رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
موقف المقريزى من اضطهاد المصريين بعد الفتح العربى لمصر 1
أولا : 1 ـ من أعظم مؤرخى مصر فى العصور الوسطى تقي الدين المقريزى (766-845هـ) الذى عاش فى القرن التاسع الهجرى ، وهو واسطة العقد فى المدرسة التاريخية المصرية فى العصر المملوكى.كتب المقريزى في التاريخ العام العربى والاسلامى والتاريخ المصرى بالإضافة إلى المؤلفات المتخصصة في شتى نواحى الحياة والحضارة المصرية والمعارف المصرية. 2 ـ كتاباته التاريخية تنقسم الى نوعين حسب المادة التاريخية : تاريخ ينقل فيه عن السابقين ، وهذا فى كتبه التى لخّص فيها تاريخ مصر والمسلمين قبل عصره، وهو فى هذا النقل كان يركز على الأحداث الكبرى أو المقصود تأريخها ، دون ان يقع فى إغراء التفاصيل أو الروايات المتعارضة أو المتداخلة أو الضعيفة. أى كانت له منهجية فى إختيار الرواية الصحيحة والرواية الأصلية للحدث ، وهى ميزة يدركها الباحث التاريخى فى المادة التاريخية للعصور الوسطى. فى تأريخه لعصره كان المقريزى ينقل من واقع المشاهدة والرؤيا العينية ، وكان له مراسلوه الذين يبعثون له بأخبار الشام والحجاز. فى نفس الوقت لم يعش المقريزى فى برج عاجى بعيدا عن المجتمع القاهرى فى مصر ،إذ شغل بضع وظائف كان منها وظيفة الحسبة ، أو المحتسب الذى يدور فى الأسواق ويراقب الأسعار و يراعى الأمن فى الشوارع ، وكانت وظيفة الحسبة تتضمن السلطات الثلاث مجتمعة ، فالمحتسب يفتش عن الجناة ، ويحكم عليهم ويقيم العقاب بنفسه. فهو البوليس وهو القاضى وهو أيضا الجلاد. على أن هذه الوظيفة أثرت معلومات المقريزى الاقتصادية والاجتماعية وجعلت أخبار الأسعار وأحوال الشارع المصرى وطوائف المصريين الاجتماعية وعاداتهم ومعاناتهم تحتل مكانة هامة فى صفحات موسوعته (السلوك) ، وفى الخطط المقريزية، وهو فى هذا التأريخ الاجتماعى والعمرانى سابق لعصره ، وأقول ـ بجرأة ـ على مستوى العالم ، إذ أن تقدم المدرسة التاريخية المملوكية لم تعرفه أوربا فى ذلك الوقت. 3 ـ وثمة ناحية أخرى تميز بها المقريزى فى تاريخه الذى كان فيه شاهدا على عصره ، هى تعليقاته اللاذعة ونقده الساخر وهجومه القاسى على الظلم المملوكى والظالمين من الحكام وأتباعهم من الشيوخ. وكان هذا النقد يأتى فى تعليقه على الأحداث الجارية ، أو فى ترجمته لمن مات من الظالمين. وهى جرأة تحسب له وتشكر له.واعتقد انه كان متسقا فى مواقفه الشخصية بدليل أنه لم يستمر فى وظيفة الحسبة أو غيرها بل كان أحيانا يبادر بالاستقالة، اى أن له موقف من الظلم تجلى فى حياته العملية وفى كتاباته أيضا. 4 ـ غزارة معلوماته عن الشارع المصرى وإحتكاكه بالناس وآلامهم كان تعويضا مناسبا عن نقص هام فى كتابات المقريزى التاريخية المعاصرة لوقته. لم يكن لديه علم بخبايا السياسة المملوكية الجارية فى عصره وبما كان يجرى من مؤامرات وصراعات سياسية فى القلعة مركز الحكم المملوكى ، ولم تصل اليه وثائق كان بعضها فى