07 - 05 - 2024, 04:34 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
الاستعداد للسفر في البريّة
(عد 1 - عد 10: 10) إحصاء الشعب
إذ أخرج الله الشعب من أرض العبوديّة أقام نفسه ملكًا عليهم (1 صم 12: 12)، لا ليسيطر عليهم وإنما لكي يرعاهم ويهتم بكل أمورهم روحيًا ونفسيًا واجتماعيًا، لهذا قدَّم لهم دستوره الإلهي الوارد في سفر اللاويّين، في الشهر الأول من السنة الثانية للخروج، أو السنة الثانية لبدء ملكه عليهم. أعقب هذا مباشرةً أمره الإلهي بعمل تعداد لرجال الحرب.
1. الأمر الإلهي بالإحصاء:
1 وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى فِي بَرِّيَّةِ سِينَاءَ، فِي خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ، فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الثَّانِي فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِخُرُوجِهِمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ قَائِلًا: 2 «أَحْصُوا كُلَّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعَشَائِرِهِمْ وَبُيُوتِ آبَائِهِمْ، بِعَدَدِ الأَسْمَاءِ، كُلَّ ذَكَرٍ بِرَأْسِهِ، 3 مِنِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًا، كُلَّ خَارِجٍ لِلْحَرْبِ فِي إِسْرَائِيلَ. تَحْسُبُهُمْ أَنْتَ وَهَارُونُ حَسَبَ أَجْنَادِهِمْ. 4 وَيَكُونُ مَعَكُمَا رَجُلٌ لِكُلِّ سِبْطٍ، رَجُلٌ هُوَ رَأْسٌ لِبَيْتِ آبَائِهِ.
"وكلَّم الرب موسى في بريّة سيناء في خيمة الاجتماع... قائلًا: احصوا كل جماعة بني إسرائيل بعشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء كل ذكر برأسه" [1-2].
تسلَّم الرب قيادة الشعب بنفسه كملك يدبر كل أمورهم... فأصدر أمره الملكي لخادمه "موسى النبي" في خيمة الاجتماع كما في القصر الملكي. جاء هذا بعد الإحصاء الأول الذي تم لتحصيل مساهمة الكل في تكاليف خيمة الاجتماع (خر 38: 25-26)، لكن الإحصاء الأول لم يسجل حسب بيوت آبائهم بعشائرهم مثل هذا الإحصاء.
هل من ضرورة للإحصاء؟
التزم موسى وهرون بأمر إلهي لإتمام هذا الإحصاء، مع أن الله وبَّخ داود النبي وعاقبه بصرامة لأنه قام بعمل إحصاء (2 صم 24، 1 أي 21)، ذلك لأن داود النبي أراد بعمله هذا أن يشبع كبرياء قلبه بإمكانياته البشريّة التي تحت سلطانه، أو أراد أن يستعرض هذه الإمكانيات أمام نفسه وأمام الآخرين الأمر الذي يحزن قلب الله ويمنع نعمة الله عن العمل في حياة الإنسان خاصة القادة الروحيين. أما الإحصاء هنا فلم يحمل شيئًا من هذا في قلب موسى أو هرون، إنما جاء بناءً على أمر إلهي لتحقيق مقاصد إلهيّة، منها:
أ. ربما أراد الله أن يعلن لأولاد إبراهيم إنهم يجنون ثمار إيمان أبيهم وطاعته فتحققت منهم وعود الله له: "يكون نسلك كتراب الأرض وتمتد غربًا وشرقًا وشمالًا وجنوبًا" (تك 28: 14). أراد أن يلزمهم أن يسلكوا بروح أبيهم لكي يتمتعوا بمواعيد إلهيّة بفيض.
ب. إن كان الله قد دُعي [رَاعِيَ شعبه] (مز 80: 1)، ففي إحصائهم تأكيد لاهتمامه بكل واحد منهم حتى لا يهلك أحد منهم. إنه يود أن يسجل أسماءهم في سفر الحياة لكي يدخل بجميعهم في أورشليم العُليا وينعموا بالأرض الجديدة. إنه يُحصي أولاده المقدَّسين لكي يمتعهم بالمجد.
وكما يقول العلامة أوريجينوس: [أتريد الدليل على أن عدد القدِّيسين محصي أمام الله؟ اسمع ما يقوله داود النبي: [يُحْصِي كثرة الْكَوَاكِبِ. يَدْعُو كُلَّهَا بِأَسْمَاءٍ] (مز 147: 4). ولم يكتفِ المخلص بتحديد عدد التلاميذ الذين اختارهم بل قال أيضًا أن شعور رؤوسهم مُحصاة "وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها مُحصاة" (مت 10: 30). وهو في هذا لا يقصد الحديث عن الشعر الذي نقصه ونلقيه في القمامة، أو الشعر الذي يتساقط مع كبر السن ويموت، لكنه يقصد الشعر الذي حُلق (لشمشون) الذي يحمل خلاله قوة الروح القدس (قض 16)... أقصد بذلك قوة الروح والفكر النابع عن قوة الإدراك والفهم، فيرمز له برؤوس التلاميذ]. وكأن الله ليس فقط يحصي أولاده ويعرفهم بأسمائهم وإنما يحصي إمكانياتهم الروحيّة ليسندهم بالفهم الروحي ويعينهم بروحه القدوس.
