آثار قديمة اكتُشفت أثناء التنقيب والترميم
لقطات للدير
رسوم جدارية بكنائس الدير
رسوم جدارية بكنائس الحصن الأثري
أيقونات قديمة وحديثة بالدير
لقطات للدير من الداخل
بداية دير القديس أنبا مقار
انحدر القديس مقاريوس من شمال وادي النطرون إلى أقصى جنوبه بعد أن اكتظت المنطقة الشمالية بالمتوحدين وكان قد ابتنى لهم كنيسة وترك لهم تلميذه بفنوتيوس يدبر حياتهم. وكان ذلك حوالي سنة 360م. حينما كان عمره قد بلغ الستين عاماً.
وهنا في جنوب الوادي وعلى طرف السطح الصخري حفر لنفسه مغارة ذات سرداب طويل ينتهي بمغارة أخرى سرية يلتجئ إليها، ليتحاشى مقابلة الزائرين، لأنه كان محباً للوحدة والسكون إلى أقصى حد (قد عثر الدير أخيراً على مغارة القديس ذات السرداب ).
ولكن سرعان ما تكاثر تلاميذه وتجمعوا في مجموعات وبنوا مساكن متفرقة تدعى "منشوبيات" وهي كلمة قبطية تفيد معنى السكن التجمعي أو الفردي. وقد بدأوا فرادى ثم ازداد عددهم جداً حتى صاروا عدة ألوف.
وكان لا يجمعهم معاً إلا حضور الكنيسة الأسبوعي في يومي السبت والأحد لسماع التعليم والتناول من القربان المقدس.
أهم المعالم الأثرية في دير أنبا مقار ...
كان همنا الأول أثناء عمارة الدير وترميمه الحفاظ على كل أثر قديم في الدير مهما قلَّت قيمته، بل وقد اكتشفنا أثناء الحفر وأثناء إزالة الجدران الحديثة بعض الأجزاء المعمارية والقطع الرخامية الأثرية القيمة التي كانت مطموسة داخل الأسوار أو خلف الطبقات الحديثة من البياض الجبسي السميك أو تحت التراب.
فمثلاً عند دخولك الدير ونزولك على السلالم الكبيرة للوصول إلى كنيسة أنبا مقار ستعبر من تحت قوس أثري عظيم من الطوب الأحمر الجميل، وهو عبارة عن مقوصرة arch ضخمة، كانت هي المدخل البحري القديم لكنيسة أنبا مقار فيما قبل القرن التاسع، ويرجح أنها من القرن السابع لأنها على نمط مقوصرة هيكل أنبا بنيامين الذي أُقيم في زمان البابا بنيامين (البطريرك 38) في منتصف القرن السابع، أي يقدر عمرها بأكثر من 1300 سنة. وقد عثرنا عليها أثناء إزالة طبقات السور الذي بُدئ ببنائه وتعليته حول الكنيسة منذ القرن الرابع عشر، وما أُضيف على هذا السور من طبقات ساندة أخرى خارجية ملاصقة بُنيت في القرون الحديثة، نظراً لتداعيه بسبب إقامة مراحيض تحته مباشرة.
ولقد بذلنا مجهوداً فنياً لا يُصدَّق إستغرق ستة أشهر حتى استطعنا أن نحصر هذا القوس الأثري العظيم المتداعي في كل أجزائه، نحصره بطبقة حاملة من الخرسانة المسلحة من أسفله ومن أعلاه، ونضمه من جانبيه بدعامتين من الخرسانة المسلحة ذات مدادات أرضية وكتفين من الحجر الضخم لحفظ توازنه، بعد أن كشفناه من كل ناحية وفرغنا داخله من المباني التي كانت تسده. هذا الأمر الذي لما اطلع عليه مهندسو الآثار تعجبوا كيف وقف لنا هذا القوس طائعاً مستسلماً وهو متهالك، ثم كيف ضبطناه هكذا بهذه القوة. ولكن السر في هذا وفي غيره، كانت الصلوات الكثيرة التي قدمناها لله من أجل انفتاح البصيرة والمعونة الإلهية.
(1)كنيسة أنبا مقار :
أ- هيكل أنبا مقار
أثر خالد بدأت نواته الأولى سنة 360م جذب إليها الأجيال المتلاحقة، والذي منه انطلقت إلى السماء مئات الألوف من النفوس التقية لتكميل شهادتها للمسيح في السماء بعد أن شهدت في الأرض.
أُعيد بناؤها في أيام البابا بنيامين (البطريرك 38) في زمن دخول العرب، ودشنها هذا البابا بدعوة من شيوخ البرية سنة 655م، ولا يزال هيكلها الكبير المعروف بهيكل أنبا مقار بقبته الضخمة قطر 8متر على طوبة واحدة، ويدعى أيضاً باسم "هيكل أنبا بنيامين" منذ يوم دشنه حتى اليوم. ولكن قبته تساقطت عدة مرات ورُممت عدة مرات، والناظر إليها بتدقيق يستطيع أن يعد مرات السقوط والترميم لاختلاف لون "المونة".
والكنيسة الآن لا تحمل من أجزائها الأثرية الأولى سوى هيكل أنبا بنيامين وهيكل يوحنا المعمدان (أو مارمرقس) فقط.
