حينما تتوقف عقارب الزمن لحظات فارقة تجعل الزمن بلا معنى
0
على مر أكثر من خمسة وعشرين عاماً، مارس “تشاك بيري” رياضات القفز عبر السماء بأشكالها المتعددة. وإن كان متخصصاً في واحدة من أكثر تلك الرياضات خطورة على الإطلاق، وهي رياضة القفز من المرتفعات Base Jumping، بما في ذلك القفز من المباني وأبراج البث والجسور والمنحدرات، ثم العودة إلى الأرض بمظلة هبوط. تلك الرياضة من الخطورة بحيث أنها تسببت في 136 حالة وفاة منذ عام 1981.
بالنظر إلى خبرة تشاك السابقة في القفز من كل ما هو مرتفع، بدت فكرة القفز بطائرة شراعية من على منحدر جبلي على ارتفاع 5500 قدم ليست بجنونية على الإطلاق! مُقدمة الطائرة تُشبه طائرة ورقية بجناحين بالغي الطول وبلا ذيل، مزودة بمقصورة لقائد الطائرة تُغطي نصف جسده العلوي فقط، بينما تتدلى أرجله من أسفل.
يمكنك أن تتخيل تشاك يركض على أقدامه بطول المنحدر حاملاً الطائرة؛ تماما كما كان يركض “فريد فلينستون” بسيارته ليدفعها في العصر الحجري! ثم يقفز تشاك عند الحافة ويبدأ في التحليق. لكن شيئاً ما ليس على ما يرام، الطائرة تهتز بشدة وجناحاها ينثنيان لأعلى ولأسفل مراراً، وفي غضون لحظات كان الجناحان قد تحولا إلى أشلاء، ووجد تشاك نفسه في حالة سقوط حر.
دار الحوار التالي داخل دماغ تشاك: “لابد أن يكون هناك طريقة ما.. ينبغي أن أفعل شيئاً.. لا تنظر نحو الأرض.. إنها قريبة للغاية.. لكن يجب أن يكون هناك طريقة.. الذراع! الذراع التي تفتح مظلة الطوارئ.. لو تمكنت فقط من أن أصل إلى الذراع.. ينبغي أن تكون هناك. كم من الوقت مضى منذ بداية سقوطي؟ هذا الأمر يستغرق دهراً! ها هي التلال تقترب. لم يتبق كثير من الوقت. هذا أهم قرار أتخذه بحياتي. افعل شيئاً! أنقذ نفسك! فلتصل إلى تلك الذراع واسحبها!”.
طبقا لنظام GPS لم يستغرق سقوط تشاك بيري سوى بضع ثوان، ولكنها بدت له أكثر من ذلك بكثير. كان لدى تشاك الوقت الوفير كي يفكر ويتخذ القرار. بالنسبة إلى شخص يراقب من بعيد فقد حدث الأمر في لمح البصر، أما بالنسبة إلى تشاك بدا الأمر بلا نهاية…
عاش تشاك ليحكي الواقعة .. إلا أن تلك الواقعة تستدعي إلى أذهاننا وقائع مماثلة يتشوه فيها إدراكنا للزمن. عندما نشعر بالخوف أو القلق، كما في وضع يمثل تهديداً لحياتنا، تبدو عقارب الزمن كما لو كانت قد التهمت لتوها وجبة دسمة أصابتها بالتُخمة ولا تكاد تتحرك! وفي الأوقات التي نستمتع فيها بالإجازة المنتظرة فإنها تمر سريعاً، فلم نكن نلبث نفرغ حقائبنا حتى وجدنا أنفسنا نعيد حزمها من جديد. هل تتلاعب بنا عقارب الزمن حقاً؟ أم أن تمدد وانكماش الزمن هو محض خدعة؟ الخوف يجمد الزمن
باعتباره صحفياً أجنبياً يعمل في منطقة ساخنة مثل قطاع غزة، علم “آلن جونستون” أن تعرضه للاختطاف هي مسألة وقت لا أكثر. بعد وقوعه في الأسر بعدة أسابيع، أعطاه مختطفوه جهاز راديو. وفي إحدى الليالي سمع آلن خبر مقتله! بدأت الأفكار تتصارع في دماغه، ربما استبق مختطفوه الأحداث وأعلنوا عن الخبر قبل أوانه. ربما هم على وشك قتله بالفعل.. ربما تكون هذه الليلة هي الأخيرة. بدت تلك هي أطول ليلة قضاها آلن منذ الأسر.. بالنسبة إليه تباطأ الزمن.
