النقاوة من الخطية
1. ربما يظن إنسان أنه تائب، لأنه ترك الخطية الرئيسية المتعبة التي كانت تقلق ضميره، ولم يعد يسقط فيها الآن.
أى لم يعد يزنى مثلًا، أو يسرق، أو يغش، أو يسكر. ولم يعد يرتكب خطايا في هذا المستوى. لذلك استراح ضميره، وظن أنه تاب..! وذلك لأن الخطايا الكبيرة التي كان يركز عليها قد غطت رؤيتها على الخطايا الأخرى التي لم يكن يلتفت إليها.
وربما في نفس الوقت يكون واقعًا في خطايا كثيرة يعتبرها طفيفة، ولا تدخل في مقاييسه الخاصة بالتوبة. مثل الحديث عن النفس، والفرح بالمديح، وتبرير الذات باستمرار، وكثرة الجدل، والسلوك حسب الهوى الخاص، والتشبث بالرأي الذي يقود إلى العناد. مع إهمال بعض الصلوات، وتقصير في القراءات الروحية. وربما عدم احتمال الإساءة، وعدم تقديس يوم الرب..
ومع هذا كله، ضميره لا يوبخه، لأنه لم يصل إلى المستوى الذي يتبكت فيه على أمثال هذه الأمور. فهل نعتبر مثل هذا تائبًا؟!
إنه ولا شك محتاج أن ترتقي مقاييسه، لكي يتوب عن أمثال هذه الخطايا التي يعتبرها طفيفة، أولا يلتفت إليها باهتمام.
فمتى إذن نعتبره تائبًا؟ أليس إن ترك كل الخطايا، حتى التي تبدو في نظره صغيرة. يتركها بالفعل، وأيضًا يطردها من قلبه من فكره.
وهنا يصعد الإنسان سلمًا في التوبة، كلما نضج روحيًا. ويصير ضميره حساسًا جدًا لا يتغاضى عن شيء. وبهذا يدخل إلى التوبة الحقيقة.
فهل إذا وصل إلى هذا، نحكم عليه بأنه وصل إلى نقاوة القلب؟
هنا نبدى ملاحظة هامة، لكي تكون لنا دقة الحكم، هي:-
2 – ربما هو لا يخطئ، لأن الشيطان قد تركه إلى حين.
إن الشيطان حكيم في عمل الشر. يعرف متى يحارب، وكيف يحارب، وفي أية خطية يركز قتاله.. فإن وجد شخصًا متحمسًا جدًا ومستعدًا، يتركه فترة حتى يثق هذا الإنسان بنفسه ثقة ربما تدفعه إلى التهاون والتراخي وعدم التدقيق. ثم يرجع إليه الشيطان في وقت يكون هذا الإنسان أقل استعدادًا وحرصًا، فيسهل إسقاطه.
وهذه الفترة لا تكون فترة انتصار على الخطية، وإنما فترة عدم قتال. إنها فترة راجة من الحروب الروحية، وليست انتصارًا ونقاوة.
وهناك فرق كبير بين الانتصار وعدم القتال.
فإن وجدت نفسك لا تسقط في خطية معينة، فقد لا يعنى هذا أنك تنقيت منها تمامًا، إنما عدم سقوطك فيها قد يعنى أن الشيطان لا يقاتلك حاليًا بها. أو ربما لا تسقط فيها الآن، لأن ظروفها غير مواتية. فلا توجد حرب، ولا توجد عثرات، ولا يوجد ما يثيرك للخطية.
والشيطان لا يقاتلك الآن، ليس حبًا في راحتك، وإنما لأنه يجهز لك فخًا من نوع آخر..
و بالإضافة إلى ذلك الفخ الآخر، ربما يأتيك شيطان المجد الباطل ليقول لك "ويلاه منك. لقد أفلت منى. وقد تجددت وتقدست، وصرت خليقة جديدة، والأشياء العتيقة قد مضت". فلا تسمع له، ولا تردد في ذهنك ما يقوله لك فأنت تحت الضعف طالما أنت في الجسد. والشيطان لا يكف عن قتاله.
