من هم المدعوون لدخول في ملكوت الله على الصعيد الروحي؟
كما ان رَبّ البيت لم يكن غير عادلٍ، لمَّا أعطى جميع العَمَلة أجرتهم واحدة بالتساوي، " فَأَخَذَ كُلٌّ مِنهُم ديناراً"(متى 20: 10)، لأنه لا يستند إلى استحقاقاتهم، بل إلى كَرْمِه وصلاحه، كذلك لم يكن الله غير عادلٍ لمَّا قبل الخاطئين في ملكوته، لأنه "كريم". إنَّ الأوَّلين هم الفِرِّيسيُّون، والآخرين هم العَشَّارون والخطأة.
ينال العشارون بحسب منطق يسوع ما يناله الفِرِّيسيُّون، والخطأة ما يناله الأبرار. لكن الفِرِّيسيُّون حسدوا الخطأة والعَشَّارين واخذوا يتذمرون على يسوع "هذا الرَّجُلُ يَستَقبِلُ الخاطِئينَ ويَأكُلُ مَعَهم!" (لوقا 15: 2)، ولم يفهموا أنَّ الله يهمَّه الآخرين، كما يهمه الأوَّلين، يهمه الأبرار والخطأة، الأصحاء والمَرضى. بل أنَّ للمرضى والخطأة المقام الأول في قلب الله، كما جاء في قوله "ليسَ الأَصِحَّاءُ بِمُحْتاجينَ إلى طَبيب، بلِ المَرْضى. ما جِئتُ لأَدعُوَ الأَبرار، بلِ الخاطِئين" (مرقس 2: 17).
يعطي يسوع الأولوية للآخرين: المَنبوذين والفقراء والخَطأة والعَشَّارين "إِنَّ الجُباةَ والبَغايا يَتَقَدَّمونَكم إلى مَلَكوتِ الله" (متى 21: 31). ومن هذا المطلق، فان هدف المَثل هو أن الرَبّ يريد ألاّ يتمسك تلاميذه بالفكر الفِرِّيسي، وهو رفض الخطأة، بل ان يكون لهم قلبٌ رحيمٌ، فالله كله رحمة، وهو يُشارك العَشَّارين والخطأة في ملكوته مجانًا، لان جوده عظيم وكَرْمِه واسع" لأَنِّه كريم صالح"(متى 20: 15). ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "أثار الرَبّ يسوع حماس المتأخِّرين حين أظهر لهم أن بإمكانهم استحقاق الأجر نفسه مثل الأوّلين. فأعاد الرَبّ بذلك إحياء شعلة المَحَبَّة فيهم، وقوّى شجاعتهم وأراهم أنّه حتّى آخر الواصلين ينالون أجرَ يومٍ كاملٍ (العظة 64).
يختار الله الإنسان رغم عداوته له بسبب الخطيئة، ويعفو عنه، كما ورد في تعليم بولس الرَّسول "لَمَّا كُنَّا لاَ نَزالُ ضُعَفاء، ماتَ المسيحُ في الوَقْتِ المُحدَّدِ مِن أَجْلِ قَوْمٍ كافِرين، ... أَمَّا اللهُ فقَد دَلَّ على مَحبتِّهِ لَنا بِأَنَّ المسيحَ قد ماتَ مِن أَجْلِنا إِذ كُنَّا خاطِئين. ...فإِن صالَحَنا اللهُ بِمَوتِ َابِنه ونَحنُ أَعداؤُه، فما أَحرانا أَن نَنجُوَ بِحَياتِه ونَحنُ مُصالَحون! " (رومة 5: 6-10)، ولم تخلصنا نعْمَة الله من الموت بإعلان التبرئة فحسب، (رومة 3: 24)، إنما وصلت في سخائها إلى اقصى الحدود "حَيثُ كَثُرَتِ الخَطيئَةُ فاضَتِ النِّعْمَة (رومة 5: 20) والله يُوزّعها بلا حساب، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "حتَّى إِذا كَثُرَتِ النِّعْمَة عِندَ عَدَدٍ أَوفَرَ مِنَ النَّاس، أَفاضَتِ الشُّكرَ لِمَجْدِ الله" (2 قورنتس 4: 15). وبما أنَّ الله " لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟ (رومة 8: 32).
لله الحق أن يعطي أو لا يعطي كما يشاء. ودون محبة أخوية ودون تضامن لا نستطيع أن نفهم صلاح الله. هنا نتذكر جواب يسوع لسؤال الغني " لماذا تَسأَلُني عَنِ الصَّالِح؟ إِنَّما الصَّالِحُ واحِد" (متى 19: 17). الصالح هو الله. والخلاص هو نتيجة صلاح الله ونعْمَة الله وكَرْمِه، ودونه لا يستحقُّ أحدٌ الحياة الأبدية. لذا يتوجب علينا ان لا نحسد من يرجعوا إلى الله في اللحظات الأخيرة من حياتهم، كما رجع اللص اليمين الذي قال ليسوع المصلوب "أذكُرْني يا يسوع إِذا ما جئتَ في مَلَكوتِكَ" ((لوقا 23: 42). فاللص الذي تاب وهو على عتبة الموت نال الخلاص مثله مثل الشخص الذي آمن وخدم الله سنين عديدة.
نستنتج مما سبق أن التوبة لا وقت لأوانها ابدأ، لا تكون مبكرة ولا تكون متأخرة، وان أجر التوبة واحدٌ عند الله. يجب ألاَّ نحسد من رجعوا إلى الله في اللحظات الأخيرة من حياتهم، لأنه لا يستحق أحدٌ الحياة الأبدية. فبدل التذمر على الله لقبوله الخطأة والمنبوذين. علينا أن نشكر الله على نعمه وخاصة على ما أحسن به إلينا وأن نسير سيرة تليق بإنجيل المسيح المَحَبَّة والمشاركة وفرح عودة الآخر إلى الملكوت.