- هيكل يوحنا المعمدان (أو مارمرقس)
سمى كذلك لأن جسد يوحنا المِعمدان الذي حُمل من فلسطين في أيام القديس أنبا أثناسيوس الرسولي، ودُفن في الإسكندرية، ثم نُقل منها ودُفن في دير أنبا مقار أيام الإضطهاد. وقد عثرنا أثناء حفر أرضية الخورس الأول وأمام هذا الهيكل وعلى مسافة تحت الأرض على قبو من الطوب القديم وتعمقنا أسفله فوجدنا هذه الرفات الطاهرة ورفعناها مع باقي عظام أخرى وتابوت به هيكل جسدي كامل. وقد أصدر الدير تقريراً وافياً تفصيلياً عن هذا الكشف الأثري وكافة الدلائل التاريخية القديمة.
ولما حُملت رأس القديس مارمرقس ودُفنت في هذا الهيكل، حملت الكنيسة كرامة رسولية من ذلك التاريخ وسميت بالكنيسة الجامعة. وأصبح إسم مارمرقس يتبادل مع إسم يوحنا المعمدان لهذا الهيكل.
والباحث المدقق يلاحظ تلازم وجود جسدي يوحنا المعمدان ومارمرقس الرسول في هيكل واحد في دير القديس أنبا مقار، يرادفه توارد هذين الإسمين الكريمين في القداس في بداية المجمع، مما يشير إلى أن "المجمع" من وضع رهبان دير القديس أنبا مقار.
ولا تزال الصور الرائعة التي زُيِّن بها هيكل يوحنا المعمدان تحتفظ بألوانها الزاهية ودقتها المتناهية رغم سقوط قبته وبقائه في العراء عدة مئات من السنين.
ج- أجساد القديسين
(1) أجساد المقارات الثلاث وأنبا يؤانس القصير:
أما المقارات الثلاث فهم: المصري المدعو بالكبير، والإسكندراني، المدعو بالمدني (نسبة إلى المدينة العظمى الإسكندرية)، وأسقف ادقاو الشهيد (ادقاو مدينة بجوار أسيوط).
وتُرسم هذه الشخصيات المكرمة في الأيقونات الأثرية هكذا:
- أنبا مقار الكبير المصري حاملاً صليباً (رمز الجهاد والإماتة وبذل الذات).
- أنبا مقار الإسكندراني حاملاً سلماً (رمز شغفه باقتناء الفضائل على درجات).
- أنبا مقار أسقف ادقاو حاملاً على ذراعيه حَمَلاً صغيراً (باعتباره راعياً وباعتباره شهيداً سيق إلى الذبح كسيده لذلك ترسم ثيابه بيضاء اللون).
وقد أجرى الله معجزات كثيرة بتشفعات هؤلاء القديسين على مدى العصور والسنين حتى يومنا هذا.
أما جسد أنبا يؤانس القصير، فقد تم نقله إلى مقصورة خاصة به في كنيسة الشهيد أبا سخيرون، والقديس يؤانس القصير هو إبن أنبا مقار من الرعيل الثاني، ورئيس جماعة الرهبان العظيمة التي كانت تتبعه. وكان مشهوراً بإتضاعه وأبوته الحكيمة. ومقر رهبانيته كان جنوب غرب دير أنبا مقار بمقدار 15 كيلومتراً. ولما تخرَّب ديره نقلوا جسده إلى دير القديس أنبا مقار.
(2) أجساد البطاركة:
وعددهم بحسب جدول البطاركة ما يقرب من ستة عشر من البابوات وكلهم رهبان الدير أصلاً، وقد أوصوا بدفن أجسادهم في ديرهم، لا تعصباً للمكان ولكن تفاؤلاً بقربهم من شفيعهم وأبيهم الأول، وحنيناً منهم إلى موطن جهادهم ودموعهم وسهرهم في شبابهم "لأن عبيدك قد سُرُّا بحجارتها وحنوا إلى ترابها" (مز 102: 14).
وكانت الأجساد - سواء التي للشهداء التسعة والأربعين أو البطاركة - في العصور الأولى إلى ما قبل القرن الثالث عشر خارج أسوار الدير فيدير صغير لهم بقرب دير زكريا (أنظر كتاب طبخ الميرون)، ولكن بعد أن تجمع الرهبان داخل الأسوار أدخلوا الأجساد معهم وظلت تنتقل من مكان لمكان إلى أن قمنا بجمعها معاً في مقصورة واحدة في الخورس الثاني لكنيسة أنبا مقار. ويبدو أن هذا المقصورة كانت في السابق مبنية لهذا الغرض لأن موقعها هو فوق القبو تحت الأرض الذي عثرنا فيه على عظام أليشع النبي ويوحنا المعمدان، كما وجدنا تابوتاً كاملاً لجسد محنط كامل مدثراً في ملابس الخدمة.
كنيسة الشهداء التسعة والأربعين شيوخ شيهات:
من حيث المبنى كانت في الأصل جزءً من الأجزاء الغربية لكنيسة القديس أنبا مقار، أما من حيث المحتوى، فقد جمعت جواهر ثمينة لا تقدر بمال.
فهذه الكنيسة تحمل ذكرى إيمان حي وشهادة بسفك الدم، هو ميراث للدير أثمن من الذهب الفاني!!
في الغارة الثالثة على الدير، لما هجم عربان البادية على الرهبان، هرب معظمهم وتحصنوا في الجوسق - أي الحصن - ورفعوا السقالة. ولكن تسعة وأربعين من الرهبان القديسين تشجعوا بالإيمان وقهروا الخوف ورفضوا النجاة مع رئيسهم العظيم المكرم أنبا يؤانس القمص، ووقفوا باستعداد تقديم الشهادة، فلما طُلبت قدموا رقابهم سهلة طائعة للسيوف اللامعة دون أدنى إنزعاج، لأنهم رفضوا النجاة بغية قيامة أفضل وحياة أفضل ...
