د.سيد القمني يكتب / صدى الغزوات الإخوانية والسلفية في تاريخ الخلافة الإسلامية
” وهل هذا هو الإسلام ؟ وهل قال الإسلام ذلك ؟ إن الإسلام برئ من أفعال الإخوان ..إلخ ” ، وكثير من الطنطنات المثيلة التي تأتي في جمل اعتراضية ، على المجزرة التي ارتكبها الإخوان والسلفية بحق المتظاهرين المسالمين عند قصر الإتحادية ، حيث يقطن الخليفة المُحدث ( محمد بن مرسي آل عياط ) . لكن أبداً لم يجرؤ شيخ أو واعظ أو فقيه واحد على تكفيرهم لذبحم خلق الله بعد تعذيبهم داخل غرف قصر الخليفة ، كما سبق وكفرونا وحاكمونا وشوهوا سمعتنا دون أن نرتكب أي جرم في حق الناس أوالمجتمع ، لم يجرؤ الأزاهرة المنعمين بأموالنا أن يكفروهم أويكفروا مجرما مثل بن لادن بل هو عندهم وعند السفية والإخوان من الشهداء البررة ، وعندما يراوغون يسوقون فقط العتاب اللطيف ، والنصح الظريف ، والدعاء للسفاحين بالهداية . وينتقون من السور المكية ما يعبر عن مدى سماحة الإسلام ، وحق الاعتقاد بل والكفر فمن شاء فيؤمن ومن شاء فليكفر ، ويتغاضون بالكلية عن السور المدنية كما لو كانت غير موجودة بالقرآن ، ويقدمون سيل الأحاديث النبوية ، المكية بدورها ، من قبيل ” دم المسلم على المسلم حرام ، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ” ولاوجود بالطبع لغير المسلم في الموضوع فهو أحد الكائنات الشاردة التي ضلت الطريق وتوالدت في مصر على غفلة من الزمن .
والمشكلة الحقيقية هو في غير المسلمين بعد أن انضم إليهم غالبية المصريين بمعارضتهم للإخوان فكانوا من الكافرين ،ومصيرهم جهنم وساءت مرتفقا ، إضافة الى المسيحيين والبهائيين ( الذين يتم تكفيرهم بمناسبة وبدون مناسبة ،وسواء كانوا في الموضوع أو لم يكونوا ، لإثبات وجود الكفر الصريح بين المتظاهرين ) ، ولأن المسيحيين في النهاية أهل كتاب ، فإن الآخرين من ليبراليين وعلمانيين (ويضيفون لهم البهائيين) – رغم عدم ثبوت تواجد أيا منهم في المظاهرات – كلهم من الكافرين ، بعقد الكاف والفاء والراء وتعطيش الياء !! وعليه لا تنطبق الأحاديث علي أي من المتظاهرين المسالمين ضد حكم خليفة الزمان وإمام العصر والأوان ( محمد بن مرسي آل عياط ) وفرماناته القدسية ، وكل من عرض بالحادث المجرم من مشايخ التلفزة كان من باب المداهنة وتبرئة الذمة أمام الناس ، ولكن ليس أمام ضميرة أو دينه أوإيمانه.
ومنذ فجر الخلافة الإسلامية ، وبوضوح منذ أبي بكر بن أبي قحافة أول الراشدين ، يمكن للمدقق في تاريخ الخلافة أن يلمس دون جهد كبير ، أنه كلما زادت تقوى الخليفة وتضلع في إيمانه ، وكلما كان حريصاً على أداء فروض الدين ومناسكه وإقامة شعائره وأداء نوافله ، كلما زاد رضى الفقهاء والناس عن حكمه ، وكلما أوغل في الفتك بالناس بحجة حماية دين الله من الزنادقة والمارقين من الدين ، وكلما خاض في دماء المعارضين الساسيين بحسبانهم من الخارجين على إجماع الأمة والدين ، بل أن عمليات القمع والتعذيب الوحشي نالت من الصحابة والتابعين ، وكبار الفلقهاء الذين لم ينج واحد منهم من القمع الخليفي برضى وموافقة واستحسان صحابة وفقهاء آخرين ، كانوا عونا وعيونا للخليفة يدعون له من على منابر المساجد بالصحة وطول العمر لذوده عن الحياض الربانية، ولم يجد معاوية ولا ابنه يزيد أي مشقة في العثور على صحابة وتابعين ورواة أحاديث نبويه تؤيدهم وتسدد خطاهم ، وهم بالذات من أسسوا في تاريخ المسلمين من نعرفهم بأهل السنة والجماعة ( المنصوص في الدستور الإخواني على أنه مذهب الأمة المصرية ) ، مقابل شيعة علي بن أبي طالب ، رغم أن معاوية وخلفائه من الأمويين بدأوا خلافتهم بالتطهر من الذنوب بالاغتسال بدماء آل بيت النبي حتى أفنوهم نساء ورجالا وصبية ورُضعاً ، مع ذبح كل من والى آل البيت ، في مجزرة بشعة ، وجدت من الفقهاء والرواة والصحابة من يجد لها المبررات الشرعية المعتبرة ، والمدونة حتى اليوم بأكاليل الغار بدلا عن أكاليل العار، في كتب الحديث الصحاح وفي كتب السير والتآريخ والأخبار .
