إبراهيم وصداقة الله الجاذبة
ذهب أحدهم لزيارة كناس إنجليزي، وكان هذا الكناس مريضاً في كوخه، وسأله الزائر: هل زارك أحد اليوم، وأجاب الكناس: نعم زارني غلادستون، وكان غلادستون في ذلك الوقت رئيس وزراء بريطانيا، عندما كانت امبراطورية لا تغرب عنها الشمس كما يقولون،.. ولم يصدق السامع القول، إذ بدا له أنه غير قابل للتصور أن غلادستون يأتي إلى كوخ رجل كناس ليعوده في مرضه،.. ولكن هذه كانت الحقيقة إذ أن غلادستون تعود أن يرى الرجل في كل صباح في الشارع، وكان يحييه، وإذ لاحظ غيابه سأل عنه، وإذ علم أنه مريض زاره في كوخه الصغير الحقير. قيل إن سيدة حرمت في غرفة جلوسها على مقعد أن يجلس عليه أحد، لأنه في زيارة الملكة فيكتوريا لمنزل السيدة جلست على هذا الكرسي، فأصبح محرماً أن يجلس أحد في المكان الذي جلست فيه الملكة.. هل رأيت لفتة غلادستون للكناس أو لفتة الملكة لمواطنة إنجليزية، وكم قوبلت بالذهول والاحترام والإجلال، للفارق الواسع بين الزائر والمزار، فكم يكون الأثر أعمق وأبعد وأجل وأعظم، إذ حدث هذا بين الله "والإنسان" على الصورة التي حدثت بين المولى عز وجل، وبين إبراهيم الذي قال ذات مرة لسيده: "قد شرعت أكلم المولى وأنا تراب ورماد".. لن تستطيع أن تعثر على مفتاح حياة إبراهيم، ولن تستطيع أن تفهم شخصيته وخلاله وطباعه وسجاياه، قبل أن نقف أمام عبارة صغيرة عظيمة، قالها استفانوس في استهلال كلامه في سفر الأعمال: "ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم".. وكلمة "إله المجد" تعني أن الله ظهر متجلياً لإبراهيم في هيئة رائعة مجيدة،.. وإن هذا الظهور سيطر على إبراهيم وسلب لبه وحياته، وقاده طوال حياته على الأرض بما يشبه الجاذبية المغناطيسية، التي لا تدع للإنسان في قوتها أية مقاومة أو ممانعة أو توقف أو تردد، بل إن هذا الظهور كان جليلاً وعظيماً، إلى الدرجة التي جعلته يرى التبر تراباً إلى جانب الله، ويقدم على رحلته الخالدة التي غيرت لا مساره هو وحده، بل مسار الجنس البشري كاملاً، حتى يعود المسيح ابنه المبارك إلى الأرض، ويسيطر عليها، لمجد الله عندما يخضع الكل له ليكون الله الكل في الكل!!..
نحن لا نعلم على أية صورة ظهر الله لإبراهيم في أور الكلدانيين، هل ظهر له كما ظهر بعد ذلك في كنعان عندما زاره في خيمته ومعه ملاكان؟ أو ظهر له في رؤيا؟، أو ظهر متكلماً كما يظهر الرجل مكلما صاحبه وجهاً لوجه؟، لكن المؤكد أن هذا اللقاء العظيم بين إبراهيم والله كان فيه الله على صورة مجيدة، لعلها صورة السيد في التجلي عندما صاح بطرس –وقد نسى إزاءها الحياة، والعالم، والحاضر والمستقبل: "جيد يا رب أن نكون ههنا".. مع الفارق الملحوظ أن إله "المجد" في كلا الحالين لم يبق على من ظهر له في حالة سكون أو متعة، في أور الكلدانيين، أو على رأس الجبل، بل دعاه إلى الحركة في رحلة المجد العظيمة، في الرسالة المباركة التي وضعت عليه،.. وإذا كان إبراهيم قد دعى "أبا المؤمنين" فإنها الصورة عينها في كل لقاء بين الله والمؤمن في رحلة الحياة على هذه الأرض،.. هل تذكر ذلك المثال الألماني العظيم الذي دعته بلاده يصنع تمثالاً عظيماً ليسوع المسيح، وظل ثماني سنوات، حتى أبدع تمثالاً رائعاً آية في الإبداع والجمال؟.. عندما رأى الناس هذا التمثال الرائع،.. عادوا فطلبوا منه أن يصنع تمثالاً آخر "لفينيس" آلهة الجمال.. فرفض وقال: "إن الذي ينظر إلى وجه يسوع المسيح لا يستطيع أن ينظر إلى وجه آخر بجواره".. أجل وستضحى فينيس على ما يتصورون من جمالها المذهل قبحاً وتشويهاً، إلى جانب رب الجمال يسوع المسيح.. وإذا كان أوغسطينس، بعد أن تجاوز الثلاثين من عمره، قد صاح عندما جاء إلى الله: "أيها الجمال القديم، وما تزال حديثاً كم تأخرت في حبك".. فكم يقول إبراهيم الذي لا نعلم قصته في صدر الشباب، والذي التقى بالله وهو في السبعين من عمره.. على أي حال إن الذين يلتقون بالله، سيؤخذون بجماله، وسيبقى هذا الجمال الينبوع الدافق طوال حياتهم لما يمكن أن يتمتعوا به من سعادة وبهجة حتى يقولوا مع تشارلس كنجسلي وهو في ضجعة الموت: "كم هو جميل الرب.. كم هو جميل؟!!".