رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الرب إله أمين
المزمور السابع والسبعون 1. المزمور السابع والسبعون هو مزمور توسّل ينشده المرتّل عندما يرى الضيق الذي يتخبّط فيه شعب الله. يتطلّع إلى معجزات الله على البحر الأحمر، فيرى فيها صورة عن الخلاص الموعود به في المستقبل. يحسب المرتّل أن الله تخلّى عن شعبه، أو أن قدرته الخلاصية ضعفت، أو أن حبّه لشعبه خفَّ. وينتصر على الشك الذي بدأ يساوره، لا بالبرهان العقلي، بل بالتأمّل في أعمال الله منذ البدء. من عمل مثل هذه الأعمال العظيمة في الماضي لا يمكنه أن يتوقّف أو يرجع إلى الوراء. 2. رغم الصعوبات الحاضرة، يتوكّل المؤمن على أمانة الله بسبب أعماله في الماضي. آ 2: مقدمة: إلى الله أصرخ. آ 3- 13: الشكوى إلى الله: ينطلق المرتّل من حالة الانحطاط النفسي التي يعيشها، ويمرُّ عبر القلق والتساءلات التي لم تلق جوابًا فيصل إلى الهدوء والسكينة. تذكَّر الله في البداية فأخذ منه القلق كل مأخذ، وتذكَّر الله في النهاية فعادت إليه الثقة به. نظر المرتّل إلى الله فرأى شقاء الحالة الحاضرة (آ 3- 4) وأحسّ بالضعف والانحطاط، فأخذ يبحث عن الله كمن يسير في الليل (6: 7؛ 22: 3؛ 32: 4)، وعيناه لا ينقطع الدمع منهما. ويتبع الضعف القلق (آ 5- 7) عندما يقابل بين الماضي والحاضر، فيتساءل: (آ 8- 10): أين رضى الله ورحمته وكلمته؟ هل ذهب كل هذا إلى الأبد؟ هل نسي الله شعبه؟ لا شكّ في أن الرب يخفي رضاه بعض المرّات ليمتحن شعبه. ولكن هذه المرّة طال غياب الله. أيكون أن رحمة الله لم تعد أزلية؟ الشعب يذبل، أما رحمة الله فإلى الأبد (أش 4: 8)، ويمين العلي لا تتبدّل. ويرجع المرتّل إلى ولادة العالم وإلى ولادة شعب اسرائيل، كما نقرأ في سفر التكوين وسفر الخروج. فيرى أعمال الله (آ 11- 13) التي تدلّ على قدرة لا حدّ لها. وهكذا تعود السكينة إلى قلب المرتّل فلا يعود يتحدّث عن الله في الغائب كأنه اله بعيد، بل يحدّثه في لغة الحاضر المخاطب وقد أحسّ به قريبًا منه: أتذكّر معجزاتك. آ 14- 21: أعمال الله في الماضي: يهلّل المرتّل لعمل الله. طريقه طريق قداسة (آ 14- 15) لا يقابلها أي طريق. والقداسة تعني استقلاليّة وحرّية مطلقة. الله أعظم من كل شيء وهو فوق الكون، وقوته تملأ العالم دهشة. فتخليصه لشعبه من فرعون عربون لكل خلاص، وانتصاره على مياه بحر القلزم هو رمز انتصاره على مياه الغمر العظيم عندما خلق الكون. 3. تكلّم المرتّل باسم الشعب، فعبّر عن ألم الشعب وعن ألمه الشخصي، فتساءل: هل تغيّرت يمين العلي؟ ألم يعد الله مع شعبه؟ تذكّر أن الوحي لموسى (خر 3: 1 ي) بيّن أن عمل الله يدوم، وأن مراحمه تجاه اسرائيل لا تزول. ذكر كلام الرب: أكون معك، وأعمل معك، كما كنت مع ابراهيم واسحاق ويعقوب، وفطن لما تكلّم به الأنبياء حين ذكّروا اسرائيل أن الله لا يتغيّر، وأن يمينه قوية دائمًا للعقاب وللخلاص. ولكن المرتّل أحس أن يمين الله تغيّرت، فأخذ منه الذعر والرعب كل مأخذ... إذا كان الله غيّر تصرّفاته مع اسرائيل، فهذا يعني أن كيانه قد تغيّر. في الماضي كان يعمل المعجزات، أما اليوم فهو ساكت... يتأمّل المرتّل في هذه الأعمال، فيتغلّب على شكّه ويؤكّد لذاته أن الذي عمل كل هذه الأعمال في الماضي سيعمل أفضل منها في المستقبل، وهو سيهدي اليوم شعبه كما هداه في الماضي. 