ويرجع الباحث هادي العلوي تلك النزعة إلى التوحش وانعدام الإنسانية عند الأتقياء من الخلفاء ، إلى تشكل النفس التقية بتكرار الآيات والأحاديث ليل نهار ، حتى تطبع النفس بما فيها من عذابات القيامة الجهنمية ذات الأشكال والألوان ، من الخزق بمقامع الحديد إلى شرب الصديد وماء كالمهل يذيب الأمعاء إلى التكتيف بالسلاسل ذات النكال ، ولذة الحرق بالنيران حتى إذا نضجت الجلود وذابت شمعاً أعادها الله لهم حتى يتم تكرار الحرق إلجميل أبد آبدين ، مضيفا سبباً آخر هو طبيعة العقوبات الإسلامية ( الحدود) لمن يعص أمراً إلهيا ، والتي لا تقوم على إصلاح العاصي إنما على التشفي به والانتقام منه ، مع الأمر الشرعي بمشاركة المؤمنين كل حسب طاقته في تنفيذ العقوبة للأخذ بالثأر لله ، مما يجعل التعذيب بالمران والتكرار شأنا اعتياديا بل وواجبا قدسياً ، ومن نماذج المشاركة المجتمعية لتحقيق الألفة الإنسانية بين المؤمنين حد الرجم ، الذي يجب أن يتسابق إليه المؤمنون ، خاصة إذا كان المرجوم إمرأة لأنها منحت نفسها للزاني ولم ينل الراجم نصيبه معه من متعة الزنى ، فيكون أشد قسوة وحقداً ، إضافة إلى أن الراجمين على يقين أنهم ينفذون أمراً إلهيا يعوضهم عن نكاح المرجومة بما لايحصى من الحور العين في جنات النعيم ، لذلك يسارع المؤمنون لإعلان إيمانهم وحسن إسلامهم بالمشاركة في الكرنفال المرعب . ويدلل العلوي على استمرار التأثير الديني وامتداده عبر الزمان في تشويه النفس البشريه تشويها تاماً ، في حكايته القائلة : ” . وفي أواخر عام 1968 قامت السلطة الانقلابية في بغداد بإعدام عدد من المواطنين اتهمتهم بالتجسس ، وعلقت جثثهم في ميدان عام ، فخرج المواطنون ليتفرجوا على الجثث ، ثم جلسوا في ظلها يتناولون غذائهم ويأكلون البوظة والحلويات ، ولم يصدر أي استنكار ممن هم في الداخل ، ولا حتى ممن هم في الخارج بعيدين عن متناول السلطة ”
وتعكس هذه الرؤية نفسها في مرآة المؤلفات السلفية ، تكفينا منها عناوين المجلدات ، فيكتب محمد السويدي كتاب ” الصارم الحديد في تقييد بن أبي الحديد ” ويكتب بن تيمية ” الصارم المسلول لشاتم الرسول ” ويكتب بن عصفور ” سلاسل الحديد في تقييد بن أبي الحديد ” ويكتب ابن حجر الهيثمي ” الصواعق المحرقة على أهل البدع والضلال والزندقة ” وغيرها كثير يند عن الحصر .
