رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
موقف المقريزى من اضطهاد المصريين بعد الفتح العربى لمصر
أولا : 1 ـ بعد الفتح العربى لمصر لم يعرف المصريون عن الاسلام إلّا الظلم والسلب والنهب والقتل وكل الذى أرساه عمر بن الخطّاب وعمرو بن العاص، ثم جرائم ولاة بنى أمية وبنى العباس. كان طبيعيا أن يكرهوا هذا الاسلام الذى عرفوا من خلاله كل هذا الظلم .ولكن أصحاب الدين الأرضى الشيعى الفاطمى تحبّبوا اليهم وشجعوهم بالمناصب فبدأ دخولهم فى ( التشيع ) على إنه الاسلام. ثم جاء الخليفة الفاطمى الحاكم فعصف بهم فدخل مصريون آخرون فى دين الخليفة الحاكم ليرضوا الخليفة الحاكم . وبالرغبة والرهبة دخلت أجيال مصرية فى الاسلام بالمفهوم الشيعى ثم بالمفهوم الصوفى السّنى بينما ظل الاسلام الحقيقى ـــ ولا يزال ـــ غريبا مجهولا للمصريين وغيرهم ، أصبح معزولا فى آيات القرآن التى جرى تأويلها وتحريف معانيها وتهميشها وتعطيلها والصّد عنها. وبداية من العصر الفاطمي دخل كثيرون من المصريين الأقباط الاسلام ؛ وبدأ يتقلّص عدد المصريين المتمسكين بدينهم الرافضين للاسلام ، وإنقسم المصريون الى أتباع لأديان أرضية مختلفة من ( مسلمين ) :سنة وتصوف و( أقباط ) : يعاقبة وملكيين. 2 ـ وفى العصور الوسطى تسيدت الأديان الأرضية والتجارة بها الشرق المسلم والغرب الأوربى المسيحى ، فكان التعصب الدينى والمذهبى والحروب الدينية من ملامح هذه العصور الظلامية .وبهذا تسلل التعصب الى الحياة المصرية بين عوام المصريين ( المسلمين والأقباط ). صحيح إنه لم يكن بنفس الحدّة التى كان فيها التعصب خارج مصر ، وصحيح أنه كان جملة إعتراضية وحوادث إستثنائية فى تاريخ مصر طويل ، ولكنه كان موجودا وتم تسجيله فى أحداث التاريخ متأثرا بالتعصب كثقافة عامة سائدة وبالتعصّب الذى قاده الحكام ( وهم غير مصريين ) وبالتعصب الذى كان يؤجّجه فقهاء متعصبون زائرون لمصر فيرون مظاهر التسامح ونفوذ بعض أرباب الوظائف من الأقباط فيثورون ويستخدمون إسم الاسلام لحث الحاكم على إضطهاد الأقباط . بالاضافة الى تعصب قبطى مضاد مفهوم ولا يمكن تجاهله ، وكان يعبّر عن نفسه لدى القبطى إذا وصل الى سلطة تتيح له الانتقام من المسلمين فلا يتردد فى إستغلالها ، مما يثير موجة من تعصب ( المسلمين ) . وقد تكرر هذا كوارث فى العصر المملوكى . 3 ـ ولكن العامل الأساس هنا هو موقف المثقفين وقتها من فقهاء ومؤرخين . الأغلب منهم كانوا أرباب وظائف ويتنافسون مع الأقباط فى الوصول للمناصب، وقد تعلموا من الفقه السّنى والشريعة السنية فريضة التعصب ضد غير المسلم وكراهيته ، وهذا كان ينعكس على كتاباتهم كمؤرخين وكفقهاء فتنضح تعصبا ضد الأقباط واليهود المصريين يباركون إضطهادهم بل يشجعون عليه. وحتى من كان منهم متحريا للعدل كالمقريزى فقد سار على طريقة ( عمر بن الخطاب ) ، أى تحرى العدل فيما يخصّ المسلمين