رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
في قلب الخطر والصعوبات ما تكلّم بولس مرّة واحدة عمّا قاساه في أسفاره، ولا هو حسب حسابات الكيلومترات التي قطعها لكي يصل إلى هذه الكنيسة أو تلك. ولكنّه أُجبر مرّةً فقال ما في قلبه. والمناسبة؟ اعتبره بعض الكورنثيّين رسولاً من الدرجة الثانية، لأنّه لم يرافق يسوع خلال حياته على الأرض، لهذا فهو يحتاج إلى »رسائل توصية« من بطرس أو يعقوب أو يوحنّا الذين يُعتَبَرون »العمد في الكنيسة« (غل 2: 9). وفي أيّ حال، ماذا عمل هذا الذي دعا نفسه »السقط« (1 كو 15: 8) »وأصغر الرسل... لأّنه اضطّهد كنيسة الله؟« (آ 9). عند ذاك أُجبر بولس على الكلام: هو ليس أقلّ من سائر الرسل على جميع الصعد: هم عبرانيّون، وأنا أيضًا. هم من ذرّيّة إبراهيم، وأنا أيضًا. هم خدّام المسيح. »أقول هذا كأحمق: فأنا أَفُوقهم« (2 كو 11: 23). أ - سفر في البحر ويذكر الرسول جهاده. ونذكر نحن منه ما قال: »انكسرت بي السفينة ثلاث مرات، وقضيتُ نهارًا وليلة في عرض البحر« (آ 25). فحين نقول إنّه انتقل من سفينة إلى سفينة، فليس بالأمر الهيّن: فلوقا يروي لنا حين يأتي الخطر: »ولكنّ ريحًا شرقيّة شماليّة عاصفة يُقال له أورأكيلون(11)، ثارت بعد قليل من جهة الجزيرة وضربت السفينة؛ فلمّا تعذّر على السفينة أن تقاومها، اندفعت السفينة في مهبّ الريح« (أع 27: 14 - 15). احتمى البحّارة بعض الوقت، ولكن »قويَت العاصفة في اليوم الثاني، فأخذوا يرمون الحمولة في البحر، وفي اليوم الثالث، أمسكوا أدوات السفينة ورموها في البحر. ومرّت أيام كثيرة ما رأينا فيها الشمس ولا النوْم، وبقيت الريح تعصف حتى قطعنا كلّ أمل لنا في النجاة« (آ 18 - .2). ولماذا هذه الحالة؟ لأنهم أبحروا في الشتاء. فبحسب علم الأرصاد الجويّة في البحر المتوسّط، ميّز الرومان بعد اليونان، بين الفصل الحلو المؤاتي للإبحار، والفصل الرديء حيث يُغلَق البحر(12) وتُعلَّق النشاطات البحريّة. متى يُغلَق؟ في الشتاء، بلا شك. وفي الربيع والخريف بحسب السنوات. ولكنّ الخطر يبقى حاضرًا. نشير هنا إلى أنّ الملاحة بدأت تنتظم باكرًا مع الفينيقيّين ثم تبعهم اليونان، بحيث إنّ أسرار البحر صارت معروفة منذ القرن الثامن ق.م.، في البحر المتوسّط. وهذا البحر يتيح بسبب مظهره الخارجيّ من رؤوس وخلجان ومرافئ عديدة، إبحارًا يحاذي الشاطئ بحيث يدوم الإبحار بضعة أيام، وهذا ما لاحظناه في مسيرة بولس خلال الرحلة الرسوليّة الثالثة. وهكذا تتمّ كل سفرة بحريّة بشكل عامّ في أزمنة ثلاثة: إبحار بمحاذاة الشاطئ منذ مرفأ الانطلاق إلى موضع نستطيع أن نراه على الشاطئ، ويُدعَى الصوّة(13). ثم الملاحة في عرض البحر بين صوّة وصوّة. وأخيرًا، ملاحة أخرى شاطئيّة من أجل الوصول إلى المرفأ الذي نريد. في مثل هذا النظام، وبغياب الخرائط وسائر أدوات الملاحة، استند الملاّحون إلى معرفة عميقة بالشواطئ والنجوم والرياح. أمّا معرفة الشواطئ والأماكن التي يمكن اللجوء إليها من العواصف أو النزول فيها من أجل التزوّد بالماء والطعام، فترتكز على الخبرة التي انتقلت بشكل شفهيّ قبل أن تُدوَّن في مجموعة نصائح وتوجيهات دُعيت »رحلة بحريّة«(14)، بانتظار الكتب الحديثة