رجع الصدى في الخلافة الراشدة :
يتميز الخلفة الأول ( أبوبكر ابن أبي قحافة ) بشديد إيمانه وتقواه وتصديقه حتى لقبه النبي صديقا ، وكان رجلا رقيقا سريع البكاء حتى أنه ألقى خطبته الأولى والدموع تخضب لحيته واختنق صوته من العبرات فلم يكملها ، لكن ما أن استوى له أمر الخلافة حتى قال للناس : ” إن لي شيطانا يعتريني، فإن رأيتموني غاضباً، فاجتنبوني ، لاأؤثر في أشعاركم وأبشاركم / ابن سعد الطبقات / ج3 / 151 ” ، أي حتى لا أؤذيكم في شعركم / رؤسكم وفي جلودكم ، واليوم يحذر الخليفة المحدث ( محمد بن مرسي آل عياط ) المعارضين بقوله : ” إتق شر الحليم إذا غضب ” .وما أن بدأت المعارضة السياسية لحكم أبي بكر ، وامتنع الصحابة من مضارب القبائل في الجزيرة عن أداء الزكاة إليه تعبيرا عن هذه المعارضة ، لعدم إشراكهم في اختيار الخليفة ، ولم يحضروا اجتماع السقيفة ولا تمت دعوتهم أليه ، مما اعتبروه خرقاً لعهدهم مع رسول الله بالشورى والبيعة ، حتى غضب الخليفة الباكي وأقسم على حربهم لمعارضتهم طريقة توليتة ، واقسم أنه سيقاتلهم لو منعوه عقالا كانوا يؤدونه للنبي ، وأطلق يد خالد بن الوليد فيهم ذبحا وتقتيلا، ولمزيد من التأكد من حسن أداء النقمة أرسل إلى خالد الصحابي ( سلمه بن سلامة بن وقش ) برساله يأمره فيها بقتلهم حرقا بالنار ، وأن يلقيهم من شواهق الجبال ، وينكسهم في الآبار ، واختص بني حنيفة التي ارتدت وأعلنت استقلالها بألا ألا يستبق خالد منهم رجلا نبت له شعر البلوغ ، لكن لحسن حظ الحنفيين وصلت الرسالة متأخرة بعد أن قتل منهم حالد ماشاء ثم صالح الأحياء على شروط النبي / الأموال / 257 ،وغني عن البيان أن سلمة بن سلامة بن وقش الذي اختاره أبو بكر لحمل أوامرة العسكرية ، تتفق كل الروايات على نفاقه وغمزه المستمر في صدق الوحي والنبي ، وتحول عند أبي بكر فجأة إلى رجل يحمل أوامر الخليفة وقواد جيوشه وأصبح الرجل من كبار الصاحين لأنه كان من مؤيدي الخليفة ضد المعارضين !!
لذلك لانستغرب وجود المجرمين وأصحاب السوابق والمسجلين خطر بين الإخوان في مصر ، فهم من المؤيدين الذين يطلبون حظوظا في الدنيا كالحظوظ التي نالها ابن وقش ،ولأنه تاريخهم ومحل إيمانهم وفخرهم فإنهم لايستحون ولايتجملون ولا يخجلون ، فهم يفعلون ما يفعلون عن يقين أنهم من جنود الله بغض النظر عن سيرتهم العار . وبعد القضاء على المعارضة السياسية والمرتدين الانفصاليين ، توقف الخليفة أبو بكر عن ذرف دمعه الثخين .
أما الخليفة عمر فرغم تشدده في الدين وصرامته وصلابته فيه ، فقد كان الأحن على بني جلدته من عرب الحجاز والجزيرة ، حتى أنه عندما أوصى به أبوبكر خليفة من بعده خافه المسلمون وذهبوا يرجون أبو بكر قائلين ” إنهم لم يسلموا من بطشه وأبوبكر بينهم فكيف بهم معه بعد موته ” . لكن عمراً أكرم رعيته ووزع عليهم الفيوء المنهوبة من البلاد المفتوحة ووصلت نساء مصر للأعرابي في اليمن لينال حظوظه من الخيرات التي صبت أنهاراً على الحجاز وأهله .