فقط مع إستباحة حقوق غير المسلم . ومن هنا نجد المقريزى سليط اللسان فى نقد المماليك من سلاطين وأمراء يفضح ظلمهم ويكشف فجورهم ويتعاطف مع ضحايا الظلم المسلمين،ولكنه يؤيد الظلم عندما يقع على الأقباط واليهود بل ويتشفى فيهم. والمقريزى وعمر بن الخطاب وغيرهم قد عصوا رب العزة حين أمر جل وعلا بالعدل والاحسان ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغى والظلم ، كما عصوا أمره جلّ وعلا بمراعاة العدل مع الخصوم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) المائدة ). من أسف أن ترفع أمريكا شعار ( العدل للجميع ) وهو الذى يتفق مع تشريعات القرآن بينما بدأ الصحابة مبكرا وبعد موت خاتم النبيين فى إحلال الظلم مكان العدل فيما يعرف بالفتوحات .هى خطيئة كبرى ولكن الأفظع أنهم جعلوها شريعة إسلامية تربى عليها خلال قرون الفقهاء والمؤرخون ومنهم المقريزى . ثانيا: التدمير العام للكنائس المصرية عام 721 يقول المقريزى عن التدمير العام للكنائس المصرية فى وقت واحد عام 721 ثم لما كان يوم الجمعة تاسع شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وسبعمائة هدمت كنائس أرض مصر في ساعة واحدة ). ولم يعرف التنظيم السرى الذى قام بهذا التدمير فى كل أنحاء مصر ، وقد حققنا هذا الموضوع وكشفنا من كانوا وراءه فى كتابنا ( السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة ) وهو منشور هنا. وفى بحث آخر منشور عن إضطهاد الأقباط قدمنا تقريرا تاريخيا أحصى أهم أحداث هذا الاضطهاد من شتى المصادر التاريخية . ولكننا هنا نكتفى بنقل بعض ما ذكره المقريزى من كوارث إضطهاد للأقباط بعد العصر الفاطمى . ثالثا : كارثة 658 يقول المقريزى فى الخطط أخذ الوزير الأسعد شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي الجوالي من النصارى مضاعفة ) أى ضاعف الضرائب على النصارى ، وهذا نموذج لظلم قام به الحكّام . وقد يتحالف العوام مع السلطان فى إضطهاد النصارى ، يقول المقريزى وفي أيامه ثارت عوامّ دمشق وخربت كنيسة مريم بدمشق بعد إحراقها ونهب ما فيها ، وقَتل جماعة من النصارى بدمشق ونَهْب دورهم وخرابها في سنة ثمان وخمسين وستمائة ، بعد وقعة عين جالوت وهزيمة المغل.فلما دخل السلطان الملك المظفر قطز إلى دمشق قرّر على النصارى بها مائة ألف وخمسين ألف درهم جمعوها من بينهم وحملوها إليه بسفارة الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب أتابك العسكر. ) السبب أن بعض النصارى تحالف مع المغول الغزاة كيدا للمسلمين، لذا كان منتظرا أن ينتقم منهم السلطان والعوام بعد هزيمة المغول . رابعا : كارثة عام 682 1 ـ فى مصر حدثت كوارث بسبب التعصب من الطرفين ، ودفع الثمن الأقباط . كان الظلم المملوكى سائدا يقوم به المماليك وأعوانهم من أرباب الأعمال الادارية الديوانية والحسابية ، وتخصّص الأقباط فى الأعمال الكتابية والحسابات .