رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
يسوع الحي والإيمان
النص الإنجيلي (يوحنا 6: 60-69) 60 فقالَ كَثيرٌ مِن تَلاميذِه لَمَّا سَمِعوه: ((هذا كَلامٌ عَسير، مَن يُطيقُ سَماعَه ؟)) 61 فعَلِمَ يسوعُ في نَفْسِه أَنَّ تَلاميذَه يَتَذَمَّرونَ مِن ذلك، فقالَ لَهم: ((أَهذا حَجَرُ عَثرَةٍ لكُم؟ 62 فكَيفَ لو رَأيتُمُ ابنَ الإنْسانِ يَصعَدُ إِلى حَيثُ كانَ قَبلاً ؟ 63 إِنَّ الرُّوحَ هو الَّذي يُحيي، وأَمَّا الجَسَدُ فلا يُجْدي نَفْعَاً، والكَلامُ الَّذي كلَّمتُكُم به رُوحٌ وحَياة، 64 ولكِنَّ فيكم مَن لا يُؤمِنون)). ذلكَ بِأَنَّ يسوعَ كانَ يعلَمُ مَنذُ بَدءِ الأَمْرِ مَنِ الَّذينَ لا يُؤمِنون ومَنِ الَّذي سَيُسِلِمُه. 65 ثُمَّ قال: ((ولِذَلِكَ قُلتُ لكم: ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يُقبِلَ إِليَّ إِلاَّ بِهبَةٍ مِنَ الآب)). 66 فارتدَّ عِندَئِذٍ كثيرٌ مِن تَلاميِذه وانقَطعوا عنِ السَّيرِ معَه. 67 فقالَ يسوعُ لِلاثْنَيْ عَشَر: ((أَفلا تُريدونَ أَن تَذهبَوا أَنتُم أَيضاً؟)) 68 أَجابَهُ سِمْعانُ بُطُرس: ((يا ربّ، إِلى مَن نَذهَب وكَلامُ الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ عِندَك؟ 69 ونَحنُ آمَنَّا وعَرَفنا أَنَّكَ قُدُّوسُ الله)) مقدمة اختتم يوحنا خطابه عن خبز الحياة في مجمع كفرناحوم (يوحنا 6: 61-69) مبيّنا الآية التي طلبها اليهود ليؤمنوا به حيث أن أقوال يسوع عن حياته وكيانه الإلهي لا تصدّق بالقوى البشرية، وإنما بقوة الإيمان. ولا بُدّ للإنسان من أن يتخذ حيالها موقفاً. وعلى هذا الموقف الذي يتخذه الإنسان يتوقف مصيره. واختيار المسيح في الحياة، هو الحياة، ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل يوحنا (يوحنا 6: 61-69) 60 فقالَ كَثيرٌ مِن تَلاميذِه لَمَّا سَمِعوه: هذا كَلامٌ عَسير، مَن يُطيقُ سَماعَه؟ تشير عبارة " كَثيرٌ مِن تَلاميذِه " إلى التلاميذ الذين هم غير المؤمنين الحقيقيين بل الذين تبعوه متظاهرين بأنهم تلاميذه كما جاء في قول المسيح "ولكِنَّ فيكم مَن لا يُؤمِنون" (يوحنا 6: 64). أمَّا عبارة "سَمِعوه" فتشير إلى موقف يسوع إزاء هذه "الكلمة" التي تضعهم في صلة مع الله نفسه. يتقبلها سامعوها المتنوعون بصور مختلفة. فالجميع " يسمعونها " ولكن لا يرى ثمرها إلا الذين يفهمونها (متى 13: 3) أو يقبلونها (مرقس 4: 2) أو يحفظونها (لوقا 8: 15). ويقابل يسوع مصير الذين " يسمعون كلامه ويعملون به "، بمصير الذين " يسمعونه بدون أن يعملوا به " (متى 24:7 و26). ويبيّن الإنجيل الانقسام الذي حدث بين مستمعي يسوع بسبب كلامه (يوحنا 10: 19). فمن ناحية، فريق يؤمن (يوحنا 2: 22، 4: 39 و1 4 و50)، ويسمع كلامه (5: 24)، ويحفظه (8: 51-52، 14: 23-24، 15: 20)، ويثبت فبه (8: 31) وينبت كلام يسوع فيه (15: 7). فهؤلاء لهم الحياة الأبدية (5: 24) ولا يرون الموت أبداً (8: 51). ومن الناحية الأخرى، هناك من يجدون هذا الكلام عسيراً جداً (6: 6) "ولا يستطيعون الاستماع إليه " (8: 43)، وبالتالي يرفضونه ويعرضون عن المسيح: هؤلاء سوف يحكم عليهم كلام المسيح ذاته في اليوم الأخير (12: 48) لأنه لم يتكلّم من نفسه بل كلامه من قبل الآب (12: 49، 17: 14). وكلام الآب حق (17: 17). لذلك، فاتخاذ موقف من كلمة يسوع أو من شخصه أو من الله هو أمر واحد. وتبعاً للموقف الذي يتخذه الإنسان، يجد نفسه داخلاً في حياة فائقة الطبيعة قوامها الإيمان، والثقة، والمحبة أو بالعكس، مطروحاً في ظلمات العالم الشرير. أمَّا عبارة " هذا كَلامٌ عَسير، مَن يُطيقُ سَماعَه؟" فتشير إلى قول يسوع " أَنا خُبزُ الحَياة" (يوحنا 6: 35) وقوله "من أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه " (يوحنا 6: 56). كان صدى هذا الكلام صدمة كثير من التلاميذ بلحم يُؤكل ودم يُشرب، لأنهم توقّفوا عند المعنى المادي، ونسوا إلى ما يشير إليه الخبز والخمر: هي حياة (الدم) يسوع التي تُعطى لنا، وجسده الذي يُقدّم من أجلنا. فالجسد رمز موته والدم رمز قيامته المجيدة. وعلى ضوء إعلان يسوع لسر الإفخارستيا، وتقديم جسده ودمه حياة أبدية، أعرض معظم تلاميذه عنه. ولكن المسيح لم يقدم تنازلات ولم يتراجع عن كلامه، بل لمَّح إلى سبب رفض كلامه بقوله " الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكَ: إنَّنا نتكلَّمُ بِما نَعلَم، ونَشهَدُ بِمَا رَأَينا ولكِنَّكُم لا تَقبَلونَ شَهادَتَنا" (يوحنا 3: 11). ويُعلق القديس أوغسطينوس " ربما كُتب هذا لتعزيتنا. لأنه أحيانًا يحدث أن يعلن إنسان الحق فلا يُفهم قوله، فيعارضه سامعوه ويتركوه. يتأسف الإنسان أنه قال الحق، ويقول في نفسه: "كان يليق بي ألا أتكلم هكذا، كان يلزمني ألا أقول هذا". ويبدو في كل الأزمنة أن تعليم يسوع عسير ويصعب قبوله وتنفيذه، وكثيرون اليوم ما زالوا مشككين إزاء مفارقة الإيمان المسيحي، فهناك أشخاص رفضوه وآخرون عمدوا إلى مطابقة الكلام مع أنماط الأزمنة وتجريده من معناه وقيمته. 61 فعَلِمَ يسوعُ في نَفْسِه أَنَّ تَلاميذَه يَتَذَمَّرونَ مِن ذلك، فقالَ لَهم: أَهذا حَجَرُ عَثرَةٍ لكُم؟ تشير عبارة " فعَلِمَ يسوعُ في نَفْسِه " إلى العلم الإلهي كونه ابن الله " ولا يَحتاجُ إِلى مَن يَشهَدُ لَه في شَأنِ الإِنْسان، فقَد كانَ يَعلَمُ ما في الإِنسان" (يوحنا 2: 25) يسوع، كونه الكلمة الإلهي قادر أن يُميز أفكار القلب كما يوضِّح ذلك صاحب الرسالة إلى العبرانيين " وبِوُسْعِه أَن يَحكُمَ على خَواطِرِ القَلْبِ وأَفكارِه، وما مِن خَلقٍ يَخْفى علَيه، بل كُلُّ شيَءٍ عارٍ مَكْشوفٌ لِعَينَيه" (عبرانيين 4: 12-13). أمَّا عبارة " َتَذَمَّرونَ" فتشير إلى استياء تلاميذ يسوع وسخطهم وعدم رضاهم، إذ كيف يمكن للجسد البشري أن يغرس فينا حياة أبدية، كيف يمكن لشيءٍ من نفس طبيعتنا أن يهب خلودًا؟ إن كلمات يسوع تدخلنا دائما في أزمة، أمام روح العالم. وبالرغم من تذمر التلاميذ وتشككهم أصرَّ يسوع إصراراً تاما على أقواله، لا بل كرَّرها مراراً وأكَّدها تأكيداً قاطعاً لا يدع مجالاً للشك، وهذا دليل على أنه يعني ما يقول فهو لم يأتي ليرضى الناس ويُسمِعَهم ما يحبون سماعه فقط بل لكي ينقل لهم رسالته السماوية السامية، ويريد أن يرفعهم إلى مستواه. أما عبارة " أَهذا حَجَرُ عَثرَةٍ لكُم؟ " فتشير إلى ما قاله يسوع " أَنا الخُبزُ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء" (يوحنا 6: 41) وهو خلاف ما ظنوه من أنه ابن يوسف نجار الناصرة، وتشير أيضا إلى قوله أيضا " مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة" (يوحنا 6: 54) لأنه خلاف ما توقعوه من المسيح المنتظر. أمَّا عبارة “حَجَرُ عَثرَةٍ" فتشير في لغة الكتاب المقدس إلى ما يُمتحن من الإيمان. لقد سبق سمعان الشيخ وقال "ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض" (لوقا 2: 34). فالمصاعب التي تُثيرها أقوال يسوع الفائقة الطبيعة من شأنها أن تكون امتحانا شاقاً لإيمان تلاميذه. 62 فكَيفَ لو رَأيتُمُ ابنَ الإنْسانِ يَصعَدُ إِلى حَيثُ كانَ قَبلاً؟ تُشير عبارة " لو رَأيتُمُ" إلى الرؤيا الصحيحة ومعرفة يسوع الحقيقية أنه ليس مجرد إنسان عادي أي هو ابن يوسف ومريم فحسب إنما هو أيضا ابن الله. أمَّا عبارة "يَصعَدُ إبنَ الإنْسانِ ِإلى حَيثُ كانَ قَبلاً" فتشير إلى أصل يسوع وكيانه الإلهي مما يدل على أن يسوع هو إنسان حقا والها حقا. وقد استخدم المسيح هذا المعنى في حواره مع نيقوديمس قال: "فما مِن أَحَدٍ يَصعَدُ إِلى السَّماء إِلاَّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء وهو ابنُ الإِنسان " (يوحنا 3: 13). فإن صعود ابن الإنسان إلى السماء حيث كان سابقًا وتمتُّعه بقوة الروح، يصبح بجسده، النبع الذي يتفجر حياة للعالم. ويُعلق القديس كيرلس الكبير "إن كنتم تفترضون أن جسدي لا يستطيع أن يهبكم حياة، فكيف له أن يصعد إلى السماء؟ لأنه إن كان لا يقدر أن يُحيي، لأنه ليس من طبيعته أن يُحيي، فكيف سيُحلق في الهواء، وكيف يصعد إلى السماء؟". ولكن صعوده في المجد سيكون عن طريق الصليب (يوحنا 12: 33)، وطريق الصليب هو حجر العثرة؛ إذ أن الصليب هو الصدمة الكبرى (يوحنا 16: 1). ولكن في نظر الإيمان، الصليب هو عودة ابن الإنسان في المجد الذي له منذ خَلْقِ العالم (يوحنا 1: 15). وهكذا لا بد للوصول إلى تمجيد يسوع (ساعة موته وقيامته) وهبة الروح القدس الناتجة عنه (يوحنا 7: 39) من خلال صليب يسوع (يوحنا 13: 7). وعندئذ يتمّ اكتشاف المجد النهائي والاعتراف بحقيقة أقوال يسوع وما في الإفخارستيا من قدرة حياتية. ويُعلق البابا بندكتس السادس عشر للشبيبة العالمية 2005 "يجب على الإفخارستيًا أن تصبح محور حياتنا". أمَّا عبارة "حَيثُ كانَ قَبلاً " فتشير إلى وجود يسوع قبل تجسده أي بأزليته، ونجد في الآية أنَّ جواب الشرط محذوف وتقديره: هل تعثرون أيضا. يوحي يسوع في هذه الآية عن نفسه على أنه شخصٌ مكانه في السماء كما على الأرض. فيسوع ينتمي إلى كلا المكانين لأنه الكلمة المتجسد. 63 إِنَّ الرُّوحَ هو الَّذي يُحيي، وأمَّا الجَسَدُ فلا يُجْدي نَفْعَاً، والكَلامُ الَّذي كلَّمتُكُم به رُوحٌ وحَياة تشير عبارة "الرُّوحَ" إلى القدرة الإلهية التي توجّه الوجود المسيحي وما يتضمنه من إمكانيات، حيث أن الإنسان لا يدرك الحقيقة السماوية إلاَّ بنعمة الروح القدس. فالروح هنا يدل على الاستنارة التي يُعطينا إياها الروح القدس فندرك الحق. وهذا الإدراك، هو الروح القدس كما صرّح يسوع " يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه" (يوحنا 16: 14). فهبة الروح القدس وحدها تُنير المؤمنين إلى معرفة الحقائق الروحية التي تتجلَّى في أقوال يسوع حول الخبز الحي وحقيقة الصلب والقيامة (يوحنا 16: 26). ولا يُمكن فهم كلام يسوع إلا من خلال عمل الروح القدس. الروح القدس يجعلنا نفهم يسوع وتعليمه. وحينما نفهم نؤمن فتكون لنا حياة. أمَّا عبارة " يُحيي " فتشير إلى إعطاء الحياة الروحية "مَولودُ الرُّوحِ يَكونُ روحاً"(يوحنا 3: 6)؛ والروح القدس هو الذي يُذكرنا بكل تعاليم المسيح ويُعيننا على تنفيذها (يوحنا 14: 26)، ومن ينفذ تعاليم الروح القدس يُثبِّته الروح في المسيح فيحيا حياة المسيح. ويُعلق القديس أوغسطينوس "إنه الروح الذي يجعلنا أعضاء حيّة ... وما يخشاه المسيحي هو انفصاله عن جسد المسيح، لأنه من لا يكون عضوا ً في جسد المسيح لا يحيا بروح المسيح. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول: "مَن لم يَكُنْ فيه رُوحُ المسيح فما هو مِن خاصَّتِه "(رومة 8: 9). أمَّا عبارة "الجَسَدُ" فتشير إلى الطبيعة البشرية بما فيها من إمكانيات وحدود. الجسد هنا في كلام المسيح يشير للفهم العقلي والمنطق البشري. وبعبارة أخرى في الآية هناك مقارنةً بين الروح والجسد. فالإنسان الذي يبقى على المستوى البشري (اللحم والدم)، لا يقدر بحد ذاته أن يُدرك المعنى الحقيقي لأقوال يسوع وأعماله، ولا أن يؤمن به. أمَّا الإنسان الذي يعيش على مستوى الروح فتنفتح بصيرة عينيه حول كلمة الرب ويُدرك المسيح وأقواله وتعاليمه على حقيقتها. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " إن يسوع لا يتحدث عن جسده، حاشا! بل عن الذين يقبلون كلماته بطريقة جسدية، أي التطلع إلى ما هو أمام عيوننا مجردًا دون تصور ما هو وراءه، هذا هو الفهم الجسدي. ولكن يليق بنا ألا نحكم هكذا بالنظر بل أن نتطلع إلى كل الأسرار بالعيون الداخلية. هذا هو "النظر روحيًا". فبعد الصعود يرسل المسيح الروح القدس. والروح هو الذي يُحوِّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، وهو الذي يُثبتنا في المسيح فنحيا. لذلك هو الروح القدس المحيي أي "واهب الحياة". أمَّا عبارة "الكَلامُ الَّذي كلَّمتُكُم به رُوحٌ وحَياة" فتشير إلى الإنجيل المقدس وجسد المسيح ودمه، ويُعلق القديس ايرونيموس "إنّ كلمات الرّب: "مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي" (يوحنا 6: 56) تجد تحقيقها في سرّ الإفخارستيّا؛ ولكنّ جسدَ المسيح الحقيقي ودمَه الحقيقي، هما أيضًا كلمات الكتاب المقدّس والعقيدة الإلهيّة" (الرسالة 53 إلى بولينُس). وقد عجزت سبل المعرفة التي في متناول الإنسان عن فهم أقوال يسوع وآياته من معنى بعيد الغور (يوحنا 3: 6)، وفي الواقع، لا يستطيع الإنسان إدراك سرَّ المسيح والحقيقة السماوية بمجرد قواه البشرية إنما بنعمة الروح القدس. 64 ولكِنَّ فيكم مَن لا يُؤمِنون. ذلكَ بِأَنَّ يسوعَ كانَ يعلَمُ مَنذُ بَدءِ الأَمْرِ مَنِ الَّذينَ لا يُؤمِنون ومَنِ الَّذي سَيُسِلِمُه تشير عبارة "مَن لا يُؤمِنون" إلى عدم الإيمان الذي هو السبب الحقيقي في عدم فهم كلام يسوع، كما يؤكد ذلك بولس الرسول " فالإِنسانُ البَشَرِيُّ لا يَقبَلُ ما هو مِن رُوحِ الله" (1 قورنتس 2: 14)، ويوضِّح القديس أوغسطينوس لماذا بعض التلاميذ لا يؤمنون فيقول " لا يفهمون، إذ هم لا يؤمنون. إذ يقول النبي: "إن لم تؤمنوا لا تفهمون" (أشعيا 7: 9 بحسب الترجمة السبعينية). نحن نتحد بالإيمان، ونحيا بالفهم. لنقترب إليه أولًا بالإيمان حتى نحيا بالفهم"؛ أما عبارة " بِأَنَّ يسوعَ كانَ يعلَمُ " فتشير إلى حالة يهوذا بن سمعان الإسخريوطي الذي سيُسلمه " فقَد كانَ يَعرِفُ يسوع مَن سَيُسْلِمُه " (يوحنا 13: 11) والى حالة الذين تركوه أيضا، معلنًا أن ما سيحدث ليس بغريبٍ عنه، لأنه من البدء كان عالماً بكل هذا. وهذا يعني أن يسوع يعرف ساعة آلامه ويذهب لملاقاتها فيُشرف بنفسه على آلامه فلا يؤخذ على غفلة منه (يوحنا 2: 4). وكشف يسوع أن ما سيحدث هو بكامل حريتهم. فالذين لا يؤمنون بأقوال يسوع (يوحنا 2: 24-25) يتركون يسوع بسبب حجر عثرة الصليب ويُسهمون في تسليمه إلى الموت. أمَّا عبارة "مَنذُ بَدءِ الأَمْرِ " في الأصل اليوناني ἐξ ἀρχῆς فتشير بلغة القديس يوحنا إلى أزلية السيد المسيح ولاهوته (يوحنا 1: 1). كان يسوع يعرف ما في قلوب الناس بقوته الإلهية فلو لم يكن هو الله لاستحال أن يعلم ذلك. أمَّا هنا فتدل هذه العبارة على بدء خدمة يسوع وإتباع التلاميذ الذين يصحبونه (يوحنا 15: 26). أمَّا عبارة " ومَنِ الَّذي سَيُسِلِمُه" فتشير إلى خيانة يهوذا الإسخريوطي التي كان يسوع يعلمها مسبقا فكانت جزئا من آلامه التي احتملها على الأرض؛ واظهر يسوع الصبر العظيم باحتماله من عرف خداعة وظل يعلمه ويحذِّره. 65 ثُمَّ قال: ولِذَلِكَ قُلتُ لكم: ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يُقبِلَ إِليَّ إِلاَّ بِهبَةٍ مِنَ الآب تشير عبارة "ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يُقبِلَ إِليَّ إِلاَّ بِهبَةٍ مِنَ الآب" إلى اجتذاب الأب الذي يعطي النعمة للإنسان ليؤمن بابنه يسوع من ناحية، والى عمل داخلي في القلب بالروح القدس حيث يقبل الإنسان إلى يسوع ويثق في كلامه ويُحبُه من ناحية أخرى. فالتجديد الروحي يبدأ وينتهي بالله. والمسيح يُعلن أن من يأتي إليه فهو قد أعطاه له الآب. فمجيء إلى المسيح وقبوله ليس محاولة بشرية محضة، بل هي نعمة خاصة من الله يتجاوب معها المؤمن. ويُعلق القديس كيرلس الكبير "إن الله لا يميز بين فريق وآخر، إنما من يطلب يجد، ومن يسأل عن الحق يسلمه الآب للحق ويثبته فيه فلا يسقط". أمَّا عبارة " ِهبَةٍ مِنَ الآب " فتشير إلى الإيمان الذي هو عطية من الله وليس عن استحقاق الإنسان كما جاء في تعليم المسيح " ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يُقبِلَ إِليَّ، إِّلا إِذا اجتَذَبَه الآبُ الَّذي أرسَلَني" (يوحنا 6: 44). وهكذا إن إيمان الإنسان هو تجاوب مع هذه الهبة. 