رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
هل انتهى عصر الاستشهاد وبطلت الشهادة؟ لكن ماذا بعد؟ هل انتهى عصر الاضطهادات، وبَطُلَت الشهادة؟ إنَّ الشهادة عمل كل مُؤمِن دُعِيَ عليه اسم المسيح واقتبل نِعمة عهد المعمودية، وصار له المسيح نصيبًا... فحالِة الاضطهاد هي الحالة العادية للكنيسة في العالم (2تي 3: 12)، لذلك فالاستشهاد هو المسيحية بعينها، وهو إعلان عن صليب المسيح الذي صار لنا نعمة ومجد وتَبَعِيَّة... فالاستشهاد الباطني موضوع علينا، وإن كان الاستشهاد بالدم هو أكمل وسيلة لتبعِيَّة المسيح وتحقيق الوجود المسيحي، فهو لن يكون الوسيلة الوحيدة لأنه ليس مُقدَّمًا للجميع بل للذين أُعطِيَ لهم، والله يُتوِج خُدَّامه وهو يطلُب إيماننا العامِل.. لذلك يقول أنبا باخوميوس أب الشَرِكَة أنه ليس فقط تقطيع الأعضاء والحرق وحدهُما هما استشهاد!! بل تعب النُسك واحتمال الآلام والأمراض واحتمالها بشُكر هو الشهادة ”من أجلك نُمات كل النهار“. وللشهادة مجالات كثيرة، فالقداسة يمكن أن تُحسب مُساوية للاستشهاد، تلك هي المحبة الكامِلة وإنكار الذات والبذل والتكريس والعفاف والتلمذة كبُرهان على استعداد النَّفْس للاستشهاد، فالتكريس والبتولية ونذر الرهبنة صارت طُرُقًا مُماثِلة جدًا للاستشهاد، والعذارى والرهبان والمُكرسين صورة مُماثِلة للشُّهداء، حتى أنَّ القلاية تُعَدْ مكان شهادِة الراهِب الدائِمة. وللقديس يوحنا فم الذهب مفهومًا عام ومُتسِع عن الاستشهاد: ”وقد يقول قائِل أنه ليس وقت الاستشهاد فماذا أفعل؟ هل تظُن أنَّ الاستشهاد على خشبة فقط هو الذي يصنع الشهيد، لو كان لحُرِم أيوب من إكليله وهو يُماثِل ألف شهيد؟!!“. ويشهد البابا أثناسيوس الرسولي عن العظيم أنبا أنطونيوس: ”وعندما توقف الاضطهاد أخيرًا وأكمل المغبوط بطرس الأسقف شهادته، انصرف أنطونيوس في مغارته وبقى هناك وكان كل يوم شهيدًا أمام ضميره“.. لذلك سُمِيَت مغارِة القديسان مكسيموس ودوماديوس بمكان شهادِة الغُرباء، إنها شهادِة الحُب وشهادِة النُسك وشهادِة البتولية وشهادِة العِبادة وشهادِة الحواس والجسد.. ويُوصينا العظيم أنبا أنطونيوس الكبير ”قدِّموا جسدكم هذا الذي تلبِسونهُ واجعلوا منه مذبحًا، اجتهدوا أن تُقدِّموا ذواتكُم كذبيحة لله دائِمًا“. حقيقةً أنَّ الاستشهاد بالدم له كرامة وبركة خاصة ولكن الحياة النُّسكيَّة هي بمثابِة استشهاد يومي بالإرادة لذلك كل مسيحي إنما هو شاهِد وشهيد وعصر الاستشهاد لم ينتهِ حتى ولو انقضى زمان الاضطهاد، والعظيم أنبا أنطونيوس هو أوِّل من عاش الاستشهاد بدون سفك دم.. هناك حروب أخرى على المسيحي أن يخوضها كل يوم، نعني بها القِتال ضد الشهوات والصِراع ضد الرغبات، لذلك يسرِد لنا المُؤرِخ الكنسي يوسابيوس القيصري عن الكهنة والشمامِسة والخُدَّام الذين ماتوا بسبب كثرِة زياراتِهِم للمرضى وخدمتهُم بحُب مسيحي فانتقلت إليهم العدوى ومات البعض منهم، إنه لا يمكن أن يكون قد نَقَصهُم شيء من الاستشهاد. فإن لم نكُن على استعداد لأن نموت لآلامه فحياته ليست فينا، والاستعداد القلبي للشهادة يُحسب أنه شِهادة (بحسب تعبير ذهبي الفم)، والشهادة وإن كانت بإمكان الجميع إلاَّ أنَّ تحقيق ذلك نعمة تُعطَى للقليلين، لذلك حياتنا كلها شهادة كُبرى. وأفاض القديس فم الذهب في الحديث عن مجالات الشهادة فقال: ”إذًا فاحتمِل المشقات كلها ببسالة، لأنَّ هذا يُحسب لك استشهادًا“...وأضاف قائِلًا: ”ليس الشهيد هو فقط من عُلِّقَ على الصليب، بل من تألَّم أكثر من شُهداء كثيرين، لأنَّ كثيرين تحمَّلوا السِياط، لكنهم لم يحتمِلوا فُقدان مُمتلكاتِهِم... هذا نوع آخر من الاستشهاد“. بل يعتبِر أنَّ كل احتمال له بركته ودلالته فيقول: ”هل سقطت فريسِة مرض عِضال، هل رضيت أن تحتمِله بجَلَدْ وبلا وَجَلْ حتى لا تلجأ لأعمال السِحر؟ هذا سيأتي لك بإكليل الاستشهاد، ثِق في هذا، لأنه كما يحتمِل الشهيد آلام العذابات بجَلَد مُقابِل أن لا يسجُد للتمثال، هكذا أنت تحتمِل مشقات مرضك دون أن تلجأ لأعمال السِحر للشفاء منها“.. لذلك فالإنسان المسيحي شهيد بالليل، وشهيد بالنهار، شهيد يُمات كل النهار لكي تظهر حياة يسوع في جسده المائِت، شهيد في حياته اليومية، شهيد في أخلاقياته، إنها الشهادة السِّرِّية الداخلية، شهادِة الضمير التي هي وصية للجميع وكل من يتخلَّى عن مشيئته الخاصة فهذا يُسفك دمه (بحسب قول القديس برصنوفيوس). إنه صلب الجسد والأهواء والشهوات (غل 5: 14)، ألسنا جميعًا مدعوين إلى هذه الشهادة التي تحدَّث عنها القديس كبريانوس عندما فرَّق بين شهادتين ”شهادة حمراء“ شهادِة الدم، و”شهادة بيضاء“ هي شهادِة المحبة المُضحية والبذل وحمل الصليب والنُسك والسلوك بلا عثرة... تلك التي قال عنها القديس ميثوديوس الشهيد أسقف أولمباس ”إنَّ حياة التكريس والبتولية هي استشهاد ليس في لحظة واحدة قصيرة بل هي استشهاد مُمتد طوال الحياة“. |
|