رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
دعوة يسوع للتلاميذ الأوَّلين الأربعة
الاحد الثالث للسنة (مرقس 1: 14-20) في الاحد الثالث للسنة يقدِّم لنا مرقس الإنجيلي نقطتين هامتين في بدء رسالة يسوع في الجليل: كرازته ببشارة الملكوت ودعوته للتلاميذ الاولين الذين هم نواة الكنيسة (مرقس 1: 14-20) ليكونوا له شهوداً على أقواله وآياته، وصولاً إلى صلبه وقيامته، ويُكمِّلوا رسالته من بعده. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته. أولاً: وقائع النص الانجيلي (مرقس 1: 14-20) 14 وبَعدَ اعتِقالِ يوحَنَّا، جاءَ يسوعُ إِلى الجَليل يُعلِنُ بِشارَةَ الله، فيَقول: تشير عبارة "بَعدَ اعتِقالِ يوحَنَّا" الى الوقت الذي امر فيه هيرودس انتيباس بسجن يوحنا المعمدان (متى 14: 3) وانتهاء رسالته التي كان جوهرها، إعداد الطريق "للذي يأتي بعده" وبداية خدمة يسوع في الجليل، ومعنى ذلك انه كانت هناك فترة بين معمودية يسوع وخدمته في الجليل، ولكن مرقس الإنجيلي لا يُخبرنا ما فعله يسوع في تلك الفترة. أمَّا عبارة "اعتِقالِ يوحَنَّا" فتشير الى قبض هيرودس انتيباس، ابن هيرودس الكبير على يوحنا المعمدان وإبداعه في السِّجْن (مرقس 6: 17)، لأن يوحنا وبَّخه بسبب مساكنته زوجة أخيه فيليبس. وكان هيرودس يحكم الجليل وبيريه (شرق الاردن) منذ موت والده في السنة 2 م. (مرقس 6: 17-20). أمَّا عبارة "جاءَ يسوعُ إِلى الجَليل" فتشير الى لجوء يسوع الى الجليل بعد العماد والتجارب واعتِقالِ يوحَنَّا، ليتفادى الخطر الذي يهدّد حياته، ويبدأ هناك بالإعلان عن مجيء الملكوت. ويعلق القدّيس ايرونيموس "انتقلنا من الشريعة إلى الإنجيل حيث يمثّل يوحنّا المعمدان الشريعة، ويمثّل يسوع الإنجيل" (عظات حول إنجيل القدّيس مرقس). ويستخدم متى الانجيل فعل لجأ ἐξῆλθεν بدل ذهب ἦλθεν للدلالة على الخطر (متى 2: 12)؛ ويعلق الاب ثيوفلاكتيوس" لكي يظهر لنا السيد المسيح أنه يجب أن ننسحب في الاضطهادات ولا ننتظرها، لكن إن سقطنا تحتها نثبت فيها". وفي انجيل لوقا نقرأ "عادَ يسوعُ إِلى الجَليلِ بِقُوَّةِ الرُّوح"(لوقا 4: 14)، إذ شرع يسوع في خدمة التعليم في مجمع الناصرة مُداوما عليها بدافع من الروح القدس الذي نزل عليه عند عماده. ثم اتى الى كفرناحوم. وكانت عِلة تركه اليهودية ومجيئه الى الجليل هو مقاومة فرِّيسي اليهودية إياه وزيادة ميل الجليليين الى قبوله وسماع كلامه. أمَّا عبارة "الجليل" في الأصل اليوناني Γαλιλαία مشتق من الاسم العبري הַגָּלִילָה (معناه دائرة او مقاطعة) فتشير الى القسم الشمالي من الأقسام الثلاثة التي قُسمت اليها فلسطين في زمن المسيح في عصر الدولة الرومانية في عهد هيرودس. أمَّا عبارة " يُعلِنُ بِشارَةَ الله " فتشير الى بدء يسوع بإعلان بشارة ملكوت الله، وهو الخبر السار بان ملك المسيح المنتظر زمنا طويلا قد بدأ. ويُعلق القدّيس ايرونيموس "عندما أقرأ الشريعة والأنبياء والمزامير، لا أجد فيها مطلقًا كلامًا عن ملكوت السماوات: لكن فقط في الإنجيل، لأنّه عندما جاء ذاك الّذي قيل عنه "ها إِنَّ مَلكوتَ اللهِ بَينَكم" (لوقا 17: 21)، عندئذٍ فقط فُتِح ملكوت الله" (عظات حول إنجيل القدّيس مرقس). وكان هذا أول نشاط له في الجليل الذي وردَ في انجيل مرقس الإنجيلي إذ ظهر يسوع على مسرح الاحداث وهو يواصل كرازة يوحنا المعمدان فيفتتح يسوع رسميا خدمته الرسولية، ويُعرِّف نفسه بالأقوال وبالأعمال. أمَّا عبارة " بِشارَةَ الله" فتشير الى موضوع الكرازة. هذه العبارة لا تعني فقط ان البشرى تأتي من الله، بل أنها "قوة الله للخلاص" (رومة1: 16)، وأنها "كَلِمَةِ الحَقّ " (قولسي 1: 5) وإعلان لعمل الله في يسوع المسيح. إن إعلان بشارة الله هي مهمّة الرسل أيضا الذين يتابعون عمل المسيح كما صرّح بولس الرسول " فقَد لَقِينا في فيلِبِّيَ العَذابَ والإِهانَةَ كما تَعلَمون، ولكِنَّنا جَرؤْنا، لِثِقَتِنا بِإِلهِنا، أَن نُكلِّمَكم بِبِشارةِ الله في جِهادٍ كَثير" (1 تسالونيقي 2: 2). 15 تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة تشير عبارة "تَمَّ الزَّمانُ" الى الوقت الذي حدَّده الله لتحقيق مواعده قد حان إذ جاء المسيح الموعود به (مرقس 13: 20) وفق قول بولس الرسول "تَمَّ الزَّمان" (غلاطية 4: 4) و" فأَطلَعَنا على سِرِّ مَشيئَتِه أَي ذلِك التَّدبيرِ الَّذي ارتَضى أَن يُعِدَّه في نَفْسِه مُنذُ القِدَم لِيَسيرَ بِالأَزمِنَةِ إِلى تَمامِها " (أفسس 1: 9-10). لم يعد أمراً ننتظر حدوثه بل حان زمان مجيء المسيح الذي عيَّنه الله بقضائه الازلي، وأنبأ به بفم دانيال النبي " إِنَّ سَبْعينَ أُسْبوعاً حُدِّدَت على شَعبِكَ وعلى مَدينَةِ قُدسِكَ لِإفْناءِ المَعصِيَةِ وإِزالَةِ الخَطيئة واَلتَّكْفيرِ عنِ الإِثْمِ والإِتيانِ بِالبِرِّ الأَبَدِيّ وخَتْمَ الرُّؤيا والنُّبوءَة ومَسْحَ قُدُّوسِ القُدُّوسين" (دانيال 9: 24). لم يَعد وقت الانتظار، أي وقت انتظار الرب قد تمّ، وبدأ وقت التنفيذ؛ لقد انتهى العهد القديم، وبدأ العهد الجديد الذي عيّنه الله ليفيَ بمواعيده حيث ان النبوءات حدَّدت زمان مجيء المسيح كما جاء في سفر دانيال " إذهَبْ، يا دانِيال، فإِنَّ الأَقْوالَ مُغلَقَةٌ ومَخْتومَةٌ إِلى وَقتِ النِّهاية"(دانيال 12: 9). لقد جاء زمن الملكوت، زمن الخلاص مع ظهور يسوع، فلا ننتظر زماناً آخر. ويقصد بعبارة "تَمَّ الزَّمانُ" بلوغ الشريعة نهايتها بمجيئ المسيح ليحقق ما قادتهم إليه الشريعة، وتحقيق النبوات فيه أيضا. أمَّا عبارة "اقْتَرَبَ" فتشير الى الملكوت الذي صار قريبا او حاضراً في ظهور شخص يسوع وتعليمه وأعماله، إذ إن المسيح المنتظر دخل تاريخنا وصار مثلنا. بمعنى أنه افتتح الملكوت افتتاحا سرّيا في شخصه ونشاطاته، على ان يظهر علانية للجميع في وقت قريب. إن مجيء المسيح يجعل الملكوت قريبا من الناس. ويريد المسيح أن يهتدي الناس الذين يأتون إليه كما ردَّد بولس الرسول تعليم الرب يسوع بقوله "إِنَّ الرَّبَّ قَريب؛ أَمَّا أَنتُم، أَيُّها الإِخوَة، فلَستُم في الظُّلُماتِ حتَّى يُفاجِئَكم ذلِك اليَومُ مُفاجَأةَ السَّارِق (1تسالونقي 5: 4)؛ أمَّا عبارة "مَلَكوتُ الله" فتشير الى ملكوت السماوات كما سمّاه إنجيل متى إشارة الى محل إظهار سلطان الله ومجده أي ملك المسيح. ومُلك المسيح هو واقع حاضر، ورجاء مستقبل. فهو حاضر منذ الآن في شخص يسوع المسيح ومن يصل الى الكنيسة، وبالكنيسة الى العالم. اتى يسوع بملكوت الله من السماء الى الارض للدلالة على محبة الله. وملكوت الله ليس مكان ندخل فيه، بل حالة نعيشها. وهو حكم الله في قلوب الناس وفي المجتمع البشري. أمَّا عبارة " فَتوبوا" فتشير الى جواب الانسان في كل مكان عن اعلان "تَمَّ الزَّمانُ " وقد بدأت هذه الدعوة منذ أيام نوح (التكوين 6: 13). ويعلق البابا القديس كليمنس الأول" كانَ نوحُ أوّلَ نذيرٍ للتوبة، فخَلُصَ مَن سَمِعَ له. وتَنَبَّأَ يونانُ بدمارِ نِينَوى. ولكنَّ أهلَ نِينَوى تابوا عن خطاياهم وأرضَوْا اللهَ بصلواتهِم، فنالوا الخلاص، مع أَنَّهُم غُرباءُ عن الله" (أهل قورنتس الفصل 7، 4-8). وقد عبّر اليهود عن هذه التوبة، بقبول المعمودية لمغفرة الخطايا (متى 3: 6). ويُعلق القديس إسحَق السريانيّ الأُسقُف:"المعموديَّةُ هي الوِلادَةُ الأُولى مِنَ الله. والتَّوبَةُ هي الوِلادَةُ الثَّانية" (كتاب: بستان الرهبان). ففعل "توبوا" في الاصل اليوناني μετανοεῖτε يدل على تغيير في العقلية؛ أمَّا في الاصل العبري שׁוּבוּ فيدلُّ على تغيير الطريق ونمط الحياة والسلوك والعودة بلا شرط الى الله، إله العهد. فالتوبة هي تغيير طريقة حياتنا ونظرتنا إلى الأمور لتتوافق مع نظرة يسوع. لقد رأى التلاميذ الاولون يسوع في الملكوت القريب وغيّروا حياتهم بموجبه. ودعوة التوبة موجّهة للجميع، حيث أن الجميع مدعوّون للتغيّر. وفي هذا الصدد يقول البابا فرنسيس "إِنْ كانَ قلبُكم ليسَ تائِبًا ولا تُصغونَ إلى الرَّبِّ ولا تَتَقَبَّلونَ التأديبَ ولا تَثِقونَ بِه، فهذا يَعني أَنَّكم لا تَملكون قلبًا تائبًا" (عظته الصاحية 16/12/2014). وهنا يقوم التغيير قبل كل شيء في الايمان بالإنجيل، اي في الخبر السار بوجود الله في التاريخ وفي تاريخنا. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول "قد حانَت ساعةُ تَنبَهُّكمِ مِنَ النَّوم، فإِنَّ الخَلاصَ أَقرَبُ إِلَينا الآنَ مِنه يَومَ آمَنَّا. قد تَناهى اللَّيلُ واقتَرَبَ اليَوم. فْلنَخلَعْ أَعمالَ الظَّلام ولْنَلبَسْ سِلاحَ النُّور" (رومة 13: 11 – 12)، ويُعلق القديس يوحنا سابا "من ذا الذي لا يُحبُّكِ أيتها التوبة، يا حاملة جميع التطويبات، إلا الشيطان، لأنكِ غنمتِ غناه وأضعت فناياه" وهذا هو الموضوع الرئيسي الذي عالجه إرميا النبي والانبياء في العهد القديم. وعبارة أخرى تؤكد هذه الآية ان الازمنة قد تمّت كما ورد في تعليم بولس الرسول " لَمَّا تَمَّ الزَّمان، أَرسَلَ اللهُ ابنَه مَولودًا لامرَأَةٍ، مَولودًا في حُكْمِ الشَّريعةْ "(غلاطية 4: 4) وتدعو هذه الآية الى التوبة والى قبول البشارة بالإيمان كما صرّح بولس الرسول "لأَنَّ بِشارَتَنا لم تَصِرْ إِلَيكم بِالكَلامِ وَحْدَه، بل بِعَمَلِ القُوَّةِ وبِالرُّوحٍ القُدُسِ وبِاليَقينِ التَّامَّ "(1 تسالونيقي 1: 5-6). ونداء يسوع الى التوبة والايمان بالإنجيل، سيتواصل في الكرازة المسيحية، فيُصبح بعد القيامة نداء لقبول الخلاص الذي يُعطى لنا في يسوع المسيح. ويعلق القديس إسحَق