66 فارتدَّ عِندَئِذٍ كثيرٌ مِن تَلاميِذه وانقَطعوا عنِ السَّيرِ معَه تشير عبارة "فارتدَّ" في الأصل اليوناني ἀπῆλθον εἰς τὰ ὀπίσω (معناها رجعوا إلى الوراء) فتشير إلى "الرجوع إلى الأمور التي تركوها خلفهم"، الرجوع وملاحقة أمور سابقة كانت محور حياة التلاميذ قبل السير معه". هو موقف الارتداد العلني والعودة إلى الأشياء التي تمسك بها التلاميذ قبل اتباعهم يسوع. وكما قال صاحب المزامير "أَربَعينَ سَنَةً سَئِمت ذلِكَ الجيل وقُلتُ: ((هُم شَعبٌ ضَلَّت قُلوبُهم" (مزمور 95: 10)، هو موقف الإحباط والتوهم والفشل. ونستنتج من ذلك إن ارتداد التلاميذ عن يسوع يدلُّ على أن القرار الأول لإتباعه لا يكفي، بل لا بدّ من اختيار متواصل لدعوة يسوع ورسالته وإلا قد يتحوّل القلب عنه تعالى. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "أنهم حرموا أنفسهم من أي نمو في الفضيلة، وباعتزالهم فقدوا الإيمان الذي كان لهم قديمًا. لكن هذا لم يحدث للاثني عشر". وهذا يؤكد قول يسوع "لأَنَّ جَماعَةَ النَّاسِ مَدْعُوُّون، ولكِنَّ القَليلينَ هُمُ المُخْتارون " (متى 22: 14). وهذا أمر يدل على أنَّ إخفاق تعليم يسوع الديني الجوهري، بخصوص كيانه الإلهي ووجوده في القربان الأقدس من ناحية، ومن ناحية أخرى تدل أيضا على تبدُّد حماس التلاميذ أمام حقيقة تكثير الخبز. إن القوة الغريبة لكلمات يسوع تكشف الذين هم حقا له. ويسوع لم يقل لهؤلاء شيئًا، فهو لا يُرغم أحد على البقاء معه. فمن لا يريد أن يبقى معه ثابتا فيه يتقيأه من فمه أي يخرجه من الثبات فيه كما جاء في رؤية يوحنا الرسول " أَمَّا وأَنتَ فاتِر، لا حارٌّ ولا باِرِد، فسأَتَقَيَّأُكَ مِن فَمي" (رؤيا 3: 16). ولكن يسوع، أمام هذا التراجع، لا يقلل من حدة كلامه، بل على العكس اخذ يُجبرهم على القيام باختيار واضح: إما البقاء معه وإما الانفصال عنه كما صرَّح " مَن لَم يكُنْ معي كانَ عليَّ، ومَن لم يَجمَعْ معي كان مُبَدِّداً" (متى 12: 30). أما عبارة “عِندَئِذٍ " في الأصل اليوناني Ἐκ τούτου (معناها منذ هذا) فتشير إلى لحظة التحول واتخاذ القرار من قبل التلاميذ تجاه الوحي الذي أعلنه يسوع عن نفسه " جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدمي شَرابٌ حَقّ " (يوحنا 6: 55)؛ أي الوقت الذي فيه يسوع القى خطاب حول الخبز الحي النازل من السماء. وهذا الخطاب أظهر روحانية تعليمه وكشف إيمان سامعيه. وعندما أوحى يسوع أنه طعامٌ لنيل الحياة الأبدية، كان يسوع حجر عثرة لتلاميذه بدلاً من تقوية مسيرة اتباعهم له. أمَّا عبارة "انقَطعوا عنِ السَّيرِ معَه" فتشير إلى هجر كثير من تلاميذ يسوع ولم يرافقوه بعد ذلك ليسمعوا تعاليمه بل انفصلوا عنه ورجعوا إلى منازلهم، لأنهم لم يستطيعوا استيعاب تعاليمه وتقبّله، حيث أن القرار الأولي في اتباع المعلم يجب أن يتوافق مع القدرة على تقبل وحي الله في التاريخ، وقد خسر هؤلاء التلاميذ فرصة ذهبية، لأنه إذا كان هذا الخبز، الذي يقدِّمه يسوع، هو الحياة، فإن انقطاعهم عن السير معه يؤدي إلى الموت. ولم يقل يسوع شيئًا للذين رجعوا إلى الوراء، فإنه لا يُلزم أحدًا بالإيمان، ويعلق القديس قبريانس "يسوع لم يوبِّخ الذين تركوه ولا هدَّدهم بطريقة محترمًا بالحق القانون الذي به يمارس الإنسان حريته ويبقى في حرية إرادته يختار الموت أو الخلاص". وبعد الشعبية التي تلت المعجزة "كانوا يهمُّون أن يقيمونه ملكاً" فها هم ينسحبون عنه واحداً تلو الآخر: هل لأن أفكار يسوع ليست أفكارهم؟ هل لانَّ تعاليمه صعبة الفهم؟ هل لانّهم لا يؤمنون بيسوع وقدرته الإلهية وكيانه الإلهي؟ أم هل لانَّهم أدركوا انه لن يكون المسيح الملك المنتصر الذي انتظروه؟ وأخيراً هل لأنهم شعروا أن يسوع رفض الخضوع لطلباتهم الأنانية؟ هل استجابتنا ليسوع ناجمة عن عدم إيمان أو رفض يسوع أم إهمال بعض تعاليمه؟ هؤلاء الذين تركوه لم يكن لهم إيمان حقيقي. فمن له الإيمان الحقيقي يظل تابعًا للمسيح حتى لو لم يفهم تمامًا ما يقوله. ثقتنا في المسيح تجعلني نتبعه حتى لو لم نفهم الآن ما يقول أو ما يصنع. لقد تكلم الرب وفقَدَ الكثيرين، وبقي معه قليلون. ومع هذا لم يضطرب، لأنه عرف من البداية من الذين يؤمنون ومن الذين لا يؤمنون. فلا عجب إن عجز المُبشرون اليوم إن يرضوا الناس وهم يُبشرون بالإنجيل. إن حدث هذا معنا فإننا ننزعج بمرارة، لكننا هنا نجد تعزية راحة في الرب ولنتكلم بوقار. 67 فقالَ يسوعُ لِلاثْنَيْ عَشَر: ((أَفلا تُريدونَ أَن تَذهبَوا أَنتُم أَيضاً؟)) تشير عبارة "اِلاثْنَيْ عَشَر" إلى أول ذكر لرسله في إنجيل يوحنا، وهؤلاء هم التلاميذ المقرَّبين منه. واستمر هذا اسما للتلاميذ حتى بعد غياب يهوذا. أما عبارة "أَفلا تُريدونَ أَن تَذهبَوا أَنتُم أَيضاً؟" فتشيرإلى طلب يسوع من تلاميذه أن يلتزموا ويثقوا فيه، ويثبتوا في الحق بكامل حرية إرادتهم دون ضغط أو حرج. فإما أن يعلنوا إيمانهم بيسوع، وإمَّا أن يرحلوا؛ لا يقبل يسوع حل وسط. المسيح يضع الاثني عشر أمام حريتهم ليختاروا. فالقضية هي قضية وجوده، وقضية رسالته. وقضية حرية الإنسان. يسوع يُعلِّم الناس الحقيقة. فإمَّا أن يقبلوها وإمَّا أن يرفضوها بسبب عدم إيمانهم. ولم يكن الرب يسوع يحاول أن يطرد الناس بتعاليمه أو ينفرهم. بل إنه كان بساطة يُخبرهم بالحقيقة. انقسم الناس تجاه يسوع ورسالته قسمين: فئة الاثني عشر الأمناء الذين آمنوا حقا وبقوا معه يريدون أن يفهموا المزيد، وفئة الرافضين بسبب عدم استساغتهم لما يسمعون. المؤمن الأصيل لا ينبغي أن تردَّه عن المسيح صعوبة فهم، ولا عُسر إيمان. ولايزال المسيح يعرض على كل إنسان قوله " العلك أنت أيضا تريد أن تمضي؟" نحن نقف كل يوم أمام هذه الاختيار. ونتسأل إلى أيّ حدّ نحن على استعداد للسير معه في طريق الجلجلة؟ 