رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
داود النبي ما بين الوداعة والشجاعة لاشك أن داود كان وديعًا. يقول عنه المزمور "اذكر يا رب داود وكل دعته" (مز 132: 1). داود راعي الغنم الهادئ، صاحب المزمار، الذي يحسن الضرب على العود (1 صم 16: 21). داود الحسن المنظر مع حلاوة في العينين (1 صم 16: 12). داود هذا، لما ذهب إلي ميدان الحرب يفتقد سلامة أخوته، وسمع جليات الجبار يعيَر الجيش كله ويتحداه، والكل ساكت وخائف.. تملكته الغيرة المقدسة. وبكل شجاعة وقوة وإيمان قال "لا يسقط قلب أحد بسببه" وعرض أن يذهب ليحاربه (1 صم 17: 32). وتقدم في شجاعة نحو ذلك الجبار الذي أخاف الكل وقال له "اليوم يحبسك الرب في يدي..! (1 صم 17: 46). وأعانه الله فانتصر عليه وخلَص الجيش منه. وعلى الرغم من قوة داود وشجاعته، لم تفارقه وداعته ولا اتضاعه. بل قال لشاول الملك فيما بعد لما طارده "وراء من خرج ملك إسرائيل؟ وراء من أنت مطارد؟ وراء كلب ميت! وراء برغوث واحد!" (1 صم 24: 14). مواقف لشجاعة الوديع نتابع كلامنا في هذا الموضوع، فنذكر النقاط الآتية:
الغضب المقدس ومثال لذلك موسي النبي الوديع، الذي قيل في وداعته "وكان الرجل موسي حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض" (عد 12: 3). ماذا فعل هذا الوديع، حينما نزل من على الجبل، ووجد الشعب في رقص وغناء حول العجل الذهبي الذي صنعوه وعبدوه؟ يقول الكتاب "فحمى غضب موسي، وطرح اللوحين (لوحي الشريعة) من يديه، وكسَرهما في أسفل الجبل. ثم أخذ العجل الذي صنعوه واحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعمًا، وذراه على وجه الماء" (خر 32: 19، 20). ووبخ موسي أخاه هارون رئيس الكهنة، حتى ارتبك أمامه هارون وخاف. وقال له "لا يُحم غضب سيدي. أنت تعلم الشعب أنه في شرَ. وقال في خوفه وارتباكه عن الذهب الذي جمعه من الناس "طرحته في النار، فخرج هذا العجل"! (خر 32: 24). وعاقب موسي الشعب. فمات في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف. موسي الوديع غضب غضبة مقدسة للرب، ووبخ وعاقب. وما كان يستطيع في وداعته أن يسكت على الذي حدث. إن الوداعة لا تمنع الغضب المقدس. الوداعة أيضًا لا تمنع قوة الشخصية ولا قوة التأثير. قوة الشخصية كان السيد المسيح وديعًا، وفي نفس الوقت كان قوي الشخصية، وكان قويًا في تأثيره على غيره. ولكنني أريد هنا أن أقدم مثالًا في مستوي البشر الذي شرحنا من قبل شيئًا عن وداعته، وهو بولس الرسول. يقول سفر الأعمال عن القديس بولس وهو أسير "وبينما كان يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة أن تكون، أرتعب فيلكس (الوالي) وأجاب: أما الآن فاذهب. ومتى حصلت على وقت أستدعيك" (أع 24: 24، 25). ولما وقف بولس -وهو أسير أيضًا- أمام أغريباس الملك. قال له بعد أن ترافع أمامه "أتؤمن أيها الملك أغريباس بالأنبياء؟ أنا أعلم أنك تؤمن". فقال أغريباس الملك لبولس "بقليل تقنعني أن أصير مسيحيًا" (أع 26: 27، 28).. وحينئذ في قوة وعزة، أجابه القديس بولس: "كنت أصلي إلي الله، أنه بقليل وكثير، ليس أنت فقط، بل أيضًا جميع الذين يسمعونني، يصيرون هكذا كما أنا، ما خلا هذه القيود" (أع 26: 29). أتري تتعارض الوداعة مع هذه القوة؟! كلا بلا شك. الدفاع عن الحق ووقت الضرورة، لا تتنافي الوداعة مع الدفاع عن الحق. *ويتضح هذا الأمر من قصة بولس الرسول مع الأمير كلوديوس ليسياس، لما أمر أن يفحصوه بضربات، ليعلم لأي سبب كان اليهود يصرخون عليه. يقول الكتاب "فلما مدوه بالسياط قال بولس لقائد المائة الواقف "أيجوز لكم أن تجلدوا رجلًا رومانيًا غير مقضيَ عليه؟! وإذ سمع القائد هذا، أخبر الأمير الذي جاء واستخبر من بولس عن الأمر. "وحينئذ تنحى عنه الذين كانوا مزمعين أن يفحصوه. واختشى الأمير لما علم أنه روماني، ولأنه قيده" (أع 22: 25-29). ما كان القديس بولس يهرب من الجلد، فهو الذي قال "من اليهود خمس مرات قبلت أربعين جلدة إلا واحدة" (2 كو11: 24). لكنه هنا دافع عن حق معين، وأظهر للأمير خطأ كان مزمعًا أن يقع فيه. وما كان هذا يتنافي مع وداعة القديس بولس. *وبنفس الوضع لما أراد فستوس الوالي أن يسلَمه إلي اليهود ليُحاكم أمامهم. وبهذا يقدم لهم منة (أي جميلًا)، قال له القديس بولس في حزم -مدافعًا عن حقه- "أنا واقف لدي كرسي ولاية قيصر، حيث ينبغي أن أُحاكم. إلي قيصر أنا رافع دعواي". فأجابه الوالي "إلي قيصر رفعت دعواك، إلي قيصر تذهب" (أع 25: 10-12). لم يكن القديس بولس خائفًا من اليهود. لكنه -في حكمة- طلب هذا، ليذهب إلي رومه -حيث يوجد قيصر- ويبشر هناك. لأن الرب كان قد تراءي له قبل ذلك وقال له "ثق يا بولس. لأنك كما شهدت بما لي في أورشليم، هكذا ينبغي أن تشهد في روميه أيضًا" (أع 23: 11). وهكذا دافع عن حقه في وداعة وحكمة دون أن يخطئ. بل تكلم كلامًا قانونيًا. الوداعة أيضًا لا تمنع من تنبيه خاطئ، لإنقاذه من خطأ أو خطر. تحذير لأحد الخطاة كما قال القديس يهوذا الرسول غير الأسخريوطي "خلصوا البعض بالخوف، مختطفين من النار" (يه 23). فهل إذا رأيت صديقًا أو قريبًا على وشك أن يتزوج زواجًا غير قانوني، من قرابة ممنوعة، أو بعد طلاق غير شرعي بتغيير المذهب أو الملَة. أو أنه مزمع أن يتزوج زواجًا مدنيًا أو عرفيًا. أو ما شاكَل ذلك.. هل تمتنع باسم الوداعة عن تنبيهه إلي أن ما ينوي عمله هو وضع خاطئ؟! كلا، بل من واجبك أن تنصحه. وليكن ذلك بأسلوب هادئ في غير كبرياء ولا تجريح. أما إن سكَت، فإن سكوتك سيكون هو الوضع الخاطئ. ليست الوداعة أن تعيش كجثة هامدة في المجتمع. بل تتحرك، وتكون لك شخصيتك. وبأسلوب وديع. قل ولو بكلمة واحدة -كقول المعمدان- "لا يحل لك" (مت 14: 4). بشرط أن ما تقوله يكون هو الحق، وليس مجرد اندفاع متهور بغير معرفة.. يقول القديس بولس "اسهروا متذكرين أنى ثلاث سنين ليلًا ونهارًا، لم أفتر عن أن انذر بدموع كل واحد" (أع 20: 31)، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. وداعته لم تمنعه عن أن ينذر كل واحد. ولكن بأسلوب وديع، كان ينذر بدموع. حتى لو قال كلمة شديدة، سيقبلونها منه. هل تظنون أن الوديع قد أُعفي من قول الرب لتلاميذه "وتكونون لي شهودًا" (أع 1: 8). كلا، بلا شك. فحيثما تلزم الشهادة للحق، لا بُد أن نفعل ذلك. الإنقاذ هل إذا أتيحت فرصة للوديع أن ينقذ أحدًا معتدي عليه مثلًا أو في خطورة..