لا تقل إذن إنك قد وصلت إلى النقاوة ولم تعد تسقط. إنما قل "لولا أن الرب كان معنا.. لابتلعونا ونحن أحياء" (مز 124 2، 3).. أنا في الواقع أضعف من أن أقاتل أصغرهم، كما قال القديس الأنبا أنطونيوس. ولكن شكرًا للرب أنه سترنا..
ومن الملاحظ أن بعض الخطايا لها مواسم، وليست دائمة.
إنها مثل دورات الألم أو الوجع، تلف دوتها في عنف وشدة، تم تهدأ، ثم تلف دورة جديدة.. وهكذا.. أو كنبات، له أحيانًا موسم ركود، وفي وقت آخر موسم إزهار إثمار..
3- أو من الجائز أن الله أراد أن يريحك فترة من إرهاق الخطية، حتى لا تبتلع من اليأس.
لأن توالى السقوط التلاحق، قد يجر الخاطئ إلى اليأس. لذلك تدركه مراحم الله وتريحه ولو قليلًا، وترفع الحرب عنه. تحفظه النعمة وتسنده، ولو إلى حين فتمر عليه فترة هدوء لا تزعجه فيه الخطية. ليس لأنه قد تنقى، وإنما لأنه غير مقاتل.
4- أو جائز أنت مستريح الآن، صلوات رفعت لأجلك.
سواء من قديسين في السماء، أو من أحباء لك على الأرض. واستجاب الرب لهم، وأمر برفع القتال عنك. أنت إذن في فترة هدوء وسلام، وعدم قتال مع الشيطان. وليست هذه هي درجة النقاوة.
وبمناسبة الفرق بين النقاوة وعدم القتال، نورد ملاحظة هامة وهى: هناك فرق بين نقاوة الأطفال، ونقاوة الناضجين سنًا وروحًا.
حقًا إن الأطفال لهم قلب نقى بسيط لم يعرف الخطية بعد. ولكن هناك فرقًا كبيرًا بين نقاوتهم ونقاوة الأشخاص الناضجين في السن. هذا الفرق هو أن الأطفال لم يدخلوا حربًا روحية، ولم تختبر إرادتهم بعد. أي أنهم لم يصلوا إلى السن التي تختبر فيها إرادتهم. وهم غير الكبار الناضجين الذين داخلوا في حروب العدو وقاتلوا وانتصروا، ورفضت إرادتهم الحرة كل إغراءات الخطية. هؤلاء لهم مكافأة "الغالبين" التي ليست للأطفال.
ما أعظم الذين يصلون إلى نقاوة الأطفال، بعد حروب لم يعرفه الأطفال.
ونقاوتهم نتيجة صراعات وحروب، خرجوا منها منتصرين..
إن نقاوة القلب درجة عالية جدًا. وحتى إن حروب إنسان بخطية معينة، وتنقى منها، فليست هذه هى النقاوة الكاملة.
النقاوة الكاملة هي النقاوة من جميع الخطايا.
بكل صورها وأنواعها، سواء كانت بالعمل، أو بالفكر، أو بالحواس، أو بمشاعر القلب، أو بسقطات اللسان. سواء في العلاقة مع الله، أو مع الناس، أو مع الذات.
إنها نقاوة شاملة، وليست مجرد تخلص من خطية معينة كانت تحاربك.
فالفريسي الذي صلى في الهيكل في وقت صلاة العشار، كان يظن أنه صار من الأنقياء، لأنه "ليس من الظالمين الخاطفين الزناة" وليس من المقصرين في الصوم أو في دفع العشور (لو 18: 11، 12). بينما أنه لم يكن قد تنقى من الكبرياء، ولا من إدانة الآخرين، ولا من- الافتخار والبر الذاتي.. لذلك لم يخرج مبررًا.
