لاهوته لصالح ناسوته
إن استخدام السيد المسيح لاهوته من أجل التخلص من ألم الجوع، فالتدرج الذي يريده الشيطان هو أن يتخلص المسيح بلاهوته من كل ألم، بما في ذلك آلام الصلب. ويتحول التجسد والفداء إلى شكليات..
أما السيد المسيح فاستطاع أن يبت في الموضوع من أوله. ولم يستخدم لاهوته مطلقًا لأجل راحة ناسوته. لا على جبل التجربة، ولا على الصليب، ولا كل فترة تجسده على الأرض. وهكذا جاع وعطش وتعب ونام. وتصبب عرقه كقطرات دم (لو 22: 44).. إذن لم تكن التجربة هي مجرد استخدام لاهوته لمنع الجوع، إنما لمنع الفداء كلية. لأنه لو لم يتألم لأجلنا، ما كان فداء.. بل لتحول الأمر إلى خدعة كبرى.
لكن السيد المسيح كما جاع على جبل التجربة، كذلك فإنه على الصليب قال أنا عطشان (يو 19: 28).
كان ناسوته يدفع الثمن كله.. وكانت نار العدل الإلهي تشتغل في المحرقة، حتى تحولها إلى رماد (لا 6: 10). من أجل هذا قال: "إلهى إلهى، لماذا تركتنى" (مت 27: 46). أي أن لاهوته تركه للألم، لم يتدخل لمنع الألم عنه، ليتم الفداء. إن السيد المسيح يمكن أن يستخدم لاهوته من أجل راحة الناس، وليس من أجل راحته هو..
وهكذا كان يشفى المرضى البرص، ويفتح أعين العميان، ويخرج الشياطين من المصروعين.. يجول يصنع خيرًا. ولكن لا يستخدم المعجزة ليشبع حسده..
لقد رفض السيد المسيح استخدام معجزة الخبز لأجل نفسه. ورفض أيضًا استخدام الخبز للكرازة ونشر الإيمان. فهذا هبوط بمستوى وسائل الإيمان. فالإيمان يتعلق بالروح والقلب والفكر. وليست وسيلته الجسد والطعام.أنه يمكن أن يقدم الخبز بدافع الحب والإشفاق عليهم كجياع. ولكن ليس ثمنًا للإيمان.
كان الشيطان يهدف في استخدام الخبز لنشر الإيمان، إنما يغرى بسهولة الخدمة.
أنه فيما يتحدث عن الخبز، إنما يريد أن يلبس المادة ثوبًا روحيًا من حيث أهميتها في جذب الناس ونشر الملكوت،فتصبح الخدمة سهلة وأكثر قبولًا وكأنه يقول "لو ملأتم الدنيا خبزًا، لأحبكم الناس وساروا وراءكم، فينتشر الملكوت، ويقبل الناس الإيمان. ولكن هذا الأمر كانت له مساوئه بلاشك. فإن الذين يقبلون إلى الإيمان عن طريق الخبز، لاشك أنهم سيتركون الإيمان إذا انقطع الخبز عنهم
كذلك فإن السيد رفض فكرة سهولة الخدمة..
فالذي يتعب في نشر الملكوت، إنما يدل على محبته للملكوت وبذله من أجله، وسوف يكافئه الرب على بذله وجهده "وكل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه" (اكو 3: 8). ولابد أن يحمل كل إنسان صليبه في طريق الملكوت (مت 10: 38) (مت 16: 24).
أما من جهة رد المسيح على تجربة الخبز، فهي أنه قال للشيطان:
مكتوب: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله (مت 4: 4).
إنه لم يرد على الشيطان ردًا مباشرًا. لم يرد على عبارة "لو كنت ابن الله". لم يقل للشيطان: ما هدفك من السؤال؟ لماذا تسأل؟ هل أنت في شك؟ ولماذا تحتاج إلى معجزة بينما أنت قد رأيت المعجزة وقت العماد وسمعت شهادة الآب وشهادة يوحنا؟
وبالمثل، لم يرد أيضًا على اقتراح تحويل الحجارة إلى خبز.