(3) قبة الميرون:
أثر جليل القدر يحكي عن ميرون دير القديس أنبا مقار، وكيف حلت به البركة على كل مولودي نساء مصر ومسحت به كل أباطرة الشرق (أثيوبيا بالذات) وكل أدوات الكنائس.
وقبة الميرون هي أصلاً من كنيسة القديس أنبا مقار الأولى، حيث موقعها هو فوق الكنيسة في الركن البحري الغربي، بنيت خصيصاً لتكون بمثابة عُلِّية، وبُدئ بتكريس الميرون فيها منذ أن نقل باباوات الإسكندرية مقر كرسيهم من الإسكندرية إلى دير القديس أنبا مقار بعد المجمع الخلقيدوني مباشرة، أي في نهاية القرن الخامس. وظل الميرون المقدس يُطبخ باحتفال عظيم ومهيب يحضره معظم الأساقفة تحت هذه القبة الطاهرة حتى منتصف القرن الرابع عشر، أي ظل ميرون مصر كلها يخرج من دير القديس أنبا مقار قرابة تسعة قرون متوالية، حيث صُنع آخر طبخة مقدسة للميرون على يد أنبا بنيامين الثاني سنة 1330م.
وكان ميعاد طبخ الميرون في العصور الأولى هو يوم الجمعة ختام الصوم الأربعيني، ولكن نُقل هذا الميعاد بعد ذلك وصار محدداً في الطقس بيوم خميس العهد، وهو يوم تأسيس سر الشكر (الإفخارستيا).
(4) كنيسة الشهيد أبَّاسخيرون:
(إسم أبا "سخيرون" معناه الأب القوي)
وهو شهيد قبطي، شفيع مقتدر، إستشهد في زمان اضطهاد دقلديانوس بعد أن تعذب من أجل الإيمان عذابات مريعة تفوق العقل والوصف حيث شُقت بطنه.
وهذه الكنيسة كانت أصلاً جزءً من كنيسة القديس أنبا مقار من الجهة القبلية، وكانت على الأرجح هيكل الثلاثة فتية القديسين. وقد رممت بعد سقوط كنيسة القديس أنبا مقار وصارت كنيسة قائمة بمفردها.
وكانت هذه الكنيسة متصلة قديماً بكنيسة أخرى قبلي الدير تسمى كنيسة المغبوط أريستوماخس التي استولى عليها جماعة الغيانيين المنشقين في وقت من الأوقات (سنة 535م).
وتهدمت كنيسة أبا سخيرون بعد ذلك ولم يبق منها إلا خورسها الغربي الذي رُمم وصار مائدة للدير. والمائدة القديمة الحالية هي جزء منها.
قبة أبا سخيرون الرائعة والباب الجميل:
هذه القبة هي إحدى روائع الفن المعماري، ومن أجمل الآثار في الدير، وهي من الطراز المسمى بالقبة الرباعية.
ويلاحظ أن القبة لا تتناسب في مركزها الهندسي مع مدخل الهيكل الأساسي المتوسط، مما يفيد أنها بنيت كرامة لهذا الهيكل بعد سقوط صحن الكنيسة. فالهيكل أقدم من القبة. وقد لوحظ أن المذبح المتوسط في الهيكل مغلق من جميع الجهات، ولم نشأ أن نفتحه، ويُعتقد أن به جسد الشهيد أبا سخيرون أو أحد الأجساد الكريمة الأخرى (حسب الطقس القديم جداً الذي يوصي بوضع أجساد الشهداء تحت المذبح).
وقد لاحظنا أثناء ترميم القبة التي فوق هذا الهيكل المتوسط أنها تشابه في الروح الهندسية وكثرة الفتحات المتناسقة قبة أنبا بنيامين، إنما على حجم أصغر، مما يزيد في إعتقادنا أنها من آثار القرن السابع.
الباب الجميل:
وهو الموجود بالخورس الأول من الجهة البحرية، وكان يفتح على صحن كنيسة أنبا مقار الأولى. ولكن بإقامة الجدار الفاصل، أصبح هذا الباب يحصر داخله غرفة صغيرة وكأنها مقصورة جميلة، رأينا أن نخصصها لجسد القديس يؤأنس القصير أحد أولاد أنبا مقار.
وقد صمم الباب بزخرفة دقيقة وبديعة من الطوب الطبيعي يلفت الأنظار. وهذا يزيد من اعتقادنا بان كنيسة أبا سخيرون الحالية بهيكلها وقبتها الرائعة تحمل ذكرى هامة كأثر خالد، مما حدا بالمهتمين بعمارة الدير حتى في العصور الوسطى إلى إعطاء أولوية العناية لهذه الكنيسة.
حوض زيت مسحة المرضى:
بالهيكل القبلي لكنيسة أبا سخيرون، وفي الناحية الشرقية البحرية من المذبح مصطبة بارزة وعليها حوض من الحجر شبه الرخام، وجدنا به طبقات متصلة من زيت زيتون متجمد بشدة (قاوم "الأجنة" عند محاولة رفعه). وقد علمنا من الطقس أنه حوض لزيت مسحة المرضى حيث كان طقس الكنيسة يحتم وجود زيت على المذبح أثناء تقديس الذبيحة، حيث يُقرأ عليه أوشية المرضى ثم يدهن به جميع المرضى في الكنيسة الذين كانوا يقيمون في بيت خاص يلحق بالكنيسة (البيمارستان)، ويجرى عليهم الصلاة والمسح بالزيت بعد كل قداس (أنظر قوانين القديس أثناسيوس).