يد كاتب السر أو سكرتير السلطان ومدير مكتبه ومستشاره بلغة عصرنا ( هيكل كان كاتب السر لعبد الناصر ، و أسامة الباز هو كاتب السر لحسنى مبارك بمفهوم العصر المملوكى). بعض المؤرخين الذين كانوا أقل حرفية من المقريزى وأقل شهرة منه كانوا أحيانا مطلعين على بعض هذه الوثائق ورصعوا بها تاريخهم ، وبعضهم كان تأتيه الأخبار المنتقاة من كاتب السر، ترى هذا فى موسوعة صبح الأعشى للقلقشندى والمادة التاريخية التى كتبها المؤرخ المملوكى الأصل أبو المحاسن (إبن تغرى بردى ) الذى كان أبوه أمير مملوكيا مشهورا ووثيق الصلة بصانعى السياسة المملوكية وخلفيات الصراع بين مراكز القوى فى ذلك الحكم العسكرى القائم أصلا على التآمر ومكائد القصور. وحتى المؤرخ المتواضع الامكانات القاضى على بن داود الجوهرى الصيرفى ( ابن الصيرفى ) كان وثيق الصلة بكاتب السر إبن مزهر الأنصارى فى عصر السلطان قايتباى ، فنقل الكثير من خبايا الأحداث فى كتابه ( إنباء الهصر بأبناء العصر ). 5 ـ ومع هذا ، يظل المقريزى أفضلهم جميعا فى ثقافته الموسوعية وفى تنوع إنتاجه وغزارته وفى أسلوبه وفى حرفيته التاريخية وفى موقفه الأخلاقى الشجاع من الظلم وفى إنحيازه للرجل العادى الصانع الحقيقى للأحداث والمكتوى بنارها. 6 ـ ولكن تظل للمقريزى بعض سقطات تؤكد أن لكل جواد كبوة وكبوات. وهذا طبيعى فى كل عمل إنسانى ، فكل منا يلحقه النقص ويعجز عن بلوغ الكمال. واساس الخطأ الذى وقع فيه المقريزى والذى نقع فيه جميعا هو تسلط الهوى وغلبة الأيدلوجيا والفكرة المسبقة وسيطرتها على الكاتب. وحين يصاب المؤرخ بهذا المرض ـ وهذا ما يحدث كثيرا ـ فإن الشك لا يلحق فقط بمدى تقييمه الشخصى للأحداث وتعليقه عليها ولكن أيضا فى ترجيحه للروايات ومدى موضوعيته فى إختيارها أو فى ( إنتقائها). 7 ـ كان هوى المقريزى شيعيا فاطميا، تجلى هذا صراحة فى كتابه الصغير (فضل آل البيت)، كما تجلى صراحة وضمنا فى دفاعه بالحق والباطل عن الفاطميين بين سطور تأريخه لهم فى ( إتعاظ الحنفا بذكر الأئمة الفاطميين الخلفا ) وتحيزه واضح فى العنوان. وقد إنتقى المقريزى من تاريخ المؤرخ المصرى ( المسبحى ) ما يوافق هواه. ، وإن حاول المقريزى فى ( الخطط ) أن يكون محايدا فجاء ببعض عقائد الفاطيين الشيعية وأقر بتطرفها وغلوها. المهم أن المقريزى جانبه الصواب فى تحيزه للفاطميين فى معظم ما كتب عنهم ، وفيما تجاهله من تاريخهم. هذا فى الوقت الذى بلغ فيه القمة فى نقدة للصوفية أصحاب السلطان فى عصره ، بل ونقده المرّ للسلاطين والأمراء المماليك. 8 ـ ثمة ناحية أخرى سقط فيها المقريزى سقوطا هائلا، هى تعصبه الشديد ضد الأقباط ، فمع انه روى بأمانة بعض الظلم الذى تعرضوا له إلا أنه لم يذرف دمعة على آلامهم ، بينما كان شديد الحساسية لأى مظالم يتعرض لها المصريون المسلمون.والمقريزى هنا ابن عصره، ومن الإجحاف ان نفرض عليه ثقافة عصرنا فى حقوق المواطنة وحقوق الانسان، فهذا لم يكن معروفا فى العصور الوسطى حيث اندمجت المواطنة والجنسية فى الدين ، وكانت الأقليات الدينية فى الشرق والغرب متهمة ومضطهدة ومغبونة.