4. يهتم المرتّل بمصير شعب الله كله، ومصيرُ الشعب يهمه أكثر من مصيره الخاص. وهذا ما يجب أن يكون اهتمامنا نحن الذين نصلي صلاة الأبانا: تقديس اسم الله، ومجيء ملكوته، وتتميم إرادته. كل هذا نطلبه قبل أن نطلب خبزنا. ثم إننا نعيش مثل صاحب المزامير هذا الصراع بين الماضي والحاضر، بين المواعيد والحقيقة، فنتألم ونحس بالمحنة تزعزعنا. وعندما نرتّل هذا المزمور نعرف أننا عندما نتذكّر بداية تاريخ الخلاص والنعم التي جاءتنا بالمسيح، نجد رجاء جديدًا، فنرفع أنظارنا إلى الأفق البعيد متأكدين أن "الإيمان هو الوثوق بما نرجوه وتصديق ما لا نراه" (عب 11: 1). 5. بين الأمس واليوم واجه المرتّل الألم مثل أيوب وانفتح أمامه فراغ، فلم يجادل ولم يتكلّم وحده. بل صلّى وتابع صلاته كما كان يصلّي في الماضي. فالاله الذي تبدّل هو في نظره الاله الذي يقدر دومًا أن يتضرّع إليه والذي يستجيب. تصعد طلبته ليلاً ونهارًا بل يرفع يديه الليل كله في ابتهال متواصل. ولكن المرتّل لا يكتفي بالتضرّع، وهو لا يهرب من الواقع في صلاته. هو لا يرتفع إلى فوق لينسى عالم الأرض، بل هو يفكّر ويقابل بين الأمس واليوم. في الأمس كان الله يصنع العجائب من أجل شعبه، وإن رذله فلوقت قصير. كان الرب يعرف المغفرة وله أحشاء إله. كان حبّه حيًا وحقيقيًا وكلمته حاضرة. أما اليوم فيبدو الله غائبًا. هذا ما شعر به بنو اسرائيل في زمن المنفى. لا شعاع خلاص في الأفق. لقد ماتت النعمة والمحبّة وكلمة الله، ولم يبقَ منها شيئًا. ولكن المؤمن لا يبقى في هذا الموقف السلبي الحزين. سيستعيد قانون إيمان الشعب منذ الخروج من مصر والوحي على سيناء. في هذه الحال لا نعود إلى الماضي لنبقى فيه بل نجعل الماضي حاضرًا بفضل الليتورجيا. وهكذا يستعيد المؤمن ثقته بربّه وسط جماعة تحتفل بأعمال الله فتقطف ثمارها الآن لأن الرب الذي فعل بالأمس ما زال يفعل اليوم. إنه الاله الأمين في عهده الثابت على مواعيده. 6. المزمور السابع والسبعون يتنبّأ على الشعب الذين فكّروا عند سبيهم أفكارًا جميلة لما قهرهم المضطهدون لهم. لقد دعوت الله بصوتي فاستجاب لي ورفعت إليه صوتي فأجابني... يا رب الظاهرُ له كل شيء، أجب ساجديك. رغبتُ إلى الرب في يوم شدتي، ويده في الليل جلدتني ولم أمسك ولم يكن لنفسي مسليًا. ذكرت الله فتكدرت واهتممت وقلقت روحي واستولت الشبكة على عينيّ. خرست ولم أتكلم وأحصيت أيامي السالفة وذكرت السنين السابقة. اهتممت في الليل وبقلبي اهتممت وامتحنت روحي وقلت إن الرب قد اطّرحني إلى الأبد فلا يعود قط فيرخي عني، أو لعل إلى الأبد تتجاوزني نعمته وتتمّ كلمته إلى دهر الدهور أو ترى الله ينسى الترحم أو يخزن رحمته في غضبه. قال المفسّر: يقول الشعب البابلي إن الشدّة لما ضغطتني دعوت الله بصوت متضرعًا وأنا في سبي البابليين وسمع استغاثتي وأجابني في يوم شدتي لأني لجأت إلى الله ولم ألجأ إلى أصنام البابليين. ومعنى قوله أن يده بالليل جلدتني ولم أمسك. يريد بيده أدبه. والليل يشير به إلى ظلمة السبي. فكأنه يقول إن أدب الرب وانتقامه استولى عليّ في السبي وأنا فيه كالجالس في الظلام لما استولى على فكري وحسّي من الشدائد... ومع هذا ما قطعت رجاي ولا كففت عن التضرّع اليه في خلاصي... وفي هذا الوقت لم أجد لنفسي معزيًا مما لحقني ولم أقطع الرجاء بل ذكرت الله وحسن رأفته... وتموّج فكري بين قطع الرجا منه ولم تطب بذلك نفسي. ولم أزل أفكر في حسن عهوده في إعادتي ورعب تتضور من عظيم الشدّة التي بلغت إلى هذا الحدّ انقطاع الرجاء من الهي. والشبكة التي استولت على عيني لعظيم ما نالني. فالمفهوم