الباكي الثاني هو(عثمان بن عفان ) الذي أصبح الخليفة الثالث ، العابد المتبتل صهر النبي الذي تستحي منه الملائكة لشدة حيائه ، والذي كان زاده التقوي والصيام وتهجد الليل ، فلما استوى له أمر الخلافة حتى قام يغرف الذهب والجوهر والدنانير من بيت المال ليزين بها نساءه وجواريه ، ويمنح غنائم وخراج البلدان المفتوحة وجزيتها لأقاربه وأهله من بني معيط الأمويين ، وعندما اعترض الصحابه عما يفعل نكل بهم ضربا وحبساً ، وأعلن للمعترضين ” لنأخذ من ذلك المال مانشاء وإن رغمت أنوف ” فجاءه رد بن مسعود حافظ القرآن وحبيب النبي والذي أوصى المسلمين بحبه ، قائلا ” وأنفي والله أول راغم ” ، فكان أن لحقه التبخيس والتحقير وضرب بأمر الخليفة حتى كسرت أضلاعه وشارك عثمان في تأدية العقوبة بنفسه فضربه برجله وهو يلبس الخف فأصاب حب النبي بالفتق ، ناهيك عما حدث في محنة جمع القرآن وما صحبها من معارضة كبرى أوذي فيها كبار الصحابة الأجلاء، لكن الفقهاء والعارفين لم يحتسبوا أخذه من بيت المال حراما فلا يوجد نص بهذا الخصوص في المقدس الإسلامي ، ولم توجد لذلك هيئات مسؤولة وأجهزة محاسبية ومؤسسات رقابية ، لذلك كان من وجهة نظره ونظر الصحابة فعلا غير مؤثم وليس فيه أي جرم ، وماثار الصحبة عليه وقتلوه قتلة عنيفة ودفنوه في حش كوكب مقابر اليهود ، إلا لأنه لم يعطهم من المال ما أعطى لأهله ونسائه وأقاربه . ومن الملفت للنظر أن حد القطع في الشريعة الإسلامية لايقع على من سرق مالا هو شريك فيه لذلك لاقطع لمن يسرق / يختلس من المال العام لأنه شريك فيه بنصيب فهو ملك الجميع . ولعل اشهر الناهبين لبيت مال المسلمين هو حبر الأمة والراوي الثاني للحديث النبوي عبدالله بن عباس ، الذي لم يأخذ من بيت المال إنما استلبه كله مفرغا الخزينة وعاد به من العراق إلى الحجاز في حماية أخواله حتى لاتعترضه جيوش الخليفة الرابع علي بن أبي طالب الذي هدده وتوعده إن لم يعيد المال ، فأسكته برده : والله إن لم تكف عني أساطيرك لأذهب بهذا المال إلى معاوية ليحاربك به !!! .
والدهشة هنا تأخذنا من الإخوان والسلفيين ، فمن الطبيعي أن يعترض المشتغلون بهموم الوطن من أهل السياسة والأقتصاد على استيلاء حسني مبارك على المال العام ومنحه لأولاده ولزوجته ولعشيقاته من فنانات مصر الذين اختارهم بعناية مثلما اختار حوارييه ومنفذي رغباته من زكريا عزمي إلى العادلي إلى صفوت الشريف .. إلخ ، لكن أن يعترض الإسلاميون على ذلك ويسمونه فسادا فتلك والله عاشرة الأثافي ، وعهر ديني وسياسي ، ولاشك عندنا لحظة في فساد مبارك ونزحه أموال فقراء مصر وتهريبها لحسابته في الخارج ، لكن أن يعترض الإسلاميون باسم الدين فتلك والله هي الدعارة السياسية الكاملة ، ولأن أحدا من الخلفاء لم يخرج عن سيرة عثمان واعتبروا أن المال مال الله وهم حفظته يمنعونه عمن شاءوا ويعطون من شاءوا في ظل حكم الشريعة ، دون أن توقع عقوبة شرعية لهذا السبب على خليفة واحد بطول زمن الخلافة وعرضة ، فإن كانوا ضد الفساد الخليفي أو الرئاسي حقا ، فعليهم النص على ذلك بوضوح في شريعتهم ، وأن يقيموا المحاكمات التاريخية لأولئك الخلفاء حتى نصدقهم ، لكن من قال أنهم ينشغلون بمبادئ كالصدق والشرف ؟ وهم يكذبون بين كل قولة وقولة ، ويقولون زبدة الكلام التي تذوب مع شمس اليوم التالي ، يكذبون كما يتنفسون وفق عقيدة الكذب الشرعي الرديئة المعروفة باسم التقية . ويتلقون الأموال الفاسدة من قطر والسعودية وأمريكا ليغسلها لهم خيرت الشاطر لتكون حلالا زلالاً ، لتثبيت أنيابهم في جسد الوطن الجريح وليتمكنون ويتسلطنون إلى ما شاء الله ، أما حاجة الوطن وفقرائه فتأتي عبر القروض المشروطة والمهينة ، والساحقة لفقراء مسحوقين أصلا . وما كان هزال الأحكام الصادرة بحق العائلة المباركية وأعوانها بالاتفاق مع المجلس العسكري لا أعاده الله ولا رده ، وإهمال السعي لاستعادة هذه الأموال حتى سقط الحق في المطالبة به ، إلا عن يقين أن الشريعة ليست في صف محاكمتهم بتهمة الفساد المالي ، ولا تندهشوا إن صحوتم يوما على مبارك وآله ينعمون بأموالنا في الريفيرا وجزر الباهاما ويكون قد أخذ الأموال وترك لنا البركة في الإخوان .