ج. أمر الله بإعداد هذا الإحصاء ليفصل بين الرجل الأصيل والغريب، ليس لأن الله يميز أحدًا وإنما لكي يدفعنا من حالة التغرُّب عن الله إلى التقرُّب إليه، فيتأكد كل مؤمن أنه مُنتسب لشعب الله، عضو في العائلة السماويّة. وكما يقول الرسول بولس: [فلستم إذًا بعد غرباء ونزلاء بل رعية مع القدِّيسين وأهل بيت الله] (أف 2: 19). فإن الضربة الخطيرة التي يحطم بها العدو الكثيرين هو تشكيكهم في كون الوعد لهم، وأنهم أبناء الله يهتم بهم ويرافقهم. لهذا كثيرًا ما يردد الأشرار القول: "الرب قد ترك الأرض والرب لا يرى" (حز 9: 9). إن كان الشرير قد صار أرضًا ليس له شيء في السمويات يشعر أن الرب فارقه وأنه لا يراه بهذا يزداد في شره ويسقط في اليأس.
د. كشف هذا الإحصاء عن طريقة العمل الإلهي بكونه إله نظام وليس إله تشويش (1 كو 14: 33). كان الأمر الإلهي يدقق في كل صغيرة وكبيرة لكي يسلك هذا الشعب في البريّة بكل ترتيب، ليس فقط في طقس العبادة من ذبائح وصلوات دائمًا حتى في طريقة سيره في البريّة وفي تحديد موقع كل سبط بالنسبة للخيمة أينما حلت، الأمر الذي يفوق الوصف كما سنرى. وكأن الله يريد من مؤمنيه أن يعيشوا بروح الحكمة والتدبير في دراستهم للكتاب وصلواتهم وأصوامهم وجهادهم في الفضائل وسلوكهم، فالإيمان يؤكد الترتيب والنظام بحكمة وروحانيّة دون أن يستعبد الإنسان للنظام في جفاف وعدم مرونة. إنه يؤكد التدبير الكنسي العام بفهم وحيوية ليعمل المؤمنين بالروح القدس الساكن فيهم دون أن تتحول حياتهم إلى روتين جاف بلا روح! لهذا يقول الرسول: "ونطلب إليكم أيها الإخوة انذروا الذين بلا ترتيب" (1 تس 5: 14)، كما يقول: "وليكن كل شيء بلياقة وبحسب ترتيب" (1 كو 14: 40).
ه. ربما دفع هذا الإحصاء الشعب إلى الاهتمام بنسبهم حتى يأتي السيد المسيح له المجد، كلمة الله المتجسد، فيتأكدون من شخصه أنه ابن داود الموعود به. وقد جاء المسيّا إلى العالم مخلصًا للبشرية، وانتهت سجلات النسب ولم يعد أحد يعرف من أي سبط هو.
متى تم هذا الإحصاء؟
حدد الكتاب المقدَّس تاريخ هذا الإحصاء بالسنة الثانية من الخروج في أول الشهر الثاني (ع 1)، لم يكن هذا التاريخ بلا هدف، إنما أراد الله أن يسجل أولاده بعد اجتيازهم ستة مراحل روحيّة خلالها يتأهلوا لهذه الكرامة كأولاد لله مستحقين تسجيل أسماءهم في سفر الحياة، هذه المراحل هي:
أ. انشقاقهم عن الشيطان (فرعون) وتحررهم من عبوديته، واعتزالهم إياه، هذا الذي يتسلط على النفس ويفسدها.
ب. تمتعهم بالمعموديّة المقدَّسة (عبورهم البحر الأحمر).
ج. كفاحهم ضد إبليس (الحرب مع عماليق).
د. تمتعهم بكلمة الله السماوي غذاءً لنفوسهم (المن)، وارتوائهم من الصخرة (السيد المسيح).
ه. اقتناء الحياة الفاضلة بسكنى الله داخلهم (خيمة الاجتماع وسط المَحَلَّة).
ز. التمتع بالاتحاد الدائم مع الله خلال الذبيحة المقدَّسة (الذبائح والتقدمات) والوصيّة الإلهيّة (الشريعة).
في هذا يقول العلامة أوريجينوس: [لماذا لم يُحصى الشعب عند الخروج من مصر؟ لأن فرعون كان لا يزال يتعقبهم. ولماذا لم يُحصى بعد عبور البحر الأحمر عندما بلغ إلى البريّة؟ لأن الإسرائيليّين لم يكونوا بعد قد جُربوا، ولا هاجمهم الأعداء، ولا حاربوا عماليق، ولا نالوا النصرة. لكن نصرة واحدة لا تكفي لبلوغهم الكمال... لقد نُصبت خيمة الاجتماع ومع ذلك لم يحن وقت التعداد، لكن إذا أُعطيت الشريعة لموسى ورُسم طريق تقديم الذبائح ووضحت طقوس التطهير ووُضعت الشرائع وأسرار التقديس حينئذٍ صار أمر الله بتعداد الشعب].