ونتوقف مع إضطهاد المصريين بعد الفتح العربى الذى حمل إسم الاسلام زورا وبهتانا فى عهد عمر ومن جاء بعده . وننقل معلوماتنا من الخطط المقريزية حيث سجّل معاناة المصريين ( الأقباط ) دون أدنى تعاطف معهم ، على غير عادته فى انتقاد الظلم والظالمين ، والسبب أن المقريزى كان يعبّر عما تركّز فى عقليته من حق ( العرب المسلمين ) فى غزو غيرهم و الاستطالة عليهم . 9 ـ نتوقف فى هذا الفصل عن النوعية الأولى من الظلم الذى أحدثه العرب الفاتحون بالمصريين من عصر عمر بن الخطاب الى نهاية الدولة الأموية . هو إضطهاد كان مبعثه الشراهة للمال وإدمان السّلب والنهب ، وقد كان عادة أصيلة فى العرب ، ولكن تمّ تقنينها لاستنزاف موارد مصر وثرائها ، وكانت مشهورة بهذا الثراء ، فشرهت نفوس الصحابة الى التهام هذه الثروة وتبعهم الأمويون . وفى سبيل إلتهام أكبر قدر من الثروة المصرية إرتكب عمر بن الخطاب ومن جاء بعده الخطيئة الكبرى بالتغيير العملى لشرع الله جل وعلا ، بداية فى الاعتداء على أمم لم تعتد على العرب المسلمين ، ثم فرض الجزية عليهم ، وإستنزاف أموالهم بالضرائب الباهظة ، أو ( الخراج ) واستعمال العسف فى تحصيلها . ونعطى التفاصيل مما قاله المقريزى فى الخطط المقريزية مع التوقف معها بالنقاش وبالتحليل. ثانيا :ـ فرض الجزية على المصريين بعد الفتح ظلما وعدوانا : 1 ــ الآية القرآنية الوحيدة التى تحدثت عن الجزية تقول ﴿قَاتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلاَ يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتّىَ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة 29). وتشريعات القرآن لها درجات ثلاث، أوامر تشريعية تحكمها قواعد تشريعية تهدف إلى مقاصد تشريعية، فالأوامر التشريعية مثل (قاتلوا) أو (انفروا) تحكمها القواعد التشريعية التى تجعل أوامر القتال لا تكون إلا فى إطار الدفاع عن النفس ورد الاعتداء بمثله دون زيادة أو نقصان (البقرة 190، 194). ثم يكون الهدف النهائى للقتال فى الإسلام أو فى سبيل الله هو منع الفتنة فى الدين، والفتنة هى الاضطهاد الدينى أو إكراه الناس على تغيير عقائدهم، فالمقصد التشريعى من القتال فى سبيل الله أن تختفى الفتنة والإكراه وأن يكون الناس أحراراً فى اعتناق ما يريدون حسبما شاء الله تعالى حين خلفهم أحراراً، وجعل مرجعهم إليهم يوم القيامة ليحاسبهم على ما اختاروه بمحض إرادتهم وذلك معنى قوله تعالى فى الأمر بقتال المشركين العرب الذين يضطهدون مخالفيهم فى الدين ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ﴾(البقرة 193). (واقرأ أيضاً آية 39 فى سورة الأنفال.) إذن لابد أن نفهم تشريعات القرآن الكريم فى الأوامر والقواعد والمقاصد حتى نعرف أن المقصودين بالقتال فى آية ﴿قَاتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ﴾ هم أولئك المعتدون من أهل