رجع الصدى في الخلافة الأموية :
لعل أكثر الحكام شهرة في تاريخ الدولة الأموية والي عبد الملك بن مروان على العراق ( الحجاج بن يوسف الثقفي ) ، وهو الذي بدأ ولايته بخطاب شهير من على منبر المسجد : ” أنا بن جلا وطلاع الثنايا ، متى أضع العمامة تعرفوني(كانت العمائم هي تيجان الملوك من العرب ) ، أما والله أني لأحمل الشر محمله واحذوه بنعلي ، وأجزيه بمثله ، وإني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها ، وأنظر الدم بين العمائم واللحى ” ، ولكن الحجاج وجد من يدافع عنه رغم ولوغه في دماء المسلمين حتى اليوم ، فيقول فيه فقيه العصر والأوان يوسف قرضاوي : ” إنه كان وقافاً عند الشريعة رغم جوره وطغيانه / مدخل لدراسة الشريعة ص/73 ” ، فالجور والطغيان عند فقيه الزمان يمكن التغاضي عنهما فيتواريا وراء تقوى الحجاج ، الذي تُغفر له جرائمه ضد الإنسانية لا لشئ سوى أنه كان وقافا عند الشريعة .
والقرضاوي في ذلك ليس وحيداً بين الفقهاء ، فجميع أهل السنة والجماعة ، وكانوا دوما خدم رغبات السلاطين بطول عمر الخلافة ، ينبهون المسلمين إلى إيمان الحجاج الصادق ، فلم يزغ بأفعاله عن إيمانه بالله ، لأن تعريف الزيغ عن الإيمان عند أهل السنة والجماعة ليس ظلم العباد وانعدام العدل وهتك الأعراض والاستيلاء غلى الأموال والممتلكات ، إنما هو : ” الانخراط في أقوال أهل البدع والخوارج والباطنية والمعتزلة والصوفية والشيعة وكل من لايلتزم رأي السنة والجماعة ” ؟؟ لذلك يقولون إن الحجاج كان أهلا لإيمان عميق ، والتزم صحيح الإسلام ، إلا بفعله من ذل العباد وقطع الرقاب فهذا ليس كفراً إنما هوالفسوق الذي لا يخرج صاحبه من الملة .
ويحدثنا التاريخ صادقا أن الرجل لم يعرف بحبه للمجون واللهو ، ولم يكن يسعى وراء النساء ليقتل أزواجهن لينكحهن مثل خالد بن الوليد شديد الباءة والنهم ، بل كان عن ذلك من العازفين ، ولم يشرب الخمر طوال عمره ، وكان يكره العزف والغناء ، وكان صادقا مع محارم الدين .
ويروي الطبري أحداث عام 74 فيقول : ” ثم انصرف الحجاج إلى المدينة في صفر فأقام بها ثلاثة أشهر يتعبث بأهلها ، وبنى مسجدا في بني سلمة فهو ينسب إليه ، واستخف فيها بصحابة رسول الله (ص) فختم في أعناقهم ، وذكر محمد بن أبي ذئب أنه رأى جابر بن عبد الله مختوما في يده ، وعن بن إسحق بن يزيد أنه رأى أنس بن مالك مختوما في عنقه ، يريد أن يذله بذلك ( الختم دائرة من رصاص تحمى بالنار حتى تحمر وتختم بها الرقاب كعلامة أبدية للمذلة والهوان ) ، قال بن عمر حدثني شرحبيل بن أُبي عن أبيه قال : رأيت الحجاج أرسل إلى سهل بن سعد فدعاه ، فقال له : مامنعك أن تنصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان ؟ قال : قد فعلت ، قال : كذبت ، ثم أمر به فختم في عنقه برصاص / الطبري/ التاريح / مج 3 / ص 543 ” .
