفَ بِمالي كما أَشاء؟ أَم عَينُكَ حَسودٌ لأَنِّي كريم؟)) 16 فهَكذا يَصيرُ الآخِرونَ أَوَّلين والأَوَّلونَ آخِرين. مقدمة يسلط إنجيل هذا الأحد الأضواء على موضوع استحقاق العضوية لدخول مَلكوتِ السَّمَوات من خلال مثل العَمَلة وأجرتهم (متى 20: 1 -16). وتتوقف عضوية دخول الملكوت قبل كل شيء على نعْمَة الله وصلاحه وكَرْمِه وعلى الإيمان بالمسيح، وليس على أولوية خدمة الإنسان أو مدَّتها وقَدْرِ الإنتاج الذي يحقِّقه، بل على قَدْرِ طاعة الإنسان لله تعالى وثقته بكلامه. دخول الملكوت يعتمد على معايير الله، وليس على معايير البشر؛ كما يدعونا إنجيل اليوم إلى إدراك أفكار الله وطرقه ليؤمن للإنسان عمل بحسب دعوته لكيلا يكون بطَّال، كما يدعونا أيضًا إلى التحرُّر من الحَسَد الآخر، الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالطَّمِع، ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 20: 1 -16) 1 ((فَمَثلُ مَلكوتِ السَّمَوات كَمَثلِ رَبّ بَيتٍ خَرَجَ عِندَ الفَجرِ لِيَستأجِرَ عَمَلةً لِكَرْمِه. تشير عبارة َ" مَلكوتِ السَّمَوات" إلى نظام الحياة المسيحية الذي يبدأ على الأرض ويُكمَّل في السماء. أمَّا عبارة "مَثلِ رَبّ بَيتٍ خَرَجَ عِندَ الفَجرِ لِيَستأجِرَ عَمَلةً لِكَرْمِه ُ" فتشير مقارنة ملكوت الله بعمل بشريّ. وهو مَثلِ مأخوذ من البيئة الفلسطينية حيث اعتاد العُمَّال الأجراء أن يتجمَّعوا في مكان معين من القرية، ينتظرون مَن يأتي ليستأجرهم من أجل عمل يومٍ واحد، وذلك للعمل في حقول أصحاب المزارع مقابل اجرٍ مُتَّفقٍ عليه. أمَّا عبارة " رَبّ بَيتٍ " فتشير إلى رئيس عائلة غني جدًا، وكَرْمِه الواسع الذي يحتاج إلى عُمّال كثيرين يستأجرهم يوميًا من سوق قرَبّ بيته حيث لا يبقى أحدٌ عاطلٌ عن العَمَل. الله يُمثِّل رَبّ الكَرْمِ. وذاك هو تصرف الله الذي يحتاج إلى كل واحد منَّا للعمل في كَرْمِه، في كنيسته، في ملكوته. ويعلق القدّيس غريغوريوس الكبير" مَن يستحقّ أن يقارَن برَبّ البيت هذا أكثر من خالقنا الذي يحكم أولئك الذين خلقهم، ويمارس في هذا العَالَم حقّ المُلكيّة على مختاريه كسيّد على الخدّام الذين يعملون عنده؟ إنّه يملك كَرْمِا، وهو الكنيسة الجامعة" (عظات عن الإنجيل، العظة رقم 19). أمَّا عبارة " خَرَجَ" التي تكرَّرت ثلاث مرات في النَّص (متى 20: 3، 5، 6) فتشير إلى عمل الله مع البشريّة. وكأنه أراد أن يُؤكّد لنا حقيقة هامة، وهي أن الله في حبّه للبشريّة لم ينتظرها، وإنَّما دائمًا وأبدًا هو الذي يبادر بالخروج إليها في كل ساعة من ساعات النَّهار، وكأن لا عمل له غير خلاص الإنسان ومُصَالحته. أمَّا عبارة " عِندَ الفَجرِ " فتشير إلى ساعات الصباح الأولى للدلالة على بداية تكوين الأمة اليهودية حين دعا الله إبراهيم. ويعلق القدّيس غريغوريوس الكبير" لم يتوقّف منذ بداية العَالَم حتّى النهاية، عن جمع المُبشّرين لتعليم جماعة المؤمنين. الفجر بالنسبة إلى العَالَم كان الفترة الممتدّة من آدم إلى نوح (عظات عن الإنجيل، العظة رقم 19)؛ أمَّا عبارة "لِيَستأجِرَ عَمَلةً" فتشير إلى دعوة الله إلى النَّاس للعمل في كنيسته بواسطة الأنبياء والرُّسل والمُعلمين. ولله حكم في دعوة كلِّ أمَّة في وقتها، وكل شخص في وقته، وتلك الدعوة نعْمَة بدليل قوله " لم تَخْتاروني أَنتُم، بل أَنا اختَرتُكم " (يوحنا 15: 16). ويرمز بالعَمَلة هنا إلى خدم الله والمُبشِّرين سواء دُعوا في العصور الأولى أم في العصور الأخيرة، وسواء دعوا في أول الحياة أم آخرها. أمَّا عبارة ِ"كَرْمِه" فتشير إلى موسم قطاف العنب، وهو من بداية شهر آب لنهاية شهر أيلول. وأمَّا من النَّاحية الرَّمزية فالكَرْمِ يدلُّ على إسرائيل، الشَّعب المُختار وشعب العهد والكنيسة، كما لمّح أشعيا النبي "لِأَنَّ كَرْمِ رَبّ القواتِ هو بَيتُ إِسْرائيل وأُناسُ يَهوذا "(أشعيا 5: 7). وأمَّا في المعنى الروحي فكَرْمِه يدل على القلب الذي فيه يُقيم مملكته، كقوله "فها إِنَّ مَلكوتَ اللهِ بَينَكم " (لوقا 17: 21). ويريد الرَبّ أن يدخل جميع العُمَّال في كَرْمِه بحيث لا يبقى أحدٌ عاطلٌ عن العَمَل. 2 فاتَّفقَ معَ العَمَلة على دينارٍ في اليَوم وأَرسَلهم إلى كَرْمِه. أمَّا عبارة "اتَّفقَ " فتشير إلى عدل صاحب الكَرْمِ حين أعطى العُمَّال الأولين دينارًا، وأمَّا عندما أعطى الآخرين مثل الأولين تعبيرًا عن سخائه وصلاحه. تفترض الآية (متى 20: 16) أنَّ المدعوّين الأوائل هم اليهود الذين رفضوا الدينار. أمَّا عبارة " العَمَلة" فتشير إلى كلَّ البشر الذين يدعوهم الله للحياة معه وخدمته لدخول المَلكوت السَّماوي. أمَّا عبارة "دينار" فتشير إلى الدينار الروماني وهو أجرة عامل في اليَوم في ذلك الوقت. ويوم العَمَل عند اليهود يبدأ من الصباح الباكر حتى غروب الشمس. وهكذا يُرى أن سيّد الكَرْمِ كان عادلاً حين أعطى العُمَّال الأولين ما أعطاهم، وحين أعطى الآخرين مثل الأولين دلالة على جود الرَبّ وكَرْمِه الذي لم يردْ العُمَّال الأولون أن يفهموه. فالدينار هو رمز الخلاص الذي سيقدِّمه الله لكلِّ مؤمن تائب، كما جاء في تعليق العلاَّمة أوريجانوس "في الدينار، الذي قدّمه وكيل رَبّ البيت للعاملين في كَرْمِه، أنه رمز الخلاص". وفي هذا الصدد يقول بولس الرَّسول" فإِنَّه يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاس ويَبلُغوا إلى مَعرِفَةِ الحَقّ" (1 طيموتاوس 2: 4). وأمَّا في مفهوم القديس أوغسطينوس فيرى في الدينار رمز الحياة الأبديّة ". والثواب الذي وعد الله به عملة الكنيسة هو الحياة الأبدية أي الميراث السَّماوي وإكليل البِرِّ، وكل ذلك الثَّواب من النِّعْمَة، لانَّ الدَّعوة عينها هي النِّعْمَة. في هذه الأُجرَة نتساوى جميعًا، يكون الأوّل كالأخير، والأخير كالأوّل، لأن ذلك الدينار هو الحياة الأبديّة، وفي الحياة الأبديّة الكل متساوون" (العظة 87). فاليهود الذين هم أصحاب السَّاعةِ الأولى -الذين عرفوا الله منذ أيام إبراهيم وإسحق ويعقوب -متساوون مع الوثنيين أصحاب السَّاعةِ المتأخرة. 3 ثُمَّ خَرَجَ نَحوَ السَّاعةِ التَّاسِعة، فرأَى عَمَلةً آخَرينَ قائمينَ في السَّاحَةِ بَطَّالين. تشير عبارة " نَحوَ السَّاعةِ التَّاسِعة " إلى الثالثة بحسب توقيتنا المعاصر. ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير " السَّاعةِ الثالثة، الفترة الممتدّة من نوح إلى إبراهيم"(عظات عن الإنجيل، العظة رقم 19) أمَّا عبارة "السَّاحَة" فتشير إلى المكان العادي الذي ينتظر فيه العُمَّال الذين يطلبون عملاً. 4 فقالَ لَهم: ((اِذهَبوا أَنتُم أَيضاً إلى كَرْمِي، وسَأُعطيكُم ما كانَ عَدْلاً))، تشير عبارة "سَأُعطيكُم ما كانَ عَدْلاً" إلى الوعد بدفع أجرة عادلة، ولكنه لم يُحدِّدها. رَبّ البيت وعد العُمَّال بما يستحقون فوثقوا بقوله. ولا ريب أنَّهم توقّعوا جزءًا من الدِّينار على قدر الوقت الذي عملوا فيه. أمَّا عبارة "عَدْلاً" فتشير إلى إحدى صفات الله تعالى، مثل البِرِّ (مزمور 119: 142)، ويعني عدل الله أن ليس عنده ظلم ولا محاباة ولا اعوجاج في القضاء ولا محاباة الوجوه (تثنية الاشتراع 10: 17، قولسي 3: 25، 1 بطرس 1: 17). هذه العدالة لا تشبه لا من قريب ولا من بعيد عدالتنا الإنسانية حيث أنَّ الله لا يفكر مثلنا، كما جاء في نبوءة أشعيا: " فإِنَّ أَفكاري لَيسَت أَفْكارَكم ولا طرقُكم طُرُقي، يَقولُ الرَبّ" (أشعيا 55: 8). وما يضيفه لنا مثل اليَوم، هو العبور من عدالة الشَّريعة إلى عدالة النِّعْمَة. والعَدْل هي صفة إنسانية أمر الله بها البشر، مسؤولين كانوا أو غير مسؤولين، لكي يكونوا على مثال الله في عدله. وأكدّ المثل على الحكام بالعَدْل بوجه خاص لكي يجروه في القضاء والبيع والشراء ومع المساكين والأيتام والأرامل والخُدام (تثنية الاشتراع 16: 20 وأشعيا 56: 1؛ قولسي 4: 1). 5 فذَهَبوا. وخرَجَ أَيضاً نَحوَ الظُّهْر ثُمَّ نَحوَ الثَّالِثَةِ بَعدَ الظُّهْر، ففَعلَ مِثلَ ذلك. تشير عبارة "نَحوَ الظُّهْر" إلى السَّاعةِ السَّادسة بحسب توقيتنا المعاصر، ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير "السَّاعةِ السادسة، هي الفترة الممتدّة من إبراهيم إلى موسى" (عظات عن الإنجيل، العظة رقم 19). أمَّا عبارة "نَحوَ الثَّالِثَةِ بَعدَ الظُّهْر" فتشير إلى السَّاعةِ التاسعة بحسب توقيتنا المعاصر. ويعلق القدّيس غريغوريوس الكبير " السَّاعةِ التاسعة، هي الفترة الممتدّة من موسى إلى مجيء الرَبّ"(عظات عن الإنجيل، العظة رقم 19)؛ لكُلِّ إنسانٍ مسيحيِّ دعوةً للعملِ في الكنيسة. ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " أراد الله أن يدعوهم بنفسه بشكل خاص... في الوقت الذي ظنّ الله أنهم سيستسلمون ويلبّون دعوته. هذا ما لاحظه بوضوح الرَّسول بولس فيما خصّ دعوته، فقال في رسالته إلى أهل غلاطية: "ولكِن لَمَّا حَسُنَ لدى اللهِ الَّذي أَفرَدَني، مُذ كُنتُ في بَطْنِ أُمِّي، ودَعاني بنِعمَتِه (غلاطية 1: 15) (العظة 64)؛ فهل فكَّرنا في الدعوة الخاصَّة التي وجَّهها الله إلينا؟ هل عرفناها؟ هل لبَّينا هذه الدعوة؟ 6 وخَرَجَ نَحوَ الخامِسةِ بَعدَ الظُّهْر، فَلَقِيَ أُناساً آخرينَ قائمينَ هُناك، فقالَ لَهم: لِماذا قُمتُم هَهُنا طَوالَ النَّهارِ بَطَّالين؟)) تشير عبارة "وخَرَجَ نَحوَ الخامِسةِ بَعدَ الظُّهْر" إلى خروج رب البيت خامس مرة، في أوقات مختلفة من النهار ليستأجر عَمَلة واعدًا إياهم بمكافأة مناسبة. فهو لا يرتاح طوال اليّوم إلّا إذا وجد عمالاً جدداً لكرمه. وهمَّه ليس فقط بكرْمه الخاص بل بالعَمَلة، بحيث يكون لكل فرد عمل وبالتالي دخلًا لحياتهم أيضًا. 7قالوا له: ((لم يَستأجِرْنا أَحَد)). قالَ لَهم: ((اِذهَبوا أَنتُم أَيضاً إلى كَرْمِي)). تشير عبارة " نَحوَ الخامِسةِ بَعدَ الظُّهْر" إلى السَّاعةِ الحادية عشرة قبل ساعة من غياب الشمس، هي ساعة دعوة الأمم. ويعلق القدّيس غريغوريوس الكبير " السَّاعةِ الحادية عشرة، الفترة الممتدّة من مجيء الرَبّ إلى نهاية العَالَم."(عظات عن الإنجيل، العظة رقم 19). كان النَّهار والليل يُقسم إلى أرَبّعة أقسام، وكل قسم ثلاث ساعات. هكذا يخرج رَبّ البيت إلينا داعيًا إيَّانا للعمل، كما يؤكده يوحنا الرَّسول "يَجِبُ علَينا، ما دامَ النَّهار، أَن نَعمَلَ أَعمالَ الَّذي أَرسَلَني. فاللَّيلُ آتٍ، وفيه لا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَعمَل" (يوحنا 9: 4). ما هي هذه السَّاعات إلاّ مراحل حياة الإنسان عِبر كل حياته، مرحلة الفجر تُشير إلى الطفولة، والثالثة إلى الصبوّة، والسادسة، أي وقت الظهيرة تُشير إلى الشباب، والتَّاسعة إلى الرُّجولة، والحادية عشر إلى الشَّيخوخة، أي إلى السَّاعةِ الأخيرة من حياتنا. ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " إنّ الله لم يَدعُ اللص إلاّ في السَّاعةِ الأخيرة على الصليب، مع إنّه كان يمكنه أن يدعوه من قبل، لو كان واثقًا من أنّه سيلبّي النداء "(العظة 64). وهكذا يدعونا الله للعمل فاتحًا ذراعيه بالحُبِّ لنا حتى اللحظات الأخيرة من عمرنا حيث إنه لا ييأس قط منّا، بل هو مشتاقٌ أن نستجيب لدعوته، ونعمل لحسابه. إن الكَرْمِ مفتوح لنا والصَّوت الإلهي لا يتوقّف ما دام الوقت يُدعى اليَوم، وما زلنا نحمل نفسًا حية، لهذا يقول الرَّسول بولس: "لِيُشَدِّدْ بَعضُكم بَعضًا كُلَّ يَوم، ما دامَ إِعلانُ هذا اليَوم، لِئَلاَّ يَقسُوَ أَحَدُكم بِخَديعَةٍ مِنَ الخَطيئَة" (عبرانيين 3: 13). أمَّا عبارة "أُناساً آخرينَ قائمينَ هُناك" فتشير إلى الوثنيين الذين وحدهم قبلوا الدينار. أمَّا عبارة "لِماذا قُمتُم هَهُنا طَوالَ النَّهارِ بَطَّالين؟ " فتشير إلى معاتبة صاحب الكَرْمِ بالعَمَلة البطَّالين دلالة على اهتمامه بمأساتهم. فبحثه عن العُمَّال خمس مرات في اليَوم لم يفعل ذلك لأجل مصلحته الخاصة، بل لمصلحة العَمَلة البطَّالين، فما يقلقه أكثر من أيّ شيء آخر هو أنّ يعمل الجميع؛ أمَّا عبارة "لم يَستأجِرْنا أَحَد" فتشير إلى جواب أصحاب السَّاعةِ الحادية عشرة بأنَّهم كانوا راغبين في العَمَل وليسوا متكاسلين، بل لم يستأجرهم أحدٌ. فهم ليسوا متكاسلين ولا مقاومين لله، بل لم تصلهم دعوة الله للعمل. 