وحدة الرسل في الإعلان مع الآب والابن
بعد العشاء الرباني وبعد أن غسل السيد المسيح أرجل تلاميذه وإعطائهم درس عملي في التواضع وإنكار الذات بدأ يتحدث إليهم حديث وداعي طويل تحدث فيه عن تركه لهم ورحيله الوشيك من العالم وصعوده إلى السماء، بعد الصلب والقيامة، وعزاهم من مفارقته لهم، وأكد لهم حقيقة كونه الطريف والحق والحياة وأنه الباب الوحيد والطريق الوحيد المؤدى للحياة الأبدية، وحقيقة وحدته مع الآب في الذات الإلهية والجوهر الإلهي، وعلمهم أن يصلوا باسمه وأكد لهم أنه سيستجيب لكل ما يطلبونه باسمه، ووعدهم بإرسال الروح القدس الذي سيرشدهم إلى جميع الحق ويعلمهم كل شيء ويذكرهم بكل ما قاله لهم والذي سيمكث معهم إلى الأبد، وعرفهم بأن دورهم الأول كرسله هو الشهادة له، وأعلمهم بما سيلاقونه من آلام واضطهاد. وفى ختام حديثه الطويل "رفع عينيه نحو السماء (121)" إلى الآب في صلاة ربانية ومناجاة إلهية بين الآب والابن على مرأى ومسمع من تلاميذه. فقد أتت الساعة المحتومة ليبذل ذاته على الصليب وتنتهي بذلك المهمة التي تجسد بسببها والتي من أجلها نزل من السماء وجاء إلى العالم "قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان. الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت. فهي تبقى وحدها. ولكن عن إن ماتت تأتى بثمر كثير.. الآن نفسي قد اضطربت. وماذا أقول أيها الآب نجنى من هذه الساعة. ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة.. وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلىّ الجميع (122)"، وهو يقصد هنا الارتفاع على الصليب وهذا ما يؤكده الوحي بقوله "قال هذا مشيرًا إلى أية ميتة كان مزمعًا أن يموت (123)".
كان عليه بعد القيامة أن يصعد إلى السماء ويعود من حيث أتى "وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء (124)"، ولكن يظل كما هو المالئ الكل بلاهوته والموجود في كل مكان. وقد اعتاد تلاميذه على وجوده معهم ولم يتصوروا أنه سيفارقهم أبدًا حسب الاعتقاد اليهودي "سمعنا من الناموس أن المسيح يبقى إلى الأبد. فكيف تقول أنت أنه ينبغي أن يرتفع ابن الإنسان (125)"، ولكن قد آن الأوان ليترك العالم بالجسد وينطلقوا هم إلى العالم أجمع ويكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها وينادوا للبشرية بالخبر السار والبشارة المفرحة، بشارة الخلاص الأبدي، لذا فقد صلى للآب من أجلهم، صلاة خاصة على مسمع منهم، وكان محور هذه الصلاة هو ثباتهم في الآب والابن وحفظهم من الشرير، فقد أظهر لهم اسم الآب وحفظهم كلمته وعلمهم وصاياه وآمنوا أنه من ذات الآب، من عند الآب خرج وإليه يعود "أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم (أي تلاميذه)كانوا لك وأعطيتهم لي. وقد حفظوا (كلمتك – Logos) كلامك. والآن علموا أم كل ما أعطيتني هو من عندك. لأن الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتهم وهم قبلوا وعلموا يقينًا أنى خرجت من عندك وآمنوا أنك أنت أرسلتني (126). لقد أعلن لهم عن ذات الآب وكشف عن شيء من طبيعته "الله روح" (127) وحفظهم كلامه، كلمته، وعمل أمامهم أعمالًا عظيمة تظهر مجده، وآمنوا من ذات الآب، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب" (128)، كلمة الله، صورة اله (الآب) غير المنظور، بهاء مجده ورسم جوهره، كالشعاع من مصدر النور، نور من نور، كما أدركوا أنه العالم بكل شيء "الآن نعلم أنك عالم لكل شيء ولست تحتاج أن يسألك أحد. لهذا نؤمن من أنك من الله خرجت" (129).
ثم يسأل الآب من أجلهم لأنهم للآب، آمنوا بالله أولًا، ثم صاروا للابن الذي هو الباب الوحيد للحياة الأبدية والطريق الوحيد للخلاص "وليس بأحد غيره الخلاص" (130) وقد تمجد المسيح فيهم؛ في إيمانهم به، في حفظهم كلامه ووصاياه "فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعماله الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات" (131) أو كما قال لهم السيد المسيح نفسه "بهذا يتمجد أبى إن تأتوا بثمر كثير فتكونون تلاميذي" (132)، وكما قال بولس الرسول بالوحي "أن الله بالحقيقة فيكم" (133)، وفى العجائب والقوات التي أعطاهم السلطان أن يعملوها باسمهن لذا يصلى "من أجلهم أسأل فهو لي وأنا ممجد فيهم" (134).
