عمل الله وجواب الإنسان
المزمور الثامن والسبعون
1. المزمور الثامن والسبعون هو مزمور تعليمي، وموضوعه تاريخ شعب الله كما يسمعه الحجّاج في ليتورجية العيد وينشدونه. يذكر أعمال الله العظيمة في شعبه فيتّخذ من ذلك عبرة لحياته: الرب عمل في الماضي وسيعمل في المستقبل.
2. تاريخ العهد مع الله عبرة لمن يعتبر.
آ 1- 4: مقدمة: التقليد الحي ينتقل من جيل إلى جيل، من الآباء إلى الأبناء، فلا ينسى المؤمنون أعمال الله، بل يحفظون جميع وصاياه.
آ 5- 8: المحطة الأولى: سيناء: أعطيت الشريعة على جبل سيناء، ويجب أن تنتقل من جيل إلى جيل، فيعرفها أبناء اسرائيل ويخضعون لها.
آ 9- 11: عصيان الشعب في مملكة الشمال وعقاب الله لهم. نسوا أعماله فهربوا في يوم القتال، نسوا العهد والشريعة، ولم تنفعهم قدرتهم الحربية.
آ 12- 16: المحطة الثانية في تاريخ الخلاص: الخروج من مصر: شقّ البحر أمامهم، هداهم بالسحاب المنير، ضرب الصخر وأجرى الانهار (صوعن هي مدينة على النيل).
آ 17- 20: جواب البشر: عادوا يخطأون. جرَّبوا الله في قلوبهم، وطلبوا معجزات جديدة.
آ 21- 31: محطة ثالثة في تاريخ الخلاص: البريّة. جواب الله جواب غضب (آ 21- 22) وجواب رحمة (آ 23- 29). يرسل المنّ والسلوى ويُتبعه بالغضب والعقاب (آ 30- 31). قتل الأقوياء منهم، وصرع النخبة من بني اسرائيل.
آ 32- 35: جواب البشر: عادوا يخطأون. ضربهم، فتابوا إليه وذكروا أن الله صخرتهم (أو: خالقهم).
آ 36- 41: ندامة الشعب لا تصدر من قلبه والإنسان ضعيف: هم بشر ونسمة عابرة.
آ 42- 53: ضربات مصر وخروج شعب اسرائيل بيد الرب القوية. يذكر المزمور سبع ضربات، ويبيِّن أن الرب يعاقب المصريين (آ 44- 51) ويقود شعبه كالراعي (آ 52- 53).
آ 54- 55: مرحلة الوصول إلى كنعان: أدخلهم أرضه المقدسة، وطرد الأمم من أمامهم.
آ 56- 58: جواب الشعب: تمادوا فجرَّبوا الرب العلي وتمرَّدوا.
آ 59- 66: القصاص الالهي كما نقرأه في بداية سفر صموئيل الأول (4: 11): سلّم إلى السبي تابوت العهد، ودفع شعبه إلى السيف.
آ 67- 72: ولكن سيتغيّر كل شيء فجأة وستتغلّب الرحمة على الغضب: أفاق الرب كما من نوم، فردّ أعداءه إلى الوراء واختار داود ليرعى شعبه بنزاهة قلبه ومهارة يده.
3. هذا المزمور هو تعليم ديني يحفظه الحجاج غيبًا فيتذكرون أعمال الله في شعبه. هناك مزامير تحكي عن شعب اسرائيل الأمين لربه والخاضع لوصاياه. أما هذا المزمور فيشدّد على خيانات الشعب المتعدِّدة رغم عطايا الله لهم وحضوره بينهم.
هل يستطيع الإنسان أن يُفشل مخطط الله فيجعل الغضب يفني الشعب؟ كلا. فرحمة الله أقوى من كل شيء، وسيكون لها الكلمة الأخيرة رغم خطيئة الإنسان وتمرّده.