قائمة الإحصاء:
حدد الله فئة الذين يدخلون في قائمة الإحصاء بشروط تحمل مفاهيم روحيّة، ألا وهي:
أ. الذكور لا الإناث (ع 2).
ب. البالغون عشرين عامًا فما فوق (ع 3).
ج. القادرون على الحرب (ع 3).
د. المنتسبون للشعب دون الغرباء (ع 4).
ه. إعفاء اللاويين من الإحصاء (ع 47).
أ. يُحصى الذكور دون الإناث ليس تمييزًا لجنس على حساب جنس آخر، إنما من الجانب الحرفي أعد هذا التعداد كقوائم رجال حرب، الأمر الذي هو من صميم عمل الرجال دون النساء. أما من الجانب الروحي فإن الوصيّة موجهة إلى كل المؤمنين هكذا: "كونوا رجالًا، تقووا" (1 كو 16: 13). هذه وصيّة موجهة للرجال والنساء والشيوخ والأطفال والشباب، لا تحمل المعنى الحرفي إنما التزام كل مؤمن بالنضوج والجهاد الروحي ضد الخطيئة والشر كرجل حرب، يتحمل المسئوليّة ولا يعرف التدليل.
لهذا يقول العلامة أورجينوس: [طالما بقى لأحدنا صفات عجز الأنوثة والفتور... لا نستحق أن نكون محصيّين أمام الله في سفر العدد الطاهر والمقدَّس].
ب. يُحصى البالغون عشرين عامًا فما فوق، أي يكون المؤمن قد تخطى دور الطفولة الروحيّة منطلقًا إلى حياة النضوج الروحي.
وكما يقول العلامة أوريجينوس: [يعلمني النص الحالي أنه إذا اجتزت سذاجة الطفولة، أي توقفت عن أن يكون لي أفكار الطفولة، إذ "لما صرت رجلًا أبطلت ما للطفل" (1 كو 13: 11)، أقول قد صرت شابًا قادرًا على الغلبة على الشرير (1 يو 2: 13)، فظهرت كمستحق لأن أكون بين الذين قيل عنهم أنهم يسيرون في قوة... وأحسب أهلًا للتعداد الإلهي. لكن إن كان لأحد منا أفكار جسدانيّة متأرجحة... فلا يستحق أن يُحصى أمام الله في سفر العدد الطاهر والمقدَّس].
وقد لاحظ العلامة أوريجينوس في تعليقه على إنجيل معلمنا متى البشير في إشباع الجموع قول الكتاب: "والآكلون كانوا نحو خمسة آلاف رجل ماعدا النساء والأولاد" (مت 14: 21)، أن النساء والأولاد روحيًا قد استبعدوا إذ لم يكونوا مستحقين للإحصاء. فإنه يليق بالذين يتمتعون بالبركة الإلهيّة أن يكونوا رجالًا وأن يجلسوا على العشب (مت 14: 9) الذي هو رمز الجسد (إش 40: 6)، أي يخضعون الجسد تحت نفوسهم الناضجة القويّة روحيًا!
ج. قادرون على الحرب، إذ لا يقف الأمر عند السن، إنما يشترط فيمن يُحصون أن يكونوا أقوياء روحيًا قادرين على مجابهة الشيطان وحيله لحساب ملكوت الله.
د. منتسبون لشعب الله، إذ لا يقف الأمر عند السن والإمكانيّة (القوة) إنما يلزم أن يكون مقدسًا، حصل بروح الله على البنوة لله والانتساب للعائلة المقدَّسة، فيتخذ له الآب أبًا والكنيسة أمًا، يجاهد قانونيًا بروح الله العامل فيه كعضو في جسد المسيح المقدَّس.
يقول العلامة أوريجينوس أن كثيرين لهم القوة لكنهم لا يستحقون التمتع بتسجيلهم في الإحصاء الإلهي، لأنهم لم يقبلوا الانتساب الروحي لله في كنيسته المقدَّسة. فاليونانيّون مثلًا لهم قوة حسب الفكر الفلسفي لحساب المجد البشري، والكلدانيّون كان لهم قوة في الدراسات الفلكيّة دون الاهتمام بالحياة الروحيّة فصار لهم العلم الذي ينفخ ما دام بغير روح، وكان للمصريين الحكمة البشريّة لكن بعيدًا عن الله... إننا في حاجة لا إلى التمتع بهذه الإمكانيات فحسب وإنما أن تكون لنا خلال انتسابنا لجسد المسيح المقدَّس.
ه. إعفاء اللاويين، الأمر الذي نعود إليه في نهاية هذا الأصحاح.
|