وكانت العادة سكوت المسلمين عن ظلم المماليك وظلم أعوانهم الذين يتأسّون بأسيادهم المماليك فى الظلم والتجبّر على الناس. يختلف الحال لو كان ذلك الموظف قبطيا صاحب نفوذ ويتسلط به على المسلمين شأن رفاقه من الموظفين ـ هنا تحدث الكارثة . وهذا ما حدث عام 682 . 2 ـ يقول المقريزى وفي سنة اثنتين وثمانين وستمائة كانت واقعة النصارى. ومن خبرها أن الأمير سنجر الشجاعيّ كانت حرمته وافرة في أيام الملك المنصور قلاوون.فلما مات الملك المنصور وتسلطن من بعده ابنه الملك الأشرف خليل خدم الكتاب النصارى عند الأمراء الخاصكية ، وقوّوا نفوسهم على المسلمين ، وترفعوا في ملابسهم وهيآتهم ) هنا نحسّ التحامل من المقريزى على الموظفين الأقباط فى موضوع الزى وفى التكبر على عوام المسلمين ، مع أنه نفس ما يفعله كبار الموظفين المسلمين مع عوام المسلمين .ولكن أن يفعل ذلك قبطى يعتبره المقريزى ( كافرا ) فهذه كارثة،أو الطريق الى الكارثة . نستكمل الرواية مع المقريزى وكان منهم كاتب عند خاصكيّ يُعرف بعين الغزال).عين الغزال هذا هو بطل هذه الكارثة .يقول المقريزى عنه فصدف يومًا في طريق مصر سمسار شونة مخدومه ) أى لقى فى الطريق سمسارا يعمل عند الأمير المملوكى الذى يعمل عنده عين الغزال كاتبا ، وبالطبع كان هذا السمسار تحت سلطة الكاتب عين الغزال ، وكان السمسار ( المسلم ) قد تأخّر عليه مال للأمير ، ومن وظيفة الكاتب عين الغزال التفتيش عن الحسابات وما للأمير فى ذمة السمسار وغيره. وتقابل عين الغزال مع السمسار فى عرض الطريق ، وخاف السمسار من عين الغزال، يقول المقريزى فنزل السمسار عن دابته وقبَّل رجل الكاتب ) ، وكان تقبيل القدمين من واجب الأدنى منزلة نحو الأعلى منزلة حسب تقاليد هذا العصر ، وكان المفترض أن يرضى عين الغزال بتقبيل السمسار رجله ، ولكن حدث العكس ، يقول المقريزى : ( فأخذ يسبّه ويهدّده على مال قد تأخر عليه من ثمن غلة الأمير ) وقابل السمسار السّب والشتم بالاعتذار ولكن بلا جدوى ، يقول المقريزى عن السمسار وهو يترفق له ويعتذر ) ويقول عن عين الغزال ( فلا يزيده ذلك عليه إلاّ غلظة.) بل أمر عين الغزال غلاما عبدا له باعتقال السمسار أمام أعين الناس فى الطريق وأمر غلامه فنزل وكتّف السمسار ومضى به).وإزدحم الناس وهم يترجّون عين الغزال أن يعفو عن السمسار، وهو يأبى، وكلما سار تكاثر الناس حوله يترجونه،يقول المقريزى ( والناس تجتمع عليه حتى صار إلى صليبة جامع أحمد بن طولون ، ومعه عالم كبير ، وما منهم إلاّ من يسأله أن يخلي عن السمسار وهو يمتنع عليهم ) وفى النهاية تكاثر الجمهور وهجموا على عين الغزال وخلّصوا السمسار فتكاثروا عليه وألقوه عن حماره وأطلقوا السمسار.) فاستنجد عين الغزال بسيده الأمير المملوكى أو( أستاذه) بتعبير العصر وكان قد قرب من بيت أستاذه ، فبعث غلامه لينجده بمن فيه ، فأتاه بطائفة من غلمان الأمير