ويعتبر هذا الأثر ذا قيمة طقسية كبيرة لأنه يحكي ترتيب الصلاة على زيت مسحة المرضى مع كل قداس كقانون.
(5) الحصن:
ويعرف قديماً باسم "الجوسق" أو "البرج" أو "القستلية" Castle
وهو من أقدم الآثار الهامة الموجودة بالدير، وأعظم وأضخم كافة الحصون الموجودة بالأديرة القبطية.
بُني بيد عزيزة مقتدرة. فهو من جهة مبانيه وهندسته وضخامة حجارته وسمك جدرانه وهيبة أقبيته وارتفاعه يكشف عن هوية بانية بلا أي مزيد من برهان، فقد بناه الملك زينون سنة 482م. على يد مهندسين أرسلهم لدير أنبا مقار خصيصاً لذلك، لما علم أن إبنته الأميرة إيلارية التي اختفت من قصره فجأة، قد التجأت إليه وترهبت فيه على يدي أحد تلاميذ أنبا مقار وعاشت متخفية بإسم الراهب إيلاري الخصي حتى ماتت. وقد أغدق الملك زينون بعد ذلك كثيراً على ذلك الدير وعلى كل أديرة مصر تكريماً لذكرى إبنته التي فضلت الحياة والموت مع رهبان مصر أكثر من التنعم في قصور الملوك.
والحصن من ثلاثة أدوار، يفصله عن السلالم المؤدية إليه سقالة متحركة كانت تُرفع بعد أن يلتجئ الرهبان إليه ويدخلون فيه.
القلالي القديمة:
وهي صف من القلالي قبلي هيكل أنبا بنيامين الحالي على الطقس الرهباني القديم، ولكنها ليست أثرية بالمعنى الصحيح فقد بنيت على أنقاض الهياكل القبلية التي تهدمت من كنيسة أنبا مقار، وهي هيكل أنبا مقار الذي بنى قبلي هيكل أنبا بنيامين، وهيكل أنبا شنودة الذي كان يليه من قبلي - وبعد أن أزيل صحن الكنيسة لهذه الهياكل أصبح من الممكن بناء هذه القلالي، وربما يكون ذلك في القرن الرابع عشر حيث يكون عمرها من عمر السور الشرقي الذي كان ملاصقاً لها.
والقلاية القديمة عبارة عن غرفة ذات قبو منخفض جداً، لها باب ضيق منخفض، وقد يكون لها شباك صغير أو لا يكون. ومن داخل هذه الغرفة المقببة غرفة أخرى ليس لها فتحات بالمرة تسمى "محبسة" Closet حيث يصلي الراهب وينام. وعلى العموم فالقلايات القديمة لها مميزات من جهة عدم تنعيم الجسد وإعطاء روح الفقر والمسكنة للراهب، ولها مضارها من جهة عدم كفاية التهوية والإنارة والشمس.
الغرفة العجيبة التي اكتشفناها أخيراً
وهي في نهاية صف القلالي القبو وملاصقة للسلم الجديد الذي أقمناه ليسهل الصعود إلى الحصن. وبالتحديد بحري الجدار لهذا السلم، حيث توجد فتحة مستديرة من الرخام المتقن، تؤدي إلى غرفة في باطن الأرض مبطنة بطبقة من المونة الشديدة التي تقاوم المياه، ومساحة هذه الغرفة 170سم×445سم×225سم إرتفاع. ويظن أنها كانت خاصة بتصريف مياه المعمودية التي كانت ملحقة بهيكل أنبا شنودة من قبلي (؟). على كل حال فكونها واقعة على إمتداد هياكل كنيسة أنبا مقار تكون وظيفتها هيكلية على أغلب الظن.
النهضة المعمارية والروحية الحديثة منذ سنة 1969
ما أن يخطو الزائر داخل الدير، وتقع عيناه على الكنائس والمنارة وأحواض الزهور والمباني الجديدة، حتى يحس للوقت أنه أمام حركة روحية فريدة في هذا الزمان.
وعلى نقيض ما يتصور الكثيرون عن الرهبنة، أنها أسوار حديدية، تحصر داخلها فتاة أو فتى أعطى ظهره للناس وللمجتمع، كأنه يعيش في عالم غريب عن البشر، يدرك الزائر أن رهبان هذا الدير قادرون على اقتحام الحياة وغلبتها، وعلى مواجهة المجتمع بمشاكله دون الغوص فيه. وهذا راجع إلى القوة الإلهية التي آزرت العمل والبناء والتجديد والتدبير الرهباني بصفة عامة، إذ استطاع الأب الروحي أن يقدم حلولاً واقعية للمعادلة الصعبة، التي هي المواءمة بين أصول الحياة الرهبانية كالتجرد والعفة والطاعة، وبين متطلبات جيل حديث تربي في عصر التكنولوجيا ودرس حتى المستوى الجامعي وما بعده أحياناً، وشغف بالمعرفة واللغات، يتوق أن يقدم نفسه كل يوم ذبيحة لله ويتطلع إلى خدمة الكنيسة والتعمق في تراثها المبعثر بين مكتبات العالم ومتاحفه. وكانت ثمرة هذا التدبير المُلهَم، هو القلاية الحديثة، والمكتبة، والمائدة الجديدة، وباقي المباني الأخرى الحديثة، مع بذل أقصى الجهد للإحتفاظ بالآثار القديمة والعناية بترميمها، نظراً لما تحويه من تاريخ مجيد يحكي عن إيمان صلب، استطاع أن يتحدى الزمن وعوامل الفناء، ويقف شامخاً وشاهداً على صدق الله والأمانة الروحية في الكنيسة القبطية.