السريانيّ "التَّوبَةُ هي بابُ الرَّحمَةِ المفتوحِ للَّذينَ يُريدونَه. وبِغيرِ هذا الباب لا يدْخُلُ أَحدٌ إِلى الحياةِ"(كتاب: بستان الرهبان). أمَّا عبارة "آمِنوا بِالبِشارة" فتشير الى دعوة قبول البشارة بالإيمان (1 تسالونيقي 1: 5-6). وبشارة الملكوت افتتحه يسوع المسيح على الأرض بتجسّده ليكون موطن كلّ من يقبل اسمه. والتوبة والايمان هما مفتاح بشارة الملكوت من ناحية الانسان، وهكذا يفتتح القديس مرقس إنجيله، ويعلنُ عن رسالة الخلاص التي حملها يسوع إلى العالم. هذا هو موضوع كرازة يسوع الاساسية. أمَّا عبارة " البشارة " فتشير الى البشرى التي يعلنها الله للعالم بإرساله يسوع المسيح لإنشاء ملكوته، ومن هنا التعابير المختلفة: بشارة الله (رومة 1: 1) وبشارة يسوع المسيح (رومة 15: 19) وبشارة الملكوت (متى 4: 23)؛ وإن طابع البشارة الجديد يرتبط قبل كل شيء بشخص يسوع المسيح التي تتمُّ فيه المواعد. هذه هي الكلمات الاولى التي تكلم بها يسوع في انجيل مرقس، وهي تقدم لنا لُب تعاليمه: إن المسيح الذي طال انتظاره قد جاء ليبدأ ملكوت الله بكلمات بشارته التي تمنح الحرية والبركات والوعد بالحياة الأبدية. 16 وكانَ يسوعُ سائراً على شاطِئِ بَحرِ الجَليل، فرأَى سِمعانَ وأَخاهُ أَندَراوس يُلقِيانِ الشَّبَكَةَ في البَحر، ِلأَنَّهما كانا صَيَّادَيْن تشير عبارة "بَحرِ الجَليل" الى بُحَيَرَةَ طَبَرِيَّة (يوحنا 6: 1) او "البحر" (متى 4: 12)، أو بحيرة جِنَّاسَرِت (لوقا 5:1) نسبة للمناطق التي تحيط به؛ وهي بحيرة عذبة، يبلغ طول سواحلها 53 كم وطولها 21 كم، وعرضها 13 كم، ومساحتها تبلغ 166 كم2، وأقصى عمق فيها يصل إلى 46 متر، وهي على عمق 213 متر تحت سطح البحر، وهي تعتبر أخفض بحيرة مياه حلوة في العالم وثاني أخفض مسطح مائي في العالم بعد البحر الميت. ويُحدها الجليل غربًا، وجبال الجولان شرقا، ويصب فيها نهر الأردن من الشمال. أمَّا عبارة "الشَّبَكَةَ" فتشير الى وسيلة الصيد في بحيرة طبرية: تُرمى، تغسل، وتهيّأ: هذا ما فعله التلاميذ الأولون: سمعان بطرس واندراوس (مرقس 1 :18؛)، ويعقوب ويوحنا (متى 4 :20-21). وأشارت الاناجيل إلى مشاهد الصيد بالشبكة التي تمارس ليلاً في بحيرة طبريّة (يوحنا 21 :1-14). وساعدت هذه المشاهد للحياة اليوميّة على تعليم حول الملكوت (متى 13 :47-50). ويسوع أحاط نفسه بصيّادين، جعل منهم "صيّادي بشر" (لوقا 5 :10). أمَّا عبارة "صَيَّادَيْن" فتشير الى مهنة الصيد. وكان الصيد حرفةً هامةً حول بحيرة طبرية، وكان الصيد بالشباك أكثر طرق الصيد شيوعاً. وكانت كفرناحوم التي أصبحت الموطن الجديد للسيد المسيح (متى 4: 12) أكبر قرية بين نحو ثلاثين قرية كانت تحيط بحيرة طبرية في ذلك الوقت. وكانت أكثر المهن المعروفة، آنذاك مهنة الفلاحة ورعاية المواشي واصطياد السمك والسمك هو الحيوانَ المبارَكَ الوحيد، الّذي ما أفناه الطّوفان أيام نوح. 17 فقالَ لَهما: اِتبَعاني أَجعَلْكما صَيادَي بَشَر تشير عبارة "اِتبَعاني" الى السير وراء يسوع دلالة على ان هذين الصيادين صارا من تلاميذه. طلب الرب يسوع من بطرس وأندراوس أن يتركا صيد السمك ليربحا الناس الى ملكوت الله. كان فعل "تبع" في الدين اليهودي في القرن الأول، يتضمن عادة التوقير والطاعة ومختلف الخدمات المترتّبة على تلاميذ الرابيين نحو معلميهم. ولكن إتباع يسوع، يتطلب من تلاميذه لا ان يكونوا سامعين فقط، بل معاونين وشهود لملكوت الله وعمّال في حصاده (متى 10: 1-27)، ويلازمون شخصه؛ ويقتضي إتِّباع يسوع أيضا حمل الصليب كما صرّح يسوع "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني "(متى 16: 24). وهذه الدروبَ التي يخطّها الربّ تسيرُ بأتباعه إلى الحياة الأبديّة. أمَّا عبارة" أَجعَلْكما صَيادَي بَشَر" فتشير الى جواب الشرط في حالة ان تبعاه. وهذا الشرط بمثابة هدف دعوة يسوع ووعده ان يجعل من سمعان وأخيه اندراوس مُبشِّرين بالإنجيل، رجال يجتذبوا مَن حولهم الى المسيح مثل الصياد الذي يجذب السمك بالشباك الى قاربه. فهم يعملون مع يسوع في خلاص البشرية والعالم وليس فقط يكونوا مستمعين ليفكروا معه فقط. حين يكرز الرسل بالإنجيل، يجمعون الناس كما يجمع الصيّاد السمك في شبكته، يجمعونهم من اجل الدينونة ودخول ملكوت الله (متى 13:47-50). امَّا عبارة " صَيادَي بَشَر" فتشير الى كلّ البشر، الّذين أتى ليبشرهم خاصة المساكين المرضى والمقعدين والجياع والحزانى والبسطاء والفقراء؛ يسوع لم يعني نُخبة معيّنة من سكان ضواحي الجليل والنّاصرة فقط. 18 فتَركا الشِّباكَ لِوَقتِهما وتَبِعاه تشير عبارة "فتَركا الشِّباكَ" الى ترك سمعان واندراوس الشباك، أمَّا يعقوب ويوحنا فتركا اباهما والأُجراء والشباك أيضا إذ "تَركوا كُلَّ شَيءٍ وتَبِعوه" (لوقا 5: 11). امَّا عبارة "تَركا" فيشير الى ترك العمل، والأسرة، والحياة السابقة لإفساح المجال، داخل النفس، كي يظهر شيء جديد وهو اتباع يسوع. إنه فعل أساسي وهو الامر الوحيد الذي يطلبه يسوع ليسكن في قلب الانسان ويُحوِّله من محور ذاتيه إليه كما قال الرب الى حنانيا بشأن بولس الرسول "اِذهَبْ فهذا الرَّجُلُ أَداةٌ اختَرتُها لكِي يَكونَ مَسؤولاً عنِ اسْمي عِندَ الوَثَنِيِّين والمُلوكِ وبَني إِسرائيل" (اعمال الرسل 9: 15). وتكرَّر فعل "ترك" مرتين (مرقس 1: 18، 20)، فهو فعل اساس في دعوة المسيح؛ فالمقدرة على ترك العالم نعمة وهبة: لا يمكننا الوصول إليها بجهدنا فقط بل من خلال رؤية جديدة وهبة من الله. والتخلي هو مطلب ينبع من القلب يفرض ذاته حينما يفهم المدعو طبيعة دعوة المسيح له. أمَّا عبارة "لِوَقتِهما " في الأصل اليونانيεὐθὺς (معناها في الحال او للوقت) فتشير الى تعبير مميَّز في إنجيل مرقس الذي يتكرر 41 مرة. ويعطيه مرقس الإنجيلي أهمية كبرى. وهنا تكرَّرت لفظة "للوقت" مرتين ويعني القبول السريع لدعوة السيد دون تباطؤ، والطاعة الفورية لندائه دون تردد. أمَّا عبارة "تَبِعاه" فتشير الى كل من التلميذين سمعان واندراوس أخيه الذين تبعا فأصبحا تلميذين له دون علمٍ أو معرفة سابقة لمستقبلهما. كل من يتبع يسوع يتحوّل من التركيز على ذاته الى التركيز على شخص يسوع وتعليمه. ويعلق المجمع الفاتيكاني الثاني" من يتبع الرّب يسوع المسيح، ذلك الإنسان الكامل، يصبح هو أيضاً إنساناً كاملاً" (فرح ورجاء، دستور رعائيّ في "الكنيسة في عالم اليوم"، عدد 41 ،1)). في العادة، يتبع التلميذ المعلم (الرابي)، ولكن مع يسوع تتبدّل الأمور، حيث التلميذ لا يختار معلمه، بل المعلم يختار تلميذه كما صرّح يسوع "لم تَخْتاروني أَنتُم، بل أَنا اختَرتُكم" (يوحنا 15: 16). يسوع يدعو، فيلبِّي المدعوون بطاعة فورية بدون تأخر فيها. ثم ان هؤلاء التلاميذ لا يكتفون بان يسمعوا، بل هم يشاركون كشهود للملكوت وكعاملين في حصاد الرب (متى 10: 1-27). فقد تعلّقوا بتعليم يسوع، وتعلّقوا بشخصه ايضا. والجموع ايضا تبعت يسوع وحاولت ان ترى فيه المعلم الذي لن تجده عند معلمي المجامع (متى 4: 25)؛ وفي النهاية هذا الاتباع يتوجب على كل مؤمن ان يحمل الصليب ويسير وراء يسوع كما صرّح يسوع لتلاميذه "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني" (متى 16: 24). هذا ما فعله سمعان وأندراوس وهذا ما فعله يعقوب ويوحنا. سمع الاربعة النداء فتركوا كل شيء وتبعوا يسوع. فهم تخلَّوا عن مهنتهم في سبيل العيش مع المعلم. وهذا الامر يعبّر عن حالة جديدة في العيش مع يسوع. واختيار الاثني عشر هو مثال للمؤمنين الذين سيسمعون نداء يسوع ويصبحون تلاميذ له. فهل نلبي الدعوة ونحيا في طاعة الله، ونكون بحق شهودا ليسوع ولإنجيله الطاهر امام جميع الناس؟ 19 وتَقَدَّمَ قَليلاً فَرأَى يَعقوبَ بْنَ زَبَدى وأَخاهُ يوحَنَّا، وهُما أَيضاً في السَّفينَةِ يُصلِحانِ الشِّباك تشير عبارة "يَعقوبَ بْنَ زَبَدى" الى يعقوب الكبير، ويعقوب في الأصل اليوناني Ἰάκωβος مشتق من اسم عبري יַעֲקב (ومعناه يعقب، يمسك العقب، يحل محل)، وهو واحد الاثني عشر والاخ الأكبر ليوحنا الرسول (متى 4: 21) وكان والدهما زبدى صياداً في الجليل (مرقس 1: 19)، وكانت سالومَة أُمهما اخت يسوع (متى 27: 56)، وبالتالي فيعقوب هو ابن خالة يسوع. وقد ترك مهنة الصيد وتبع يسوع (لوقا 5: 10) ويذكره الانجيل دائما مع يوحنا رفيقه في العمل (متى 10: 2)، وكان الاثنان حاديَّ الطبع سريعي الانفعال والغضب (مرقس 10: 35-45) وهذا ما كان يعنيه يسوع عندما "لقَّبَهما بَوانَرْجِس، أَيِ: ابنَيِ الرَّعْد" (مرقس 3: 17)، وكان لهما مقام ٌ خاص ٌعند يسوع، فكانا معه مع بطرس عند إقامة ابنة يائيرس (مرقس 5: 37)، وعند التجلي (متى 17: 1)، وعند نزاعه في الجسمانية (متى 26: 37). وختم يعقوب شهادته بالموت، لان هيرودس أغريبا الأول أمر بقطع راسه (اعمال الرسل 12: 1-2) وكان ذلك على الأرجح سنة 44، وبذلك كان اول الرسل الذين ختموا حياتهم بدم شهادتهم. أمَّا عبارة "يوحَنَّا" في الأصل اليوناني Ἰωάννης مشتق من اسم عبري יוֹחָנָן (معناه الله حنون) فيشير الى يوحنا الرسول الذي دعاه يسوع مع أخيه يعقوب. أمَّا امه سالومَة فقد كانت سيدة فاضلة تقية. وكانت احدى النساء اللواتي اتبعن المسيح في الجليل وخدمنه (مرقس 15: 40) وإحدى اللواتي شاهدن الصلب (متى 27: 56) وذهبن الى القبر صباح القيامة مع النساء وهنَّ يحملن طِيباً (مرقس 16: 1). وقد اتخذ يوحنا مهنة الصيد حرفة، لان عادات اليهود كانت تقضي على أولاد الاشراف ان يتعلموا حرفة ما. وكان يوحنا من تلاميذ المعمدان وأصبح من