68 أَجابَهُ سِمْعانُ بُطُرس: ((يا ربّ، إِلى مَن نَذهَب وكَلامُ الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ عِندَك))؟ تشير عبارة "أَجابَهُ سِمْعانُ بُطُرس" إلى تكلم بطرس باسم الرسل للتعبير عن موقفهم كعادته أن يسبقهم وينوب عنهم (متى 16: 16).أمَّا عبارة " سِمْعانُ " فتشير إلى اسم عبراني שִׁמְעוֹן معناه مستمع؛ أما بطرس فهو اسم عبري פֶּטְרוֹס معناه صخرة أو حجر. وكان هذا الرسول يُسمَّى أولاً سمعان واسم أبيه يونا (متى 16: 17) واسم أخيه اندراوس، واسم مدينته بيت صيدا. فلما تبع يسوع سماه يسوع "كيفا" وهي كلمة آرامية כֵיפָא معناها صخرة، يقابلها في العربية صفا أي صخرة. والصخرة باليونانية بيتروس Πέτρος ومنها بطرس (يوحنا 1: 42)؛ وكانت مهنة بطرس صيد السمك (مرقس 1: 16). أمَّا عبارة " يا ربّ، إِلى مَن نَذهَب وكَلامُ الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ عِندَك؟" فتشير إلى جواب بطرس نيابة عن الرسل وبشهادتهم الذي يتّخذ موقف العزم الحقيقي مبيّنا أن ليس هناك طريق أخرى غير يسوع؛ فيسوع هو وحده الذي يعطي الحياة، بل هو المصدر الوحيد للحياة. وفي هذا الجواب نجد فيه إقرار بالمحبة والثقة والطاعة. إنّه جواب القلب لجاذبيّة الربّ. فكان جواب بطرس يُذكرنا بجواب راعوت مع حماتها نُعْمي "لا تُلِحِّي علَيَّ أَن أَترُكَكِ وأَرجعَ عَنكِ، فإِنِّي حَيثُما ذَهَبتِ أَذهَبْ وحَيثُما بِتِّ أَبِتْ شَعبُكِ شَعْبي وإِلهُكِ إِلهي " (راعوت 1: 16). ويُعلق القديس كيرلس الكبير "معك سنبقى، وبوصاياك نلتصق إلى الأبد، ونقبل كلماتك دون أن نعثر بها". اختار الرسل الطريق المؤدي إلى يسوع الحياة، في حين بعض التلاميذ اتخذوا الاتجاه المعاكس وانقطعوا عن الحياة. بطرس والرسل اختاروا يسوع الحي، ومن أختار يسوع في الحياة، ينال الحياة الأبدية. في الوقت الذي قرَّر فيه بعض التلاميذ مواجهة كلمات يسوع برفضهم للرب، فإن التلاميذ الاثني عشر وأجهوها بالإقبال نحوه فنمى إيمانهم ونضج. أمَّا عبارة "كَلامُ الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ" فتشير إلى كل كلمة يقولها الرب يسوع التي تعطي حياة. فالأصغاء إلى كلام يسوع هو الطريق الوحيد لنيل الحياة الأبدية. فان المسيح لكونه " الحق والحياة" يقدر إن يمنح الحياة للناس. فالرب يعطي حياة أبدية، وأكد بطرس قول يسوع "الكَلامُ الَّذي كلَّمتُكُم به رُوحٌ وحَياة"(يوحنا 6: 63)؛ أجاب بطرس نيابة عنّا كلّنا، أن يسوع هو وحده الّذي يُعطي الحياة. أمَّا عبارة" الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ " فتشير إلى حياة الله والمسيح في المؤمن المولود ثانية (يوحنا 3: 3). فالحياة الأبدية عطية إلهية "أَنَّ اللهَ وَهَبَ لَنا الحَياةَ الأَبدِيَّة وأَنَّ هذهِ الحياةَ هي في ابنِه. مَن كانَ لَه الابنُ كانَت لَه الحَياة. مَن لم يَكُنْ لَه ابنُ الله لم تَكُنْ لَه الحَياة. " (1يوحنا 5: 11-12). وتأتي هذه الحياة فقط "بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا" (رومية 6: 23). والحياة الأبدية موجودة خارج وفوق الزمن. ومحور الحياة الأبدية ليس هو مستقبلنا، بل موقفنا الحالي في المسيح. "مَن آمَنَ بِالابن فلهُ الحَياةُ الأَبديَّة "(يوحنا 3: 36). فالحياة الأبدية ترتبط ارتباطا وثيقاً بشخص الرب يسوع المسيح، وهي معرفة الآب والابن كما صرَّح يسوع " الحَياةُ الأَبدِيَّة هي أَن يَعرِفوكَ أَنت الإِلهَ الحَقَّ وحدَكَ ويَعرِفوا الَّذي أَرسَلتَه يَسوعَ المَسيح" (يوحنا 17: 3)، وهذه المعرفة هي معرفة حقيقية وشخصية وليس مجرد إدراك أكاديمي كما جاء في تصريح بولس الرسول " فأَعرِفَهُ وأَعرِفَ قُوَّةَ قِيامتِه والمُشارَكَةَ في آلامِه فأَتمثَّلَ بِه في مَوتِه، لَعَلي أَبلُغُ القِيامةَ مِن بَينِ الأَموات" (فيلبي 3: 10-11). أمَّا عبارة " الأَبَدِيَّةِ" في الأصلاليوناني αἰώνιος (تدل على الصفة وأيضاً المقدار)تشير إلى حياة "دائمة"، أي أنها تستمر بلا نهاية، حياة ليست مرتبطة حقاً بعدد السنين، لأنها منفصلة عن الزمان. 69 ونَحنُ آمَنَّا وعَرَفنا أَنَّكَ قُدُّوسُ الله تشير عبارة "ونَحنُ آمَنَّا وعَرَفنا" إلى التلاميذ الذين سمحوا لأنفسهم أن يُقبلوا إلى الآب (يوحنا 6: 43، 65)، وأن تكون لديهم الثقة التي اختبروها أنها تؤدي إلى الحياة. أمَّا عبارة "آمَنَّا " فتشير إلى الإيمان الحقيقي الذي هو الانضمام بلا تحفظ إلى يسوع الذي تَعِد أقواله بالحياة الأبدية، فهو فعلا المُرسل الذي كرّسه الله (يوحنا 17: 17-19). ونستنتج من هذه العبارة الإيمان يأتي أولًا ثم المعرفة. أمَّا عبارة " وعَرَفنا أَنَّكَ قُدُّوسُ الله " فتشير إلى شهادة بلاهوت يسوع الذي هو صور الله القدوس على الأرض "هو صُورَةُ اللهِ الَّذي لا يُرى " (قولسي 1: 15). ويذكر هذا المشهد باعتراف بطرس في قيصرية " أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ " (متى 16: 16). أما عبارة "عَرَفنا " فتشير إلى عدم تجاهل بطرس لدور المعرفة، حيث آمن هو والرسل بابن الله الحي، وعرفوا أسراره نتيجة اختبار الالتصاق به والعشرة والشركة معه. ويُعلق القديس كيرلس الكبير " يقولون إنهم يؤمنون ويعرفون، فيربطون الأمرين معًا. لأنه يجب على الإنسان أن يؤمن وأيضًا أن يفهم. ليس معنى أننا نقبل الأمور الإلهية بالإيمان أن نبتعد تمامًا عن أي فحص لها، بل نحاول بالأحرى أن نبلغ إلى معرفة معتدلة، فالرسل لم يقولوا عرفوا أولًا ثم آمنوا، إذ يضعون الإيمان أولًا ويلحقونه بالمعرفة، ولكن ليس قبل الإيمان. كما هو مكتوب: "إن لم تؤمنوا لن تفهموا" (أشعيا 7: 9 بحسب الترجمة السبعينية). ويوضِّح القديس أوغسطينوس بقوله "لقد آمنا لكي نعرف؛ لأننا إن أردنا أن نعرف أولًا وعندئذ نؤمن، لن نستطيع أن نعرف ولا أن نؤمن". أمّأ عبارة "قُدُّوسُ الله" فتشير إلى الله الذي هو وحده قدوس وقداسته تشمل كل ما هو له أو ما كُرّس له. أما عبارة "قُدُّوسُ" فتشير إلى الانتماء إلى الله وحده، وهو من أقدم التعابير عن ألوهية يسوع كما جاء في عظة بطرس للشعب "أَنكَرتُمُ القُدُّوسَ البارّ " (أعمال الرسل 3: 14). فيسوع هو "قدوس الله" بكل معنى الكلمة، لأنه المسيح وابن الله. فذات المسيح القدوسة كلها آيات وأسرار، (مولده العجيب، إحياؤه الموتى، موته على الصليب بإرادته، وقيامته من القبر بقوته، وصعوده إلى السماء) لا يقبلها الإنسان إلا بالإيمان. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 6: 61-69) بعد دراسة وتحليل وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 6: 61-69) يمكننا أن نستنتج أن النص يتمحور حول موضوع الإيمان: قبول المسيح أم رفضه. ومن هنا نسأل: ما معنى الإيمان؟ وكيف نعيش إيماننا بالمسيح؟ 1) ما معنى الإيمان؟ نجد في الكتاب المقدس لفظتين تشير إلى الإيمان: מאמין "أمان" (آمين אָמֵן) الذي يوحي بالصلابة والاستقرار والآمان، و"בטח" الذي يوحى بالأمن والثقة والأمان. فاللغة العبرية تستعملُ تعبيرين: "آمن (آمين) أمان (أمين). ولفظة (آمين) تعني القوة والشيء الأكيد، ومن هنا جاءت الكلمات اللاتينية المعروفة بالفولجاته : credere و sperare . وهذ يُذكرنا بقول أشعيا النبي "أَنتُم إِن لم تُؤمِنوا فلَن تأمَنوا" (أشعيا 7: 9). ويقول الكاردينال جوزيف راتسنجر "يقصد المسيحيّ من خلال موقفه الإيمانيّ، الذي يعبّر عنه بهذه الكلمة الصغيرة "آمين" التي تتضمّن المعاني المتقاربة الآتية: "وثق بـ"، "اتكل على"، "الأمانة"، "الرسوخ"، "القاعدة المتينة"، "الوقوف"، "الحقيقة"، ومن هنا نجد التأكيدُ أنه لا يعتمد كأساس غير الحقيقة التي تستطيعُ وحدها أن تمنح وجوده معنى" ((البابا بنديكتوس السادس عشر، دخلٌ إلى الإيمان المسيحيّ). وعلى هذا الأساس يقول الفيلسوف النمساويّ لودفيغ فيتغنشتين "الإيمان بالله يعني أننا نرى أنّ الحياة لها معنى". في العهد الجديد، الإيمان يوحي الثقة التي تتجه نحو شخص "أمين"، وتلزم الإنسان بكليته من ناحية؛ وفي هذا الصدد اللاهوتي يقول اللاهوتي كارل رانر "الإيمان فعل شجاعة يعيش قفزة رجاء"، ومن جهة أخرى، تشير كلمة "آمين" إلى مسعى العقل الذي تتيح له كلمة أو بعض العلامات لبلوغ حقائق لا يُعاينها، كما جاء في صاحب الرسالة إلى العبرانيين "الإِيمانُ قِوامُ الأُمورِ الّتي تُرْجى وبُرْهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى (عبرانيين 11: 1). فموضوع الإيمانُ ليس بما يُرى بل بما لا يُرى وإلاّ لا يدعى إيمانـاً قط. الإيمان إذن، هو ما يعطينا معنى وصورة في الحياة. فمن يؤمن فإنه يسعى إلى علاقة شخصيّة مع الله، وهو مستعدّ أن يصدّق الله في كلّ شيء يكشفه عن ذاته. ونستنتج مما تقدَّم أن "الإيمان بالله" يعني "الإصغاءّ لله" (مزمور 106: 24-25). فتكون حياة المؤمن وموته رهن أمانته الحرة في البقاء بالإيمان والتمسك به، كما يقول الرب "إَنِّي قد جَعَلت أَمامَكمُ الحَياةَ والموت، البَركَةَ واللَّعنَة. فاختَرِ الحَياةَ لِكَي تَحْيا أَنتَ ونَسْلُكَ، مُحِبًّا الرَّبَّ إِلهَكَ وسامِعًا لِصَوتِه ومُتَعَلِّقًا به" (تثنية 30: 19-20). وكان الإيمان، في نظر يسوع، (متى 11: 25)، كما في نظر الكنيسة الناشئة (أعمال الرسل 11: 21-23) عطية من لدن الله؛ فالإيمان يأتي من الله (متى 16: 17)، وتقتسمه الأمم يوماً (أعمال الرسل 8: 5-13). ونستنتج من كل ما سبق أن الإيمان ليس منّا، لكنه نعمةٌ وهبة من الله، فهو فضيلة فائقة الطبيعة يفيضها الله في قلوبنا. وفي هذا الصدد يقول العلامة توما الأكوينيّ "الإيمان فعل عقليّ يعتنق الحقائق الإلهيّة بأمر الإرادة التي يُحرّكها الله بالنعمة". ومن هذا المنطلق "إننا لا نصبح مسيحيين بقوانا الذاتية. فالإيمان هو قبل كل شيء عطية من لدن الله تُقدَم لنا في الكنيسة ومن خلال الكنيسة" (البابا فرنسيس) وتُبيِّن الكتب المقدسة نقائص الإيمان وهي: أولا الثقة في القوة البشرية بالرغم من الاعتماد على الله. فكان المكابيِّون يعتمدون على الله في ضمان النصر لهم (المكابيِّين 2، 49-70). ولكن بعض المحاربين اعتمدوا على ثقتهم في قوتهم البشرية (1 المكابييِّن 2: 39-41) والنقص الآخر الذي يُهدد إيمان المؤمنين هو شكلية تتمسك بالمتطلبات الطقسية أكثر منها بنداءات الكتب الدينية والأخلاقية كما جاء في قول يسوع "الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون فإِنَّكم تُؤَدُّونَ عُشْرَ النَّعْنَع والشُّمْرَةِ والكَمُّون، بَعدَما أَهمَلتُم أَهَمَّ ما في الشَّريعة: العَدلَ والرَّحمَةَ والأَمانة" (متى 23: 23)، والاعتماد على كبرياء الإنسان وأعماله أكثر منها على الله وحده لنيل التبرير كما جاء في مثل الفريسي والعشار (لوقا 18: 9-14). 