8 ولمَّا جاءَ المساء قالَ صاحِبُ الكَرْمِ لِوَكيلِه: ((أُدعُ العَمَلة وادفَعْ لَهُمُ الأُجرَة، مُبتَدِئاً بِالآخِرين مُنتَهِياً بِالأَوَّلين)). تشير عبارة "ولمَّا جاءَ المساء" إلى الغروب وهو وقت انصراف العَمَلة، والمُراد به يوم الدينونة، لأنه في نهاية العَالَم؛ ويصح أيضا أن يراد به نهاية عمر كلِّ إنسان. أمَّا عبارة "قالَ صاحِبُ الكَرْمِ لِوَكيلِه: أُدعُ العَمَلة وادفَعْ لَهُمُ الأُجرَة" فتشير إلى دفع الأُجرَة في نهاية يوم العَمَل تطبيق لما ورد في أحكام شريعة موسى "لا تُبِتْ أُجرَةَ الأَجيرِ عِندَكَ إلى الغَد"(أحبار 19: 13). ويشرح سفر تثنية الاشتراع سبب دفع الأُجرَة مباشرة دون تأخير " ادفَعْ إِلَيه أُجرَتَه في يَومِه، ولا تَغِبْ علَيها الشمْسِ، لأَنَّه مِسْكين وإِلَيها يَطمَح، لِئَلاَّ يَصرُخ علَيكَ إلى الرَبّ، فَتكونَ علَيكَ خَطيئَة" (تثنية الاشتراع 24: 15). وهذا يدلُّ على عدل رَبّ الكَرْمِ وحنوه. أمَّا عبارة " وَكيلِه" فتشير إلى السَّيِّد المسيح، كون صاحب الكَرْمِ هو الله. أمَّا عبارة "مُبتَدِئاً بِالآخِرين مُنتَهِياً بِالأَوَّلين" فتشير إلى ترتيب الدّفعات ترتيب عكسي، إذ يدفع الأجرة أولاً لمن ذهب آخراً إلى العمل. والغاية منه تعليم حول مساواتهم في الأُجرَة والعَدْل والنِّعْمَة أو المجَّانية، وهو المبحث الأساسي في المثل الذي له صلة في الحكمة التي بدأ بها مثل العَمَلة "وكَثيرٌ مِنَ الأَوَّلينَ يصيرونَ آخِرين، وَمِنَ الآخِرينَ أَوَّلين" (متى 19: 30) وانتهى بها "فهَكذا يَصيرُ الآخِرونَ أَوَّلين والأَوَّلونَ آخِرين" (متى 20: 16). 9 جاءَ أَصحابُ السَّاعةِ الخامِسةِ بَعدَ الظُّهْر وأَخَذَ كُلٌّ مِنهُم ديناراً. تشير عبارة "جاءَ أَصحابُ السَّاعةِ الخامِسةِ بَعدَ الظُّهْر" إلى العُمَّال الذين قدموا في آخر النهار، وهم الذين وثِقوا برَبّ العَمَل، وأطاعوا كلمته، ولبَّوا دعوته فوراً، ولم يُناقشوه في مِقدار الأُجرَة. لانَّ ما دفعه صاحب العَمَل إلى ذلك ليس المنفعة التي ستأتيه من عملهم، إنّما اهتمامه بأولئك المساكين العاطلين عن العَمَل انطلاقا من محبّته المجّانيَة. أما عبارة " فَأَخَذَ كُلٌّ مِنهُم أَيضاً ديناراً " فتشير إلى العُمَّال الذين عملوا في آخر النهار ونالوا أُجرَتهم نفس الأجر الذي تمَّ الاتفاق عليه مع الأوَّلين (20: 9)، وهو ديناراً في اليوم (20: 2)، فعادوا راضين إلى بيوتهم، دون معرفة ما حصل مع الباقين. وهذ الأمر يدلّ أن الله ليس عادل فحسب، إنما أيضا صالح، يعطي للجميع، دون شروط، ودون حسابات. وتدل هذه الآية أيضا هنا على تساوي عمال آخر النَّهار مع عمال الفجر مما يدل على تساوي الأمم الوثنية واليهودية حيث اخذوا كل منهم دينار الخلاص؛ لكن اليهود كانوا يظنّون أن الخلاص لهم وحدهم، وانَّ المسيّح قادم لهم دون غيرهم. فمن جاء آخراً يُعلِّم من جاء 10 ثُمَّ جاءَ الأَوَّلون، فظَنُّوا أَن َّهم سيَأخُذونَ أَكثَرَ مِن هؤُلاء، فَأَخَذَ كُلٌّ مِنهُم أَيضاً ديناراً. تشير عبارة " فَأَخَذَ كُلٌّ مِنهُم أَيضاً ديناراً" إلى مساواة رَبّ البيت في الأُجرَة مما يدل على عدل للكل، ورحمة للبعض. والمعنى الروحي للمساوة هو أنَّ الله يهب الحياة الأبدية لكل خَدَمه الأمناء، ولا يهب لأحد منهم أقلَّ منها مهما كانت خدمته قصيرة على الأرض. فالخلاص نصيبُ جميع المؤمنين، وهذا من نعمته تعالى. فإنَّه فتح باب السَّماء للص اليمين الذي آمن ساعة موته (لوقا 23: 43)، كما فتحه لسمعان الشيخ الذي انتظر تعزية إسرائيل وحمل يسوع على ذراعيه في الهيكل وأبصرت عيناه خلاصه (لوقا 2: 29-33). 11 وكانوا يأخُذونَه ويقولون مُتَذَمِّرينَ على رَبّ البَيت: تشير عبارة " مُتَذَمِّرينَ على رَبّ البَيت " إلى امتعاض العُمَّال الأوَّلين الذين أدركوا ما حصل مع العُمَّال المتأخرين وعبَّروا عن استيائهم وسخطهم وعدم رضاهم تجاه رَبّ البيت، لا لأنهم قبضوا أجْرَتهم بعد الآخرين، بل لأنهم قبضوا الأُجرَة نفسها التي قبضها عَمَلة السَّاعةِ الأخيرة. كان لهم الحق أن يتذمروا لو أعطاهم رب البيت أقل من الأُجرَة المتفق عليها، فلا مجال للتذمر إلاّ في الظلم، لكن هنا عدل تام؛ فما سبب تذمُّرهم إلاَّ طريقة تفكيرهم البشريّة المنحصرة على الّذات وشعورهم بالحَسَد مِن الذين أشفق عليهم رَبّ الكَرْمِ وأعطاهم أجْرَة نهار كامل بدل أجرة على عمل جزء من النهار. الحَسَد هو عَد النعم التي يحظى بها الآخرون بدلاً من عَد انعم التي أخذوها والتمتع بما يناله الآخر. في الواقع، يشعر عمال الساعة الأولى بالسوء عندما يرون الخير، ويحسدون لأن صاحب الكرم كان صالحًا (متى 21: 15). فلما رأوا الآخرين ينالون ما نالوه هم، رفضوا منطق رَبّ الكَرْمِ الذي يتنافى ومنطق البشر. هم أناس يرون حقوقهم، لكنهم لا يرون صلاح الله. ففي منطق الرَبّ ينال العشاَّرون ما ينال الفِرِّيسيُّون، والخطأة ما ينال الأبرار، كذلك في منطق الكنيسة ينال الوثنيون ما ناله اليهود. وقد عبّرت أسفار العهد القديم عن تذمُّر النَّاس على الله؛ فالتذمّر هو فعل متكرّر في سفر الخروج (خروج 15: 24، 16: 2-12، 17: 3)، وكثيرة هي الأحداث الّتي لا يعرف فيها بنو إسرائيل أن يروا خلاص الرَبّ فأخذوا يتذمرون عليه تعالى، لأنه يغفر للخاطئين ويرحم التائبين وقالوا " لَيسَ طَريق السَّيِّد بِمُستَقيم (حزقيال 18: 25)، كذلك يونان النبي احتجَّ على الله، لانَّ الله غفر لأهل نينوى (يونان 3). وعبَّر الإنجيل عن هذا التَّذمر أيضا، فعلى سبيل المثال في مثل الابن الشَّاطر حيث تذمر الابن الأكبر على أبيه بقوله "لمَّا قَدِمَ ابنُكَ هذا الَّذي أَكَلَ مالَكَ مع البَغايا ذَبَحتَ له العِجْلَ المُسَمَّن!" (لوقا 15: 30)، وفي شفاء أعميين في أريحا (متى 20: 31)، لكن الله يعلن "إِنَّ أَفكاري لَيسَت أَفْكارَكم ولا طرقُكم طُرُقي، يَقولُ الرَبّ. كما تَعْلو السَّمواتُ عنِ الأَرض كذلك طُرُقي تَعْلو عن طُرُقِكم وأَفْكاري عن أَفْكارِكم (أشعيا 55: 8-9). ويحذِّرنا أحد الأفلام من مهاجمة الله فكان عنوانه" ذراعك أقصر من أن تقاتل الله". يحق لنا أن نطرح الأسئلة، لكن بالحُبِّ وفي الحبِّ ومع الحُبِّ ودون تذمر. فسبب التَّذمر في الأصل هو الحَسَد، والحَسَد دفع اليهود لرفض المسيح فصاروا آخرين. لا ندع الحَسَد يتغلب علينا كي لا نتذمر على رحمة الله! 12 ((هؤُلاءِ الَّذينَ أَتَوا آخِراً لم يَعمَلوا غَيرَ ساعةٍ واحدة، فساوَيتَهم بِنا نحنُ الَّذينَ احتَمَلْنا ثِقَلَ النَّهارِ وَحَرَّه الشَّديد)). تشير عبارة "هؤُلاءِ الَّذينَ أَتَوا آخِراً" إلى الأمم الوثنية، وهم آخر من دُعي للدخول في "العهد"، وهم يُعاملون على قدم المُساواة مع شعب اليهودي. إنَّ الله لا يتعامل بالامتيازات، لكن اليهود رفضوا منطق رَبّ الكَرْمِ الذي يتنافى مع منطق البشر في جوده وسخائه ورحمته. ويُظهر يسوع هذا المنطق بإعطائه الأولويَّة إلى الآخرين من الفقراء والمنبوذين والمُهمَّشين والخطأة. لا نُقَيِّم بما نستحقه بعملنا، ولكن الله في سخائه يعطنا بحسب نعمته أكثر مما نظن أو نتوقع. أمَّا عبارة "فساوَيتَهم بِنا" فتشير إلى المساواة في الأُجرَة التي سببَّت تذمر لعمّال السَّاعةِ الأولى برغم عدم التساوي بين اثنتي عشرة ساعة عمل احتَمَلْوا ثِقَلَ النَّهارِ وَحَرَّه الشَّديد، وساعة عمل واحدة بعد غروب الشَّمس. وكأنَّها مسألة عدالة. تتجسد هنا أفكار الله وطرقه في فكر صاحب الكرم عند إعطائه أجر عماله وفقا لتعليم أشعيا النبي: "إِنَّ أَفكاري لَيسَت أَفْكارَكم ولا طرقُكم طُرُقي، يَقولُ الرَبّ" (أشعيا 55: 8)، وهذا لا يتوافق مع فكر العمال. يعلق الراهب إسحَق السريانيّ " كيف يمكنك التوقّف عند عدل الله؟ كيف يمكن أن نقول إنّ الله عادل فحسب حين نقرأ فصل الابن الضالّ الذي بدّد ثروة والده في عيشة الإسراف. وحالما عبّر عن ندمه، ركض الوالد باتجاهه وألقى بنفسه على عنقه وأعطاه السلطة على كامل ثروته؟ (لوقا 15: 11). إن بدا الله رحيمًا هنا على الأرض، فلنثقْ بأنّه كان كذلك منذ الأبديّة"(أحاديث نسكيّة، السّلسلة الأولى، 60). 13 أَجابَ واحداً مِنهُم: ((يا صَديقي، ما ظَلَمتُكَ، أَلم تَتَّفِقْ مَعي على دينار؟ تشير عبارة " أَجابَ واحداً مِنهُم " إلى جواب رَبّ الكَرْمِ إلى أحدهم العُمَّال كممثل عن الباقين مُبيِّنًا له أنَّه لم يظلم أحدًا منهم، فلا حق لغيره إن يتذمر عليه؛ فماله له، وله أن يتصرف به كماء يشاء، ويُعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم: "يرينا أنّ النَّاس يعطون ذواتهم لله في أعمار مختلفة جدًّا، ويرينا هذا المثل أيضًا أنّ الله يريد أن يمنع بأيّ ثمن أن يحتقر المدعوّون الأوّلون مَن تأخّر في تلبية النداء"(العظة 64). أمَّا عبارة " يا صَديقي " فتشير إلى استعمال الكتاب المقدس في أغلب الأحيان لدى مخاطبة الأعلى الأدنى. وكأن الله يتحدّث مع العَامل كصديق مع صديقه. أمَّا عبارة " ما ظَلَمتُكَ" فتشير إلى احترام قانون العَمَل وتنفيذ الاتفاقية وعدم سلب العامل أجْرَته المتفق عليه، وهكذا يعامل الله كلَّ إنسان بالعَدْل. ما أُعطي للآخرين لم ينتزع شيئاً من الأوَّلين، ومجهود الجميع تمَّت مكافأته. مع الأسف، ينتمي الظلم إلى أرباب العمل الـمُتجبِّرين والفاسدين وليس للفكر الإلهي. ولا ينبغي أن نُطبق فكرنا البشري على أرباب العمل ونلصقها بالرّبّ العظيم فهو إلهنا ونحن خلائقه. أمَّا عبارة " أَلم تَتَّفِقْ مَعي على دينار؟" فتشير إلى احترام رَبّ البيت اتفاقية الأُجرَة، ممَّا ينزع كل سلاح من يد العُمَّال. إنه يعطي "دينار الخلاص" لمن يشاء من المُتقدِّمين والمُتأخِّرين للعمل دونما اعتبار لساعة قدومهم، وانتقاص لقيمة أجرهم. فهو عادل مع المُتقدمين، وسخي مع المتأخرين، ولم يحرم أحداً مكافأة تعبه. فصاحب العَمَل تصرف تصرفًا كريمًا مع عمال السَّاعةِ الأخيرة، وتصرف بحرية، وغايته أن يُظهر صلاح الله. منح الله الجميع الخلاص، ولكل إنسان مكانه في الملكوت. غير أنَّه لا يرضى بأن يحسُد النَّاس بعضُهم بعضاً بسبب كَرْمِه وصلاح ورحمته. 14 خُذْ ما لَكَ وَانصَرِفْ. فَهذا الَّذي أَتى آخِراً أُريدُ أَن أُعطِيَهُ مِثلَك: تشير عبارة " خُذْ ما لَكَ وَانصَرِفْ " إلى المُتذمِّرين الذين رفضوا أن يأخذوا الأُجرَة المُتَّفق عليها. إنَّ الله الإله الكريم هو عادِلٌ، ولا يحرم أحداً مكافأة تعبه. أمَّا عبارة "فَهذا الَّذي أَتى آخِراً أُريدُ أَن أُعطِيَهُ مِثلَك" فتشير إلى تشديد على إرادة السَّيِّد في العطاء. السَّيِّد يُعطى ليس بحسب الأعمال والاستحقاق فحسب، إنما أيضا بحسب محبته ورحمته ونعمته. وهو يعطى أكثر مما نظن، أنه يُعطي بحسب نعمته، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "ذاكَ الَّذي يَستَطيعُ، بِقُوَّتِه العامِلَةِ فينا، أَن يَبلُغَ ما يَفوقُ كثيرًا كُلَّ ما نَسأَلُه أَو نَتصَوَّرُه" (أفسس 3: 20). إن ملكوت الله لا يقوم على موازنة حسابية، إنما على كَرْمِه تعالى وصلاحه وحريته. وإذا كانت الأجور تقرِّر على أساس ما يؤدِّيه العامل، وعلى أساس مؤهلاته وكفايته ومدى إنتاجه، فإنما نظام الأسرة يتبع نظاما آخر، فالآب يوزَّع بين بنيه على أساس الحاجة، لا على أساس المقدرة الإنتاجية. ونظام الأسرة هو نظام ملكوت الله. والله لا يمنح النَّاس اقلَّ مما يستحقون، بل يُجزل لهم العطاء دائما أكثر ممَّا هم أهل له. 15 أَلا يَجوزُ لي أَن أَتصرَّفَ بِمالي كما أَشاء؟ أَم عَينُكَ حَسودٌ لأَنِّي كريم؟ )) تشير عبارة " لا يَجوزُ لي أَن أَتصرَّفَ بِمالي كما أَشاء؟ " إلى حرية الله في العَمَل، فهو صالح وله الحق أن يُعطي أو لا يعطي كما يشاء. وينبغي أن نحرص على ألاَّ يُثير فينا صلاح الله وجَوده أية شكوى أو تذمر. فهنا العدالة موجودة، لكن مع الطِّيبة. أمَّا عبارة " كما أَشاء " فتشير إلى إرادة السَّيِّد في العطاء، هذا ما يُسمَّى النِّعْمَة. السَّيِّد يُعطى ليس بحسب الأعمال والاستحقاق فحسب، إنما أيضا بحسب محبَّته ورحمته ونعمته. يريد يسوع أن يُبيِّن من خلال المَثل أن رأفة الله تفوق معايير البشر في المكافأة المفهومة كأجرة مُستحقَّة. فالمِقياس البشري لتحديد مقدار الأُجرَة المستحقَّة هو مقدار الإنتاج الذي يُقدِّمه العامل لرَبّ العَمَل. أمَّا مقياس المكافأة عِندَ الله هو طاعة المسيحيين لإرادته تعالى وثقتهم بكلامه. إن الله هو السَّيِّد المُطلق الذي لا يرضى أن تتطاول عليه خليقته وتناقشه الحساب فيما يُقرِّر أو يفعل. هل يستطيع السَّيِّد أن يفعل ما يشاء؟ السَّيِّد يتصرف هنا بحريَّة لَيَخدم لا ليُخدم (مرقس 10: 45). أمَّا عبارة "عَينُكَ حَسودٌ" في الأصل اليوناني πονηρός (ومعناها شريرة) فتشير إلى الحَسَد الذي يؤدي إلى التذمر، وكثيرًا ما ينسب الكتاب المقدس الحَسَد إلى العين، كما ورد في الشريعة " واحذَرْ أَن يَخطُرَ في قَلبِكَ هذا الفِكْرُ التَّافِه، فتَقول: قد قَرَبّتِ السَّنةُ السَّابِعة، سَنةُ الإِبْراء، فتَسوءَ عَينُكَ إلى أَخيكَ الفَقيرِ ولا تُعطِيَه شَيئًا، فيصرُخُ إلى الرَبّ علَيكَ وتَكونُ علَيكَ خَطيئَة "(تثنية الاشتراع 15: 9)، وكما ورد أيضا في الأمثال "لا تَأكُلْ خُبزَ حَسودِ العَين ولا تَشتَهِ طَيِّباتِه" ( أمثال 23: 6). فقد أخذ هذا الإنسان الحسود ماله بحسب ما اتَّفق به رَبّ البيت معه، لكن ما أحزنه أن ينال إخوته مثله. لم يقم حزنه على حرمانه من شيء، وإنَّما من أجل الخير الذي ناله الغير. انه يرى "الظلم" الواقع عليه، بسبب الشُّعور الخفيّ بالرضى عن الذات، لأنّه قد عمل لساعات أطول، وبالتالي فإنّه أفضل من غيره، لكنَّه لا يرى طيبة صاحب العَمَل بسبب عينه الحسود؛ فلنسمع إذاً قول رسول المسيح، بولس: "لا نُعجَبْ بِأَنْفُسِنا ولا يَتحَدَّ ولا يَحسُدْ بَعضُنا بَعضًا"(غلاطية 5: 26). أمَّا عبارة " أَم عَينُكَ حَسودٌ لأَنِّي كريم؟ " فتشير إلى حقيقة كوننا نحسد بعضنًا، بسبب الأنانية التي تُعم القلب. وما دمنا نحسد بعضنًا، فلن نستطيع أن نفهم كَرْمِ الله وصلاحه. لا يرضى الله بأن يحسُد النَّاس بعضُهم بعضاً بسبب كَرْمِه، لانَّ الحسد نوع غامض من العداوة. يعلق القدّيس باسيليوس " ضرر الحسد يعود على صاحبه ويرتدّ إليه كما يرتدّ السهم عن الأجسام الصلبة إلى راميه". ويدعونا السَّيِّد المسيح إلى الكف عن الحَسَد أمام كَرْمِ الله ومحبته حيث أنَّ كل شيء ينبع من النِّعْمَة. فالحَسَد هو كره نعْمَة الله على الآخرين، وتمنَّي أن تزولَ عنهم، أو أن يُسلبَها إيَّاهم؛ ويُشبِّه الحكماء الحَسَد " نَخر العِظام" (أمثال 14: 30)، إنه سُمٌّ يؤدّي إلى الانقسام ويسبّب المنافسات العقيمة ويفرّق بين الجماعة بالخصومات (رومة 13: 13) وبالمشاحنات (1 قورنتس 3: 3) وبالمرارة (يعقوب 3: 14). أي حسد تجاه أي شخص هو في الواقع حسد تجاه الله، وتجاه سخائه. أمَّا عبارة " كريم؟" في الأصل اليوناني ἀγαθός (معناه صالح) فتشير إلى الكريم الذي يعطي بسخاء للدلالة على الله الصَّالح، كما ورد في حديث يسوع مع الشَّاب الغني " إِنَّما الصَّالِحُ ἀγαθός واحِد"(متى 19: 17). وتدل عطية الله على جوده الإلهي. وهذه العطيِّة ليست عائدة على أعمالنا بل عائدة على كَرْمِه، فالنِّعْمَة هي عطيَّة مجانيَّة لا تعطى استحقاقا لأعمالنا بل هي محبة من الله، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول" أمَّا اللهُ فقَد دَلَّ على مَحبتِّهِ لَنا بِأَنَّ المسيحَ قد ماتَ مِن أَجْلِنا إِذ كُنًّا خاطِئين" (رومة 5: 8). يدل رَبّ البيت على الله، كما ظهر في شخص يسوع. لذلك يجب ألاّ نتذمر على الله لو وجدنا الله يعطى آخَر نصيبًا أكبر منا مع أننا عملنا أكثر منه. العَمَل ليس هو مقياس عطايا الله لنا إنما صلاحه ونعمته وحريته تعالى. وبدلًا من أن نكون حسودًين لأنّ أولئك الأشخاص المساكين حصلوا على أجرٍ جيّد. لِمَ لا يفرح قلبُنا للمشاركة بفرح الأب السماوي عندما يهتدي أبناؤه في آخر ساعة؟ وجاء القول المأثور "السَّعادَةُ في العَطاءِ أَعظَمُ مِنها في الأَخْذ" (أعمال الرسل 20: 35). والحُبُّ يتجاوز متطلبّات العدالة، حيث يأخذ كلّ ذي حقِ حقّهُ. أنّ السَّيِّد ليس رَبّ عمل فقط وإنّما أب. وأنّ جميع العُمَّال الآخرين هم أبناءه وإخوة. أخوّة متجذّرة في هذه الأبوّة. هذا هو منطق ملكوت الله إنه ملكوت لا يُدفع أجر المرء بالساعة، لكن كل شيء يُعطى وفقًا لصلاح الله وبسخاء ودون أيّ استحقاق منّا. وخلاصة مثل رَبّ البيت انه برَّر نفسه وأثبت انه عادل وان له حقًا أن يساوي العَمَلة في الأُجرَة كما يستحسن له. 16 "فهَكذا يَصيرُ الآخِرونَ أَوَّلين والأَوَّلونَ آخِرين". تشير عبارة " يَصيرُ الآخِرونَ أَوَّلين" إلى المبدأ الأساسي المُكرَّر في الفصل السابق " وكَثيرٌ مِنَ الأَوَّلينَ يصيرونَ آخِرين، وَمِنَ الآخِرينَ أَوَّلين"(متى 19: 30) إنما عكس ترتيب الكلمات لمناسبة معاملة رَبّ الكَرْمِ للعملة. ومعناه أن قضاء الله في السماء ليس كقضاء الإنسان على الأرض. فكثيرون هم الذين يحسبهم النَّاس في الدنيا آخرين في القداسة، في حين يحسبهم الله في الآخرة أوَّلين، لأنه ينظرون إلى الظاهر، والله ينظر إلى الباطن. يشرح المثل وضع كنيسة متى الإنجيلي حيث أنَّ الوثنيون الذين دعوا في وقت متأخر أتوا إلى ملكوت يسوع قبل اليهود الذين كانوا أوّل المدعوّين. ينال المسيحيون بالتساوي الحياة الأبدية، إذ أنَّ المكافأة التي هي الحياة الأبدية تعطى على أساس موت المسيح من أجلهم لا بمقتضى المعايير الدنيوية، كما جاء في تذمر عمال أصحاب السَّاعةِ الأولى " هؤُلاءِ الَّذينَ أَتَوا آخِراً لم يَعمَلوا غَيرَ ساعةٍ واحدة، فساوَيتَهم بِنا نحنُ الَّذينَ احتَمَلْنا ثِقَلَ النَّهارِ وَحَرَّه الشَّديد (متى 20: 12). إن التذمُّر الناجم عن الحَسَد هو الذي جعَلَ الذين كانوا أوّلين يتراجعون إلى المرتبة الأخيرة " فصار الآخِرونَ أَوَّلين والأَوَّلونَ آخِرين". إن هذه الآية مكرَّرة سابقاً " وكَثيرٌ مِنَ الأَوَّلينَ يصيرونَ آخِرين، وَمِنَ الآخِرينَ أَوَّلين" (متى 19: 30)، ومغزاها هو أنَّ الثواب في العَالَم الآتي يتوقف على نعْمَة الله والإيمان بالمسيح وليس على أولوية الخدمة أو مدتها. وهكذا تمّ إلغاء الاختلاف بين الأولين والآخرين بناء على هبة الله المجَّانية وليس على استحقاق العَمَلة. ويعلق القدّيس أوغسطينوس " حين يتعلّق الأمر بتلقّي المكافأة، سنكون كلّنا متساوين، الأوّلون كأنّهم الآخرون، والآخرون كأنّهم الأوّلون. لأنّ الدينار هو الحياة الأبديّة" (العظة 87). ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 20: 1 -16) بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 20: 1 -16)، نستنتج انه يتمحور حول الأُجرَة لدخول ملكوت الله حيث يَصيرُ الآخِرونَ أَوَّلين والأَوَّلونَ آخِرين. ومن هنا نتساءل ما هي الأُجرَة لدخول مَلكوتِ السَّمَوات أي الخلاص؟ ومن هم المدعوون الدخول في ملكوت الله؟ 1) ما هي أجرة دخول البشر ملكوت الله؟ كل عامل يستحق أُجْرة، وهي جزاء له من باب العدالة (أيوب 7: 1-2) فالله عادل، لا يمكنه إلاّ أن يعطي كل من يؤدي المُهمة الموكلة إليه ما يستحقه. فمنذ تاريخ الخلاص، يَعد الله إبراهيم بأُجْرَة (تكوين 15: 1) وهذه الأُجْرة المناسبة للعمل تظهر محدَّدة في السطور الأخيرة من الكتاب المقدس (رؤيا 22: 12). إنَّ الله يُجازي كل واحد حسب أعماله (أمثال 12: 14). وإذا كان الإنسان الذي يتمِّم خدمته، يستطيع أن يعتمد على أُجْرَته، لكن من يرفض العَمَل المفروض عليه، يرى نفسه محرومًا من هذه الأُجْرة. يبقى أن حكم الله هذا يفوق بلا قياس حكم الإنسان. والإنسان أعجز من أن ينفذَ إلى سر الله، الذي هو رحمة وأمانة وعدل وحُبّ. في المجال الديني يبدو انه ينبغي أن يذهب التجرد إلى حد استبعاد فكرة المُكافأة. إنَّ دخول ملكوت الله أي الخلاص هو هبة من الله، ليس أُجْرة قد استحقّها عمل ما (رومة 4: 4)، وإلاَّ لِمَا بقيت النِّعْمَة