تشير عبارة " ومَن أَرادَ أَن يُحاكِمَكَ لِيَأخُذَ قَميصَكَ " إلى ترك التلميذ ما لديه للآخر، لان ما ينتزعه منه لا يظل بالفعل مُلك له. أمَّا عبارة " قَميصَكَ" فتشير إلى الثوب وهو أشد الثياب ضرورة. ولا ينتزع القميص إلاَّ عند الذي يُباع كعبد، كما حدث مع أخوة يوسف الذين " نَزَعوا عنه قَميصَه، القَميصَ المُوَشَّى الَّذي علَيه" ليبيعوا يوسف للتجار (التكوين 37: 23). ولذلك فإن ما يطالب به الخصم باهظ الثمن؛ أمَّا عبارة " رِداءَكَ " فتشير إلى الثوب الفوقاني المستعمل غطاء في الليل والذي لا تجيز الشريعة احتجازه بسب ذلك، إلاَّ نهارا واحدا "إِذا اَستَرهَنتَ رِداءَ قَريبِكَ، فعِندَ مَغيبِ الشَّمْسِ رُدَّه إِليه، لأَنَّه سِترُه الوَحيد وكِساءُ جِلدِه، ففيمَ يَنام؟" (خروج 22: 25 -26)؛ ومع ذلك يطلب يسوع أن تسير الأمور إلى النهاية وأن يُعطى " الرداء" أيضا، ويؤكّد على أنّه، في اللحظة الّذي ينتزع الآخر شيئاً ما منّا، فنحن مدعوّون إلى أن نعطيه إيّاه. كما حدث مع يسوع " ما مِن أَحَدٍ يَنتزِعُها مِنَّي بل إنّني أَبذِلُها بِرِضايَ" (يوحنّا، 10، 18). فالشرّ الّذي يرتكبه الآخر يُصبح مجالاً لحبِّنا المجاني له. ولا يقوم طلب يسوع باحتمال الألم فحسب، وإنَّما أن نكون مستعدِّين لتقبُّل الآلام أكثر مما يودّ الظالم أن يفعل بنا، فإن اغتصب ثوبنا نترك له الرداء، وإن سخّرنا ميلًا نسير معه ميلين. ولكن يجب ألاَّ يُفهم من ذلك تحريم الدفاع عن أنفسنا، لانَّ ذلك يفسح المجال للأشرار أن يتمادوا ويجعلوا المظلوم فريسة لهم. والمسيح لم يحتمل الشر، بل قاومه بكلامه، كما جاء في الإنجيل "لَطَمَ يسوع واحِدٌ مِنَ الحَرَسِ كانَ بِجانِبِه وقالَ له: أَهكذا تُجيبُ عَظيمَ الكَهَنَة؟ أَجابَه يسوع: إِن كُنتُ أَسَأْتُ في الكَلام، فبَيِّنِ الإِساءَة. وإِن كُنتُ أَحسَنتُ في الكَلام، فلِماذا تَضرِبُني؟ " (يوحنا 18: 22-23)، وهكذا فعل بولس الرسول أيضا " فأَمَرَ حَنَنْيا عَظيمُ الكَهَنَةِ الَّذينَ بِجانِبِ بولس بِأَن يَضرِبوه على فَمِه. فقالَ له بولُس: ((سيَضَرُبكَ الله، أَيُّها الحائِطُ المُكَلَّس، أَتَجلِسُ لِمُحاكَمَتيِ بِسُنَّةِ الشَّريعة، وتُخالِفُ الشَّريعة فتَأمُرُ بِضَرْبي؟" (أعمال الرسل 23: 2-3) الرسل أيضا (قولسي 4: 9-13)، وهكذا فعل المسيحيون في كل عصر. المسيح يُنهي عن مخاصمة الآخرين لدى الحكومة عندما تكون الغاية من ذلك الانتقام لا إظهار الحق، كما يقول بولس الرسول " وفي كُلِّ حال فإِنَّه مِنَ الخَسارةِ أَن يَكونَ بَينَكُم دَعاوٍ. فلِمَ لا تُفَضِّلونَ احتِمالَ الظُّلْم؟ ولِمَ لا تُفَضِّلونَ احتِمالَ السَّلْب؟ " (1 قورنتس 6: 7). خير لنا أن نخسر مالنا من أن نخسر نفوسنا لعدم محبَّتنا.