وأوجاقيته فخلصوه من الناس وشرعوا في القبض عليهم ليفتكوا بهم ). وثارت الجماهير على الجنود المماليك قائلين بأسلوب الفقهاء بأن هذا لا يحلّ : ( فصاحوا عليهم : ما يحل )، ولم يستمع لهم الجند ، فذهبوا بمظاهرة أمام القلعة يستنجدون بالسلطان المملوكى الأشرف خليل ومرّوا مسرعين إلى أن وقفوا تحت القلعة واستغاثوا نصر الله السلطان) أى صاحوا : نصر الله السلطان، فسمعهم، وعرف منهم أصل الموضوع: ( فأرسل يكشف الخبر، فعرّفوه ما كان من استطالة الكاتب النصرانيّ على السمسار وما جرى لهم.) فغضب السلطان مروّعا وأمر بقتل كل النصارى، يقول المقريزى فطلب عين الغزال ورسم للعامّة بإحضار النصارى إليه، وطلب الأمير بدر الدين بيدرا النائب والأمير سنجر الشجاعيّ وتقدّم إليهما بإحضار جميع النصارى بين يديه ليقتلهم) ، هكذا بكل بساطة ، قتل جميع النصارى .!!. فقام الأميران بتهدئة السلطان فاكتفى بطردهم من وظائفهم فما زالا به حتى استقرّ الحال على أن ينادي في القاهرة ومصر أن لا يخدم أحد من النصارى واليهود عند أمير. ) أكثر من هذا أمر السلطان الأمراء بإرغام الكتبة الأقباط عندهم على الاسلام ، وقتل من يرفض منهم ، يقول المقريزى وأمر الأمراء بأجمعهم أن يعرضوا على من عندهم من الكتاب النصارى الإسلام ، فمن امتنع من الإسلام ضربت عنقه ، ومن أسلم استخدموه عندهم . ورسم للنائب بعرض جميع مباشري ديوان السلطان ويفعل فيهم ذلك).وأعلن السلطان هذه الأوامر فاختفى الأقباط الكتبة خوف الاعتقال تاركين منازلهم، فنهبها العوام المسلمون بل وسبوا واسترقوا نساءهم ، يقول المقريزى فنزل الطلب لهم وقد اختفوا، فصارت العامة تسبق إلى بيوتهم وتنهبها،حتى عمّ النهب بيوت النصارى واليهود بأجمعهم، وأخرجوا نساءهم مسبيات وقتلوا جماعة بأيديهم ). وخشية الفوضى تدخل نائب السلطان بكفّ العوام عن السلب والنهب والقتل، يقول المقريزى فقام الأمير بيدرا النائب مع السلطان في أمر العامّة، وتلطف به ، حتى ركب وإلى القاهرة ونادى:من نهب بيت نصراني شُنق. وقبض على طائفة من العامة وشهرهم بعدما ضربهم فانكفوا عن النهب ، بعدما نهبوا كنيسة المعلقة بمصر وقتلوا منها جماعة.). ولكن صمّم السلطان الأشرف خليل على إكراه الكتبة الأقباط العاملين لديهم على دخول الاسلام ، وإلّا فالقتل ، وتم جمعهم بحضور السلطان فأمر بحفروا حفرة كبيرة لهم أمام القلعة ليحرق فيها من يرفض دخول الاسلام.يقول المقريزى ثم جمع النائب كثيرًا من النصارى كتاب السلطان والأمراء، وأوقفهم بين يدي السلطان عن بعد منه ، فرسم للشجاعيّ ( أى أمر السلطان الأمير الشجاعى ) وأمير جاندار أن يأخذا عدة معهما وينزلوا إلى سوق الخيل تحت القلعة ويحفروا حفيرة كبيرة ويلقوا فيها الكتاب الحاضرين ويضرموا عليهم الحطب نارًا ، فتقدّم الأمير بيدرا وشفع فيهم ، فأبى أن يقبل شفاعته وقال: "ما أريد في دولتي ديوانًا نصرانيًا"، فلم يزل به حتى سمح بأن من أسلم منهم يستقر في خدمته ومن امتنع ضربت عنقه. فأخرجهم إلى دار النيابة وقال لهم: يا جماعة ما وصلت قدرتي مع السلطان في أمركم إلاّ على شرط وهو أن من اختار دينه قُتل ومن اختار الإسلام خلع عليه وباشر) أى باشر وظيفته كالمعتاد، فأسلموا رسميا .