لذلك يحس الزائر أنه يتحرك فعلاً بين أبنية تغطي ستة عشر قرناً من الزمان، يمتزج فيها الجديد بالعتيق في تآلف مذهل هو معجزة بحد ذاتها.
(1) قلاية الراهب: حافظنا في تصميمها على مبدأ التوحد الذي هو سمة الرهبنة القبطية، وبذلك تهيأ للراهب الإقامة فيها لأيام كثيرة دون حاجة مطلقاً للخروج أو الدخول، وقد تم تزويدها بالفتحات الكافية للتهوية والشمس والنور، مع دورة مياه كاملة على مجاري عامة تُصرف خارج الدير، ومكان مستقل للمطبخ، مع غرفة صغيرة - محبسة - أرضيتها من الخشب، ليتمكن الراهب من النوم على الأرض دون أن يتأذى جسمه مهما كان رهيفاً، ثم غرفة المطالعة والسهر، بمكتب ودواليب حائطية. ومن جهة الهدوء المطلوب روعي أن تكون كل قلاية منفصلة تماماً عن جارتها بفناء واسع من جهة، وسلم صاعد للأدوار العليا من جهة أخرى، كما أن السقف سميك يكاد يكون مزدوجاً في درجة عزله للصوت، وأغلب الأثاث المستعمل فيها ثابت ودائم لتفادي الحركة والضجيج.
وإذا أضفنا إلى هذا، الفصل الكامل بين أماكن الضيافة وبين قلالي الرهبان وما يتبعها من مباني الخدمات اليومية بما يكفل للدير استقلاله وحُرْمته، نكون قد هيأنا للراهب الإستقلال المطلوب الذي تستوجبه العبادة والصلاة والحياة الداخلية بحسب روح الإنجيل. وهذا هو جوهر الحياة الرهبانية الذي لم نفرِّط فيه مهما كلَّفنا غالياً.
قلاية الأخ المبتدئ:
وبحسب التقليد الرهباني تختلف احتياجات الأخ المبتدئ عن الراهب، إذ توصي تعاليم الآباء أن يهتم المبتدئ بقضاء أكبر وقت ممكن في خدمة المجمع الرهباني، وبذل المحبة، والتواضع، ليكتسب الفضائل التي تهيئه للوحدة بعد ذلك، مثل إماتة الذات والطاعة الكاملة وحفظ الوصية وسط ضجيج العمل. كما أنه غير مُطالَب إلا بالصلوات القانونية والمطانيات في قلايته. لذلك تمَّ تخصيص المباني الغربية والجنوبية لحجرات المبتدئين، نظراً لقربها من أماكن الخدمات العامة في الدير.
وقد تم إنشاء ما يقرب من مائة قلاية من النوع الأول وأربعين من النوع الاخر.
(2) المائدة الجديدة: عرف رهبان مصر آداب المائدة، ووضعوا لها الأصول على أعلى مستوى (*) ، بينما كانت أوروبا غارقة في ظلمة الجهل والبدائية. فالمائدة في الدير امتداد لوليمة الأغابي المعروفة منذ عصر الرسل, والتي شاعت في الكنيسة الأولى، حتى اندثرت بعد ذلك منذ وقت بعيد، إلا في مصر، حيث حافظت عليها الأديرة. وفي عصرنا هذا، الذي نسعى فيه للإرتواء من الينابيع الأولى، أُقيم لأول مرة في الأديرة القبطية مائدة تجمع الرهبان يومياً على نفس نمط مائدة العشاء الأخير يوم خميس الفصح. فكما كان الطقس اليهودي يحتم أن يجلس رب الأسرة أو الجماعة على رأس المتكأ، وإلى يمينه أكبر أفرادها سناً، وهكذا بالترتيب إلى أن تنتهي الدورة بجلوس أصغر الموجودين على يسار رئيس الجماعة، هكذا في مائدة الدير يتصدر الأب الروحي المائدة والصلاة، ويقرأ البركة، ثم عن يمينه يجلس أقدم الرهبان، وهكذا إلى أن تنتهي الدورة بأحدث المبتدئين عن يساره.
ومن خلال هذه الوليمة اليومية وتعاليم الأب الروحي وشروحاته على كتاب "بستان الرهبان"، يحل الروح الواحد على الجماعة، ليكون لها الفكر الواحد والمبدأ الواحد والحياة الواحدة، للكبير والصغير على السواء. ومن خلال الصلاة وكلمة الله تتقدس حياة الراهب كما هو مكتوب: "فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئاً فافعلوا كل شئ لمجد الله" (1كو10: 31).
وقد أُلحق أخيراً بالمائدة مطبخ حديث فسيح لإعداد الطعام لما يربو على 150 راهباً في فترة وجيزة وبأقل جهد ممكن لما فيه من معدات حديثة. ويتكون هذا المطبخ من صالتين كبيرتين: الأولى للإعداد والغسيل والتجهيز بها ثلاجة لحفظ الأطعمة، والثانية للأفران وطهي الطعام.