وحكى بن قتيبة عن استقلال الزبير عن الدولة الأموية ،وعندما وصلت جيوش الحجاج تضرب الكعبة حيث تحصن الثوار بالمنجنيق ، أن الزبير ” أسند ظهره إلى الكعبة ومعه نفر يسير وقال : ويل أُمة فتحاً ، لو كان له رجال ، فجعل الحجاج يناديه : قد كان لك رجال لكنك ضيعتهم ، فجاء حجر من حجارة المنجنيق وهو يمشي فأصاب قفاه فسقط ، فما درى أهل الشام (جيوش الحجاج ) حتى سمعوا جاريته تبكيه ، فاحتزوا رأسه فجاؤا به إلى الحجاج ، وقتل معه عبد الله بن صفوان وعمارة بن حرام ، ثم بعث برؤسهم إلى الخليفة/بن قتيبة / الإمامة والسياسة/ج 2/ ص257 ” ، ويقول الإمام السيوطي : ” لم يكن من مساوئ عبد الملك مثل توليته الحجاج على المسلمين والصحابة يهينهم ويذلهم قتلا وضربا وشتيمة وحبسا ، فقتل من الصحابة والتابعين مالايحصى فضلا عن غيرهم ، وختم في عنق أنس وغيرهم من الصحابة ، ويريد بذلك ذلهم / السيوطي / تاريخ الخلفاء/205 ”
ورغم دفاعات أهل السنة واجماعهم على الحجاج ، فإن الخليفة الوحيد في تاريخ الخلافة الذي عرف بالتقوى العملية أكثر من الأداء المرائي ، وعرف بتقواه وإنسانيته معا ، وهو الحالة اليتيمة الوحيدة في تاريخ الخلافة المرعب ، كان عمر بن عبد العزيز الذي حرم التعذيب بكافة أشكاله وألوانه مهما كان السبب ، بعد أن أثرت في نفسه جريمة تعذيب ارتكبها في صباه بأمر من الخليفة، فلما جاءته الخلافة كان الحجاج قد مات من أربع سنوات ، فأوقع العقوبة على أسرته ( وهوتشفي وانتقام غير عادل فلا تزر وازرة وزر أخرى ) ونفاهم إلى اليمن ، وكتب لعامله على اليمن : ” أما بعد ، فإني بعثت إليك بآل عقيل ، وهم شر بيت في العرب ، ففرقهم في عملك على قدر هوانهم على الله / ابن عساكر /4 /84 ، الغزالي في الإحياء ” .
أما المؤسس للآستبداد الأموي من بين الخلفاء فكان سيد الحجاج وولي نعمته ، الذي كان يلقب بحمامة المسجد لطول مكوثه فيه صلاة وتبتلا ، وكان إذا أذن المؤذن قام من فوره إليها وهو يقول : ” مرحبا بالقائلين عدلا وبالصلاة مرحبا وأهلا ” ، وأحيانا كان يتهجد الليل بطوله ، وهو ( مروان بن الحكم ) التي تكتب عنه كتب الأعلام والسير ، أنه نشأ في المدينة / يثرب فقيها واسع العلم بالدين ومحارمه ، متعبدا زاهدا ناسكا ، واستعمله معاوية على يثرب وهوصبي لم يتجاوز الستة عشر عاما / أنساب الأشراف /ج 5/ ص 129 ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء / ص 201 .
وعندما كان مروان بالمسجد يقرأ القرآن ويتدبر محكم التنزيل ، جاءه خبر ولايته الخلافة التي انعقدت له بموت أبيه في 65 هجرية ، فأغلق المصحف ونظر إليه وقال : هذا آخر العهد بك / السيوطي/202 ، ثم خطب في أهل يثرب : ” بعد حمد الله والثناء عليه ، فلست بالخليفة المستضف ولا بالخليفة المداهن ولابالخليفة المأفون ، والله لايأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه ، ثم نزل من المنبر / السيوطي/203 ” .
ومثل بن مروان ومثل يزيد ومثل معاوية ومثل الحجاج الذين تناوبوا على دماء المسلمين مع تقواهم وحرصهم على أداء فروض الدين وحمايته ، نموذج آخر لايقل دموية ولا يقل تقوى ، هو قائد يزيد بن معاوية الذي جرد جيوشه لتأديب صحابة رسول الله من أهل المدينة الذين ثاروا على الخليفة ، وهو الاسم الذي لايذكر إلا مع رجفة في الجسد ، هو (مسلم بن عقبة المري ) ، الذي أباح مدينة الرسول لجنودة نهبا وسلبا وذبحا ، بل أمرهم باستباحة فروج الصحابيات من زوجات الصحابة الأكرم ومن بناتهم ، واستحر القتل والنكاح العلني في مجزرة شرف علنية في شوارع المدينة لمدة ثلاثة أيام حتى حملت ألف عذراء وأكثرمن ألفين من الزوجات المحصنات بحساب الولادات غير الشرعية التي حدثت بعد الفتج الإجرامي الشنيع ، وهي الوقعة التي عرفت في تاريخنا بغزوة الحرة .
وقد قال (مسلم بن عقبة المري) بعد ذلك وهوعلى فراش الموت مايعبر عن صدق إيمانه وتقواه ، قال : ” أللهم إنك تعلم أني لم أشاق خليفة ، ولم أفارق جماعة ، ولم أغش إماما سرا ولا علانية ، ولم أعمل بعد الإيمان بالله عملا أحب إلي ولا أرجى من قتل أهل الحرة / البلاذري / مج2/ص46 ” ويشرح لنا البلاذري تمسك الرجل بأهداب عقيدته وتعففه عن متع الدنيا وسعيه للآخرة في قوله : إن مغنين من أهل المدينة عرضوا عليه إيناسه بالغناء إبان قص الرقاب وفض الأبكار ، فأمر بقتلهم قائلا : ” ماجئنا للهو والغناء ” ، فالرجل قام بما قام به من منطق إيماني بحت، وتدين صادق ، ومات واثقا من رضى الله عنه .
رجع الصدى في الخلافة العباسية :
كان حمل الرؤس المقطوعة في الزمن الأموي سُنة استحسنها الخلفاء من بعد وأثنوا عليها ، وكان أول رأس تم حمله على الرمح هو رأس ( عمرو بن الحمق ) أحد أتباع الخليفة علي بن أبي طالب ، ومن بعده تم حمل رأس الحسين الحفيد النبوي سيد شباب أهل الجنة وصحابته ، بعدغزوة الطف في كربلاء ، مثبتة فوق الرماح ليراها الناس ، ومن الكوفة تم عرضها سيراً حتى دمشق مقر الخلافة ، ومن بعدهم استمرت السنة الحميدة !! في الزمن العباسي .
وكان أشهر خلفاء بني العباس (أبو العباس السفاح ) مؤسس الخلافة العباسية ،الذي روى عنه المؤرخون المسلمون أنه “قتل مئة ألف وهو أقرب إلى المعقول /الطبري/التاريخ/ج6/ص17 ” ، إضافة إلى من قتلهم أبو مسلم الخراساني شرقي الخلافة وبلغ ستماءة رجل وامرأة وصبي وطفل وكان مُنظر الدعوة العباسية إبراهيم الإمام قد كتب إليه بقتل كل غلام بلغ طوله خمسة أشبار/ اليعقوبي / 6/17 ” .
ومن بعده لابد أن نذكر أكثر خلفاء العباسيين تقوى وورعاً وهو الخليفة المهدي والد هارون الرشيد ، الذي تشدد في الدين وأخلص لمحارمه إخلاصا تغنت به كتب التراث ، وقد اختص المهدي برعبه وقسوته مع أهل العلم والمعرفة ، فكان يتلذذ بذبح البشر بيديه ، فقتل الحكيم الورع الشاعر الزاهد صالح بن عبد القدوس المعد بين فقهاء زمانه ، وكان قد شاخ وأصابه العمى ، وكان المهدي يريد تجربة مضاء سيف ُأهدي إليه ، فشق العجوز الأعمى الزاهد نصفين بضربة في منتصف الرأس انتهت إلى مخاصيه ، أي أنه شقه شقا ، ثم علق النصفين متقابلين بسوق بغداد ، لأنه قال شيئا لم يعجب الخليفة، وبعده استمع إلى شعر لم يعجبه من الشاعر الأعمى بشار بن برد فقام بجلده يوما حتى فاضت روحه ، ويشغل المهدي عند فقهاء زمانه مكانا عليا ، وذلك لانهماكه في ملاحقة الزنادقة وسجنهم وتعذيبهم وتشريدهم وذبحهم ، وغني عن البيان أن تهمة الزندقة والكفر كانت تلحق بأي معترض على أعمال الخليفة ، كما تساق اليوم في وجه المعارضين لحكم خليفة الزمان ( محمد بن مرسي آل عياط ) رضي الله عنه وأرضاه ، وارجعوا لكتاب قرضاوي ” الإخوان المسلمون ” لتجده لايذكر أحدهم أفاقا كان أم نصابا إلا مشفوعا بقوله ” رضي الله عنه ؟؟؟ ”
هذه نماذج سريعة على قدر الذاكرة من سيرة الخلفاء المشتهرين بالتقوى والتمسك بالدين وأصوله ، وهم الذين نالوا الجظوظ الأفضل في كتب فقهائنا ، حتى اعتبروا زمنهم هو الزمن النموذجي لتطبيق الشريعة ، وأنهم القدوة والمثل الأعلى الذي يجب أن نعمل جاهدين لتمثله وتكراره اليوم ختى نستعيد مجدنا الذهبي .