لا تظن إذن إنك قد وصلت إلى درجة النقاوة، إن كنت قد تخلصت من بعض الخطايا التي كان لها سلطان عليك. إنما المقياس الحقيقي لوصولك إلى النقاوة هو أنه:
لا يكون لأية خطية من الخطايا سلطان عليك.
انظر إلى قول السيد المسيح "من منكم يبكتني على خطية؟!" (يو 8: 46).
أية خطية على الإطلاق.. ولهذا أستطاع أن يقول عن الشيطان "ورئيس هذا العالم يأتي، وليس له فيّ شيء" (يو 14: 30).
فهل وصلت إلى هذه النقاوة من جميع الخطايا، بحيث لا يوجد للشيطان شيء فيك، كبيرًا كان أم صغيرًا؟! حتى ولا من الثعالب الصغار المفسدة للكروم، ولا من الخطايا التي تتنكر في ثياب الحملان..؟
النقاوة الحقيقية تبدأ بالكراهية الكاملة للخطية.
عن معرفة واستنارة حقيقية، وفهم صحيح بالروح القدس لما هو الخير وما هو الشر "للبالغين الذين صارت لهم الحواس مدربة" (عب 5: 14)، بحيث يكون الضمير سليمًا تمامًا في أحكامه، لا يخدعه الشيطان في شيء، وتكون جميع أعمال الإنسان نقية.
على أن هناك ما هو أهم من أعمال الإنسان الظاهرة، وهو:
أن تكون النقاوة نابعة من القلب، وليست مظهرية.
نقول هذا لأن كثرين يهتمون بمظهر النقاوة لا بجوهرها. ومثال ذلك أن كثيرًا من الوعاظ حينما يتكلمون عن حشمة المرأة، يركزون على ملابسها وزينتها، دون أن يهتموا بالباعث القلبي الذي بسببه تركت الفتاة حشمتها. بينما لو اهتموا بعلاج القلب من الداخل ليصل إلى النقاوة، لكان من نتائج ذلك تلقائيًا حشمة الملابس والزينة.. ونفس الكلام يقال عن الشبان الذين يطيلون شعرهم..
إننا لا نريد بالنقاوة تنظيف خارج الكأس. فقط (متى 23).
ففي علاج خطايا اللسان، لا يقتصر الأمر على تداريب الصمت. لأن الكلام الخاطئ له سبب داخل القلب. والكتاب يقول "من فضلة القلب يتكلم اللسان" (متى 12:34). إذن نهتم بنقاوة القلب، فتكون الألفاظ نقية تلقائيًا.
خذوا الكذب مثلًا. لا يكفي فقط أن نعبد عن تركه من الخارج، إنما ينبغي أن نعالج أسبابه داخل القلب، سواء كانت خوفًا، أو كبرياء، أو وصولًا إلى غرض معين. لأن الكذب كان نتيجة لهذه الأخطاء الداخلية التي تحتاج إلى تنقية.. اهتموا إذن بالداخل، وهنا يسأل البعض:
هل أؤجل النقاوة الخارجية، إلى أن أصل إلى نقاوة الداخل؟
كلا، طبعًا إنما المقصود أنك لا تكتفي بالنقاوة الخارجية، فالله يريد القلب قبل كل شيء. احترس من الخطأ الخارجي بكل قوة، وبكل صبر، وبكل معونة من النعمة.
وهكذا تكون أعمالك النقية صادرة من القلب نقى. ويشترط لنقاوتها:
أن يكون العمل النقي، أهدافه ووسائله نقية أيضًا.
فيكون كل عمل تعمله: نقيًا في ذاته، ونقيًا في ذاته، ونقيًا في الدوافع التي تدفع إليه ونقيًا في الوسيلة التي يتم بها..
فهل تكون هذه هي النقاوة الكاملة؟
النقاوة الكاملة موضوع طويل. إنما هذه هي النقاوة من الخطية.