الكتاب و لا يمكن أن تمتد الى غيرهم من المسالمين الذين لم يعتدوا على دولة المسلمين ، لأنه لا مجال فى الإسلام لاعتداء على أحد وإنما لرد الاعتداء بمثله فقط.. والآية تتحدث عن دولة أو مجتمع عدوانى انعدم فيه الإيمان بمعنى الأمن وبمعنى الاعتقاد السليم، وهو يتجاوز حدوده إلى حدود المسلمين ليعتدى عليهم وحينئذ فلابد من القتال لرد الاعتداء بمثله، وبعد تحقيق النصر وطرده إلى دياره يجب إرغامه على دفع الجزية- وليس على دخول الإسلام- وهى غرامة حربية كالشأن فى عقوبة المعتدى، والذى يأخذ به المجتمع البشرى حتى الآن فى المعاهدات التى يعقدها المنتصر مع المهزوم خصوصاً إذا كان معتدياً مثل ما حدث مع ألمانيا بعد الحربين العالميتين وما حدث مع العراق بعد غزو الكويت. 2 ـ وإذا طبقنا الآية الكريمة التى تتحدث عن فرض الجزية وجدناها تنطبق على الروم البيزنطيين، وقد ذكر التاريخ أنهم الذين بدءوا الاعتداء على الدولة الإسلامية فى عصر النبى (صلى الله عليه وسلام) وحرضوا ضدها القبائل العربية النصرانية مما أدى إلى غزوات مؤتة وتبوك. والتاريخ يذكر أن البيزنطيين كانوا يدفعون الجزية للمسلمين بعد الهزيمة، وأنه كان يحدث العكس فيدفع المسلمون الجزية للبيزنطيين كما حدث مع معاوية حين دفع لهم جزية قدرها مائة ألف دينار سنوياً أثناء انشغاله بالحرب مع (على).. وكان الروم البيزنطيين يدفعون الجزية للمسلمين فى العصر العباسى الأول، فأصبح المسلمون فى العصر العباسى الثانى يدفعون الجزية للبيزنطيين.. وهكذا تبادل الفريقان المواقع كل حسب قوته. 3 ــ وكان من المنتظر أن يدفع البيزنطيون الجزية لعمرو بن العاص بعد أن هزمهم وأجلاهم عن مصر.. ولكن حدث العكس. إذ دفعها المصريون الذين تحالفوا مع عمرو ضد البيزنطيين. حسبما نعرف من ( خطط المقريزى)، وهو يصف المصريين بأنهم (النصارى والقبط والأقباط ) تبعا لدينهم السائد وقتها.يشير المقريزى بين السطور إلى مساعدة المصريين للعرب الفاتحين ضد الروم. ومنذ أن دخل عمرو بجيشه إلى سيناء متوجهاً إلى مصر أرسل أسقف الإسكندرية أمراً إلى المصريين بأن يعاونوا العرب ويتنبأ بزوال دولة الروم،فاستجاب له المصريون . وحين نزل عمرو على أسوار مدينة الفرما كان المصريون أعواناً له يمدونه بالمعلومات والمؤن. وهم الذين ساعدوا عمرو فى فتح الإسكندرية بعد حصارها الشديد. وظلوا شهرين يمدّون العرب بالأطعمة والمؤن ويجمعون لهم الأخبار، والقائم على حراسة أبواب الإسكندرية كان مصريا ، وهو الذى فتح أبوابها للعرب فاقتحموها. 4 ـ والمنتظر بعد هذا أن يحفظ عمرو الجميل للمصريين الذين ساعدوا جيشه الضئيل على فتح بلدهم ، ولكن كافأهم عمرو بالتى هى أسوأ . فالذى حدث أن المقوقس- الوالى الرومى- هو الذى أقنع عمرو بأن يدفع المصريون الجزية بدلاً من الروم المهزومين . وقد كان المصريون يدفعون الجزية للروم حسب المعتاد فى العصور الوسطى ، فتعلم العرب منهم هذا القانون الجائر وطبقوه على المصريين الذين ساعدوهم على احتلال