ويقول المقريزى معلّقا فصار الذليل منهم بإظهار الإسلام عزيزًا ، يبدي من إذلال المسلمين والتسلط عليهم بالظلم ما كان يمنعه نصرانيته من إظهاره.)أى أصبح أولئك المسلمون الجد أكثر نفوذا وأكثر جرأة فى ظلم المسلمين المحكومين. ويقول المقريزى ( وما هو إلا كما كتب به بعضهم إلى الأمير بيدرا النائب: أسلمَ الكافرونَ بالسيفِ قهرًا وإذا ما خلوا فهُم مُجرمونا سلِموا مِن رواحِ مال وروحٍ فهم سالِمون لا مُسلمونا .) 5 ـ رابعا : كارثة عام 700 : وتكررت نفس المأساة ، وبطلها وزير زائر أتى من المغرب ، ففوجىء بنفوذ الكتبة الأقباط ، فأخذ يثير عليهم المماليك حتى حدثت المأساة. ننقل الرواية عن المقريزى آملين أن يتفهم القارىء أسلوبه، يقول : ( وفي أخريات شهر رجب سنة سبعمائة قدم وزير متملك المغرب إلى القاهرة حاجًا ، وصار يركب إلى الموكب السلطانيّ وبيوت الأمراء ، فبينما هو ذات يوم بسوق الخيل تحت القلعة إذا هو برجل راكب على فرس وعليه عمامة بيضاء وفرجية مصقولة وجماعة يمشون في ركابه وهم يسألونه ويتضرّعون إليه ويقبلون رجليه، وهو معرض عنهم وينهرهم ويصيح بغلمانه أن يطردوهم عنه. فقال له بعضهم : "يا مولاي الشيخ بحياة ولدك النشو تنظر في حالنا " ،فلم يزده ذلك إلاّ عتوًّا وتحامقًا . فرقّ المغربيّ لهم ، وهمّ بمخاطبته في أمرهم ، فقيل له:" وأنه مع ذلك نصراني" ، فغضب لذلك ،وكاد أن يبطش به ،ثم كف عنه ، وطلع إلى القلعة ، وجلس مع الأمير سلار نائب السلطان والأمير بيبرس الجاشنكير، وأخذ يحادثهم بما رآه ، وهو يبكي رحمة للمسلمين بما نالهم من قسوة النصارى ، ثم وعظ الأمراء وحذرهم نقمة الله وتسليط عدوّهم عليهم ( بسبب ) من تمكين النصارى من ركوب الخيل وتسلطهم على المسلمين وإذلالهم إياهم وأن الواجب إلزامهم الصَغَار ( أى التحقير ) وحملهم على العهد الذي كتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، فمالوا إلى قوله ، وطلبوا بطرك النصارى وكبراءهم ، وديّان اليهود(أى الحبر الأكبر ) ، فجمعت نصارى كنيسة المعلقة ونصارى دير البغل ونحوهم ، وحضر كبراء اليهود والنصارى ، وقد حضر القضاة الأربعة ، وناظروا النصارى واليهود . فأذعنوا إلى التزام العهد العمريّ . وألزم بطرك النصارى طائفته النصارى بلبس العمائم الزرق وشد الزنار في أوساطهم ومنعهم من ركوب الخيل والبغال والتزام الصّغار ( أى التحقير )، وحرّم عليهم مخالفة ذلك أو شيء منه ، وأنه بريء من النصرانية إن خالف. ثم اتبعه ديّان اليهود بأن أوقع الكلمة على من خالف من اليهود ما شرط عليه من لبس العمائم الصفر والتزام العهد العمريّ وكتب بذلك عدّة نسخ سيرت إلى الأعمال . فقام المغربيّ في هدم الكنائس ، فلم يمكنه قاضي القضاة تقيّ الدين محمد بن دقيق العيد من دْلك ، وكتب خطه بأنه لا يجوز أن يهدم من الكنائس إلاّ ما استجد بناؤه، فغلقت عدّة كنائس بالقاهرة ومصر مدّة أيام. فسعى بعض أعيان النصارى في فتح كنيسة حتى فتحها ، فثارت العامة ووقفوا للنائب والأمراء واستغاثوا بأن النصارى قد فتحوا الكنائس بغير إذن ، وفيهم جماعة تكبروا عن لبس العمائم الزرق واحتمى كثير منهم بالأمراء . فنودي في القاهرة ومصر أن يلبس النصارى بأجمعهم العمائم الزرق ويلبس اليهود بأسرهم العمائم الصفر ومن لم يفعل ذلك نُهب ماله وحُلّ دمه. ومنعوا جميعًا من الخدمة في ديوان السلطان ودواوين الأمراء حتى يُسلموا ، فتسلطت الغوغاء عليهم ، وتتبعوهم ، فمن رأوه بعْير الزيّ الذي رسم به ضربوه بالنعال وصفعوا عنقه حتى يكاد يهلك ، ومن مرّ بهم وقد ركب ولا يثني رجله ألقوه عن دابته وأوجعوه ضربًا،فاختفي كثير منهم.وألجأت الضرورة عدة من أعيانهم إلى إظهار الإسلام أنفة من لبس الأزرق وركوب الحمير.) ويختم المقريزى الرواية بقوله: ( وقد أكثر شعراء العصر في ذكر تغيير زيّ أهل الذمّة ، فقال علاء الدين علي بن مظفر الوداعي: لقد ألزمَ الكُفارُ شاشاتَ ذلة تزيدُهُم من لعنةِ اللَّهِ تشويشا فقلتُ لهم ما ألبسوكُم عمائمًا ولكنهم قد ألزموكُم براطيشا وقال شمس الدين الطيبي: تعجبوا للنصارى واليهودِ معًا والسامريينَ لما عُمموا الخرقا كأنما باتَ بالأصباغِ منسهلًا نسرُ السماء فأضحى فوقهم زَرَقا ) وتدخل ملك برشلونة الاسبانى : ( فبعث ملك برشلونة في سنة ثلاث وسبعمائة هدية جليلة زائدة عن عادته عمّ بها جميع أرباب الوظائف من الأمراء مع ما خص به السلطان وكتب يسأل في فتح الكنائس فاتفق الرأي على فتح كنيسة حارة زويلة لليعاقبة وفتح كنيسة البندقانيين من القاهرة ..) ولم يلبث أن عاد الحال لما كان عليه ، أى عودة الكتبة الأقباط الى نفوذهم المستمد من الظلم المملوكى بما يؤدى الى حنق العوام والفقهاء فتتكرر الكارثة . 6 ـ خامسا : كارثة عام 755 : بعد الكارثة السابقة بنصف قرن تقريبا كان الشارع المسلم قد تشبع أكثر بالتعصّب السنى وخصوصا أن عاد الأقباط الى مناصبهم ، وتناسى الناس ( هوجة ) السلطان الأشرف خليل السابقة، ولكن بذرة التعصب الكامنة كان قد أنبتت ثمرات خبيثة أشعلت كارثة عام 755 . يقول المقريزى وفي سنة خمس وخمسين وسبعمائة رسم بتحرير ما هو موقوف على الكنائس من أراضي مصر، فأناف على خمسة وعشرين ألف فدان . وسبب الفحص عن ذلك كثرة تعاظم النصارى وتعدّيهم في الشرّ والإضرار بالمسلمين ،) يا ترى ما هو التعدّى فى الشّر وما هو الإضرار الذى أوقعه الأقباط بالمسلمين ؟ ، المقريزى يشرح ( جرائم الأقباط ) فيقول: ( لتمكنهم من أمراء الدولة وتفاخرهم بالملابس الجليلة والمغالاة في أثمانها والتبسط في المآكل والمشارب وخروجهم عن الحدّ في الجرأة والسلاطة .) أى هو حسد لكبار الموظفين الأقباط ونفوذهم وثرائهم والنعيم الذى يعيشون فيه، مع أنّ هذا كله متاح لزملائهم الموظفين المسلمين وأكثر منه لدى المماليك المسلمين . ولكن نظرة الاستعلاء إمتزجت بالحقد والحسد لتمتع موظف بعينه لأنه من الأقلية القبطية المقهورة .يقول المقريزى إلى أن اتفق مرور بعض كتاب النصارى على الجامع الأزهر من القاهرة وهو راكب بخف ومهماز وبقباء إسكندريّ طُرح على رأسه، وقدامه طرّادون يمنعون الناس من مزاحمته، وخلفه عدّة عبيد بثياب سرية على أكاديش فارهة، ) ثار الحقد والحسد عند رؤية موظف قبطى يسير فى موكبه ـ شأن أمثاله من الموظفين المسلمين . ولكن هذا شقّ وصعُب على المسلمين المتعصبين ، يقول المقريزى : ( فشق ذلك على جماعة من المسلمين ، وثاروا به وأنزالوا عن فرسه ، وقصدوا قتله ، وقد اجتمع عالم كبير، ثم خلوا عنه . وتحدّث جماعة مع الأمير طاز في أمر النصارى وما هم عليه فوعدهم بالإنصاف منهم ، فرفعوا قصة ( شكوى ) على لسان المسلمين ، قُرئت على السلطان الملك الصالح صالح بحضرة الأمراء والقضاة وسائر أهل الدولة، تتضمن الشكوى من النصارى وأن يعقد لهم مجلس ليلتزموا بما عليهم من الشروط ، فرسم بطلب بطرك النصارى وأعيان أهل ملتهم وبطلب رئيس اليهود وأعيانهم ، وحضر القضاة والأمراء بين يدي السلطان ، وقرأ القاضي علاء الدين عليّ بن فضل الله كاتب السرّ العهد الذي كتب بين المسلمين وبين أهل الذمّة ، وقد أحضروه معهم حتى فرغ منه ، فالتزم من حضر منهم بما فيه وأقرّوا به) أى أقر رؤساء النصارى واليهود ( بجرائمهم ) ولكن هذا لم يرض قادة ( المسلمين ) فعدّدوا ( جرائم النصارى واليهود ) ، يقول المقريزى : ( فعدّدت لهم أفعالهم التي جاهروا بها وهم عليها وأنهم لا يرجعون عنها غير قليل ثم يعودون إليها ، كما فعلوه غير مرّة فيما سلف ، فاستقرّ الحال على أن يمنعوا من المباشرة بشيء من ديوان السلطان ودواوين الأمراء ولو أظهروا الإسلام ،وأن لا يُكره أحد منهم على إظهار الإسلام ، ويُكتب بذلك إلى الأعمال.). هذا الظلم الذى يتضح فى هذه القرارات ضد أهل الكتاب كان بلا سبب ، ولكنه صار سببا ومبررا لظلم أشنع قام به عوام المسلمين متشجعين بتلك القرارات الظالمة ، يقول المقريزى : ( فتسلطت العامّة عليهم وتتبعوا آثارهم وأخذوهم في الطرقات وقطعوا ما عليهم من الثياب وأوجعوهم ضربًا ولم يتركوهم حتى يُسلموا ، وصاروا يضرمون لهم النار ليلقوهم فيها ، فاختفوا في بيوتهم ، ولم يتجاسروا على المشي بين الناس ، فنودي بالمنع من التعرض لأذاهم ، فأخذت العامّة في تتبع عوراتهم وما علوه من دورهم على بناء المسلمين فهدموه . واشتدّ الأمر على النصارى باختفائهم حتى أنهم فقدوا من الطرقات مدّة فلم ير منهم ولا من اليهود أحد . فرفع المسلمون قصة قرئت في دار العدل في يوم الاثنين رابع عشر شهر رجب تتضمن أن