التي تُدعى »تعليمات ملاحيّة«(15). أمّا أقدم مجموعة في أيدينا فتعود إلى القرن الرابع، ولكنّها تفترض وجود نماذج سابقة. وساعة تكون الضرورة بأن يبتعد قائد السفينة عن الشاطئ لينطلق في عرض البحر، كان يَجري بحسب التخمينات، فيقدّر الاتجاه الذي يسير فيه والمسافة، مستندًا إلى النجوم والرياح. أمّا في النهار، فموقع الشمس يعطيه الاتجاه الذي يَأخذ. كلّ هذا يرتبط بنوعيّة السفينة وتنافسيّتها. وتبقى الساعةُ الصعبة ساعةَ الوصول إلى الشاطئ، ولا سيّما إذا لم يكن خليج تنزل فيه السفينة. ذاك ما حصل للسفينة التي أقلَّت بولس إلى رومة(16). »وبينما كنّا في الليلة الرابعة عشرة تائهين في بحر أدريا (يفصل اليونان عن صقلية في الجغرافيا القديمة)، ظنّ البحّارة عند منتصف الليل أنهم يقتربون من البرّ. فلمّا قاسوا عمق البحر، وجدوه مئة وعشرين قدماً. ثم قاسوه بعد مسافة قصيرة، فوجدوه نحوَ تسعين قدماً. فخافوا أن تصطدم السفينة بأماكن صخريّة، فألقوا من مؤخّر السفينة أربع مراسٍ، وترقّبوا طلوع الفجر بفارغ الصبر« (أع 27: 27 - 29). ولكن الحمد لله أن السفينة لم تضرب بالصخور. وهكذا يتابع لوقا وصول السفينة إلى جزيرة مالطة: »ولمّا طلع الفجر تعذَّر على البحّارة أن يعرفوا إلى أي أرض وصلوا. ولكنّهم أبصروا شاطئ خليج صغير، فعزموا على أن يدفعوا السفينة إليه إذا أمكن. فقطعوا المراسي وتركوها تسقط في البحر، وحلّوا في الوقت نفسه الحبال التي تربط دفّة السفينة، ثم رفعوا الشراع الصغير للريح واتّجهوا نحو الشاطئ. ولكن السفينة اصطدمت بتلّة من الرمل بين المياه، فغرز فيها مقدّمها، وعاد لا يتحرّك. أما مؤخّرها فتحطّم من شدّة الأمواج« (آ 39 - 41). فمن استطاع السباحة سبح. ومن تعلّق بخشبة من حطام السفينة نجا. والآخرون؟ من يدري ما يكون مصيرهم. عُرفت السفن أقلّه منذ القرن السادس عشر ق.م. ، وتطوّرت تطوّرًا واضحًا في بداية الألف الأوّل ق.م. هناك المجاذيف في طبقة، وفي طبقتَين، وفي ثلاث طبقات. وهناك الشراع الذي لبث عاملاً حتّى اكتشاف المحرّك على البخار. هي سفن صغيرة وسفن كبيرة. تصل حمولة بعضها إلى ألف طن، وإلى ألفين. وكانت سفينة صقلّية استثنائيّة، فحملت خمسة آلاف طنّ. أما سفينة »بولس« فكان فيها 276 نفسًا. وإذا حسبنا الطعام والمياه وسائر المعدات، يمكن أن نتخيّل ضخامة هذه السفينة. ونتذكّر هنا أنّ السفينة الحربيّة في ثلاث طبقات كانت تضمّ 170 جاذفًا وثلاثين بحَّارًا، هذا يعني السرعة التي يمكن أن تسير فيها(17). ب - سفر في البرّ ويتابع الرسول كلامه إلى أهل كورنتوس: »وفي أسفاري المتعدّدة تعرّضتُ لخطر الأنهار واللصوص... وواجهتُ أخطارًا في المدن وأخطارًا في البراري« (2 كو 11: 26). ما كفى الرسول أخطار البحر، بل عرف أخطار البرّ. ذكر الأنهار وَالسيولَ العديدة التي قد يكون حاول العبور فيها، فجرفته مياهها. فالجسور لم تكن موجودة في كل مكان، بل بشكل خاص على الطرقات الرومانيّة الأساسيّة من أجل تنقّل الجيوش بالدرجة الأولى. وأخطار اللصوص الذين يأخذون من المسافر الأعزل حتّى ثوبه. أمَّا هذا الذي حصل لذاك النازل من أورشليم إلى أريحا كيف »وقع بأيدي اللصوص، فعرّوه وضربوه، ثم تركوه بين حيّ وميت« (لو 