بلادهم !! فبعد حصار بابليون الذى استمر سبعة أشهر اقتحم العرب أبواب الحصن فاضطر المقوقس للتفاوض على أن يدفع المصريون الجزية للعرب دينارين عن كل رجل. لأن الروم لن يقبلوا دفع الجزية ولن يقبل العرب إلا بالجزية أو الإسلام أو الحرب ، وهكذا نجا المقوقس من غرامة الجزية التى يرفض الروم دفعها، ودفعها المصريون الذين ساعدوا عمرو فى فتح بلادهم أملا فى العدل والتخلص من جور الروم فجاء العرب أكثر ظلما وجورا ، وأكثر خسّة إذ عاملوا المصريين الذين إستقبلوهم وساعدوهم فى الانتصار على الروم بظلم أبشع من ظلم الروم ، فلم يكتف عمرو بن العاص بفرض الجزية على المصريين بالطريقة الرومية بل أنه فرض عليهم إلى جانب الجزية القيام بضيافة العرب فى قراهم ثلاثة أيام. 5 ـ وبلغ عدد المصريين الذين دفعوا الجزية يومئذ ستة ملايين. وشرهت نفس عمرو للمزيد من الملايين ، فبعد أن رضى بدفع المصرى دينارين طمع فى أكثر ، ولم يجعل حدا أقصى معروفا لما يأخذه من المصريين ، يدلّ على ذلك أن المقريزى يذكر أن والى (إخنا) سأل عمراً تحديد مقدار الجزية الواجبة على أهل مدينة (إخنا) فقال له عمرو يشير إلى ركن الكنيسة لو أعطيتنى من الركن إلى السقف ما أخبرتك، إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم )".وكان ذلك سبباً فى خروج ذلك الرجل على الطاعة، فقد هرب إلى الروم وعاد بجيش بيزنطى استعاد الإسكندرية، وأعاد عمرو فتح الإسكندرية وتخليصها من الروم بصعوبة بالغة . 6 ـ وعمرو بن العاص كان رائداً للدولة الأموية فى شراهتها فى جمع الجزية من المصريين وغيرهم، وحتى من أسلم من الأقباط المصريين كانوا لا يعفونه من دفع الجزية، والاستثناء الوحيد من خلفاء بنى أمية كان الخليفة عمر بن عبد العزيز فى حكمه القصير ، فقد رفع الجزية عمن أسلم فكتب إليه والى مصر حيان بن شريح يخبره بتناقص الجزية بهذا القرار، فكتب إليه عمر ابن عبد العزيز يؤنبه ويقول له: ضع الجزية عمن أسلم قبح الله رأيك فإن الله إنما بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً..!! 7 ــ وظلت الجزية نقطة سوداء فى تاريخ الولاة الأمويين والعباسيين يدفعها من بقى على دينه من المصريين إلى نهاية العصر المملوكى سنة 921/1517، وجاء الفتح العثمانى ففرض جزية على المصريين جميعاً مسلمين ومسيحيين، وظلت الخزانة المصرية تدفعها لتركيا بصورة عادية حتى تنبه لها عبد الناصر وألغاها..!! ثالثا : عمرو بن العاص يسلب كنوز المصريين بالقتل والارهاب 1 ـ وشرهت نفس عمرو لكنوز الآثار المصرية وذهبها المدفون وما يتم الكشف عنه ، يقول المقريزى أن عمراً أعلن لأهل مصر: أن من كتمنى كنزاً عنده فقدرت عليه قتلته!!. ونشر عمرو عيونه تتحسّس وتتجسّس عن من لديه كنوز فرعونية . ويذكر المقريزى أن عمرو بن العاص جاءته إخبارية بأن مصريا من الصعيد اسمه بطرس لديه كنز فرعونى، فحبسه عمرو واستجوبه فأصر الرجل على الإنكار، وعلم عمرو بذكائه مكان الكنز فاستولى عليه وقتل المصرى وعلق رأسه على باب المسجد، ليرهب المصريين ، فارتعبوا ،ومن كان منهم عنده كنز أسرع بتسليمه إلى عمرو. ويذكر المقريزى أن عمراً اعتقل مصريا آخر اتهمه بممالاة الروم واستجوبه ، وكانت التهمة ملفقة وبهدف إبتزاز الرجل المسكين ، بدليل أن عمرو بن العاص أطلق سراح الرجل بعد أن حصل منه على أكثر من خمسين أردباً من الذهب..!!.