إذن مادام شعبنا قد اختار حكم الأتقياء والورعين فلا يبأس إذن عندما يسحلون أبناءه في التحريروالسويس وبور سعيد ومحمد محمود والاتحادية وبقية ميادين مصر ويقتلونهم شر قتل ، بعد إجراء عمليات التعذيب المناسبة فيعذبنا الله بأيديهم ، ومادمتم قد اخترتموهم ليقيموا الدين فقد أصبحتم حميعا تحت اليد وهوالاصطلاح الشرعي الشهير للذبح ، وموتاكم في النار وموتاهم في الجنة ، ولكن فاتكم الشئ المهول وهو أنه مهما كانت درجة إيمانكم فأنتم مجرد موالي وعبيد لورثة العرب الفاتحين ، لذلك كتب خيرت الشطر من بضع سنوات وثيقة إعادة فتح مصر ، ونفذها الإخوان والسلفيون بجهود حلفائهم بالمجلس العسكري لارده الله ، فاسترقاق الشعوب حرفة عربية تاريخية تشهد بها الحضارات القديمة المفتوحة ، فقد أتاحت لهم الفتوحات سبي أكبر عدد من النساء في التاريخ الإنساني كله مع الذين استعبدوا من الرجال والأطفال مما جعلهم أفضل النخاسين في تاريخ البشرية ، نهبونا واحتلوا بلادنا استيطانيا وهتكوا أعراضنا وفرقونا عبيدا في أسواق العالم للعبودية ، وعندما طلب الفاتحون من الخليفة عمربن الخطاب تقسيم الأراضي المفتوحة ملكية للفاتحين ، رأى أن جنوده قد حصلوا مغانم كثيرة فلم يوزع البلاد على الفاتحين ، إنما جعلها وقفا على العرب لتعود بفيوئها على الأبناء والأحفاد ، لأننا عجم ، عجماوات أي مثلنا مثل السوائم .
إن كل ما يفعله الإسلاميون اليوم هو أمر شرعي فهم يستعيدون وقفهم ، يستعيدون ميراثهم الذي فقدوه ، فبلادنا لها مُلاك تاريخيين ، يملكون الأرض والرقاب ، ويلزم عودتنا للمالك التاريخي في خلافة منتظرة ، ولديهم في كتب الفتوحات أدلة ووثائق الملكية ، وحتى يحدث ذلك يحولون الموقف السياسي إلى ديني بين مؤمنين وكافرين ، ولإثبات أننا مجردعبيد يصدرون لنا الأوامر التي تحدد لنا كل حركة وسكنة ، من ترديد أدعية بعينها و ماذا تقول عندما تنام وعندما تنكح وعندما تصحو وعندما تدخل الحمام وعندما تخرج وعندما تسير في الطريق أو تركب أي ركوبة سواء كانت جملا أم طائرة ، ومتى تأكل ، وتأكل بيمينك ومما يليك يافتى ، وماذاتقول قبل الأكل وبعده وبعد أن تتجشأ وبعد أن تطس وأن تشرب أو تبول جلوساً ، كلها تدريبات على العبودية والطاعة الكاملة للسيد الآمر أينما وجهت وجهك ، وكل نفس بما كسبت رهينة استعباد أو قتل .