النصارى قد استجدّوا عمارات في كنائسهم ووسعوها . هذا وقد اجتمع بالقلعة عالم عظيم واستغاثوا بالسلطان من النصارى ، فرسم بركوب والي القاهرة وكشفه على ذلك ، فلم تتمهل العامّة ومرّت بسرعة، فخرّبت كنيسة بجوار قناطر السباع وكنيسة بطريق مصر للأسرى وكنيسة الفهادين بالجوّانية من القاهرة ودير نهيا من الجيزة وكنيسة بناحية بولاق التكروري، ونهبوا حواصل ما خرّبوه من ذلك ، وكانت كثيرة وأخذوا أخشابها ورخامها ،وهجموا على كنائس مصر والقاهرة . ولم يبق إلاّ أن يخرّبوا كنيسة البندقانيين بالقاهرة ، فركب الوالي ومنعهم منها . واشتدت العامة وعجز الحكام عن كفهم . وكان قد كُتِبَ إلى جميع أعمال مصر وبلاد الشام : أن لا يُستخدمَ يهوديّ ولا نصراني ولو أسلم ، وأنه من أسلم منهم لا يمكن من العبور إلى بيته ولا من معاشرة أهله إلاّ أن يُسلموا ، وأن يُلزم من أسلم منهم بملازمة المساجد والجوامع لشهود الصلوات الخمس والجمع ، وأنّ من مات من أهل الذمة يتولى المسلمون قسمة تركته على ورثته، إن كان له وارث وإلاّ فهي لبيت المال .وكان يلي ذلك البطرك . وكتب بذلك مرسوم قرئ على الأمراء ، ثم نزل به الحاجب فقرأه في يوم الجمعة سادس عشري جمادى الآخرة بجوامع القاهرة ومصر، فكان يومًا مشهودًا. ثم أحضر في أخريات شهر رجب من كنيسة شبرا بعدما هدمت إصبع الشهيد الذي كان يُلقى في النيل حتى يزيد بزعمهم . وهو في صندوق فأحرق بين يدي السلطان بالميدان من قلعة الجبل وذرى رماده في البحر خشية من أخذ النصارى له. فقدمت الأخبار بكثرة دخول النصارى من أهل الصعيد والوجه البحريّ في الإسلام وتعلمهم القرآن ، وإن أكثر كنائس الصعيد هُدمت وبُنيت مساجد ، وأنه أسلم بمدينة قليوب في يوم واحد أربعمائة وخمسون نصرانيًا ، وكذلك بعامة الأرياف مكرًا منهم وخديعة ، حتى يُستخدموا في المباشرات وينكحوا المسلمات . فتم لهم مرادهم واختلطت بذلك الأنساب حتى صار أكثر الناس من أولادهم . ولا يُخفي أمرهم على من نوّر الله قلبه ، فإنه يُظهر من آثارهم القبيحة إذا تمكنوا من الإسلام وأهل ما يَعرف به الفطن سوء أصلهم وقديم معاداة أسلافهم للدين وحملته. ). أخيرا 1 ـ يضيق الصدر عن التعليق . ولكن التوقف مع ما سجّله المقريزى مهم جدا ، لأن العوام إذا جرى تعبئتها بالتعصب فهو هلاك للوطن . حقيقة الأمر إننا نشهد إرهاصات فى مصر الآن لاستعادة نفس الكوارث .. فنحن لم نتوقف مع المقريزى وتعصبه عبثا أو للتسلية .. ولكن للتنبيه على خطورة ثقافة التعصب لدى مثقفين ليبراليين كالمقريزى .. تراهم يهاجمون الظلم والظالم طالما كان المظلوم مسلما ، فإن كان المظلوم غير مسلم باركوا ظلمه وشجعوا الظالمين على مزيد من الظلم له لأنّ هذا المظلوم عندهم كافر وليس على ملتهم . 2 ـ موعدنا فى الحلقة الأخيرة مع ثقافة الكيل بمكيالين لدى المثقفين المسلمين فى تعاملهم مع الأقباط من المقريزى الى عصرنا البائس . |
|