تلاميذ يسوع الاوَّلين (متى 4: 21)، وكان معروفا لدى قيافا رئيس الكهنة (يوحنا 18: 15)، وكان هو واخوه يعقوب طموحان الى العظمة والمجد، فقد طلبت أمهما من المسيح ان يجلس واحد منهما على يمينه والآخر على يساره في ملكوته (متى 20: 20-24). وقد وثق يسوع بيوحنا وأحبَّه بنوع خاص، وذلك بدليل تسميته: " بالتلميذ الحبيب" وظلَّ يوحنا امينا للمسيح حتى الصليب فأخذ منه وصية العناية بأمه مريم، وهو وأول من آمن بقيامة المسيح (يوحنا 20: 1-10) وكان أحد أعمدة الكنيسة في اورشليم الى جانب يعقوب وبطرس (اعمال الرسل 15: 6) ولدينا في العهد الجديد خمسة اسفار نُسبت الى يوحنا وهي: الإنجيل الرابع، والرسائل الثلاث، وسفر الرؤيا. وكان بوليكاربوس وبانياس واغناطيوس من تلاميذه ويقول ايرينيوس ان يوحنا بقي في أفسس حتى وفاته في حكم تراجان ويقول ايرونيموس انه توفي سنة 98 م. أمَّا عبارة فعبارة "يُصلِحانِ" فلا تعني بالضرورة "يحيكان" الشباك بل يجعلانها صالحة للعمل.أمَّا عبارة "السَّفينَةِ" في الاصل اليوناني πλοῖον فتشير الى مركبة تستخدم في التنقل خلال الأنهار والبحيرات والبحار والصيد، اما القارب πλοιάριον فهو أصغر المركبات البحرية من حيث الوزن والحجم. والسفينة هي رمز الى الجماعة الجالسة حول يسوع وبالتالي ترمز الى الكنيسة. 20 فدَعاهُما لِوَقتِه فتَركا أَباهُما زَبَدى في السَّفينَةِ معَ الأُجَراءِ وتَبِعاه تشير عبارة "لوقته" في الأصل اليونانيεὐθὺς (معناها في الحال او للوقت) الى سمعان وأندراوس اللذين تركا الشباك في الحال. أمَّا عبارة "فتَركا أَباهُما زَبَدى في السَّفينَةِ " فتشير الى يعقوب ويوحنا اللذين تركا أباهما والأجراء والشباك في الحال، بمعنى أن اتباع يسوع يستلزم هجر الحرفة وقصم عرى الروابط العائلية. ومن هنا نجد التجرد التام المطلوب من تلاميذ يسوع واتباعه. كان هذان الاخوان يعرفان بسوع من قبل (يوحنا 1: 41-42)، وعندما دعاهما يسوع، كانا يعلمان أي رجل هو، وكانا على استعداد لاتباعه، بل كانا مقتنعين بأن اتباعهما له سيغيّر حياتهما الى الابد. ها هو يسوع يجتذب إليه أربعة رجال لم ولن يتخلوا عنه بل نشاهدهم دوما يحيطونه. وهؤلاء الرجال هم اللبنة الأولى في صرح الكنيسة. أمَّا عبارة "الأُجَراءِ " فتشير الى يعقوب ويوحنا اللذين كانا على جانب من الغنى لان أبهما كان يمللك عدداً من الخدم المأجورين لم يتركا اباهما وحده بل تركاه وعنده اجراء. وهذا يدل على انهما لم يتركا اباهما لقساوة او عدم اكتراث بواجباتهما له. في حين واقتصر متى على ذكر ان يوحنا ويعقوب تركا اباهما وتبعا المسيح، والجدير بالذكر ان أولئك التلاميذ الأربعة بطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنا كانوا مجتهدين في مهنتهم في الصيد عندما دعاهم المسيح الى خدمة سامية روحية وهي صيد النفوس. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 1: 14-20) بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (مرقس 1: 14-20)، نستنتج انه يتمحور حول بدء رسالة يسوع في الجليل التي تتضمن نقطتين هامتين: خدمة يسوع ودعوته للتلاميذ الاولين. اولا: بدء رسالة يسوع العلنية في الجليل: بدأ يسوع بإعلان البشرى السارة حول ملكوت الله قائلا "اقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة". هذه الكلمات الاولى هي لُب تعليم يسوع في انجيل مرقس. فيسوع لا يكتفي بإعلان الملكوت، إنّه يجسِّده بنفسه، وكما يقول القديس ايرينيوس "إنّه الملكوت شخصياً"، إنّه حضور الله في قلب إنسانيتنا. ويعلن يسوع عهداً جديداً، وهو عهد النعمة والخلاص، ويدعو يسوع الناس بكلماته إلى احتضان النبأ الجديد، حقيقة ملكوت الله بالذات، تلك البُشرى العظيمة التي يَضعها في مُتناول الجميع، وهي قريبة من كل إنسان؛ إنه يدلنا فوراً على الطريق التي يجبُ إتباعها، طريق التوبة والإيمان بالإنجيل، أي التغيير الجذري لحياتنا وقبول الكلمة التي يوجِّهها الله، من خلالِ يسوع، إلى البشرية في الأزمنة كلها. والتوبة والإيمان مُتلازمان، لا تقوم التوبة من دون إيمان، فالاثنان ينبعان من تلاقيهما بالكلمة الحيَّة ومن حُضور يسوع الذي لا يزالُ يُردِّد اليوم أيضاً " توبوا وآمنوا البشارة". إن المسيح الذي طال انتظاره قد جاء ليبدأ ملكوت الله على الأرض مكمّلاً زمن الانتظار؛ وعلى الناس في كل مكان ان يتوبوا ويؤمنوا حيث ان التوبة والايمان هما مفتاح الانجيل. وأمَّا غالبية الناس الذين سمعوا تعليمه كانوا من الفقراء والمساكين والمظلومين والخطأة والعشارين والمرضى، وبالتالي فاقدي الرجاء. فكانت كلمات يسوع سارة لهم، لأنها بُشرى الحرِّية والبركة والوعد بالحياة الابدية. ملكوت الله هو حكم الله في قلوب الناس وفي المجتمع. وقد عُرف بشارة