نعْمَة، كما يوكِّد ذلك بولس الرَّسول " فإِذا كانَ الاِختِيارُ بِالنِّعْمَة، فلَيسَ هو إِذًا بِالأَعمال، وإِلاَّ لم تَبْقَ النِّعْمَة نعْمَة "(رومة 11: 6)، فان أحد يستحق الخلاص بعمله، لما عاد هناك مكان لنعْمَة الله "لأُبَطِلَ الإِيمانُ ونُقِضَ الوَعْد" (رومة 4: 14). إن الملكوت هو عطيَّة الله إلى ما بعدها عطية، إلا َّ أنَّ الحصول عليها يقتضي استيفاء بعض الشروط. وذلك لا يعني أنَّ هناك أجراً يستحق استحقاقاً ويجب تأديته من باب العدالة، وإنَّما الله بمطلق حرّيته يستخدم النَّاس للعمل في كَرْمِه، ويعطي للعملة ما يرى أن يعطي (متى 20: 1-16). ولئن كان كل شيء نعْمَة مجَّانية، فلا بدَّ وأن يتجاوب بنو البشر مع النِّعْمَة. المطلوب ممَّن يريد أن يدخل الملكوت ويرثه هو روح الفقر (متى 5: 3) وموقف الطفولة (متى 18: 1-4) وجهد في سبيل الملكوت وبِرِّه (متى 6: 33) واحتمال للاضطهادات (متى 5: 10) وتضحية بكل ما نملك (متى 13: 44-46) وكمال أعظم من كمال الفِرِّيسيِّين (متى 7: 21) ولا سيَّما فيما يتعلق بشؤون المَحَبَّة الأخوية (متى 25: 34) واليقظة والسَّهر (متى 25: 1-13) ولذلك، فإن كان الجميع مدعوِّين، إلاَّ أنهم ليسوا جميعًا مختارين، فسيطرد من الوليمة المَدعو الذي لا يرتدي حُلَّة العُرْس (متى 22: 11-14)، والخطأة المُتصلّبون في الشَّر " لا يَرِثونَ مَلَكوتَ الله (غلاطية 5: 21). 2) من هم المدعوون الدخول في ملكوت الله؟ دخول ملكوت الله هو نِعْمَة من الله، وله أبعاد لاهوتيَّة وكنسيَّة ومسكونيَّة واسكتولوجيّة وروحيّة. من هم المدعوون لدخول في ملكوت الله على الصعيد اللاهوتي؟ يكشف السَّيِّد المسيح من خلال المَثل الوارد أعلاه حقيقة وجَه الآب: إنه إله يُبادر البَشر بحُبِّه، ويُريدهم أن يشتركوا في ملكوته وسعادته. إنَّه إلهٌ يجود بخيراته على الجميع، ويدعوهم دون ملل. إنه إلهٌ ذو كَرْمِ وصلاح لا يُحاسبنا على قدر استحقاقنا، ولكن على قدر سَخائه وصلاحه. يقول القديس أوغسطينوس "إن السَّيِّد في هذا المَثل قد فتح الباب للجميع، فلا ييأس أحد، إنه يُكرّر الدَّعوة قابلًا الجميع". فالمسيح دعا بولس الرَّسول في منتصف حياته بعد أن كان مُضطهدًا للكنيسة، كان آخِرًا فصار أولًا (أعمال الرسل 9: 1-19). ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير " لم يتوقّف الله منذ بداية العَالَم حتّى النهاية، عن دعوة المُبشّرين لتعليم جماعة المؤمنين. الفجر بالنسبة إلى العَالَم كان الفترة الممتدّة من آدم إلى نوح؛ السَّاعةِ الثالثة، الفترة الممتدّة من نوح إلى إبراهيم؛ السَّاعةِ السادسة، الفترة الممتدّة من إبراهيم إلى موسى؛ السَّاعةِ التاسعة، الفترة الممتدّة من موسى إلى مجيء الرَبّ؛ والسَّاعةِ الحادية عشرة، الفترة الممتدّة من مجيء الرَبّ إلى نهاية العَالَم. لقد أُرسِل الرُّسل القدّيسون للتبشير في هذه السَّاعةِ الأخيرة، ورغم مجيئهم المتأخّر، فقد نالوا أجْرًا كاملاً"(عظات عن الإنجيل، العظة رقم 19) دعوة الله لنا للعمل في كَرْمِه هي دعوة عمليّة ومستمرّة عبر كل ساعات نهارنا وحياتنا، من طفولتنا حتى شيخوختنا. الله لا يتوقف ان يدعو النَّاس إلى مَلكوت الخلاص "ما دامَ إِعلانُ هذا اليَوم" كما جاء في رسالة صاحب العبرانيين (عبرانيين 13:3). ويُدخل الله المرء الملكوت ليس بناءً على مؤهلاته ومهارته وولائه، إنَّما بناء على محبته تعالى ورحمته المَجَّانية. لا يحصل المرء على أجْر مقابل عمل قام به، بل لكونه ما هو عليه. وبما انه ابن الله وليس عبدًا أو حتى عاملا، فإن ما يحصل عليه هو أكثر مما يستحقّ؛ انه يحصل على الخلاص والمشاركة المجَّانية في حياة الله في ملكوته السماوي. من هم المدعوون لدخول في ملكوت الله على الصعيد الكنسي؟ كما إنَّ رَبّ البيت دفع في آخر الأمر الأُجرَة للعملة الذين دعاهم أولاً، كذلك يُدخل الله في ملكوته آخرا اليهود الذين دعاهم أولاً، ويُدخل الوثنيين أولا الذين دعاهم أخيرًا. إنَّ الأوَّلين، أصحاب السَّاعةِ الأولى هم اليهود، الذين دُعوا إلى الخلاص أول النَّاس، لكنهم رفضوا المسيح وصاروا آخر النَّاس. وان الآخرين، أصحاب السَّاعةِ الأخيرة، وهم الشعوب الوثنية، الذين دُعوا إلى الخلاص آخر النَّاس، لكنهم قبلوا المسيح صاروا أولَّ النَّاس. فالوثنيون الذين دُعوا في وقتٍ مـتأخرٍ دخلوا إلى الكنيسة قبل اليهود الذين كانوا أوَّل المَدعوّين. سبق العَالَم الوثني العَالَم اليهودي إلى الملكوت " يَصيرُ الآخِرونَ أَوَّلين والأَوَّلونَ آخِرين" (متى 20: 16). لانَّ الآخرون اكتشفوا وتقبلوا رحمة الله المجَّانيَّة واشتركوا حالا في ملكوته، ولانَّ هذه المشاركة تبدو لهم عطية مجَّانيَّة لا كحق مكتسب، كما صرّح بولس الرَّسول "فلَيسَ الأَمرُ إِذًا أَمرَ إِرادَةٍ أَو سَعيٍ، بل هو أَمرُ رَحمَةِ اللّه" (رومة 9: 16). كان اليهود ينظرون إلى الأمم الوَثنيَّة نظرة احتقار وكراهية. وفي اعتقادهم أنّه لو دخل الأمم ملكوت الرَبّ، يجب أن يكون مقامهم أدنى من اليهود. ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " إن الرَبّ يسوع أدان غرور أولئك المنتمين للفئة الأولى (اليهود) لكي يمنعهم من توبيخ الذين أتوا متأخّرين (الوثنيين)، عندما بيّن لهم أن المكافأة هي نفسها للجميع" (العظة 64). ومن هذا المنطلق، أراد يسوع أن يُبيّن أنه إذا دخلت الأمم إلى الكنيسة، فيجب أن يكون لهم المقام عينه والاعتبار عينه. ليس من سياسة الرَبّ تفضيل أُمّة على أُمّة، كما جاء في عظة بطرس الرَّسول " أَنَّ اللهَ لا يُراعي ظاهِرَ النَّاس، فمَنِ اتَّقاه مِن أَيَّةِ أُمَّةٍ كانت وعَمِلَ البِرَّ كانَ عِندَه مَرضِيًّا" (اعمال الرسل 10: 34-35). الأمم الوثنية هم أولئك المدعوُّون الآخرون للدخول في "العهد"، وهم يُعاملون على قَدم المُساواة مع الشَّعب اليهودي فنالوا ما ناله اليهود. ولذلك فإن الانتماء إلى الشَّعب اليهودي، لم يُعدْ شرطاً ضروريًا لدخول الملكوت، كما كان في العهد القديم، وفي هذا الصَّدد صرّح السَّيِّد المسيح "سَوفَ يَأتي أُناسٌ كَثيرونَ مِنَ المَشرِقِ والمَغرَبّ، فَيُجالِسونَ إِبراهيمَ وَإِسحقَ ويَعقوب على المائِدةِ في مَلَكوتِ السَّمَوات، وأَمَّا بَنو المَلَكوت فَيُلقَوْنَ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة"(متى 8: 11-12). لو فرح العُمَّال الأوَّلون بهذه النِّعْمَة لكانوا بلا شكٍ من الأوَّلين، ولكن