2) نماذج إيماننا في الكتاب المقدس؟ وردت نماذج في الإيمان في أسفار الكتاب المقدس التي تعلمنا كيف نعيش إيماننا بالمسيح الرب والإله والمُخلص. ونموذج إيماننا يكمن في إيمان آباء أجدادنا وتلاميذ يسوع. أ) نموذج إيمان أجدادنا نموذج الإيمان هو إبراهيم (سيراخ 44: 20)، وهو في طليعة أجدادنا الروحيِّين الذين اكتشفوا الإله الحقيقي (غلاطية 3: 8)، أولئك الذين أسلموا أمر خلاصهم لله وحده ولكلمته (عبرانيين 11: 8-19). إذ "آمَنَ بِالرَّبّ" (تكوين 15: 6)، وبكلمته، فأطاع هذه الدعوة، وعلى أساس هذا الدعوة التزم في أسلوب معيشته. ومن هنا نستنتج أنّ الإيمان هو موقف وانطلاق في طريق جديد يبدأ من الله ذاته لتغيير الإنسان من العمق. إذ "قالَ الرَّبُّ لأَبْرام: اِنطَلِقْ مِن أَرضِكَ وعَشيرَتكَ وبَيتِ أَبيكَ، إِلى الأَرضِ الَّتي أُريكَ" (التكوين 12: 1). ومن هنا نجدُ كلمة "انطلاق"، أنه خروجٌ واتحاد بآخر. ويذكرُ الكتاب المقدّس "الأرض -العشيرة -الأب"، فعلينا عندما نريدُ الاتحاد بالله بالإيمان، الانفصال عن الجذور العشائريّة والأرضيّة وترك التبعيّة من ناحية، والارتباط بالله، والارتباط بالمستقبل لا بالماضي من ناحية أخرى (رومة 4: 12). فعندما قال الكتاب عن إبراهيم "ذهب ولم يعرف أين يسير ويمضي" يشير إلى أن الإيمان مسيرةٌ طويلة للمجهول، إنه اللقاء مع الله – الحيّ – الآخر. لذا يجب تركُ كلّ جذورنا القديمة للاتحاد بالله وحده، الذي به حياتنا وحركتنا ووجودنا وأصلنا ومبدأنا، لآنه هو الأصل والبدء والمبدأ الحقيقي" في البدء كان الكلمة" (يوحنا 1:1). يَشوعَ بنَ نون، مُساعِدَ موسى هو أيضا نموذج إيمان الذي يتطلب الاختيار بين الإيمان بالله أو الإيمان بآلهة أخرى فقال لشعبه الذي قاده من مصر إلى ارض الميعاد:" فاخْتاروا لَكمُ اليَومَ مَن تَعبُدون: إِمَّا الآلِهَةَ الَّتي عَبَدَها آباؤُكم في عِبرِ النَّهْرِ، أَو آلهَةَ الأَمورِّيينَ الَّذينَ أَنتُم مُقيمونَ بِأَرضِهم. أَمَّا أَنا وبَيتي فنَعبُدُ الرَّبّ " (يشوع 24: 15). فعلى غرار شعب العهد القديم يختار المسيحي أن يخدم ويعبد الرب الاله الذي يُحرِّره من عبودية الخطيئة. نموذج الأنبياء في الإيمان هو الانتقال من الخوف إلى الثقة المطمئنة في الله (أشعيا 7: 4-9) كما انه بمثابة التزام وموقف شخصيين (إرميا 45: 5)؛ وأمَّا نموذج الحكماء في الإيمان فهو ثقة كاملة في الله كما جاء في تصريح أيوب البار "فادِيَّ حَيٌّ وسيقوم الأَخيرَ على التُّراب. وبَعدَ أَن يَكونَ جِلْدي قد تَمَزَّق أُعايِنُ اللهَ في جَسَدي. أُعايِنُه أَنا بِنَفْسي وعَينايَ ترَيانِه لا غَيري" (أيوب 19: 25-26)، وأن الله يظل على كل شيء قدير كما أكد أيوب البار بقوله: "قد عَلِمتُ أنَّكَ قادِرٌ على كُلِّ شَيء فلا يَستَحيلُ علَيكَ مُراد" (أيوب 42: 2). نحن نعلم أن صاحب سفر المزامير لديه إيمان كامل بالله، الإله الواحد (مزمور 18: 32)، والخالق (مزمور 8: 104)، والكلِّي القدرة (مزمور29)، والسيد الأمين (مزمور89)، والرحيم (مزمور136) بشعبه (مزمور105)، وملك المستقبل في العالم كله (مزمور 47، 96-99). وعبّرت المزامير أيضا عن صلوات لشهادات الإيمان، إيمان البار المُضَطهد في سبيل الله، وإن الله سيخلِّصه (مزامير 7، 11، 27، 31، 62)؛ وثقة الخاطئ في رحمة الله (مزامير 40، 130)، وأمان مطمئن في الله (مزامير 4، 23، 121، 131) هو أقوى من الموت (مزامير 16). يظهر أخيراً نموذج الإيمان في الأخوة المكابيِّين. بعد السبي، تعرَّض الإخوة المكابيَّون لأول مرة في تاريخ الكتاب المقدس لاضطهاد ديني دموي (1 المكابيين 1: 62-64) فماتوا شهداء بسبب إيمانهم. وبالرغم ما وأجهوه من غياب الله عنهم، فإن إيمانهم لم يضعف (1 المكابيين 1: 62)؛ بل ازداد عُمقاً إلى حد أنهم، بفضل أمانتهم الله، كانوا يرجون القيامة (2 المكابيين 7)، والخلود (حكمة 2: 19-20). ب) نموذج إيمان مريم العذراء والتلاميذ يذكر الإنجيل مريم العذراء، الأمّ التي آمنت وسمعت كلمة الربّ لها. "مريم حقّقت طاعة الإيمان على أكملِ وجه" (تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة، 148). إن إيمان مريم هو الذي استقبل أول إعلان للخلاص عن طريق الملاك جبرائيل "إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى" (لوقا 1: 35). وبالرغم من إمكانية الجميع "أن يسمعوا ويروا" (متى 13: 13) كلمة يسوع ومعجزاته وأن يؤمنوا (مرقس 1: 15)، إنما كان ذلك ميزة اختص بها التلاميذ كما صرّح يسوع: "إِنَّ أُمِّي وإخوَتي هُمُ الَّذينَ يَسمَعونَ كَلِمَةَ اللهِ ويَعملونَ بِها" (لوقا 8: 21). وتلاميذ المسيح هم "الذين آمنوا به" (أعمال 2: 44). وهكذا بينما تنكَّرت للمسيح الأكثرية الساحقة للمسيح ورفضته، نال