رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الأب | المُعَلِّم
دلالة ودور الأب لقد أدرك الرواد الأوائِل للرهبنة مثل الأنبا أنطونيوس والأنبا باخوميوس وغيرهم، حاجتهم إلى مُرشد روحي، إذ عرفوا مدى صعوبة حياة الرَّاهب وأنه من المُستحيل تقريبًا أن يتعلَّم المرء هذه الحياة بدون إرشاد أب مُعلِّم، ومن هناك أكَّد التقليد والأدب الرَّهباني بقوة عظيمة على ضرورة أن يكون للإنسان أب مُرشِد، والقديس مقاريوس الكبير يقول في إحدى عِظاته أنَّ تلاميذ ملكوت السموات يحتاجون دومًا إلى مُرشِد (8)، وإلاَّ سيكون تعبهم باطلًا، ومن الأمثال الرَّهبانية الشهيرة، ذلك المَثَلْ الذي سجَّله لنا بالاديوس والقائِل ”الذين بلا مُرشِد يسقطون كأوراق الشجر“، كذلك القديس يوحنا كاسيان، والذي يعكِس أفكار آباء براري مصر، يقول أنه من الحماقة أن يظُن الإنسان أنه ليس من الضروري أن يكون له مُعلِّم في جهاده ونذره الروحي لأنَّ كلّ مهنة في العالم تحتاج إلى مُعلِّم، والقديس يوحنَّا الدَّرجي المشهور بتشبيهاته يكتُب بحرارة في سُلَّمه قائلًا: ”نحن الراغبين في الخروج من مصر هربًا من وجه فرعون نحتاج حتمًا إلى موسى آخر يتوسط لنا عند الله فيقف بين العمل والتأمُّل ويرفع يديه من أجلنا إلى أن نعبُر بإرشاده بحر خطايانا ونهزم عماليق أهوائنا، فالذين يتكلون على أنفُسهم ويتوهمون أنهم لا يحتاجون إلى مُرشِد يُرشدهم هم مخدُوعون“. (9) وليس فقط المُبتدئون بل وأيضًا الرُّهبان المُختبِرون، كان عليهم أن يُطيعوا ويخضعوا للإرشاد، وألاَّ يُعطوا هم القوانين لأنفسهم، فالأب – والمُعتبر أداة في يد الله – هو الوسيلة الوحيدة التي بها يُمكن أن يبلُغ الإنسان إلى درجة السكينة (الهيزيخيا) والتي هي مرحلة مُتقدمة للغاية في الحياة الروحية. وبثقة التلميذ في أبوه الروحي يجد السلام في طاعة قوانينه (10)، ولا يُمكن الاستعاضة عن الأب الروحي بالكُتُب لأنَّ دوره ليس فقط أن يُلقي عِظات، بل أن يعرف ويُحلِّل الأفكار والأعمال الباطنية التي يُفكِر فيها التلميذ أو يفعلها، وكذلك يُدبر حياة التلميذ بالطريقة التي يراها مُثلى، ومن الواضح أنَّ هذا العمل الهام جل صعب وملئ بالمسئولية، وكما يُلاحظ القديس إغريغوريوس النزينزي، هذا العمل أصعب من مُجرَّد أن يتعلَّم الإنسان كيف يخضع نفسه لقانون (11)، وقد شرح القديس نيلوس سبب ذلك فذكر أنَّ هذه الصعوبة تنتُج من ”تنوُّع العادات الإنسانية“ ومن ”خِداع أفكارنا“ وكذلك برصنوفيوس (من القرن السَّادِس) في إحدى رسائله المُوجَّهة لتلميذه يوحنَّا يصِف دور الأب مُوضحًا مدى صعوبته وتعبه. في المرحلة الأولى من رهبنة الوحدة، كان الراهب يُعطى لقب وسُلطان الأب بحسب تقدُّمه في حياته الروحية، أمَّا في رهبنة الشَرِكَة الأولى، فعندما كانت تحين لحظة نِياح رؤساء الأديُرة، كانوا في العادة يقترحون أو يُعيِّنون خُلفائِهِم، كما يتضح من سيرة الأنبا باخوميوس، أمَّا في ”المؤسسات“ للقديس يوحنا كاسيان (12)، وفي فترة لاحقة، نجد أنَّ رئيس الدير – والذي كانت له مكانة مُعادلة لمكانة الأب – كان يُنتخب من قِبَلْ الإخوة الكِبار في المجمع وأيضًا يختاره الآباء الروحيون من الأديُرة الأخرى، كما يُوصي بذلك القديس باسيليوس مُشرِّع الرهبنة الشرقية، وكان رئيس الدير ”أبًا روحيًا“ للشَرِكَة وعلى عاتقه تقع المسئولية ليس فقط عن المتاعب الروحية بل وأيضًا المادية مثل التمويل والتنظيم والإدارة، وتستمر رئاسته مدى الحياة، هذا إلى جانب