4. الإنجيل هو امتداد لتاريخ الخلاص الذي ينشده هذا المزمور، والكنيسة لا تزال تتأمّل عمل الله في شعبه. فالطعام الذي أعطاه لاسرائيل رمز لسر الافخارستيا الذي هو المنّ الحقيقي، والمياه رمز الحياة التي تخرج من جنب المخلص. لا تزال الكنيسة تسير في الصحراء، يرافقها حبّ الله وأعماله قبل أن تصل إلى أرض الميعاد، إلى أرض الله المقدسة، وإلى الجبل الذي تقوم عليه أورشليم.
5. موعظة الشعب إذ يعلّمهم حفظ السنة ويذكّرهم النعم التي أنعم بها الله على جنسهم. يا شعبي انصتوا لسنني وأطيعوا واصغوا أسمعكم المنطق في القانون. تبارك الذي خلص شعب موسى وجماعة المؤمنين بالمسيح. ها أنا أفتح فمي بالأمثال وأقول الأوابد التي من قديم التي سمعنا وعرفناها والتي حدثنا بها آباؤنا أيضًا لئلا نكتمها عن أبنائنا بل نخبر بها الحقب الآخر كتسابيح الرب وقوّته وعجائبه التي صنع.
قال المفسّر: هذا خطاب من النبي للشعب يقوله: يا شعبي أنصت إلى ناموسي أي علمي... وقوله أفتح فمي بالأمثال وأذكر الأوابد التي من القديم حثا لهم على الاستماع منه إذ لست أخاطبهم بأي لفظ أتفق لكن بلفظ أضمنه السير القديمة والحكم العتيقة... في مخارج الأمثال والاوابد وبتحقيق هذا قال: ما سمعناه من الناموس وكتب الله عرفناه وأضفنا إلى ذلك ما خبَّرنا به آباؤنا من عجائب الرب. وبهذا تعلمون أنّا لم نعلمكم علمًا مخترعًا حديثًا وهم أمرونا أن لا نخفي ذلك من أولادهم كما لم يخفوه عنا. فنحن نتقبل في الاحسان إليكم آثارهم في الاحسان إلينا ونخبر لجيل آخر من بعدهم وهم أنتم بعجائب الرب وأخبارهم التي تتضمن جميل طاعتهم لله تعالى. واذكر لكم قوى الرب ومجده وعجائبه التي صنع ومنها يستدلّ عليه.
قال داود: إذ أقام شهادته في يعقوب ووضع سننه في اسرائيل كالذي أوصى ليعلّموا أبناءهم ويعرّفوا القبيل آخر الأبناء الذين يولدون. يقومون ليخبروا أبناءهم ليكون رجاؤهم بالله ولا ينسوا أعمال الله ويحفظوا وصاياه ولا يكونوا كآبائهم حقب سوء مسخط الحقب الذي لم يتقن ولم يؤمن بإله روحه.
قال المفسّر: يقول: إن الرب الذي حثّنا آباؤنا بالأخبار بعجائبه هو الذي عهد إلى أبينا يعقوب عهدًا وسنّ سننهم في اسرائيل وخوفهم أن يتجاوزها وأمرهم بحفظها. وهكذا أمر آباؤنا في القديم أن يخبروا أبناءهم بأخبار عجائبه ويخبر هؤلاء لقبيل آخر. وعلى هذا دائمًا يشبه الأخير الأول في الطاعة لله تعالى إذ أخبره الأول بعجائب الله. وفائدة ذلك بأسره أن يقوى رجاؤهم بالله ويثقون إليه ويتوكّلون عليه ولا ينسون أفعاله التي فعلها من أجلهم ويحفظون وصاياه ليحيوا بها ولا يتشبّهون بمن استجاز من آبائهم الاستبدال بعبادته ذلك الحقب السوء الذي رأى عجائب الله بعينه واختار عجلاً لعبادته فهلك بالانتقام. وهذا الحقب هذا الذي لم يتقن قلبه بمخافة الله ولا آمن بالله الذي روحه ونفسه بيديه، ويمكن أن يحييه ويمكن أن يبيده وله القدرة على أن يؤتيه أرض الوعد وأن يمنعه.