، أتراه يمتنع عن ذلك باسم الوداعة؟ هل من المعقول أن يقول "وما شأني بذلك؟!" أو يقول "وأنا مالي؟ خليني في حالي"!! أم في شهامة ينقذه، وبأسلوب وديع. كما أنقذ السيد المسيح المرأة المضبوطة في ذات الفعل من أيدي راجميها. في هدوء. وقال للراغبين في رجمها "من كان منكم بلا خطية، فليرمها بأول حجر" (يو 8: 7). وفعل ذلك بوادعة دون أن يعلن خطاياهم "بل كان يكتب على الأرض". الإدانة هل يمكن للوديع أن يدين أحدًا. متى! وكيف؟ أمامنا أمثلة من الكتاب المقدس، في مقدمتها السيد المسيح له المجد: هذا الذي قال "لم يرسل الآب ابنه إلي العالم ليدين العالم، بل ليخلص" (يو 3: 7)، والذي قال لليهود "أنتم حسب الجسد تدينون. أما أنا فلست أدين أحدًا" (يو 18: 15).. هو في مناسبات عديدة أدان كثيرين: مثلما أدان الكتبة والفريسيين (مت 23). وأدان كهنة اليهود قائلًا لهم "إن ملكوت الله يُنزع منكم، ويُعطى لأمة تصنع أثماره" (مت 21: 43). وأدان الصدوقيين قائلًا لهم تضلون إذ لا تعرفون الكتب" (مت 22: 29). وأدان تلميذه بطرس لما قال له حاشاك يا رب (مت 16: 23). السيد المسيح -مع وداعته- أدان، ولكن بسلطان، وبهدف روحي. كذلك فإن القديس بولس الرسول قال لتلميذه تيموثاوس "الذين يخطئون وبخهم أمام الجميع، لكي يكون عند الباقين خوف" (1 تي 5: 20). هنا الإدانة بسلطان، ومن أجل سلامة الكنيسة. هناك أشخاص من حقهم -بل من واجبهم- أن يدينوا. ولا تتعارض إدانتهم مع الوداعة. مثل الوالدين، والأب الروحي، والمدرس بالنسبة إلي تلاميذه، والرئيس بالنسبة إلي مرؤوسيه.. بل إن عالي الكاهن قد عاقبه الله، لأنه لم يحسن تربية أولاده ويدينهم (1صم 3). هوذا الكتاب يقول "لا تخالطوا الزناة" (1 كو 6: 9). فهل تقول: أنا لا أدين هؤلاء! حتى إن لم تقل عليهم أية كلمة إدانة، فإن عدم مخالطتهم وعدم مخالطة مجموعات أخري من الخطاة (1 كو 6: 11) تحمل ضمنًا إدانتهم. وكذلك بالنسبة إلي المنحرفين في التعليم الديني، يقول الرسول "إن كان أحد يأتيكم، ولا يجيء بهذا التعليم، فلا تقبلوه في البيت، ولا تقولوا له سلام. لأن من يسلم عليه يشترك في أعماله الشريرة" (2يو 10، 11). فهل باسم الوداعة نقبل هؤلاء؟! كلا. بلا شك. المسألة ليست حكمًا وإدانة. بل يقول الرسول "خطايا بعض الناس واضحة، تتقدم إلي القضاء" (1 تي 5: 24)، أنت لست تدينهم، بل أعمالهم تدينهم. وأنت بكل وداعة تبتعد عنهم، كما ينصح المزمور قائلًا "في طريق الخطاة لا تقف، وفي مجلس المستهزئين لا تجلس" (مز 1). هناك مواقف يجد فيه الوديع نفسه مضطرًا أن يتكلم، ولا يستطيع أن يصمت. مثلما فعل أليهو في قصة أيوب الصديق وأصحابه: كان أليهو وديعًا. ظل صامتًا مدة طويلة. ولكنه أخيرًا لم يستطع أن يصمت. وكان الله هو المتكلم على فمه. وهو الوحيد الذي لم يجادله أيوب (أي 32-37). |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
الوداعة والشجاعة |
داود النبي ما بين الوداعة والشجاعة |
الوداعة والشجاعة |
الوداعة والشجاعة |
الوداعة والشجاعة |