أنَّ أخًا ثانيًا كان يُنتخب نائبًا عنه ليحل محله إذا كان مريضًا أو غائبًا. وإذا حدث وأخطأ رئيس الدير، ينصحه الأُخوة الكِبار في الدير ويُعالجونه، وأي خطأ صغير يقع فيه الرئيس لا يُعطي للأُخوة حق تغييره، لكن إذا سقط في هرطقة أو بدعة، كانوا يعزلونه بحسب القانون السَّابِع لمجمع أفسس عام 431 م، والذي يأمر بأنَّ الأساقفة والإكليروس يجب أن يُعزلوا من مناصِبهم إذا قبلوا إيمانًا مُختلفًا. (13) مُقوماته لمَّا كان تأثير الأب على التلميذ حاسمًا، لذلك يُقدِّم لنا الأدب النُّسكي وصفًا دقيقًا لِمَا يجب أن يكون عليه الأب، وأوِّل مُقوماته هي أن يكون مُفعمًا بالحُب تجاه تلاميذه لدرجة أن يكون مُستعدًا ومُشتاقًا أن يُحرق ويُسحق لأجلهم (14)، ويجب كذلك أن يكون توَّاقًا إلى العمل باجتهاد عظيم كـ ”أب رحيم“ وكَوَصي صالح على منفعة التلاميذ الذين يعتبرهم ”أبناء الملك“ أي أبناء الله، وفي الوقت عينه لابد أن يتمتَّع الأب بمعرفة عميقة، نظرية واختبارية في كلّ ما يخُص الأمور الروحية (15)، ولذلك كان من اللازم أن يكون للأب خبرة ومُمارسة عملية في مجال خدمته هذه، وهي المُتطلبات الأساسية في أي مُعلِّم. فمُجرَّد معرفة عوائد ومُمارسات الحياة النُّسكية أي متى وكيف نُصلي، نظام الطعام، إلخ، لم تكُن بالتأكيد كافية لأن يصير الراهب أبًا مُرشدًا، وكان مطلوبًا منه باستمرار أن يعمل ذهنه وأن يدرس بنفسه ويتأمَّل، ولا يضطلِع بأي مسئولية تربوية قبل أن يجد في نفسه الاستعداد اللائق لحل المشاكل والأتعاب التي تُواجه الرُّهبان في حياتهم النُّسكية (16)، لأنَّ الجهل خطأ لا يُغتفر للمُربي إذ يقول الدَّرجي ”من يفعل عن جهل ما يستوجِب العقاب، سوف يُعاقب على عدم إقباله على المعرفة (أي لأنه لم يتعلَّم)“. (17) وبالتالي، كان على الأب أن يحصُل على خبرة طويلة في البريَّة ويعرف أسرارها، وأيضًا يجب أن يقتني بقداسته مواهب نِعموية تُعينه على إرشاد المُبتدئين بل وحتّى الرُّهبان المُختبرين – الذين لم يبلُغوا بعد كمال الحياة الرهبانية – كيف يجتازون الصِعاب والمتاعِب التي تعترضهم. وكي يقتني الراهب هذه المُقومات التي ذكرناها، حتّى يستطيع أن يقوم بتعليم وقيادة الأخرين، يجب أن يكون مُتقدمًا في الأيام شيخًا، ويكون قد تمرَّس في مُعترك الحياة النُّسكية عشرات السنين، وفي سيرة أنبا باخوميوس نقرأ قصة تُوضِح الرأي الرَّهباني المُبكِر فيما يخُص سِنْ المُعلِّم، فقد حدث أنه بينما اجتمع جميع رُهبان دير أنبا باخوميوس كعادتهم ليستمعوا لعِظته، طلب باخوميوس من أحد الرُّهبان ويُدعى تادرس – والذي صار خليفته فيما بعد – أن يعِظ الأُخوة، وعندما سمع بعض الأُخوة الكِبار ذلك قرَّروا أن يغادروا المجمع قائلين في أنفسهم ”لأنه مُبتدئ ويُعلِّمنا لن نستمع له“ (18) لكن نفس هذه القصة عينها تُخبِرنا أنَّ تادرس كان يعيش في الدير منذ عشرين عامًا، ومع ذلك كانوا لا يزالوا ينظرون إليه كمُبتدئ بعد عشرين عامًا في الحياة الرَّهبانية!! والعناصر المذكورة عاليه تُمثِّل الخلفية والسِمات والمُقومات الواجب توافُرها في الأب المُرشِد، فلابد أن يكون رقيقًا، صبورًا، مُحتمِلًا لضعفات وأخطاء الأخرين، ولا يليق بالأب أبدًا أن يغضب لأنَّ مثل هذا الراعي ”يُزعِج ويُهلِك النفوس العاقلة“ (19) بحسب قول القديس يوحنَّا الدَّرجي، وبرصنوفيوس يتساءل ”إذا كُنت أنا لك أبًا ومُعلِّمًا، فلماذا أكون أيضًا غضوبًا؟