الانجيل يسوع منذ أكثر من ألفيّ سنة، ولكنّه يُعلنه دائماً، بواسطة الكنيسة، في كلّ مرّة نسمع فيها: تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة"(مرقس 1: 15). ثانيا: دعوة التلاميذ الأربعة الاوَّلين في بدء رسالته في الجليل اختار يسوع أربعة تلاميذ له لكي يعترفوا به "رابي" او معلما، وهؤلاء التلاميذ هم الصياَّدون: سمعان واندراوس ويعقوب ويوحنا، وكانوا يعملون بصيد السمك على شاطِئِ البحيرة، دعاهم الرب "لِكَي يَصحَبوه، فيُرسِلُهم يُبَشِّرون» (مرقس 3: 14)،ويشتركون معه في إعلان بشارة الملكوت، وحمل لواء الدعوة بعد صعوده. وهنا تعلق القدّيسة تيريزا الطفل يسوع على سر الدعوة بقولها "هذا هو سرّ دعوتي وحياتي كلّها وبخاصّة سرّ امتيازات الرّب يسوع على روحي. إنّه لا يدعو الذين يستحقّونه، بل الذين يختارهم، أو كما أخبر القدّيس بولس: فقَد قالَ لِموسى: ((أَرحَمُ مَن أَرحَم وأَرأَفُ بِمَن أَرأَف)). فلَيسَ الأَمرُ إِذًا أَمرَ إِرادَةٍ أَوسَعيٍ، بل هو أَمرُ رَحمَةِ اللّه. ويكمن الكمال في أن نعمل إرادته ونكون ما يريد هو أن نكون نحن عليه" (MS A, 2 r°-v°). رأى هؤلاء التلاميذ الاربعة في يسوع ملكوت الله في متناول اليد، فغيّروا حياتهم، إذ تخلوا عن نظرتهم الى العالم، من أجل مخطط الله. ومخطط الله هو تهيئتهم ليُصبحوا شهوداً للتدبير الخلاصيّ الذي جاء يُتمّمه يسوع المسيح، فيكرزوا بمحبّة الله ورحمته لبني البشر.ودفعتهم دعوته الى ترك أعمالهم فورا. فلم يحاولوا الاعتذار بان الوقت لم يكن ملائماً، بل تركوا عملهم في الحال وتبعوه. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "انظروا بإعجاب إلى إيمان التلاميذ وطاعتهم. سمعوا في منتصف عملهم نداء يسوع، فلم يتردّدوا لحظة ولم يقولوا: "دعنا ندخل إلى المنزل لنكلّم أقاربنا". كلاّ، بل تركوا كلّ شيء وتبعوه، كما فعل أليشاع مع إيليّا (1ملوك 19: 20). هذه هي الطاعة التي يطلبها المسيح منّا، بدون أيّ تردّد، حتّى لو كانت تضغط علينا أمور ملحّة أكثر ظاهريًّا". المسيح يدعو الناس، ليس لما هم عليه، بل لما يجعلهم ان يكونوا. الشرط الاساسي للدعوة ان يكونوا مستعدِّين لطاعته، لان "لأسمى مظاهر الكرامة الإنسانية يكمن في دعوة الإنسان للاتحاد بالله وطاعته" دستور راعوي في الكنيسة في عالم اليوم، 19). (ا) ما هو رمز أربعة أشخاص؟ بدأت بشارة إنجيل مرقس بدعوة أربعة تلاميذ. سمعان وأندراوس، ويعقوب ويوحنا ابني زبدي. وبرمز العدد اربعة الى العالم كله؛ فهم يمثلون العالم بأقطاره الاربعة وقد دُعوا من اجل العالم. وهؤلاء الاربعة هم جزء من الحلقة الرسولية. وهم اللبنة الاولى في صرح الكنيسة. ويعلق القديس ايرونيموس "أن هؤلاء التلاميذ الأربعة هم أربعة حجارة حيَّة أقامها السيد المسيح لبناء الكنيسة الحيّة". وهنا نرى مبادرة يسوع في الدعوة وطاعة البشر في الاستجابة. دعا اربعة صيّادين ليكونوا تلاميذه، ومن ثمة أعضاء في جماعة الاثني عشر (مرقس 3: 13-19) وأُرسلهم (مرقس 6: 7-13) ليكونوا رسله (مرقس 6: 30). ويقول العلامة أوريجانوس" وقد اختارهم أمِّيينلكيلا يُنسب نجاحهم في العمل للفصاحة والفلسفة، وإنما لعمله الإلهي فيهم". دعاهم من بحر الجليل، كما من بحر هذا العالم، لكي يرفعهم فوق أمواجه، وينتشلوا كل نفس سحبتها دوامته. ولعلَّ هؤلاء الأربعة بأسمائهم يشيرون إلى الفضائل الأربعة اللازمة في الحياة المسيحية أو التلمذة للسيد المسيح، فالأول سمعان يعني الاستماع أو الطاعة للرب ولوصيته، فقد لُقب ببطرس أي الصخرة، لأن كل طاعة للرب إنما تقوم على صخرة الإيمان. وأندراوس يعني الرجولة أو الجدِّية، إذ كثيرون يقبلون الإيمان بالفكر لكنهم غير جدِّيين في حياتهم أو عملهم. ويعقوب يعني التعقب والجهاد أو المصارعة الروحية حتى النهاية، وأخيرًا يوحنا يعني الله حنان أو منعم، إذ لا قبول لدعوة الله والتمتع بالتلمذة ما لم ينعم الرب بها على التلميذ ويتحنن. ويعلق الأب ثيوفلاكتيوس "أن هؤلاء الأربعة بدأوا ببطرس المعروف بانهماكه في العمل وانتهوا بيوحنا المعروف بحياته التأملية، الأول يشير للحياة العاملة، والثاني للحياة التأملية. فلا بلوغ للتمتع بالتأمل في الإلهيات ما لم تكن لها الحياة العاملة المجاهدة أولًا! وإن كان بالحقيقة يصعب عزلهما أو فصلهما إذ هما حياة واحدة". (ب) ما هي الصفات الضرورية لهؤلاء التلاميذ الأربعة؟ يتبن من كلام يسوع ان هناك أربع صفات ضرورية لكل مبشِّر بالإنجيل: الأولى ان يكون مدعوا من الله كما دُعي هؤلاء الأربعة التلاميذ من المسيح. ومن لم يُدعَ، فليس اهلا لان يُبشرِ بكلمة الله بدليل قول الرب لسمعان وأخيه اندراوس "اِتبَعاني أَجعَلْكما صَيادَي بَشَر" (مرقس 1: 17). وفي هذا الصدد ترتّل الكنيسة البيزنطيّة: "مُبارك أنت ايّها المسيح إلهنا، يا مَن أظهرتَ الصيّادين غزيري الحكمة إذ سكبتَ عليهم روح القدس وبهم المسكونة قد اقتنصْتَ، يا محبَّ البشر، المجد لك!" والصفة الثانية: ان يكون التلميذ ذا غيرة واجتهاد ليأتي بالناس من العالم الى الكنيسة والخلاص كما يجتهد الصيَّادون ان يأتوا بالسمك من البحر الى الشبكة. والصفة الثالثة: معرفة التلميذ وحكمته في صيد النفوس واستعداده للتعب وصبره واقدامه على الخطر وأمله في النجاح وثباته في عمله. كما جاء في نبوءة أشعيا "فكذلك تَكونُ كَلِمَتي الَّتي تَخرُجُ مِن فمي: لا تَرجِعُ إِلَيَّ فارِغة بل تُتِمُّ ما شِئتُ وتَنجَحُ فيما أَرسَلْتُها لَه" (أشعيا 55: 11) ويوضح ذلك بولس الرسول بقوله "كونوا إِذًا، ثابِتينَ راسِخين، مُتَقَدِّمينَ في عَمَلِ الرَّبِّ دائِمًا، عالِمينَ أَنَّ جَهْدَكُم لا يَذهَبُ سُدً ى عِندَ الرَّبَّ" (1قورنتس 15: 58). والصفة الرابعة: ان يتحقق نجاح عمل التلميذ في التبشير في المسيح كما قال البابا فرنسيس للشباب في ريو دي جانيرو بالبرازيل: "ليس لي ذهباً ولا فضةً، لكني احملُ لكم أغلي ما أعطي لي: يسوع المسيح" (ج) لماذا استجاب هؤلاء التلاميذ لدعوة المسيح؟ استجاب هؤلاء التلاميذ لدعوة المسيح أولا بسبب شهادة يوحنا المعمدان للمسيح حيث يعلق الأب ثيوفلاكتيوس " أن سمعان وأندراوس كانا تلميذين ليوحنا المعمدان (يوحنا 1: 35-40). إذ سمعا معلمهما يشهد للسيد المسيح تبعاه، لكنهما كانا يعودان للصيد مع أبيهما، لهذا ما ورد هنا في إنجيل مرقس لم يكن اللقاء الأول بين السيد وبينهما، لكن دعوة السيد لهما سحبتهما من العمل الزمني للتكريس الكامل للتلمذة والكرازة". وهناك سبب آخر وهو حوار يسوع معهم لمدة يوم كامل كما جاء في بدء انجيل يوحنا (يوحنا 35:1-42)، ورؤية معجزات الشفاء التي أجراها أمامهم (متى 24:4) خاصة معجزة صيد السمك الكثير جعلتهم يطمئنُّون لتدبير الله لاحتياجاتهم المادية (لوقا 6:5-7) وأخيراً سمعوا تعليم يسوع للجموع من سفينة سمعان (لوقا 5: 3). فمن يعرف المسيح حقيقة يترك كل شيء حاسبًا إياه نفاية ويكرس نفسه للمسيح كما جاء في خبرة بولس الرسول " أَعُدُّ كُلَّ شَيءٍ خُسْرانًا مِن أَجْلِ المَعرِفَةِ السَّامية، مَعرِفةِ يسوعَ المسيحِ رَبِّي. مِن أَجْلِه خَسِرتُ كُلَّ شَيء وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفايَة لأَربَحَ المسيحَ" (فيلبي 3: 8). ويعلق فيلوكسين المَنبِجيّ "إنّ كلّ مَن دُعي ولم تكن روحه مُثقلة بمحبّة الأمور الدنيويّة، استجاب على الفور إلى الصوت الذي دعاه" (العظة رقم 4). (د) ما هي نتيجة هذه الدعوة؟ نرى المسيح يختار أندراوس وسمعان ويعقوب ويوحنا من بين صيادي السمك ليرقّيهم إلى درجة الرسولية، ويُجري معجزات عديدة في حياتهم. فوجدوا أنفسهم في دعوة يسوع وحقَّقوا ذواتهم في شخصه الكريم، ومن ثَم وجدوا معنى حياتهم وقيمتها في الارتباط بشخصه، ووجدوا ذواتهم وحرّيتهم مع يسوع، فانطلقوا معه يرافقونه، ويتعلّمون منه حبّ الناس واحترامهم، والكد من أجل سعادتهم وكرامتهم وحرّيتهم. كلّ شيء قد تغيير بفضل معرفتهم يسوع. صار لحياتهم معنىً جديدًا، عرفوا طعم الفرح والسلام الداخلي الذي لا ينزعه أحد، وامتلأت حياتهم بالشفقة والتضامن مع سائر الناس. إنّ أعظم مهمّة للإنسان هي أن يجد عملاً يلاقي فيه الانسان نفسه. فدعوة التلاميذ هي صورة لدعوة كلّ منّا لإتباع يسوع. وهذه الدعوة تقتضي التخلّي عن الكثير في سبيل ملكوت الله. وأن الربّ لم يتوجّه بدعوته هذه، لعلماء في الناموس أو لفقهاء في العلوم المُختلِفة في ذلك العصر أو لأصحاب مقامات عالية الشأن، بل دعا أناساً بُسطاء من المُجتمع العاديّ، لا مراكز اجتماعية وسياسيّة يتعلّقون بها، لا أموال ولا مُمتلكات أرضيّة يخافون عليها. وهذه الدعوة لإتباع يسوع هي صورة لدعوته إلى كل منا، فكلّنا بالأساس مدعوّون كمسيحيّين، "إذ فإِنَّنا جَميعًا، وقَدِ اعتَمَدنا في المسيح، قد لَبِستُنا المسيح" (غلاطية 3: 27)، فنحن، كمسيحيين علينا أن نحيا بموجب دعوة الربّ لنا، وهي دعوة إلى الحياة الشاهدة على محبّة الله للبشر من خلال يسوع المسيح. ودعوتنا تقوم بالخروج فقط من ذواتنا للسير مع الرب وصنع مشيئته. ويُعلق الراهب الدومنيكاني جان تولير" كيف لنا أن نتبع الله في الحقيقة: كلّ شيء واضح ولكي نقومَ بذلك فعلينا أن نتخلّى عن كلّ ما ليس فيه الله" (العظة 4). والدعوة لم تقف عند التلاميذ بل أصبحوا هم بدورهم أصحاب دعوة. ويُكمل الله مسيرة الخلاص إلى منتهى الدهر. (ه) ماذا ترك هؤلاء الصيَّادون من أشياء ثمينة تلبية لنداء الربّ؟ يجبب القدّيس غريغوريوس الكبير "هؤلاء الصيّادون لا يملكون شيئًا تقريبًا. ومع ذلك فقد تركوا الكثير، لأنّهم تخلّوا عن كلّ شيء، مهما يكن هذا الشيء قليلاً. إذ عندما تخلّوا عن ممتلكاتهم، تخلّوا كذلك عن رغباتهم. فإنّ الربّ يكتفي بممتلكاتنا الخارجيّة مهما كانت صغيرة: هو يهتمّ للقلب لا للأسعار، إذ لا يرى كم قدّمنا له، إنّما كم من المحبّة رافقت تقدمتنا". قدّم التلاميذ ليس فقط القليل مما يملكون، إنما قدّموا كل شيء، مثل الارملة الفقيرة التي "أَلقَت جَميعَ ما تَملِكُ لِمَعيشَتِها في خزانة الله" (لوقا 21: 4). ونستنتج مما سبق ان الحياة المسيحية هي دعوة الانسان ان يكون مستعداً للتضحية بكل شيء من اجل المسيح. وهذا الاستعداد هو الدعوة، هكذا الرسل الاربعة، فما ان طرقت الدعوة قلوبهم حتى تركوا كل شيء في سبيل ملكوت الله، تركوا كل شيء: مالا، ومهنة، وأهلاَ ومتاعاً. وهم لا ينظرون الى الوراء في شيء مما تركوا. والتركة او التخلي هي التضحية. فاذا دعانا الرب هل نلبِّي دعوته ونتبعه؟ هل نتخلى عن كل شيء في سبيله؟ هل نعمل على انجاح مهمته في خلاص البشرية على خطى بولس الرسول القائل "إِنِّي لا أَستَحيِي بِالبِشارة، فهي قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن" (رومية 1: 16)؟ الخلاصة يصف إنجيل مرقس اليوم، يسوع وهو سائر على ضفاف بحيرة طبرية ويرى أخوَين على مقربة من الشاطئ، سمعان (بطرس) وأندراوس ابنَي يونا، وهما يُلقيان شبكتهما. فيبادرهما بالدعوة إلى إتباعه، ويُحدّد لهما هدف هذه الدعوة: "أن يُصبحا صيّادَين للناس"... فيقومان للحال ويتركان كل شيء وراءهما ويتبعانه. ويُكمِل الربّ مسيرته بصحبة التلميذَين الأولَين، وإذا به يُصادف أخوَين آخرَين، يعقوب ويوحنا بصحبة أبيهما زبدى (على البَرّ هذه المرّة)، وهما يُصلِحان شباكهما. فيتكرّر الطلب الأول، وتتكرّر معه الاستجابة نفسها، لكن هذه المرّة، إضافةً إلى تركهما الشِباك والسفن، فإنهما يتركان أيضاً أباهما زبدى. بذلك، أصبح لدى يسوع اول فوج من التلاميذ المكوّن من بطرس واندراوس ويوحنا ويعقوب. إلا أننا نجد عند يوحنا الإنجيليّ روايةً مختلفة كليّاً عن باقي الإنجيليّين لدعوة التلاميذ الأوائل، فلا نرى يسوع يدعو صيّادين على شاطئ بحر الجليل لكي يتبعوه، بل نرى بدايةً إثنين من تلاميذ يوحنا المعمدان يتبعان يسوع بناءً على طلب المعمدان، وكان أندراوس أحدهما. وعاد هذا، فلقِيَ أخاه سمعان مُعلناً له "لقد وجدنا ماسيّا"، وآتياً به إلى يسوع، الذي أطلق عليه لقب "صفا" (الصخرة) يوحنا 1: 35-51). وتدل هذه المقارنة بين الروايات الإنجيليّة على أن إتباع التلاميذ ليسوع لم يأتِ أبداً من فراغ أو عدم معرفة بشخص يسوع، بل سبقه على الأقل شهادة يوحنا المعمدان أمام تلاميذه "هوذا حمل الله...". وتقابل الاخوان بطرس وأندراوس والاخوان يعقوب ويوحنا مع يسوع وعرفوه من قبل (يوحنا 1:15-41)، وآمنوا ان يسوع هو المسيح المنتظر. والآن هو يدعوهم الى خطوة أخرى؛ وهي ان يتركوا صيد السمك ويتبعوه كي يصبحوا صيادي البشر لربح النفوس رغم كلّ التزاماتهم مع أهلهم ومشاريعهم. قد اجتذب يسوع هؤلاء التلاميذ الاربعة فتخلوا عن حرفة الصيد وذويهم وصاروا أتباع يسوع. وهم الآن لم ولن يتخلوا عنه بل بقوا دوما حوله. والدعوة تختلف باختلاف الناس: فمنهم من دُعوا الى حياة مسيحية خاصة معتنقين المشورات الإنجيلية نذوراً. ومنهم دُعوا الى حياة مسيحية عامة متَّخذين الانجيل قاعدة ودستوراً. ولكن الدعوة لا تطلب منّا أن نكون لا مُباليين بخيرات هذا العالم؛ إنما فقط يَحثنا على ألاَّ نتصرف كما لو أن هذا العالم ليس مطبوعاً ببداية الملكوت والحياة الأبدية كما جاء في تعليم بولس الرسول "الَّذينَ يَبْكون كأَنَّهم لا يَبْكون، والَّذينَ يَفرَحون كأَنَّهم لا يَفرَحون، والَّذينَ يَشتَرون كأَنَّهم لا يَملِكون، والَّذينَ يَستَفيدونَ مِن هذا العالَم كأَنَّهم لا يستفيدونَ حَقًّا" (1 قورنتس 7: 30-31). والرب يسوع لا يزال يدعو كل واحد منا لنتبعه، وعندما يدعونا الرب لخدمته، هل نكون مثل أولئك التلاميذ الأربعة فنتبعه فورا؟ دعاء أيها الاب السماوي، يا من أرسلت ابنك الوحيد يدعو التلاميذ لكي يصبحوا رسلا، ويحملوا رسالة إنجيل الملكوت الى العالم، امنحنا النعمة ان نكتشف دعوته لنا فنتبعه على مثال التلاميذ الأوّلين بروح التوبة ونتخلى عن كل شيء في سبيله وننقل انجيله إلى أخوتنا البشر من حولنا وفي كلّ مكان، مستنيرين بكلماته "فماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفْسَه؟" (مرقس 8: 36). أمين. الأب لويس حزبون - فلسطين |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
تسميَّات تلاميذ يسوع الأوَّلين |
رسالة يسوع في الجَليل ودعوة التلاميذ الأوَّلين |
إن الأربعة الرجال البُرص لم يكن عندهم دعوة |
قصة يسوع يظهر للتلاميذ |
ترنيمة ظهر يسوع للتلاميذ |