يكاد لا يبصر بعينيه ولا يحس بما بين يديه. وانتهى أمري إلى أن صرت كالأخرس الذي لا ينطق تحيرًا مما دهمني. وزادت حسراتي بأن فكرت في أيامي الأولى وفي أي عشرة كنت في السنين الأولى وأنا في أعزّ النعيم متلذّذ بالخيرات. ونسب الفكر إلى كونه بالليل لأن أكثر أفكار الناس تكون ليلاً لخلودهم من الأشغال. وإلى القلب لأن بالقلب يتم الفكر. ومعنى قوله إني فتشت روحي. وقلت أي فكرت بيني وبين نفسي. وقايست كل المقايسة في الشدائد التي داهمتني تقسم الشر... الرب أخرجني من يديه إلى الأبد ولا يعود إلى الرضى عني وعن آبائي في الأزمنة الأولى. ثم شككت في هذا الاعتقاد وقلت: أترى حقًا يزيل نعمته عني وقد ضمن وعهد إلى آبائي أن يمدّني بالنعمة إلى ألف حقب. أتراه يتمّم كلمته إلى أبد الآباد، أي الأمر الذي خرج منه في الانتقام مني لأجل خطاياي. أتراه يبقى إلى الأبد ولا يكون له انقضاء. أو ترى الله ينسى الترحم علي أن يهمل عهده الذي عهد في إعادتي من هذا السبي. ونسب النسيان إلى الله. أما هو معنى الإهمال؟ فالله لا يوصف بالذكر والنسيان لأنه عالم بكل شيء. ومعنى قوله: أترى يخزن (الله) غضبه أي يخفي رحمته (ويحفظ) غضبه أبدًا. فسوف يكون كالشيء المخزون الذي لا يظهر. إلاّ أن هذا يؤدي إلى نقض عهوده التي عهدها لي بإعادتي. قال داود: وقلت إن هذا الضعف وتضاعف يمين العلي لأني ذكرت أعاجيبك القديمة واهتممت بجميع أعمالك وفكرت في حيلك. الله، إن طريقك مقدّسة ولا عظيم مثل الهنا. أنت الله الذي فعلت العجائب وأظهرت للشعوب عزتك وخلصت بذراعك شعبك أولاد يعقوب ويوسف. قال المفسّر: يقول: يا رب، إنني لما حققت الفكر الجيّد فيما فكرت فيه... علمت أن هذا... إنما يجري مجرى المرض... وأن يمين العلي تثنّت علينا بالأدب. فإنه قد كان أدبنا قديمًا بمصر ثم رحمنا، والآن قد عاود أدبنا بالبابليين وسيرحمنا. ويمين العلي يريد بها قوته القادرة بالإحسان أو الانتقام. إلاّ أنني لم أقطع الرجاء إذ فكرت في عجائبك القديمة التي صُنعت بمصر في تخليص آبائنا. فعزيت بذلك نفسي وفكرت في أفعالك وقتًا بعد وقت، ولمت نفسي تشكّكها فيك وفكرت في حيلك أي في دقيق أفعالك ولطفها. وسمّاها حية لدفتها: من فلقك البحر وغيره. وعلمت أنك لا تهملها ولا تخلينا من المعونة. وقد كان ينبغي يا إلهي أن أحقق الفكر حتى لا أقع في هذا البلاء وأعلم أن طريقك طريق مقدسة أي سنتك التي (جعلتها) السبيل الذي أستر شدته سبيل مقدس بصدق ولا بكذب. وقد أشهدت علي فيها أنني متى زغت عنها أدبتني أدبًا صعبًا. فكان ينبغي لي أن... أتحقق أن لا اله أعظم من الهنا يقتدر على تقويم الأفعال في عباده وأنه الذي صنع العجائب بمصر والبر وأظهر عزه وأيّده بين الشعوب وخلص شعبه من فرعون... بذراعه أي بقوته. وإنما قرن إلى يعقوب يوسف وإن كان يوسف أحد أولاد يعقوب يوسف في التقى والرحمة ومحبّة الخير. قال داود: شاهدتك المياه يا الله، رأتك المياه ففزعت، واللجج أيضًا ذعرت، والغمام رش الماء، وسماء السماء أعطى وطارت سهامك أيضًا وصوت رعودك في (الزوبعة). قال المفسّر: يقول: إن مياه البحر لما شاهدتك وأفهم المشاهدة للقدرة لا للذات. وهذا عند اجتياز شعبك في بحر سووف خافت وانقسمت قسمين لإجتياز شعبك ولجيج البحر وأعماقه انقسمت على نفسها. ومعنى قوله إن الغمام رش الماء يريد له أن الرياح القوية هبت ففرقت البحر بعضه عن بعض لإجتياز الشعوب وفعلت ذلك بايسر سعي بالقدرة الالهية. (أبو الفرج عبد الله بن الطيّب). |
|