عندما يخشى المرء على حياته، مثل في حالة آلن أو تشاك أو في حادث سيارة مثلاً، كثيراً ما يُقدر الناجي وقت الحدث بمدة زمنية أطول بكثير من الواقع. في دراسة علمية، طُلب إلى مجموعة من الأشخاص المصابين بفوبيا العناكب أن يشاهدوا مجموعة منها لمدة 45 ثانية، كانت النتيجة أن بالغ المشاركون في تقدير الوقت الذي قضوه في القيام بتلك المهمة البغيضة.
وفي دراسة أخرى، شاهد مجموعة من الأشخاص مقطعاً مسجلاً لعملية سرق بنك مدته 30 ثانية. فيما بعد عندما طُلب منهم تقدير مدة المقطع، خمن المشاركون أن مدة المقطع أكبر بخمسة أضعاف من مدته الفعلية. وكلما كانت النسخة المعروضة أكثر إثارة للقلق، بالغ المشاركون في تقدير طول مدته.
ما الذي يحدث لهؤلاء حقاً؟ هل يتباطأ الزمن بالفعل؟ الأمر برمته خدعة تلعب فيها الذاكرة دور البطولة. يقوم الدماغ في العادة بتخزين كم معين من الذكريات في فترة زمنية محددة. لكن عندما يشعر المرء بالخوف أو القلق تُصبح منطقة اللوزة الدماغية Amygdala في المخ أكثر نشاطاً، لتساهم في تخزين فائض غير اعتيادي من الذكريات عن الحدث. ولكن كيف يتسبب ذلك في تباطؤ الزمن؟
فلنتخيل مثلاً أن مكتب خدمة العملاء في البنك يستقبل عميلاً واحداً أو عميلين في الساعة الواحدة في غير أوقات الذروة. في حين أن المكتب نفسه يستقبل عشرات العملاء في الساعة الواحدة في أوقات الذروة. يتعامل الدماغ بنفس الكيفية مع المعلومات الواردة إليه من البيئة المحيطة، في ظل الظروف العادية يخزن الكم المعتاد من المعلومات، لكن عندما يوضع المرء تحت ظروف استثنائية كوقوع حادث مثلاً، فإن الدماغ يستقبل ويختزن كل ما يقع تحت طائلته من معلومات أو تفاصيل حوله.. كبيرة كانت أو صغيرة، أي أن الكم الذي كان يختزنه على مدار 8 ثوان مثلاً أصبح الآن يختزنه في ثانية واحدة. ويُعطي ذلك انطباعاً خادعاً للدماغ أن الحدث امتد لمدة أطول من وقته الفعلي، لكثرة المعلومات التي استقبلها واختزنها في تلك الفترة الزمنية القصيرة، فيبدو كما لو كان الحدث يقع بالحركة البطيئة. الرجل الذي رأى الزمن يتوقف
لكن المشاعر السلبية مثل الخوف أو القلق ليست المبرر الوحيد لتباطؤ عجلة الزمن، أحياناً يكون التباطؤ دليلاً على أن الدماغ ليس على ما يرام. نحكي هنا قصة رجل في التاسعة والثلاثين من العمر، يدق الصداع أبواب جمجمته بلا انقطاع لأيام عديدة. قرر اللجوء إلى حمام ساخن أملاً في أن تعمل زخات المياه على تدليك فروة دماغه النابض بالألم. بعد مرور 10 دقائق تقريباً، نظر إلى أعلى ليرى مشهدا لن يغيب عن ذاكرته ما دام حياً.
لقد تباطأ الزمن بالتأكيد، أو هكذا بدا إليه الأمر. فقد كان بإمكانه أن يتبين القطرات المتدفقة من رأس الدُش، بدت كما لو أنها مٌعلقة في الجو! كان المشهد غريباً للغاية، فهو الآن يرى كل قطرة مياه بوضوح، وهو تيار المياه ذاته الذي كان يراه سيلاً مبهم المعالم في الظروف العادية. “كان التأثير مشابهاً كثيراً لتوقف الرصاصات المُنطلقة في اتجاه “نيو” في أفلام المصفوفة Matrix” بحسب قوله!
في اليوم التالي، أجرى له الأطباء تصويراً مقطعياً، وتبين أن لديه نزيف بالنصف الكروي الأيمن للدماغ. ما حدث لهذا الرُجل يُدعى “ظاهرة زايترافر Zeitraffer phenomenon” والتي توصف بتغير في إدراك الشخص لسرعة الأجسام المتحركة. ظاهرة زايترافر غالباً تكون مرتبطة بإصابة في الدماغ كجلطة مثلاً. ولكن كيف أثرت تلك الإصابة على دماغ صاحبنا فظن نفسه “المختار” الذي سيتغلب على عملاء “المصفوفة Matrix”؟!