(3) المكتبة: كان لها في الأديرة شأن كبيرٌ، وبالأخص دير القديس أنبا مقار الذي اقترنت فيه التقوى والقداسة مع العلم والمعرفة، حتى قيلت فيه هذه العبارة البليغة: "إنه موطن الصلاة الدائمة والحكمة العالية". لذلك أقيمت فيه أكبر مكتب لحفظ ما تبقى من مخطوطات (*) أفلتت من أيدي الهواة والسارقين الأفاضل، كما نجتهد للحصول على ميكروفيلم وصور للمخطوطات الهامة، التي تسربت إلى الخارج، حتى تكون في متناول يد الرهبان والراغبين في الإطلاع والبحث. ووجود مطبعة حديثة بالدير، سيسهل نشر هذه المخطوطات لتعريف العالم - والشعب القبطي خاصة - بالتراث الروحي واللاهوتي والطقسي الذي كانت ومازالت عليه كنيسة مصر.
المتحف: وهو ملحق بالمكتبة في الجهة البحرية وفيه القطع الرخامية التي عثر عليها أثناء تجديد الدير مثل الأعمدة والتيجان والقواعد ولوحات المذبح التي تعتبر من أندر القطع في العالم كله، مع أحواض اللقَّان والآنية الفخارية والخزفية الملونة.
(4) ترميم الآثار: جميع المباني الأثرية التي في الدير كانت في حالة تقرب من التداعي والإنهيار: قبة أنبا بينامين في كنيسة أنبا مقار التي يعتبرها الأثريون أقدم قبة قائمة في مصر كان بها عشرة شروخ على الأقل. فاقتضى تدعيمها إقامة أعمدة مسلحة في أركانها، وعمل شدادات تحت حائطها القبلي، الذي اتضح تأسيسه على سطح الأرض فوق الرمل مباشرة دون قواعد. وأثناء إزالة البياض الخارجي الحديث للجدار الغربي، اكتشفنا تحته رسم حائطي للسيد المسيح والرسل والتلاميذ، فاضطررنا إلى تعديل التصميم محافظة على هذا الأثر البالغ القيمة. وبعد تقوية قاعدة القبة وتغليفها من الخارج بالخرسانة المسلحة زال خطر السقوط.
+ والقبة الرباعية الرائعة في كنيسة الشهيد أبسخيرون أيضاً كانت مصابة بشروخ خطيرة في أركانها الأربعة، مما دعانا إلى بناء أكتاف قوية بالحجر تسند حوائطها من الخارج. وهكذا صنعنا بقبة الميرون والمائدة القديمة.
+ أما شروخ الحصن فكانت من فوق إلى أسفل بكامل ارتفاعه في العديد من المواضع. والجهد الذي بُذل في ترميمه وتدعيمه، سواء من جهة التفكير أو التنفيذ، كان يكفي لبناء دير ثان - دون مبالغة - فقد تم تفريغ عراميس مباني الدور الأرضي وإعادة ملئها بمونة الأسمنت والرمل العالية القوة، ثم أقيمت أعمدة خرسانية مع شدادات فوق حوائطه لتحمل عقود تدعيم القباب المشروخة بالدور الأول. وبذلك أمكن رفع الشقف الخشبي المتهالك لسطح الحصن، واستبداله بسقف وكمرات خرسانية قوية، تربط الحوائط الداخلية والخارجية بالدور الثاني. وأخيراً أعيد بياض ما تم ترميمه بمونة شديدة بنفس اللون الطفلي القديم.
فبعد أن كان دخول الحصن مغامرة خطيرة والوجود فيه يصيب النفس بالضيق والكآبة صارت زيارته الآن إحدى المتع التي تشرح قلب الزائر خاصة بعد استعمال حجرات الدور الأرضي متحف للأخشاب الأثرية كالأحجبة ومعرض للأدوات القديمة المستعملة لعصر الزيت والكروم.
مباني الضيافة: التزامنا بالفصل الكامل بين أماكن الزائرين وبين قلالي الرهبان، جعلنا نخصص الناحية الغربية البحرية لاستقبال الزائرين. وتشمل هذه الناحية المباني الملاصقة للمدخل الرئيسي، وتتكون من صالات كبيرة بالدور الأرضي والأول تتسع كل منها لمائتي زائر. أما المجموعات التي تزيد على هذا العدد فقد أقيمت لها صالة كبيرة على اليمين في فناء الكنائس أسفل السلم الرئيسي الهابط إلى هذا الفناء.
وكان لشيوع أنباء النهضة الروحية في هذا الدير العريق أن بدأ يفد علينا الكثير من رهبان أديرة الغرب، للتعرف على الخبرات الروحية التي تدفع الشباب القبطي في العصر الحديث للتكريس، حتى يعودوا إلى أديرتهم مجتهدين لتجديدها وبعث روح النهضة فيها. فوجدنا من الأوفق تخصيص أول مجموعة من القلالي لإقامتهم ليلمسوا بأنفسهم نجاح التدبير الرهباني في تهيئة الجو المناسب لجيل شاب يرغب في التعبد لله.