حَسَدهم جعلهم يتذمرون فأصبحوا من الآخرين. الله يهب "دينار الخلاص" أي الدخول إلى كنيسته لَمَن يشاء من المُتقدِّمين أو المُتأخرين، لا نظرًا إلى استحقاقاتهم بل لرحمته تعالى التي لا تُقاس بمعايير النَّاس " كما يقول أشعيا على لسان الرَبّ "إِنَّ أَفكاري لَيسَت أَفْكارَكم ولا طرقُكم طُرُقي، يَقولُ الرَبّ" (أشعيا 55: 8). فمنطق الله غير منطق النَّاس. وإذا تَبع الله طرقَنا وأفكارَنا، فلا مجال لرحمته، إذ نحرم ذواتنا من سموه. لا موازنة بين الله-الخَالق مع الإنسان-المَخلوق! لا ينبغي أن نُطبق فكرنا البشري ونلصقها بالرّبّ العظيم فهو إلهنا ونحن خلائقه كما يترنم صاحب المزامير: "فإِنَّه هو إِلهُنا ونحنُ شَعبُ مَرْعاه وغَنَمُ يَدِه " (المزامير 95: 7). نرى هنا الفرق بين اليهوديَّة والمسيحيَّة. فاليهود يفهمون أن الله يعطى كل واحد بحسب أعماله، أما المسيحية فتفهم أن عطايا الله ليست بحسب الأعمال بل بمقتضى النِّعْمَة، وهذا ما يوضِّحه بولس الرَّسول " الَّذي خَلَّصَنا ودَعانا دَعوَةً مُقَدَّسة، لا بالنَّظَرِ إلى أَعمالِنا، بل وَفْقًا لِسابِقِ تَدْبيرِه والنِّعْمَة الَّتي وُهِبَت لَنا في المسيحِ يسوعَ مُنْذُ الأَزَل" (2 طيموتاوس 1: 9). نستنتج مما سبق أنَّ ما وراء هذا المَثل للأولين والآخرين، يُمكننا أن نقرأ صراعًا آخرًا، صراع بين أبناء العهد القديم وأبناء العهد الجديد، بين الابن البكر والابن الأصغر في مَثَل الابن الضَّال، وبين الفِرِّيسي والعَشَّار وكل هؤلاء الذين أتوا آخِراً واستقبلهم يسوع ووضعهم في المكان الأول، كما هو الحال مع اللص اليمين الذي هو أول من دخل مع يسوع في الملكوت السَّماوي. من هم المدعوون لدخول في ملكوت الله على الصعيد المسكوني؟ يكشف المثل الوارد أعلاه أنَّ الرَبّ لا يحتقر عاملاً جاءه في ساعة متأخرة ولا عاملاً من طبقة متواضعة، إنَّ خلاص الله لا يُحصر في أمة دون أمة، وإنَّما الله هو الذي يهب الخلاص للنَّاس أجمعين دونما اعتبار للمَكانة أو للزَّمان أو لمدَّة الخِدمة. الله أكبر من قلوبنا (يوحنا 3: 20)؛ فيَحقُّ للجميع أن يشاركوا في محبَّة الآب السَّماوي في الخلاص الذي قدّمه عن طريق ابنه يسوع المسيح. فلماذا التذمر والحَسَد إن نال الآخرون ما نلناه نحن؟ الرَبّ يدعو الجميع حتى آخر لحظة، ويقبل حتى من يأتي متأخراً. اقتداءً بالرَبّ، ينبغي أن ينظر الأوّلون الآخرين باللطف وبمحبَّة، وليس بعين الحسود وبقلب شرّير. وكلنا نعلم بأن الحَسَد هو عكس الشكر والتمجيد، فالحَسَد يجعلنا نحزن على وجود ما هو إيجابي لدى الآخر، بينما الشكر والتمجيد يجعلنا نفرح. يبيّن لنا المَثل أنّه لا يشترط الأقدميّة لدخول ملكوت الله. فالرَبّ لا يحكم من باب العَدْل والاستحقاق فقط، بل من باب المَحَبَّة أيضا، والمَحَبَّة هي عطاء دون حِساب، وإنَّها تتفوّق وتسمو على العَدْل. فالرَبّ هو إله الجميع، وهو لا يدفع أجرة فحسب، إنما يعطى بمحبة وبسخاء، يُعطى أكثر مما نظن أو نتوقع. إنَّه يعطي بحسب نعمته، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "ذاكَ الَّذي يَستَطيعُ، بِقُوَّتِه العامِلَةِ فينا، أَن يَبلُغَ ما يَفوقُ كثيرًا كُلَّ ما نَسأَلُه أَو نَتصَوَّرُه" (أفسس 3: 20). نحن لا نكسب ما نناله من الرَبّ بجهدنا، لكنّه يُعطينا من جوده وصلاحه وحبّ قلبه؛ فالدُّخول إلى ملكوت الخلاص هو بفضل نعْمَة الرَبّ ومحبته للجميع. فلك منا يا رب الشكر والحمد لاستقبالك الجميع. من هم المدعوون لدخول في ملكوت الله على الصعيد الإسكتولوجي أو الأخروي؟ الله ينزل إلينا عبر التَّاريخ كله، من عصر إلى عصر، ومن جيل إلى جيل، ومن ساعة إلى أخرى، يطلب عَمَلَة إلى كَرْمِه الإلهي، ليهبهم المُكافأة الأبديّة عند مساء حياتهم الزَّمنيّة. إنّ الأبرار الذين أتوا إلى العَالَم في البداية، مثل هابيل ونوح، (التكوين 9: 8) كانوا من المَدعوِّين في السَّاعات الأولى، كما أنّ بعض الأبرار الذين جاؤوا من بعدهم، مثل إبراهيم، وإسحق، ويعقوب (التكوين 17: 4-8) وكلّ مَن عاصروهم، قد تمّت دعوتهم في السَّاعةِ الثالثة. كذلك الأمر بالنسبة إلى الأبرار الآخرين، مثل موسى، وهارون وكلّ الذين تمّت دعوتهم معهم في السَّاعةِ السادسة؛ ثمّ يأتي دور الأنبياء القدّيسين، وهم من المَدعوِّين في السَّاعةِ التاسعة. وفي نهاية العَالَم، يأتي المؤمنون المَدعوّون في السَّاعةِ الحادية عشر، كما جاء في تعليم يوحنا الرَّسول "أجَل، اُثبُتوا فيه الآن، يا بَنِيَّ. فإِذا ظَهَرَ كُنَّا مُطمَئِنِّين ولَن نَخْزى في بُعْدِنا عنه عِندَ مَجيئه" (1 يوحنا 2: 28). سنكون كلّنا مُتساوين، الأوّلون كأنّهم الآخرون، والآخرون كأنّهم الأوّلون، لأنَّنا سننال كلنا معًا "دينار الخلاص والحياة الأبدية ". لكن لن يكون الكل متساوون في المجد، بل " كُلُّ واحِدٍ ورُتْبَتُه. فالبكرُ أَوَّلاً وهو المَسيح، ثُمَّ الَّذينَ يَكونونَ خاصَّةَ المسيحِ عِندَ مَجيئِه" (1 قورنتس 15: 23). من هم المدعوون لدخول في ملكوت الله على الصعيد الروحي؟ كما ان رَبّ البيت لم يكن غير عادلٍ، لمَّا أعطى جميع العَمَلة أجرتهم واحدة بالتساوي، " فَأَخَذَ كُلٌّ مِنهُم ديناراً"(متى 20: 10)، لأنه لا يستند إلى استحقاقاتهم، بل إلى كَرْمِه وصلاحه، كذلك لم يكن الله غير عادلٍ لمَّا قبل الخاطئين في ملكوته، لأنه "كريم". إنَّ الأوَّلين هم الفِرِّيسيُّون، والآخرين هم العَشَّارون والخطأة. ينال العشارون بحسب منطق يسوع ما يناله الفِرِّيسيُّون، والخطأة ما يناله الأبرار. لكن الفِرِّيسيُّون حسدوا الخطأة والعَشَّارين واخذوا يتذمرون على يسوع "هذا الرَّجُلُ يَستَقبِلُ الخاطِئينَ ويَأكُلُ مَعَهم!" (لوقا 15: 2)، ولم يفهموا أنَّ الله يهمَّه الآخرين، كما يهمه الأوَّلين، يهمه الأبرار والخطأة، الأصحاء والمَرضى. بل أنَّ للمرضى والخطأة المقام الأول في قلب الله، كما جاء في قوله "ليسَ الأَصِحَّاءُ بِمُحْتاجينَ إلى طَبيب، بلِ المَرْضى. ما جِئتُ لأَدعُوَ الأَبرار، بلِ الخاطِئين" (مرقس 2: 17). يعطي يسوع الأولوية للآخرين: المَنبوذين والفقراء والخَطأة والعَشَّارين "إِنَّ الجُباةَ والبَغايا يَتَقَدَّمونَكم إلى مَلَكوتِ الله" (متى 21: 31). ومن هذا المطلق، فان هدف المَثل هو أن الرَبّ يريد ألاّ يتمسك تلاميذه بالفكر الفِرِّيسي، وهو رفض الخطأة، بل ان يكون لهم قلبٌ رحيمٌ، فالله كله رحمة، وهو يُشارك العَشَّارين والخطأة في ملكوته مجانًا، لان جوده عظيم وكَرْمِه واسع" لأَنِّه كريم صالح"(متى 20: 15). ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "أثار الرَبّ يسوع حماس المتأخِّرين حين أظهر لهم أن بإمكانهم استحقاق الأجر نفسه مثل الأوّلين. فأعاد الرَبّ بذلك إحياء شعلة المَحَبَّة فيهم، وقوّى شجاعتهم وأراهم أنّه حتّى آخر الواصلين ينالون أجرَ يومٍ كاملٍ (العظة 64). يختار الله الإنسان رغم عداوته له بسبب الخطيئة، ويعفو عنه، كما ورد في تعليم بولس الرَّسول "لَمَّا كُنَّا لاَ نَزالُ ضُعَفاء، ماتَ المسيحُ في الوَقْتِ المُحدَّدِ مِن أَجْلِ قَوْمٍ كافِرين، ... أَمَّا اللهُ فقَد دَلَّ على مَحبتِّهِ لَنا بِأَنَّ المسيحَ قد ماتَ مِن أَجْلِنا إِذ كُنَّا خاطِئين. ...فإِن صالَحَنا اللهُ بِمَوتِ َابِنه ونَحنُ أَعداؤُه، فما أَحرانا أَن نَنجُوَ بِحَياتِه ونَحنُ مُصالَحون! " (رومة 5: 6-10)، ولم تخلصنا نعْمَة الله من الموت بإعلان التبرئة فحسب، (رومة 3: 24)، إنما وصلت في سخائها إلى اقصى الحدود "حَيثُ كَثُرَتِ الخَطيئَةُ فاضَتِ النِّعْمَة (رومة 5: 20) والله يُوزّعها بلا حساب، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "حتَّى إِذا كَثُرَتِ النِّعْمَة عِندَ عَدَدٍ أَوفَرَ مِنَ النَّاس، أَفاضَتِ الشُّكرَ لِمَجْدِ الله" (2 قورنتس 4: 15). وبما أنَّ الله " لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟ (رومة 8: 32). لله الحق أن يعطي أو لا يعطي كما يشاء. ودون محبة أخوية ودون تضامن لا نستطيع أن نفهم صلاح الله. هنا نتذكر جواب يسوع لسؤال الغني " لماذا تَسأَلُني عَنِ الصَّالِح؟ إِنَّما الصَّالِحُ واحِد" (متى 19: 17). الصالح هو الله. والخلاص هو نتيجة صلاح الله ونعْمَة الله وكَرْمِه، ودونه لا يستحقُّ أحدٌ الحياة الأبدية. لذا يتوجب علينا ان لا نحسد من يرجعوا إلى الله في اللحظات الأخيرة من حياتهم، كما رجع اللص اليمين الذي قال ليسوع المصلوب "أذكُرْني يا يسوع إِذا ما جئتَ في مَلَكوتِكَ" ((لوقا 23: 42). فاللص الذي تاب وهو على عتبة الموت نال الخلاص مثله مثل الشخص الذي آمن وخدم الله سنين عديدة. نستنتج مما سبق أن التوبة لا وقت لأوانها ابدأ، لا تكون مبكرة ولا تكون متأخرة، وان أجر التوبة واحدٌ عند الله. يجب ألاَّ نحسد من رجعوا إلى الله في اللحظات الأخيرة من حياتهم، لأنه لا يستحق أحدٌ الحياة الأبدية. فبدل التذمر على الله لقبوله الخطأة والمنبوذين. علينا أن نشكر الله على نعمه وخاصة على ما أحسن به إلينا وأن نسير سيرة تليق بإنجيل المسيح المَحَبَّة والمشاركة وفرح عودة الآخر إلى الملكوت. الخُلاصة يتناول نص الإنجيل (متى 20: 1-16) مَثَل رَبّ البيت الذي خرج في أوقات مختلفة في اليَوم اعتبارا من الفجر إلى فترة ما بعد الظهر ليبحث عن عملة لإرسالهم لكَرْمِه. اتفق مع الأوائل على الأجر أما مع الآخرين فلم يتفق. وفي نهاية النهار حصل الجميع على نفس الأجر الذي اتفق عليه مع العَمَلة الذين استأجرهم عند الفجر. يبيِّن مثل العَمَلة وأجرتهم أن الله هو رَبّ البيت، والمؤمنون هم الذين يعملون من أجله، وهم جميع أفراد الشعب المسيحي. وان رأفة الله تفوق معايير البشر في المكافأة المفهومة كأجرة مستحقّة، دون الوقوع في الحكم الاعتباطي. لا يركز هذا المَثل على المُكافآت، بل على الخلاص، فالله الصَّالح وعظيم الجودة يطالب بحق الآخرين في الخلاص، فهو الأب الذي يعيد إلى ابنه الضال (الشاطر) كل حقوق البُنوة (لوقا 15: 11-32)، وهو المَلك الذي يعفو عن دّيْن كبير جدا (متى 18: 23-35)، وهو السَّامري الرحيم الذي يشفق على الرجل الذي وقع بأيدي اللصوص في طريق أريحا (لوقا 10: 25-37). يُعلمنا المثل عن نعْمَة الله وكَرْمِه، ويدعونا إلى الكفِّ عن الحَسَد تجاه هذه النِّعْمَة. وغاية المثل من ناحية أنَّه يُبيِّن يسوع لتلاميذه أن غلطهم بعدم اقتناعهم بالحياة الأبدية كغيرهم وتوقعهم أن ينالوا أكثر من غيرهم لاتِّباعهم المسيح قبل الجميع وتركهم أكثر مما تركه الآخرون لأجله، ومن ناحية أخرى، يوجّه يسوع هذا المثل أولا إلى الفِرِّيسيِّين الذين حسدوا الخطأة والعشّارين (لوقا 15: 1-32)، وما فهموا أن الله يهمّه الآخرون كما يهمّه الأولون، يهمه الأصحاء والمرضى معاً، الأبرار والخطأة، بل إن المرضى والخطأة لهم المقام الأول في قلب الله؛ لانَّ في الملكوت قاعدة واحدة لا غير هي كَرْمِ الله المجاني، ولا يسع الإنسان أن يدّعي أي حق مكتسب من الله. الله عندما يكلل جهودنا المستحيلة لولا نعمته، يُكلل استحقاقاتنا المستمدة قيمتها من تعالى، فإنَّما هو يتمّ فينا عطيته ويُفيضها علينا. أن الملكوت عطيّة مجَّانية نأخذها بالشُّكر، ونعْمَة نتقبّلها بكامل حرّيتنا او نرفضها. وهذا يظهر كله في الدَّينونة التي بدأ عملها منذ الآن. الكنيسة تتسع للجميع، وهناك عمل للجميع، فإذا دعاك الرَبّ إلى كَرْمِه ولو في وقتٍ متأخر لبِّي الدَّعوة، ولا تقسي قلبك. دعاء أيها الآب السَّماوي، أنت إله كلِّ خيرٍ، لا ترضى أن ترانا بطَّالين، بل تبادرنا بدعوتنا إليك في كل حين إلى العمل في كَرْمِك ، ليس طمعًا في الأجر بل حبًا في العلاقة بالرّبّ ، فانزع منا الحَسَد، واجعلنا ندرك أنك أنت الهٌ مُحبٌ، تجمع على مائدة ملكوتك جميع النَّاس، بِغضّ النظر عن عرقهم وطبقتهم الاجتماعيّة وانتمائهم، وتُعطينا دومًا أكثر ممّا نستحق، ولكنّك تهتم ببعضنا بصورة خاصة، ليس لأنّك تميزهم عن البقية بل لأنهم بحاجة أكثر إلى الرِّعاية والرحمة والمَحَبَّة، نشكرك على كل نعمة في حياتنا وفي حياة مَن حولنا. قصة: دخول الملكوت توفي أحد الرَبّانيين وهو شاب صغير على عمر يناهز 28 عاما. وعرفوا أنه في نعيم بالرَّغم من أنه عمل عملا لمدة قصيرة. فقالوا هذا يشبه مَلكا استأجر عمالا لكَرْمِه، ووجد عاملا صغيرًا أعجبه عمله فاصطحبه معه في الدخول والخروج. ولما حان وقت الحساب أعطاه كالآخرين الذين عملوا كل اليَوم. فتذمر هؤلاء وقالوا إن هذا لم يعمل سوى ساعتين. وكان ردُّ الملك: هذا الشاب الصغير أنجز بمهارته في السَّاعتين نفس ما عملتموه كل اليَوم. وكان هذا إشارة لمميزات هذا الرابي. ملخص الفكر اليهودي أن عطاء الله بحسب العَمَل. ومثل السَّيِّد المسيح هنا معناه أنه يعطى بمقتضى نعمته. في الفكر اليهودي أن عطاء الله بحسب العَمَل وبحسب الاستحقاق، أمَّا في المسيحية فإن عطاء الله بحسب محبته ورحمته وهذا ما نسميه النِّعْمَة. |
|