10: 30). فالكتّاب القدماء يتحدَّثون عن اللصوص الذين هم فقراء، يعتاشون من بعض الزراعة ورعاية غنمة أو بقرة واحدة. هكذا يستطيعون أن يقوموا بأودهم. عادةً يختبئون في الجبال والأحراج، في البراري وعند المستنقعات، ويقعون على المسافرين، ممّا جعل الناس يتحدّثون عن غياب الأمان في البلاد(18). فالسفر اعتُبر منذ البداية مغامرة خطرة، بل »مغامرة مأساويّة«. والمثال على ذلك عولس العائد إلى بيته، وابنه الماضي من طروادة إلى رومة عبر أفريقيا الشماليّة(19). فاليونان في زمن هومير، لا يسافرون إلاّ مكرَهين، وكأنّ الإله يأمرهم بذلك. أمّا الرومانيّ في زمن الجمهوريّة، وهو الفلاّح المتعلّق بالأرض الرومانيّة، فيتصوّر السفر انقلاعًا، ولهذا فهو لا يسافر إلاّ إذا دعاه الواجب. وسوف ننتظر الحقبة الهلِّنستيّة، أي بعد احتلال الإسكندر للشرق، لنرى اليونان يسافرون بفرح ، بسبب الموفدين اليونان أو المستوطنات الموزّعة في الشرق. هنا تأتي أعمال اكسينوفون الأتيني (427-553 ق م.) ولا سيّما »الصعود«(20) من جبال فارس باتجاه البحر. كيف كان الناس يسافرون؟ سيرًا على الأقدام. وتشير المراجع إلى غياب الراحة، وإلى صعوبة المنامة، أين يبيت المسافر عند المساء؟ في العالم اليونانيّ، يبيت المسافر في بيت من البيوت، بشكل مجّانيّ أو لا. وهكذا تُنسَج رباطاتٌ من الضيافة الفرديّة أو الرسميّة في الحواضر. ويتبادل الضيف والمضيف الهدايا. وكانت »فنادق«(21) في المعابد التي هي موضع التجمّعات الكبرى(22). أمّا أوّل عمارة تستقبل المسافرين فقد بناها سكّان مدينة ثيبة سنة 427 قرب هيرايون(23) كما يروي المؤرّخ توسيديد. ولعب رواق كورنتوس الجنوبيّ دَور المضافة. ثمّ قُدّمت بيوتٌ كبيرة على أنّها فنادق: فيلاّ الحظّ السعيد في أولنتي(24)، عمارة كاسوبي(25). ودُعيَ بعض المرّات بريتاينون(26)، كذلك الذي وُجد قرب مسرح ديلوس. هي أبنية مخصّصة للنخبة. أمّا الأشخاص العاديّون فيخيّمون في الساحة. والفنادق البسيطة في المدن والمرافئ لم تكن معروفة مثل هذه العمارات الضخمة، بل كانت بيوتًا مثل سائر البيوت في المدينة. خدمتُها خدمةُ حانة(27) أو نُزُل(28). مثل هذه »النزل« لا تشرّف الآتين إليها، ومع ذلك هم مجبَرون. نحن لا نتخيّل بولس نازلاً في هذه »الفنادق الضخمة«، ولا في هذه الحانات. بل كان يسأل عن أهل صناعته ويقيم عندهم. ذاك ما فعل حين وصل إلى كورنتوس: جاء بولس إلى أكيلا (من أهل البنط) وامرأته برسكلة، »فأقام يعمل عندهما، لأنّه كان من أهل صناعتهما، صناعة الخيام« (أع 18: 2 -3). في فيلبّي، لا نعرف أين أقام في الأيّام الأولى مع سيلا، ولكنّ ليدية سوف تستقبلهما سريعًا: »قالت لنا راجية: أدخلوا بيتي وأقيموا فيه« (أع 16: 15). في لسترة نزل ربّما عند تيموتاوس (أع 16: 1) الذي كان يسكن مع جدّته لوئيس وأمّه أفنيكة (2 تم 1: 5). أعلن سقراط أنه لم يترك أثينة يومًا إلاّ حين شارك كجنديّ (29) في الغزوات. وأوذيسة هومير هي نشيد العودة البطوليّة، لا نشيد السفر. هذا يعني الشجاعة التي تحلّى بها بولس ورفاقه، لا سيّما وأنّ السفر يكون سيرًا على الأقدام مع هذه المسافات الطويلة. ثمّ إنّ الدابّة يمكن أن تصير سلبًا بيد اللصوص(30). |
|