نكرّر ( 50 إردبا من الذهب .!!)..وهذا من رجل واحد فقط .. 2 ـ ومن مجموع هذه المصادرات تضخمت ثروة عمرو الشخصية من هذا السلب والنّهب . وحين حضرته الوفاة استحضر أمواله فكانت (140) أردباً من الذهب، وقال لولديه: من يأخذ هذا المال؟ فأبى ولداه أخذه وقالا له: حتى ترد إلى كل ذى حق حقه. ومات عمرو واستولى الخليفة معاويةعلى كل تلك الأموال التى خلفها عمرو فى ميراثه وقال: نحن نأخذه بما فيه .. أى بما فيه من ظلم وسحت..!! 3 ـ ومع ذلك فإن عمرو بن العاص هو أفضل من حكم مصر وأكثرهم رفقاً بالمصريين بالمقارنة بغيره.. والثابت أنه لم يكن مسرفاً فى سفك الدماء كما فعل غيره من الولاة كما أنه كان حسن السياسة فى جباية الخراج والجزية، فلم يرهق المصريين، وكان يجمع الجزية 12 مليون دينار، فأصبح الوالى بعده عبد الله بن أبى سرح يجمعها 14 مليون دينار فى خلافة عثمان وبتوجيهاته . رابعا : تطرف الأمويين فى إستنزاف المصريين وفى قتلهم ظهر هذا التطرف بإقتران السلب والنهب بالقتل والتعذيب وقطع الأطراف والإذلال ، وأرهاب المصريين بتعذيب وإذلال رهبانهم وبطركهم وقياداتهم الدينية ، وهم الذين ساعدوا العرب من قبل فى فتح بلادهم وهزيمة الروم. وننقل فقرات مما ذكره المقريزى وهو يؤرخ لبطاركة مصر بعد الفتح العربى . 1 ـ يقول المقريزى فى الخطط عن البطرك الاسكندروس الذى استمر فى منصبه حوالى ربع قرن ومات سنة ست ومائة . ومرّت به شدائد صودر فيها مرّتين، أخذ منه فيهما ستة آلاف دينار، وفي أيامه أمّر عبد العزيز بن مروان فأمر بإحصاء الرهبان فأحصوا، وأخذت منهم الجزية عن كلّ راهب دينار.) هنا مصادرة للبطرك ( البابا )، وفرض للجزية على الرهبان . 2 وتعصب المقريزى يظهر فى قوله عن(المصريين) النصارى،القبط ،الأقباط ) إذ لم يكونوا قد دخلوا فى الاسلام بعد، يقول ولما ولي مصر عبد الله بن عبد الملك بن مروان اشتدّ على النصارى،)أى المصريين،(واقتدى به قرّة بن شريك أيضًا في ولايته على مصر، وأنزل بالنصارى شدائد لم يبتلوا قبلها بمثلها .)هنا عبارة رهيبة لم يقم المقريزى بشرحها وتفصيلها ، ولنا أن نتخيلها فى ضوء الاضطهاد الذى عاناه المصريون فى عهد كراكلا ودقلديانوس ، أى باعتراف المقريزى تفسه فإنّ عبد الله إبن الخليفة عبد الملك بن مروان حين ولى مصر أنزل بأهلها شدائد لم يبتلوا بها من قبل حتى فى عهد فرعون موسى.!!. 3 ـ ثم يورد المقريزى بعض التفصيلات ، فيقول ( وكان عبد اللّه بن الحبحاب متولي الخراج قد زاد على القبط قيراطًا في كلّ دينار فانتقض عليه عامّة الحوف الشرقيّ من القبط فحاربهم المسلمون وقتلوا منهْم عدّة وافرة في سنة سبع ومائة.).