رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
كلمة الكرازة والوعي الإفخارستي إنّ كلمة الكرازة التي تصرخ بها الكنيسة ليل نهار من كلّ فم أمين ومخلص يطلق النور وسط عالم لفّه الظلمة هي فعل يسعى ويأمل ويتطلّع لتحرير القلوب والعقول من ربقة ظلمة الموت إلى سعة الحياة في النور. فالكلمة تبشّر بغنى المسيح الذي لا يستقصى (أف3: 8) وبخزائن حبٍّ مشرعة الأبواب وبأحضان أبوة لا تنغلق وبفرحٍ أبدي لا ينتهي. هذا الغنى يأتي فعله الأوّل في أنه يُشعِر الفقير بفقره والمريض بمرضه والمحتضر بموته والأعمى بظلمته.. فإن لم تدرك البشريّة نقصانها فستحيا في غيبوبة الغنى الزائف والفرح المصطنع والظلمة المقنّعة بأوشحة تبدو وكأنّها من نور. يقول تولستوي (في اعترافاته) بلسان البشريّة التائهة، التي لا ترى لها مكانًا في أُفق الوجود: في بحثي عن إجابات حول أسئلة الحياة، اختبرت بالضبط ما يشعر به رجلٌ تائهٌ في غابةٍ، يصل إلى قفرٍ، يتسلّق شجرة، ويرى بوضوح المسافة اللاّمحدودة، ولكنه يرى أن بيته ليس هناك ولا يمكن أن يكون هناك، ثم يدخل في الغابة المظلمة ويرى الظلام، ولكن بيته ليس هناك أيضًا!! البشريّة تائهة ولكنّها تكرز بتيهها وكأنّه الطريق!! لقد زيّنته وكأنّه الدار الختاميّة!!! تتحرّك نحو جرف الوجود الزائل وهي لا تدرك مصيرها المختوم بالفناء وتتغنّى بأمانها ومسيرتها المزعومة! تتبنّى الروح الساخرة التي لاقتها دعوة نوح المناديّة في أهل مدينته بالنجاة من المصير المحتوم والمياه المنهمرة لطمس معالم الإثم والشر في عالمٍ أحبّ الظملة كظلّه الظليل. لم ييأس نوح من المناداة فقد صمدت دعوته أمام السخريّة سنين طوال، فأمام هزأ وسخرية المحتضر علينا أن نصمد في الحبّ ولا ننفض غبار أرجلنا.. أمام الموت علينا ألاّ نعبأ بشيء حتى بكرامتنا إن كان من أجل حياة العالم. لقد جاء المسيح من أجل أولئك الذين ضلُّوا الطريق إلى إنسانيّتهم واستوطنوا قفار الرغبات والملذّات والطموح الزمني. جاء إليهم لا ليرشدهم إلى منزلٍ مقرّه من تراب الأرض وحجارته ولكن إلى منزلٍ يؤسِّسه هو في قلوبهم من ذبائح الحبّ ومحرقات الخضوع وتقدمات الوداعة واللّطف. يتعثّر الكثيرون في فهم عقائدنا الإيمانيّة التي تتحدّى العقل بحقٍّ، ولكن هل من فهم لله دونما حبٍّ أو إرهاصات حبٍّ أو أشواق حبٍّ أو حتى أنين من البغضة؟؟ لا كرازة مسيحيّة دونما قوّة حبّ فاعلة من أجل الآخرين وإن نالت كلّ علوم الجدل ومعارف الإقناع. العالم يريد أن يرى فينا قوّة يسوع وحبّه. هنا السؤال لنا: كيف لنا أن نعكس إشراقته كنور باهر تغرق فيه تساؤلات العالم وتتساقط كما لحبّات الزيتون الناضجة من على أغصان الشجر. قالها المسيح وأعلنها غير مرّةٍ (انظر يو14: 23) أنّ من يحفظ كلمته دلّل على محبّته وناداه بالحبّ مع أبيه ليصنع منزلاً وليرفع منزلته إلى مصاف الأبناء في بيت أبيهم. وقتها لا يصبح الثالوث عسر الفهم ولا غامضًا لأنّه أصبح مستعلن في علاقة ومختبر في سكنى. حركة يسوع في عالمنا إن هي إلاّ تأكيدٍ للبشرية عن عِظم الكيان الإنساني الذي يحمل إمكانيّة التلامس مع الأبدية في القلب الذي يسكنه هو بالروح ليُكرِّس منه معبدًا لمجد الآب وحمده؛ إذ “صنع الكل حسنًا في وقته وأيضًا جعل الأبديّة في قلبهم” (جا 3: 11). فحضور الأبديّة في العالم وكثافة فعلها له علاقة مباشرة بكمّ القلوب التي قبلت قرعات المخلِّص واستقبلته ليسكن ويُحضِّر مائدة العشاء الإلهي.. إنّ علينا مسؤوليّة كبيرة من نحو العالم، أنّ نكثّف من قوّة النور بقبوله فينا لنصير الكنيسة ليل نهار. كلمة الكرازة هي إنارة للذهن البشري بالسر المكتوم منذ الدهور (أف 3: 9) والذي صار معلنًا لنا في وجه يسوع هذا السرُّ الذي وُضِع في قلب البشريّة بعد السقوط، كوعد، ليكون رجاءها المتجدِّد، ولكنه ظل حبيس الظلمات حتى جاء المسيح نور العالم ليكشف لنا عنه في ذاته. إنّ الوسيلة لنا لاستقبال / إعلان السر هي الدخول في شركة جسده الممتد عبر العصور والدهور حتى يحركنا كرأس قد انتصر على العالم مرّة واحدة وإلى الأبد. إحدى وسائلنا الأساسيّة بل والمحوريّة للثبات في الجسد الإلهي أن يكون لنا شركة في جسده القرباني ودمه الكرمي لننال قوّة وعون لقبول النور وإطلاقه. ولكن علينا أن ندرك أنّ علاقتنا بمسيح الإفخارستيا، إن لم تطلق فينا قوّة إعلان السرّ كما استعلن لنا بالشركة في جسده ودمه الحقيقيين، تبقى علاقة منقوصة؛ فالمسيح أطلق كنيسته لتعلن اسمه بين الأمم وتريهم نوره، فإن كانت لنا شركة معه تصل إلى حد الاتحاد بجسده لنصِر بحق لحم من لحمه وعظم من عظامه فكيف لا نحقّق شهوة قلبه من جهة العالم. نحن لا نتحد بالمسيح لأنفسنا، لننقطع عن الجسد المتحرّك في العالم بل لنجدد علاقتنا بالجسد وتأثيره في العالم. كلّ مرة نشترك فيها في جسد ودم المُخلِّص في خشوع الحضرة الإلهيّة الفائقة ونخرج من دون وعي متجدّد من نحو العالم وأحشاء متمخضة بالعالم وقلب منسكب من أجل العالم ندلّل على أننا لم نلقاه بالحقّ ولم نتّحد به بالحقّ، بل كان حضورنا وشركتنا كما لقوم عادة دون انسكاب قوة الابن على حياتنا.. الإفخارستيا قوّة إطلاق لا انحسار.. حينما نحصرها في ذواتنا نفقد القوّة لتوبتنا ومن ثمّ توبة العالم.. |
|