حاولت عديد من الأبحاث تحديد المنطقة المسؤولة في الدماغ عن إدراك سرعة الأجسام، وتدور شكوكهم حول منطقة تُدعى V5 بالقشرة المخية البصرية. وصف مريض آخر مصاب بجلطة في تلك المنطقة، رؤيته لحركة المشهد حوله كإطارات ثابتة يظهر الواحد تلو الآخر ببطء كما لو كان يعيش بداخل فيلم سيء الجودة، بينما يصف مريض آخر رؤية المشهد من حوله متقطعاً، تبدو الأجسام كما لو أنها تقفز من موضع لآخر دون حركة انتقالية فيما بينهما! وهم توقف عقارب الساعة
حتى أنت.. نعم أنت.. لا تنظر حولك فلا أحد غيرك يجلس خلف الشاشة الآن! لابد وأنك رأيت الزمن يتوقف بالفعل.. أرى القلق في عينيك بعد أن عرفت بأمر الجلطة الدماغية.. ربما تفكر جدياً في زيارة الطبيب الآن! كم من المرات رفعت عينيك لتتفقد الساعة المعلقة على الحائط، فوجدت أن عقرب الثواني متوقف تماماً عن الحركة، فاعتقدت أن الساعة تعطلت؟ تلك الساعة التي تثير جنونك في العادة بدقاتها المحطمة للأعصاب (تيك.. توك.. تيك.. توك)، لم لا تعمل تلك الساعة اللعينة في صمت (تيك.. توك.. تيك.. توك)؟!
ولكن لدهشتك استأنف العقرب حركته من جديد، بعد أن استغرقت نقلته من الثانية الحالية إلى الثانية التي تليها ردحاً من الزمن، كما لو كان يحصل العقرب على قسط من الراحة قبل أن يكمل رحلته الشاقة على مدار الساعة. لابد وأنك كذبت نفسك في أن ما رأيته ليس حقيقياً، واتهمت نفسك بالهذيان. ما شهدته أنت في ذلك الموقف، لم يكن كسلاً من قبل عقرب الثواني أو هذياناً من جانبك ولا يستدعي زيارة الطبيب، إنما هو “وهم الساعة المتوقفة Chronostasis”.
عندما تحركت عيناك من الموضع الأول كشاشة الحاسوب أو الهاتف المحمول الذي تقرأ عليه الآن، إلى موضع آخر كالساعة المعلقة على الحائط، هل لاحظت اختفاء العالم بين الموضعين؟ نعم.. لقد غابت الرؤية بينهما، ربما رأيت صورة ضبابية وكأن الإرسال قد تشوش ثم عاد مرة أخرى! ولأن دماغك لا يريد أن يكلفك وحشة الضباب والظلمة. فإنه يقوم بخداعك، وتلك الخدعة ينتج عنها وهم الساعة المتوقفة.
تقول النظرية المطروحة لتفسير تلك الظاهرة الغريبة، أن الحركة السريعة للعين تتسبب في الانقطاع اللحظي لوصول المعلومات إلى العين مما يترتب عليه حدوث فاصل في إدراك الإنسان خلال تلك المرحلة الانتقالية. ولكي يجنبنا الدماغ ذلك الفاصل، فإنه يقوم بملء الفراغ بما يأتي بعده!
فمثلاً إذا انتقلت عيناك سريعاً في اللحظة المناسبة تماماً لتضبط عقرب الساعة متوقفاً عند الثانية الخامسة، فإن دماغك يلتقط صورة (Screenshot) لذلك المشهد، ويضع نسخاً منها في فراغ مرحلة انتقال عينيك من الشاشة إلى الساعة، فيترك لديك انطباعاً أن العقرب توقف هنا دهراً من الزمن.
إنه دماغك عزيزي القارئ.. يسافر بك في الزمن فعلياً.. فما رأته عيناك في المستقبل خزنه دماغك في الماضي. ولا يكفيه أن تمر بلحظات قاسية ومرعبة في حدث مخيف.. بل ويمدد في تلك اللحظات ليجعلك تعيشها ببطء. وإذا أصابته علة ما.. حول عالمك إلى فيلم رديء الصنع.. كم هو مسلّ ذلك الدماغ!!