رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
"يَا مُعَلِّمُ، أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟" (مرقس 4: 38). بهذه الصرخة المليئة بالخوف إندفع التلاميذ نحو المسيح طالبين منه أن يستيقظ من نومه، ويسارع إلى إنقاذهم من العاصفة الهوجاء التي هبت عليهم فيما كانوا مبحرين في السفينة، حيث كانت الرياح والأمواج العاتية تلاطم السفينة من كل جانب وتكاد تغرقهم وتودي بهم إلى الهلاك... وأمام هذا الخطر الذي داهم التلاميذ ، وأصابهم بالفزع والذعر، يقول الإنجيل عن المسيح "وَكَانَ هُوَ فِي الْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِمًا" (مرقس 38:4) لعل صرخة التلاميذ هذه هي خير ما يعبر عما تختلج به أفكار ونفوس الكثيرين من تساؤلات في هذه الأيام، وكأنّ لسان حال الناس المؤمنين يردّدون مع صاحب المزامير قائلين: "يا ربّ لماذا تقفُ بعيداً، لماذا تختفي في أزمنة الضيق؟" (مزمور 10). ولكن ما حدث مع التلاميذ المبحرين بسفينتهم وسط العاصفة، في بحيرة طبرية الهائجة، هو خير صورة تعكس الواقع الذي نمر به في هذه الأيام العصيبة، التي تفشى فيها الوباء في كل مكان في العالم، وحصد آلاف الأرواح في أماكن عديدة... لقد أقيمت صلوات كثيرة في كل مكان، وارتفعت الابتهالات، أحرق البخور وأوقدت الشموع، واقيمت التطوافات بالأيقونات المقدسة في شتى الاصقاع، إلا أنه يبدو وكأن الله لا يستمع إلى صراخنا ولا يستجيب لصلواتنا!!! وكونه لا يستجيب سريعاً لصلواتنا، هذا ليس معناه أنه ضعيف وعاجز عن الإستجابة لأن الكتاب يقول: "هَا إِنَّ يَدَ الرَّبِّ لَمْ تَقْصُرْ عَنْ أَنْ تُخَلِّصَ، وَلَمْ تَثْقَلْ أُذُنُهُ عَنْ أَنْ تَسْمَعَ. بَلْ آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلهِكُمْ، وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ." (إشعيا 59: 2). غير أنه بحكمته العميقة البعيدة جداً عن فهمنا وادراكنا المحدود، يريد للأمور أن تستمر على ما هي عليه وقتاً إضافياً إلى أن يأتي أوان الافتقاد! لو استطعنا أن نتضع قليلاً ونراجع ذواتنا، ونتفحص تعاملات الله مع البشر في التاريخ، لربما كان بإمكاننا أن ندرك أن الرب في "نومه" وصمته هذا إنما يريد أن يكشف للبشرية طبيعتها الخائرة الضعيفة ، التي تمادت في العجرفة والغطرسة والكبرياء، وأرادت أن تستغني عن الله خالقها ومصدر وجودها، وتلقي به وراءها، وتكتفي بذاتها وتشبع من غرورها وأنانيتها، فانصرفت عنه إلى عبادة آلهة أخرى بدلاً منه هي: العقل والعلم والتكنولوجيا والشهوة والمال والسلطة... فرغم كل ما توصلت إليه البشرية من علوم وصناعات وتقنيات تكنولوجية وغزو للفضاء ووو.. ها هي اليوم تقف عاجزة أمام فايروس يكاد لا يرى، فيحطم شموخ الإنسان وتعاليه، ويسحق كبرياءه، ويحطم جبروته الذي أراد به أن يتحدى إله الكون الضابط الكل، ويقاوم أحكامه وإرادته ورسومه التي وضعها في الخليقة... فتم مثلاً تشريع الإجهاض في معظم دول العالم، وبموجب ذلك تقتل في كل يوم عشرات الآلاف من الأجنة الحية بإسم الحرية الشخصية... وفيما خلق الله الإنسان منذ بدء الخليقة ذكراً وأنثى ليبنوا العائلة وتعمر بهم الأرض وقف الإنسان في غرور التحدي والعناد الوقح يقاوم ناموس الله في الطبيعة، وقنن الزواج المثلي وأباح الشذوذ ودعاه حرية شخصية وأعطاه أسماء براقة!! وماذا نقول أيضاً عن الحروب التي يقتل فيها الأبرياء، والتجارة بالأسلحة والجنس والمخدرات وعمليات القتل والسرقة ونهب الثروات الطبيعية التي تخلف سنوياً آلاف الجياع الذين يموتون بسبب جشع الرؤساء وطمع الدول الكبرى ورغبتها في السيادة والتسلط؟؟!! فهل لنا أن نستغرب إن تأخر الرب في الإستجابة؟ ها هو الروح القدس يقول لاورشليم المدينة الساقطة في شرور كثيرة، على لسان أرميا النبي: "يُوَبِّخُكِ شَرُّكِ، وَعِصْيَانُكِ يُؤَدِّبُكِ. فَاعْلَمِي وَانْظُرِي أَنَّ تَرْكَكِ الرَّبَّ إِلهَكِ شَرٌّ وَمُرٌّ، وَأَنَّ خَشْيَتِي لَيْسَتْ فِيكِ، يَقُولُ السَّيِّدُ رَبُّ الْجُنُودِ" (أرميا 19:2) لذلك كيف للعالم أن يتوقع توقف إنتشار الوباء والشفاء منه طالما هو مستمر في عدم اتضاعه وتوبته؟ كيف للشفاء أن يأتي طالما البشر ماضون في قساوة قلوبهم ومظالمهم وجرائمهم وشرورهم؟ أفلا ندرك بعد أن كل ما سمح به الرب أن يحدث هو عصا تأديب لنا "وَأُجْرِي عَلَيْهِمْ نَقْمَاتٍ عَظِيمَةً بِتَأْدِيبِ سَخَطٍ، فَيَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ، إِذْ أَجْعَلُ نَقْمَتِي عَلَيْهِمْ» (حزقيال 25: 17). إن هذا التناقض ما بين إقامتنا للصلوات واستمرارنا في الشر تعبر عنه خير تعبير حكمة بن سيراخ بقوله: "أَيَحْقِدُ إِنْسَانٌ عَلَى إِنْسَانٍ، ثُمَّ يَلْتَمِسُ مِنَ الرَّبِّ الشِّفَاءَ؟" (يشوع بن سيراخ 28: 3) إن بداية الشفاء من الوباء هو "الشفاء الروحي" الذي يبدأ بتوبة وندامه حقيقية وصادقة، يتبعها افتقاد الرب لنا بشفاء الأجساد المصابة "َقُلْ لَهُمْ: هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: ارْجِعُوا إِلَيَّ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ، فَأَرْجِعَ إِلَيْكُمْ..." (زكريا1: 3) ولا نتوقعن أن كثرة الصلوات المرفوعة دون أن نغير طرقنا ومسالكنا الشريرة سوف تغير شيئاً بالنسبة للرب، أو تأتي لنا بالخلاص، لأن الرب سبق وأنبأ عمن ينخدعون بهذا الظن قائلاً: "َحِينَ تَبْسُطُونَ أَيْدِيَكُمْ أَسْتُرُ عَيْنَيَّ عَنْكُمْ، وَإِنْ كَثَّرْتُمُ الصَّلاَةَ لاَ أَسْمَعُ. أَيْدِيكُمْ مَلآنَةٌ دَمًا." (إشعيا 1: 15) إن تأخر الله في الإستجابة و "نومه" الظاهري هذا، يكشف لنا مقدار هشاشتنا وضعف إيماننا، فنسرع، كما التلاميذ في السفينة، لنلقي بكل رجائنا عليه، وعندما يستجيب نُشفى أولاً من أمراضنا الروحية، وهي تأليه الذات والشعور الكاذب بالقوة وعدم الاحتياج لله، لهذا فإن تأخر إستجابته، كما يعلم الآباء القديسون، هي فرصة مؤاتية لشفائنا الروحي بتطهيرنا وتوبتنا وإصلاح سيرتنا. لأنه لو استجاب الرب لصلواتنا في كل مرة بالتوقيت الذي نريده نحن، وبالطريقة التي نريدها ونحددها له نحن، فسوف نسقط في الكبرياء المميت، ونكون كالمريض الذي يملي على الطبيب المعالج شروط علاجة!! هكذا، وقبل أن يهدئ المسيح عاصفة المياه، يهدئ النفوس الهائجة المضطربة بقوله: "ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان؟" (متى 8: 26) لذلك نحن المؤمنين في وسط هذه العاصفة، لدينا الطمأنينة والسلام الداخلي، لأن المسيح في داخلنا فلن نغرق، ولكن وجوده لا يعصمنا من حدوث المحن والتجارب بين الحين والآخر لكي نثبت في التواضع، بل إنها، وإن سمح بحدوثها، هي دليل حبه لنا كأبناء، واهتمامه بتقويمنا "لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ" (عبرانيين 12: 6) "فَاعْلَمْ فِي قَلْبِكَ أَنَّهُ كَمَا يُؤَدِّبُ الإِنْسَانُ ابْنَهُ قَدْ أَدَّبَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ" (تثنية 8: 5) فبصراخ الإيمان والرجاء المقترن بالتوبة الحقيقية سوف "يستيقظ" الرب ويأتي إلى نجدتنا، فيسكن اضطراب الأمواج و يأمر العاصفة أن تهدىء، ويبدد مخاوفنا ويلقي في نفوسنا السلام. لأنه أيضاً كالطبيب الذي بعد أن يجرح لاستئصال ورم الكبرياء منا يعود ويضمد جراحنا "لأَنَّهُ هُوَ يَجْرَحُ وَيَعْصِبُ، يَسْحَقُ وَيَدَاهُ تَشْفِيَانِ." (أيوب 5: 18). |
|