أى إن والى الخراج هو الذى زاد الخراج أى الضرائب ـ وهو غير الجزية ـ فثار المصريون فيما يعرف الآن بمحافظة الشرقية أو الحوف الشرقى ، فأخمد الأمويون ثروتهم وقتلوا منهم (عدّة وافرة ) عام 107 هجرية . 4 ـ ( واشتدّ أيضًا أسامة بن زيد التنوخيّ متولي الخراج على النصارى ( أى المصريين ) ، وأوقع بهم ، وأخذ أموالهم ، ووسم أيدي الرهبان بحلقة حديد فيها اسم الراهب واسم ديره وتاريخه، فكل من وجده بغير وسم قطع يده. وكتب إلى الأعمال بأن من وجد من النصارى وليس معه منشور أن يؤخذ منه عشرة دنانير . ثم كبس الديارات ( أى الأديرة ) وقبض على عدّة من الرهبان بغير وسم فضرب أعناق بعضهم وضرب باقيهم حتى ماتوا تحت الضرب . ثم هدمت الكنائس وكسرت الصلبان ومحيت التماثيل وكسرت الأصنام بأجمعها، وكانت كثيرة ، في سنة أربع ومائة ، والخليفة يومئذٍ يزيد بن عبد الملك ). ولأنّ مهمة متولّى الخراج هى سلب أموال المصريين بما يملأ خزائن الأمويين ويشبع نهنهم للمال السّحت فقد أعطى الخلفاء الأمويون متولى خراج مصر سلطة مطلقة عسكرية وقضائية وسياسية ؛ فهو الذى يقدّر الضرائب ، وهو الذى يقوم بجمعها ، وهو الذى يعاقب بما شاء من عقوبة ذلك الذى يعجز عن دفع المطلوب منه ، أى له مطلق الحرية فى توقيع أقصى العقوبة بلا رادع ، ومعه الجيش العربى ( لا أقول الاسلامى ) يقتل به الفلاحين المصرين العاجزين عن دفع الضرائب . وواضح أن هذا الموظف السادى(أسامة بن زيد التنوخيّ متولي الخراج ) قد أستغلّ سلطته فى معاقبة الرهبان المساكين وإذلالهم بوسمهم بأن يفرض علي كل منهم وضع حلقة حديدية فى يده مدوّن فيها إسمه ومحل إقامته ، ويقطع يد من يضبط منهم بدون هذه الحلقة. ثم كان يغير على الأديرة يمارس ساديته ، فيعتقل من يشاء من الرهبان ، ومن يجده منهم لا يضع فى يده تلك الحلقة الحديدية يضرب عنقه أو يقتله تحت العذاب . ثم يهدم الكنائس ويكسر الصلبان والتماثيل ، ويحظر تنقل المصريين فى بلادهم ، فمن يسافر منهم بغير تصريح يدفع غرامة قدرها عشرة دنانير . 5 ـ ورسم الخليفة هشام بإزالة بعض الظلم ، ولكن لم ينفّذها الوالى حنظلة بن صفوان الذى بالغ فى الضرائب وقام بإحصاء المصريين وبهائمهم إحتقارا لهم ، بل ووسم المصريين كما فعل الوالى السابق بالرهبان ، وعوقب من لا يحمل الوسم فى يده بقطع يده . يقول المقريزى فلما قام هشام بن عبد الملك في الخلافة كتب إلى مصر بأن يجري النصارى على عوايدهم وما بأيديهم من العهد، فقدم حنظلة بن صفوان أميرًا على مصر في ولايته الثانية فتشدّد على النصارى وزاد في الخراج وأحصى الناس والبهائم وجعل على كلّ نصرانيّ وسمًا صورة أسد وتتبعهم فمن وجده بغير وسم قطع يده.). 6 ـ وبسبب هذا الظلم المتطرف نشبت ثورات الفلاحين المصريين فى الدلتا والصعيد فتم إخمادها بكل قسوة . يقول المقريزى : ( انتقض القبط ( أى ثار المصريون ) بالصعيد وحاربوا العمال ( أى جباة الضرائب ) في سنة إحدى وعشرين فحوربوا وقُتل كثير منهم) ، ( ثم خرج بجنس ( قائد مصرى ) بسمنود وحارب وقُتل في الحرب وقُتل معه قبط كثير في سنة اثنتين وثلاثين ومات ). 