مبنى المستشفى وملحقاته: وموقعه في المباني القبلية من الدير. ويتكون من غرفة كبيرة للجراحة وأخرى للتعقيم، وصيدلية كاملة بمعمل تحليل وعيادة أسنان وعيون، ويشرف عليها أطباء متخصصون وصيادلة من الرهبان، وأُلحق به خط تليفوني مباشر مع مستشفى وادي النطرون للحالات الطارئة.
ونأمل، بعد استكمال تأثيثه وتزويده بالأجهزة الطبية الحديثة وسيارة إسعاف، أن يقوم بواجبه الإنساني في إسعاف حوادث السيارات على طريق مصر - إسكندرية الصحراوي.
المطبعة: تمكن الدير بتعضيد الغيورين على نشر الثقافة القبطية المسيحية من تأثيث مطبعة بها أحدث الماكينات وتشغل الدور الأرضي من المبنى الغربي. وهذا يشمل غرفة متسعة مكيفة الهواء لماكينات الجمع التصويري المزودة بالذاكرة الإلكترونية، وذات الإمكانية لجمع وتصوير النصوص إلى ثماني لغات، بالإضافة إلى آلات التصوير والطاولات المضاءة لأعمال طباعة الأوفست وآلة للطباعة (هايدلبرج) وآلات التطبيق والتدبيس والقص.
ويشرف على جميع هذه العمليات رهبان برعوا في إدارة ماكيناتها الحديثة بطريقة أدهشت المتخصيين في صناعة الكتاب.
وقد صدر عنا ما ينيف على 200 كتاب، بعضها زاد عدد صفحاته عن مئات الصفحات مثل شروحات الأناجيل والرسائل، بالإضافة إلى مجلة شهرية "مرقس" تعبِّر عن رسالة الفكر المسيحي للشباب والخدام.
مباني المزرعة: يرى الزائر إلى الشمال الشرقي من الدير مجموعة مباني تفترش مساحة عشرة أفدنة تقريباً، هي الورش والجراجات الخاصة بمعدات الدير (سيارات نقل - جرارات زراعية - لوادر - بولدوزورات ...إلخ)، كما تضم حظائر المواشي الأجنبية والبلدية والدواجن، وما يلزمها من مخازن أعلاف جاهزة ومصنعة وصالات لتصنيع المنتجات الزراعية والألبان.
ويجرى حالياً إعداد الدور الثاني للمبنى الرئيسي لمبيت الآباء المتخصصين في الأعمال الميكانيكية والزراعية والحيوانية.
محطة الكهرباء والتشحيم: أقيمت خارج الدير وقريباً منه لآلات توليد الكهرباء حتى يتوفر الهدوء في الداخل، وأُلحق بها محطة كاملة لتموين المعدات بالوقود وتشحيمها، وتقوم شركة إسو العالمية بتزويدها بالمنتجات البترولية. كما تحوي أماكن إقامة الرهبان المسئولين عن تشغيلها والفنيين المساعدين لهم.
مباني العمال الزراعيين: أعد الدير قرية عمالية كاملة على أسوار الأرض الزراعية في الناحية البحرية، وهي المباني التي يراها الزائر عند دخوله من البوابة الخارجية. وتستوعب هذه المساكن 500 عامل زراعي لمباشرة الزراعات المحيطة بالدير بما يلزمهم من مطابخ وأفران ومخازن وعيادة طبية وصيدلية. وسيخصص الدور العلوي لهذه المساكن للصناع المهرة والفنيين، كما سيتم تزويدها بالكهرباء والمياه من بئر عميقة حتى تصير متكاملة الخدمات والمنافع.
أرض الدير على الساحل الشمالي طريق الإسكندرية - مرسى مطروح ك69: يمتلك الدير حوالي 30 فداناً في هذه المنطقة التي تمتاز بجمال الطبيعة الرائع بين مياه رائقة لونها أزرق بللوري ورمال بيضاء ناصعة.
وقصة هذه الأرض ترجع إلى عشرين سنة مضت حينما كنا نعيش في وادي الريان، فواجهتنا في السنة الأولى مشكلة المياه المالحة الملوثة، فاتجه التفكير إلى البحث عن مكان آخر تتوفر فيه العزلة والمياه الصالحة للشرب، فأرشدنا أصحاب العلم والفضل إلى الساحل الشمالي، وتحركت السيارة من الإسكندرية على هذا الطريق وفيها الأب متى المسكين يتأمل الشاطئ والطبيعة حتى جذبته هذه البقعة بهدوئها الأخَّاذ، وتم التعاقد مع صاحبها، وبدأنا إقامة المباني المناسبة. ولكن حالت الظروف وقتذاك عن الإستمرار في البناء، لذلك اكتفينا بإحاطتها بحزام أخضر من أشجار الكازورينا، وأقمنا مروحة تدار بالهواء على البئر لرفع الماء وسقي بعض أشجار التين الذي يشتهر به هذا الساحل.
فلما شاءت إرادة الله بالإقامة في دير أنبا مقار، وزالت الموانع التي تمنع من البناء على هذا الساحل، أقمنا سبع ?يلات على المنحدر الطبيعي المواجه للبحر، لإستغلالها لخلوة الرهبان الذين يرى الأب الروحي حاجتهم إليها.
والعجيب أن وزارة التعمير والإسكان انتبهت أخيراً إلى القيمة الساحلية والجمالية لهذا الشاطئ، فقامت بتقسيمه وبيع قطعه للهيئات والجماعات بقصد استغلاله سياحياً وترفيهياً، وتم تمليك الدير رسمياً لقطعة الأرض التي سبق أن اشتريناها من عرب المنطقة.