قال داود: بنو افريم الذين نزعوا عن الأوتار ورموا بالقسي وولوا في يوم القتال لأنهم لم يحفظوا ميثاق الله ولم يؤثروا أن يسيروا بسير سننه ونسوا أفعاله وأعاجيبه التي أراهم على عهد آبائهم، إذ صنع أعاجيبه في أرض مصر وفي مزارع صاعان: غلق البحر فأجازهم وأقام الماء كأنه في زقاق. سيّرهم بالنهار في الغمام والليل كله بشعاع النار. فجَّر الظران في القفر فسقاهم كما من الغمر العظيم. أخرج السيل من البحر فجرت المياه كالأنهار.
قال المفسّر: لما قال إنهم لم يؤمنوا بالله ولم يصدقوا عجائبه أقام الدليل على ذلك من سبط افريم. ومن سبط افريم أومأ إلى كل الأسباط. وإنما خصّصهم لأنهم كانوا أكثر جلدًا في القتال من جميع بني اسرائيل فيقول: إن أوجد افريم الذين أعطاهم الله القوة في رمي السهام والعمل بسائر أصناف السلاح وبها غلبوا الروم والعملقانيين. فكفوا إلى ورائهم يوم القتال بأقبح انقهار لما لم يحفظوا عهد الرب الذي عهده في حوريب ولم يحفظوا ناموسه ومنه كانوا يستثمرون الثمار الجميلة ويثقون بكل قوّة. ودحضوا عجائبه من قدام أعينهم التي شاهدها آباؤهم وخبروهم بها بأرض مصر وبحقول صاعان الذي هو ملك فرعون وفلقه البحر واجازاتهم... واظلاله لهم بالنهار بغمام من حر الشمس والسماء ثم الليل بشعاع من نار من عمود... وإخراجه من الظران الماء الفائض من صخر كما من نهر عظيم وسقاهم حتى أرواهم. والانهار التي جرت إشارة إلى العيون التي جرت من الحجر على كل سبط من أسباط بني اسرائيل.
قال داود: فعاود الشعب الخطيئة... بأن يسخطوا العلي. بالظمأ جرّبوا الله في قلوبهم بمسكه الطعام لأنفسهم وتذمّروا على الله وقالوا: أترى الله يستطيع أن (يهيّىء) لنا موائد في القفر. إن كان الله ضرب الظران فجرت المياه وأجرى السيول (فليعمل) أن يعطينا أيضًا خبزًا وأن يجد طعامًا لشعبه.
قال المفسّر: يقول: إن مع العجائب التي صنعها الله لهم من الآيات المبهرات عادوا إلى ضلالهم الأول وأسخطوا الرب العلي بالدمدمة. ومعنى قوله جرّبوا الرب في قلبهم أي تشكّكوا في قدرته وهل يقدر على مرادهم أم لا. فالتمسوا غذاء لنفوسهم متشككين في أن الله يقدر على إيجاده في البرية أم لا. دمدمتهم على الله بأنهم أخرجوا من مصر وكانت مدينة يجدون فيها ما يريدون إلى قفر لا يصادفون فيه القوت. ولم يذكروا عجائب الله التي يقدر بها أن يفعل ذلك وما هو أكثر منه. وقالوا: أتراه يقدر أن (يُهيّىء) لنا موائد في البر عليها عجائب الطعام كما كنا نجد في المدينة؟ ما نظنه يقدر على ذلك. فإنه وان كان عند العطش أخرج لنا من الظران الماء وأجرى المياه كالسيول ولم يكن يقدر أن هذا يكون، فإنّا لا نظن أن خبزًا يمكن إيجاده في بر قفر لا شيء فيه ولا أن يعد لشعبه غداء من اللحم في البر. فإن كان يقدر على هذا فليفعله لنشاهده. فهذا هو التشكي وهذه هي الدمدمة. (أبو الفرج عبد الدين الطيّب).