“. (20) كذلك يجب أن يكون الأب رؤوفًا ولا يمتحن كلّ موقف بسيط وإلاَّ فلن يكون مُقتديًا بالله، وبجانب ذلك، لابد أن يكون الأب أيقونة حيَّة لكلّ الفضائِل كما يطلُب منه القديس نيلوس النَّاسِك، فيجب أن يُعلِّم بحياته الفاضلة وليس بكلماته، وبصفة خاصَّة لابد أن يكون قُدوة لتلاميذه في الاتضاع التام، ولا يكون قط أنانيًا أو ساخرًا. (21) ويجب ألاَّ تصدُر التوبيخات والتأديبات عن رغبة خفيَّة في السيطرة على تلاميذه لأجل أغراضه وأهدافه هو الشخصية، بل بدافع اهتمامه بهم وبمنفعتهم، وسلطاته الأوتوقراطية المُطلقة يجب ألاَّ تجعل منه شخصًا مُستبدًا، ولذلك يقول القديس باسيليوس ”يجب ألاَّ يرتفع الرئيس بمنصبه العالي لئلاَّ يفشل في نوال البركة التي وُعِد بها المُتضِع، ولا يرتفع بكبريائه لئلاَّ يسقُط في دينونة الشيطان“. (22) ويُقدِّم لنا التقليد الرَّهباني مثالًا رائعًا لرئيس الدير المُتضِع في شخص القديس باخوميوس الذي اعتاد أن يقول: ”تمامًا كما أنَّ الميِّت لا يقول (شيئًا) للموتى الآخرين، كذلك أنا قائدكم لم أعتبِر نفسي قط أبًا للأُخوة، بل (أعتبِر) أنَّ الله وحده هو نفسه (أبوهم)“. (23) وإذ وضع آباء البريَّة في أذهانِهِم الصعوبات السالفة الذِكر الخاصَّة بالعمل التربوي والمُقومات والسِمات الشخصية المُتطلبة فيه من ناحية، ومن الناحية الأخرى حقيقة أنَّ الأب سيُعطى حسابًا أمام الله عن كلّ واحد من تلاميذه، رفضوا بشدة وتصميم أن يقبلوا القيام بدور الأب، واعتبروا أنفسهم غير قادرين ولا مُستحقين بدرجة كافية لتتميم مثل هذا العمل الهام، وأفضل مثال على ذلك هو الإجابة التي قالها أحد الرُّهبان عندما طُلِب منه أن يتولى رئاسة الدير: ”اغفروا لي يا آبائي لكي أحزن على خطاياي، لأني لستُ شخصًا مُناسبًا لأهتم بالنفوس فهذا العمل للآباء العِظام أمثال الأنبا أنطونيوس“ (24) وكتب برصنوفيوس أيضًا: ”لا أريد أن أصير رئيسًا على أحد ولا مُعلِّمًا لأحد، اغفروا لي يا إخوتي وصلُّوا لأجلي“. (25) وهكذا كان من المُفترض أنَّ ”الكاملين“ فقط هم الذين يصيرون مُعلِّمين للصِغار، ولم يكُن أحد يعتبِر نفسه راهبًا كاملًا، ويروي لنا أيضًا هذا التقليد النُّسكي أنَّ بعض رُؤساء الأديُرة تركوا أديُرتهم سِرًا ومضوا إلى أديُرة أخرى دون أن يكشِفوا عن هويتهم الحقيقية وطلبوا أن يُقبلوا كرُهبان مُبتدئين، ولم يكُن دافعهم وراء ذلك مُجرّد رغبتهم القوية في أن يعيشوا حياة الاتضاع، بل وأيضًا المسئولية الجسيمة التي شعروا بها أمام الله عن كلّ واحد من تلاميذهم، وهكذا نجد باسيليوس الكبير، وهو يعكِس فِكْر رهبنة القرن الرَّابِع في هذا المنحى، يخُط في أحد قوانينه: ”ذاك الذي أُوكلتُ إليه مسئولية الجميع لابد أن يتذكّر أنه سيُعطي حسابًا عن كلّ أحد، فإذا سقط أحد الإخوة في خطية، ولم يُخبِره الرئيس بدينونة الله، أو إذا أصر على خطئه ولم يُعلِّمه الرئيس طريق التوبة والتكفير عن هذه الخطية، فسوف يطلُب دمه منه (من الرئيس)“. (26) ومن هنا كان جهاد الأب مزدوجًا: ليُخلِّص نفسه هو وأيضًا ليُخلِّص نِفوس تلاميذه. وأخيرًا، من الجدير بالذِكر أنَّ آباء البريَّة كانوا يُدعون ”مُعلمين ومُربيين“ كما يتضح من تكرار هذين اللقبين في ”الأقوال“ وفي سيرة القديس ألكسندروس التي تروي أنه ”صار مُربيًا ومُعلِّمًا لكلّ أحد“ (27)، وهذه الإشارات جميعها تُثبِت أنَّ هؤلاء الآباء كانوا واعيين بدورِهِم كمُربيين وأنَّ مُعاصريهم أيضًا أدركوا أنهم مُربيون، وسوف نتناول نظرياتهم التربوية ومنهجهم في تطبيقها في فصل آخر. |
|