النشاط الزراعي والإنتاج الحيواني:
لم نكن نهدف في كل ما تم من أعمال البناء والتجديد والترميم، إلى غاية نبلغها ونرتاح عندها، ذلك لأن العمل بالنسبة للراهب وسيلة عظمى للنمو الروحي. فالراهب الذي عزم في قلبه أن يعيش حياة الكمال المسيحي يدرك منذ اللحظة الأولى لدخوله الدير أنه قادم من عالم الجسد والخطيئة حاملاً في جنباته ميراث المجتمع والأسرة والجسد والملذات التي تتصادم جميعاً مع متطلبات الكمال.
ما هو هدف العمل في الدير:
فالعمل الجاد يكشف تزييف النفس ويعريها من غطاء البر الذاتي، والراهب الحكيم يتعلم كل يوم من أخطائه وخطاياه كيف يتواضع ويدق صدره "اللهم ارحمني أنا الخاطئ". كما أيضاً من جهة أخرى يتيسر للأب الروحي من خلال العمل أن يقوِّم ويصحح وينبه وينذر، وهكذا من انتباه الراهب للخطيئة ومن طاعته لأبيه تبدأ النعمة عملها في تغييره من حياة حسب الجسد إلى حياة حسب الروح، فينمو روحياً وإنسانياً ووطنياً وتنضج شخصيته وتتبلور سماته الحقيقية التي خلقه بها الله بعد أن يسقط عنه زيف المجتمع وبغضة الحسد والمنافسة وتأكيد الذات. وبذلك يصير العمل ليس غاية بل واسطة فعالة للموت عن الذات البشرية والإمتداد في الكيان المسيحي الإلهي، ويكون البذل اليومي في المطبخ والبناء والحقل والورشة وحظائر الماشية وسائل لتمجيد الله والمساهمة في خدمة الآخرين.
(1) استزراع الصحراء:
العمل الأساسي الذي نجحنا فيه وصار فيما بعد سبب نجاح للمشروعات والتجارب الزراعية والحيوانية هو القدرة على تحويل مساحات الرمال الصفراء إلى حقول خضراء تسخو بالمنتجات الزراعية بما يفوق العائد من الأراضي الطينية السوداء باستخدام البحث العلمي الدقيق. فاخضرت الصحراء وازهرت وأثمرت الرمال الجرداء. والمعروف أن تسعة أعشار مساحة القطر المصري من الأراضي الصحراوية.
لذلك لم تغفل عينا الرئيس الراحل أنور السادات، وهو الساهر على رفاهية شعبه، عن هذه المعجزة فقام بتشجيعنا لموالاة هذه التجربة وما بعدها عن طريق وزيره المختص بإهداء 1000 فدان ليساهم الدير في حل مشكلة الصحراء والأمن الغذائي للدولة.
(2) التجارب الزراعية:
أ- بنجر العلف: ساهم الدير في حل مشكلة نقص علف الماشية وما يسببه من ارتفاع أسعار اللحوم إذ قام بزراعة بنجر العلف المستوردة من ألمانيا الغربية، فاستجاب النبات لصحرائنا المستصلحة.
ب- بنجر السكر: وهو من بذور مستوردة أيضاً من ألمانيا الغربية، وأعطى أعلى نسبة سكر في العالم وهي 20% من وزن الجذر.
ج- التين المجفف: نوع جديد استنبطته جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة يتميز بثماره القابلة للتجفيف.
د- تجفيف الخضروات والفواكه مثل البلح والتين والعنب.
هذا بخلاف تجارب أخرى لأنواع منتقاة من الشمام (أصناف الكانتالوب) وأشجار الزيتون الكلاماتا والأسباني، والنخل والفاكهة الأخرى حتى بلغت مساحة الأرض المنزرعة 500 فدان بعد 4 سنوات فقط.
(3) في مجال الإنتاج الحيواني:
أ- قام الدير بإنشاء محطة تحسين صنف الأغنام المعروف باسم "البرقي" وموطنها الساحل الشمالي غرب الإسكندرية.
ب- واستورد الدير بقر فرزيان من موطنه الأصلي بألمانيا وهولندا وسلالة من البقر السويسري "براون سويس" وأنشأنا محطة تربية للبقر البلدي.
ج- كما استورد الدير أيضاً نوعاً جديداً من الدجاج الفرنسي يتميز بإنتاج عال للبيض (300 بيضة في السنة للدجاجة الواحدة) مع ارتفاع وزن البيضة حتى وصل إلى 75 جم أحياناً بالإضافة إلى طعمها الجيد.
د- ويقوم المختصون بوزارة الزراعة حالياً - قسم وقاية النبات - بإنشاء مزرعة نموذجية لنحل المنتخب من أنواع ممتازة لإنتاج عسل النحل والمساعدة على تلقيح النبات، وذلك لما وجدوه من تعاون صادق واستعداد من الرهبان للعمل والبذل في سبيل المصلحة العامة.
+++
ورغم المجهود الشاق الذي يتطلبه استزراع الصحراء الذي نباشره بوسائل بدائية، ورعاية التجارب الزراعية والحيوانية، إلا أن النجاح فيه يرجع أساساً إلى تعاون الآباء وروح المحبة المثالية واستعداد البذل. فكان هذا النشاط بأوجهه المتنوعة واجهة مشرقة أمام العالم والوطن وشهادة واقعية لصدق الله لكل من يتمسك به.