7 ـ وبلغ الظلم مداه بالتنكيل بالبطرك القائد الروحى للمصريين وإذلاله وإهانته بين مواطنيه ، فقد إعتقله الوالى الأموى وفرض عليه غرامة لا يستطيع دفعها فإضطره الى أن يسير فى أنحاء مصر ومعه أساقفته يتسوّل منهم دفع الغرامة فما إستطاعوا سدادها كلها بسبب ما هم فيه من فقر، فعاد البطرك يائسا بائسا الى ذلك الوالى وأعطاه ما جمعه ، فأفرج عنه لأن الغرض كان إذلال البطرك ، وقد حدث ، يقول المقريزى وقبض عبد الملك بن موسى بن نصير أمير مصر على البطرك ميخائيل فاعتقله وألزمه بمال ، فسار بأساقفته في أعمال مصر يسأل أهلها ، فوجدهم في شدائد ، فعاد إلى الفسطاط ودفع إلى عبد الملك ما حصل له ، فأفرج عنه) 8 ـ وسقطت الدولة الأموية بهزيمة الخليفة مروان بن محمد فى موقعة الزاب أمام الجيش العباسى . وفرّ الخليفة الأموى المهزوم بجيشه الى مصر ، وانتهز المصريون الفرصة فثاروا أملا فى التخلّص من الظلم الأموى ، ولكن الخليفة الأموى المهزوم استخدم جيشه فى التنكيل بالمصريين كما لو كان قد أراد أن يعوّض هزيمته بالانتقام منهم . يقول المقريزى ثم خالفت القبط ( أى ثار المصريون ) برشيد فبعث إليهم مروان بن محمد لما قدم مصر وهزمهم ) ويقول عما فعله مروان بن محمد وتنكيله بالمصريين وبالبطرك المصرى : (فنزل به بلاء كبير من مروان وبطش به وبالنصارى ) ويقول عن فظائع ارتكبها مروان بن محمد بالقرى والمدن المصرية : ( وأحرق مصر وغلاتها ) ويقول عما فعله بالأديرة والراهبات من أسر وإغتصاب : ( وأسر عدّة من النساء المترهبات ببعض الديارات وراود واحدة منهنّ عن نفسها فاحتالت عليه ودفعته عنها بأن رغّبته في دهن معها إذا ادّهن به الإنسان لا يعمل فيه السلاح، وأوثقته بأن مكنته من التجربة في نفسها فتمت حيلتها عليه، وأخرجت زيتًا ادهنت به ثم مدّت عنقها فضربها بسيفه فأطار رأسها ، فعلم أنها اختارت الموت على الزنا )، أى أن هذه الراعبة المصرية الشريفة العفيفة أقنعت ذلك الخليفة الأموى مروان بن محمد الذى يريد إغتصابها بأنّ معها دهنا يقى الرقبة من الذبح فلا يستطيع السيف أن يقطعها،ودهنت رقبتها وطلبت من أن يجرب ضرب رقبتها بالسيف ليتأكد من قولها، فضرب رقبتها بالسيف فقطعها. فعلم أنها إختارت الانتحار والقتل لتحفظ شرفها ..!! لم يعلّق المقريزى محتجّا ..هل من تعليق على هذا ..يرحمكم الله جلّ وعلا ؟!! 9 ـ ويقول المقريزى : (وما زال البطرك والنصارى في الحديد مع مروان إلى أن قُتل ببوصير فأفرج عنهم. ) أى ظل مروان يحتفظ بالبطرك وزعماء المصريين أسرى معه الى أن وصل جيش العباسيين وقاتل مروان وهزمه وقتله . وأفرج العباسيون عن البطرك وصحبه . 10 ـ لم ينقشع الظلم بقيام الدولة العباسية بل إستمر مما إستوجب استمرار الفلاحين المصريين فى ثوراتهم . ولكن دخل اضطهاد المصرين فى نوعية جديدة فى العصر العباسى نتوقف معها فى الحلقة القادمة. |
|