ويطلب من الآب أن يحفظهم في اسمه وأن يكونوا واحد في المسيح كما أن الآب والابن واحد فقد حفظهم السيد المسيح، الإله المتجسد في اسم الله، يهوه، ولم يهلك منهم سوى يهوذا الإسخريوطي "ابن الهلاك"، "ولست أنا بعد في العالم وأما هؤلاء فهم في العالم وأنا آتى إليك. أيها الآب القدوس أحفظهم في اسمك الذين أعطيتني ليكونوا واحدًا كما نحن. حين كنت معهم في العالم كنت أحفظهم في اسمك. الذين أعطيتني حفظتهم ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب. أما الآن فإنى آتى إليك. وأتكلم بهذا في العالم ليكون فرحى كاملًا فيهم" (135).
وكما أبغض العالم المسيح لأنه ليس من العالم فقد أبغض تلاميذه أيضًا لأنهم قبلوا الابن وآمنوا أنه من الآب خرج وحفظوا كلمته فصاروا أقوياء به و"تقووا من ضعيف صاروا أشداء" (136) وصاروا غرباء عن العالم "غرباء ونزلاء على الأرض" (137)، لذلك أبغضهم العالم كما أبغض سيدهم وربهم، يقول بطرس الرسول بالوحي "أيها الأحباء أطلب إليكم كغرباء ونزلاء أن تمتنعوا عن الشهوات الجسدية التي تحارب النفس وأن تكون سيرتكم بين الأمم حسنة لكي يكونوا في ما يفترون عليكم كفاعلي شر يمجدون الله في يوم الافتقاد من أجل أعمالكم الحسنة التي يلاحظونها" (138)، لذا قال لهم "إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم: لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم" (139)، ويقول القديس يوحنا "لا تتعجبوا يا إخوتي إن كان العالم يبغضكم. نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة" (140). ومن ثم يصلى السيد والرب "أنا قد أعطيتهم كلامك والعالم أبغضهم لأنهم ليسوا من العالم كما أنى أنا لست من العالم" (141).
ثم يطلب من الآب أن لا يأخذهم من العالم، كما أخذ إيليا بعد أن ضاقت نفسه من العالم، بل أن يحفظهم من الشرير "لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير. ليسوا من العالم كما أنى لست من العالم. قد سهم في حقك. كلامك هو حق. كما أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا إلى العالم" (142). فقد كان عليهم أن يحملوا رسالة الابن المتجسد إلى كل البشرية "كما أرسلني الآب أرسلكم أنا" (143) ويكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها.
كان يعلم أنه بتركه لهم وصعوده إلى السماء جسديًا سيصيرون كالأيتام لذا صلى للآب أن يحفظهم كما وعدهم أنه سيكون معهم دائمًا "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (144) ولن يتركهم يتامى "لا أترككم يتامى. أنى آتى إليكم" (145)، فهو الحي إلى أبد الآبدين بلاهوته (146) "بعد قليل لا يراني العالم أما أنتم فترونني. أنى أنا حي فأنتم ستحيون" (147).
ويسأل الآب أن يقدسهم في الحق، أي ينقلهم إلى حرية أولاد الله ويخصصهم لذاته وللحياة الأبدية، وفى كلامه الذي هو حق، أي يعيشون "في البر وقداسة الحق" (148)، قدسهم في حقك كلامك هو حق" (149)، فقد صاروا مقدسين بسبب تعليمه لهم وكلامه الذي حفظوه "أنتم أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به" (150). ويسأل أيضًا من أجل الذين سيؤمنون بالمسيح، الابن الفادي، بواسطة كرازتهم حتى ما يكون الجميع واحد "ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط بل أيضًا من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم. ليكون الجميع واحد كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا ليؤمن العالم أنك أنت أرسلتني. وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد. أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واجد وليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني" (151). أنه يريد أن تكون هناك وحدة واحدة بين المؤمنين وبين الرسل "ليكون الجميع واحدًا" وهؤلاء جميعًا في وحدة مع المسيح "هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضاّ لبعض كل واحد للآخر" (152)، وان يكون الجميع واحد مع الآب والابن "كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا.. أنا فيهم وأنت فيّ ليكونوا مكملين إلى واحد". يقول القديس يوحنا توضيحًا لذلك "الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضًا شركة معنا. أما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح" (153).
أخيرًا يقول "أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ" (إنجيل يوحنا 17: 24). وقد سبق أن وعدهم أن يكونوا معه حيث يكون هو "أنا أمضى لأعد لكم مكانًا. وإن مضيت وأعددت لكم مكانًا آتى أيضًا وأخذكم إلىّ حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضًا" (154)، ومن ثم يقول القديس بولس بالوحي "وهكذا نكون كل حين مع الرب" (155).