إن الشيطان يريد أن ينقله بالحديث عن الخبز، إلى ميدانه المادي. فتجاهل المسيح هذا، ونقله إلى الميدان الروحي.
نقله إلى الطعام الروحي الذي تحيا به الأرواح، فقال له "مكتوب ليس بالخبز يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله".
وإن الطبيعة البشرية ليست مجرد جسد، بل هي جسد، وأيضًا روح. فإن كان الجسد يحتاج إلى الخبز، فالروح تحتاج في فدائها إلى كل كلمة تخرج من فم الله.. وهنا أيضًا وضع الرب أمامنا غذاء للروح هو الكتاب المقدس. أما بالنسبة إلى الشيطان، فكأن الرب يوبخه بطريقة هادئة وهى: لماذا تركز على الجسد والخبز، وتنسى الروح، بينما أنت روح؟
ثم هل يليق بنا أن نتكلم عن الخبز وعن طعام الجسد، بعد أربعين يومًا من الصوم.
وإنفراد مع الآب؟
أين هي ثمرة الصوم إذن؟ أتريده صومًا بلا ثمر؟ أم تريد أن تعكر روحياته بالحديث عن الخبز فلنحول الحديث إذن إلى الروحيات، لأن الحديث عن الخبز والجسد لا مجال له معي.
موضوع الخبز والمادة والجسد، سد المسيح أبوابه أمام الشيطان.
ولم يفتح له مجالًا للحديث فيه.
نسد الأبواب أمام الشيطان في كل موضوع غير روحي يقترحه. إننا لسنا ملزمين أن نتناقش معه في أي موضوع يعرضه. بل ينبغى أن نسكته. فلا يستمر أو يتمادى في موضوع مادي، بأن نحول كلامه أو أفكاره إلى موضوع روحي.
أما الآية التي قالها السيد المسيح، فقد اقتبسها من سفر التثنية (تث 8: 3). (وتحمل دروسًا روحية لنا):
1- نتذكر الآباء والأمهات الذين يكون كل اهتمامهم لطعام أبنائهم وتربية أجسادهم، دون أن يهتموا مطلقًا بأرواحهم. كما لو كانوا قد أنجبوا أجسادًا فقط بدون أرواح، شاعرين أن واجبهم الأساسي هو إطعام هؤلاء الأولاد.. وفي سبيل ذلك قد يمنعونهم عن الصوم خوفًا على صحتهم الجسدية..
2- مثال آخر: مكاتب الخدمة الاجتماعية في الكنائس، التي تبذل كل جهدها في طعام الفقراء، دون أي اهتمام بأرواحهم...
3- مثال ثالث: وهو أنه بسبب الاهتمام بالخبز يكسرون وصايا الله. قد لا يدفعون العشور ولا البكور ولا كل حقوق الله في أموالهم، لأنهم محتاجون إلى هذه النقود من أجل لقمة العيش. وقد يشغلون أنفسهم مشغولية تأخذ كل الوقت من أجل الحصول على أجور أضافية لازمة للقمة العيش.. وهكذا يمنعون أنفسهم عن الكنيسة والإجتماعات والقراءات والتأمل والخلوة وكل الوسائل الروحية في سبيل الحصول على المال. كل هؤلاء يقول لهم السيد المسيح ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
وهنا يضع أمامنا السيد المسيح أسلوبًا روحيًا في محاربة الشيطان وهو:
الرد على المحاربة بآية:
جميل أن ترد على الشيطان بآيات من الكتاب، لأن "كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذى حدين" (عب 4: 12)
لذلك إن كنت مُحَارَبًَا بالغضب، اجمع كل الآيات التي هي ضد الغضب وضعها في ذهنك، واحفظها، ورددها كلما حوربت.. وإن كنت محاربًا بأخطاء اللسان افعل هكذا أيضًا. وكذلك في كل حروبك الروحية. المسيح رد على الشيطان بآية فأسكته. لذلك انتقل الشيطان إلى تجربة أخرى محاولًا أن يستخدم الآيات أيضًا.