استحسان أكثرية الرسل الذين أبدوا إيمانهم وإخلاصهم وولاءهم لأقوال معلمهم. انهم نواة المؤمنين. إن الإيمان المطلوب من أجل تحقيق المعجزات هو الاعتراف بقدرة يسوع (متى 8: 20). لكن الإيمان الذي يوحِّد بين يسوع وبين التلاميذ، وفيما بينهم، ويجعلهم شركاء في طبيعته الإلهية (متى 16: 18-20) هو إيمان بطرس بقوله "أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ" (متى 16: 15). وبالرغم من معرفة التلاميذ لأسرار الملكوت (متى 13: 11)، إلا إنهم لم يسلكوا إلا بصعوبة، الطريق الذي فيه كان ينبغي لهم، وأن يتبعوا ابن الإنسان بالإيمان، كما نستنتج ذلك من جواب بطرس "حاشَ لَكَ يا رَبّ! لن يُصيبَكَ هذا!" (متى 16: 22). فكان ينقصهم الثقة التي تستبعد كل همّ وكل خوف كما جاء في قول يسوع لهم "ما لَكم خائفينَ هذا الخَوف؟ أَإِلى الآنَ لا إِيمانَ لَكم؟" (مرقس 4: 40). ولذلك، فإن اختبار الألم عثرة كما جاء في تصريح بطرس الرسول "إِذا كُنتَ لَهم جَميعاً حَجَرَ عَثرَة، فلَن تكونَ لي أَنا حَجَرَ عَثرَة" (متى 26: 33). لقد اجتاز التلاميذ هذه الخطوة، عندما آمنوا بالقيامة بعد الكثير من التردُّد خلال أوقات ظهور يسوع كما يؤكد ذلك حدث الصعود "فلَمَّا رَأَوهُ سَجَدوا له، ولكِنَّ بَعضَهُمُ ارْتابوا" (متى 17:28). وإذ كانوا شهوداً لكل ما قاله يسوع وصنعه (أعمال 10: 39)، فلقد أخذوا يُعلنونه "رباً ومسيحاً"، وقد تمَّت فيه الوعود بطريقة غير منظورة (أعمال الرسل 2: 33-36). فإيمانهم قادر الآن على المُضِيِّ "حتى الدم" (عبرانيين 12: 4). فهم يدعون مستمعيهم إلى أن يشاطروهم هذا الإيمان حتى يستفيدوا من الموعد، وأن ينالوا مغفرة خطاياهم كما جاء في عظة بطرس: "توبوا، وَلْيَعتَمِدْ كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يسوعَ المَسيح، لِغُفْرانِ خَطاياكم، فتَنالوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُس" (أعمال 2: 38). وهنا وُلد إيمان الكنيسة. 3) كيف نعيش إيماننا بالمسيح؟ بعدما بحثنا عن نموذج الإيمان عند آباء أجدادنا وسيدتنا مريم العذراء والتلاميذ نتمكن الآن أن نتساءل كيف نعيش إيماننا بالمسيح؟ إن إيماننا مبني على كلمة الله في أسفار العهد الجديد ولا سيما إنجيل يوحنا. العيش إيماننا بمفهوم العهد الجديد عامة إيماننا قبل كل شيء هو الإيمان بالكلمة الإلهية، وبالتحديد قبول كرازة الشهود وقبول الإنجيل كما صرّح بطرس الرسول "تَعلَمونَ أَنَّ اللهَ اختارَ عِندكُم مُنذُ الأَيَّامِ الأُولى أَن يَسمَعَ الوَثَنِيُّونَ مِن فَمي كَلِمَةَ البِشَارَةِ وُيؤمِنوا" (أعمال 15: 7). ويقوم الإيمان بقبول "الكلمة" (أعمال 2: 41)، بالاعتراف بيسوع كرب (1 قورنتس 12: 3). وإنَّ قبول الكلمة بالنسبة إلى الوثني معناه هجر الأصنام، والاتجاه نحو الله الحي والحقيقي (تسالونيقي 1: 8-10)، وبالنسبة إلى الجميع معناه الاعتراف أنَّ الرب يسوع يُتمّم قصد الله (أعمال 3: 21-26). ومعناه، عند قبول المعمودية الاعتراف بالآب والابن والروح القدس (متى 28: 19). إن هذا الإيمان، يفتح أمام الذِهن "كنوز الحكمة والمعرفة" التي في المسيح (قولسي 2: 3): أي حكمة الله ذاتها، الموحى بها بالروح القدس (1 قورنتس 1: 2) والمختلفة كل الاختلاف عن الحكمة البشرية (1 قورنتس 1: 17-31)، ألا وهي معرفة المسيح ومحبته (فيلبي 3: 8). والإيمان بدون أعمال لا يجدي نفعا. قال البابا فرنسيس "ليس الإيمان شيئا للديكور أو الزينة. أن نؤمن يعني أن نضع المسيح حقيقة في محور حياتنا ومعناها. وليس المسيح شخصا ثانويا: إنه "الخبز الحي"، والغذاء الذي لا غنى عنه. الارتباط به، عبر علاقة إيمان ومحبة صادقة لا يعني أننا مُقيّدون، بل أحرار وفي مسيرة دائمة. كلّ منا يستطيع أن يسأل نفسه: من هو يسوع لي؟ هو اسم أو فكرة أو مجرد شخصيّة تاريخية؟ أم إنه ذاك الشخص الذي يُحبني وأعطى حياته من أجلي ويسير معي؟ ونستنتج أن من آمن "بالكلمة"، ينتمي إلى الكنيسة ويشترك في التعليم وفي "ليتورجيا" الكنيسة (أعمال 2: 41-46). ويمارس حياة خلقية بموجب شريعة المسيح (غلاطية 6: 2)؛ وهو يعمل عن طريق المحبة الأخوية (غلاطية 5: 6). ويبقى الإيمان ثابتاً في مواجهة الموت على مثال يسوع (عبرانيين 12)، في ثقة مطلقة بذاك "الذي آمن به" (2 طيموتاوس 1: 12). عيش إيماننا بمفهوم إنجيل يوحنا إنجيل يوحنا هو إنجيل الإيمان. ويتركز الإيمان بموجبه في يسوع وفي مجده الإلهي. ولذا ينبغي أن نؤمن بيسوع (يوحنا 4: 39)، وباسمه (يوحنا 1: 12). فالإيمان بالله والإيمان بيسوع أمر واحد (يوحنا 12: 44). لأن يسوع والآب واحد (يوحنا 10: 30)، وهذه الوحدة نفسها هي موضوع إيمان (يوحنا 14: 10-11). فالإيمان يجب أن يبلغ إلى الحقيقة غير المرئية لمجد يسوع، دون ما حاجة إلى رؤية العلامات الكثيرة التي تُظهره (يوحنا 2: 11-12). على أنه إذا كان الإيمان يحتاج إلى رؤية (يوحنا 2: 23،)، وإلى لمس (يوحنا 20: 27)، فهو مدعوّ أيضاً إلى أن يزدهر في معرفة (يوحنا 6: 69) غير المنظور وفي تأمله (يوحنا 1: 14). ويركز يوحنا الإنجيلي على نتائج الإيمان. فمن يؤمن لن تكون له دينونة كما جاء في قول يسوع " مَن سَمِعَ كَلامي وآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فلَه الحَياةَ الأَبَدِيَّة ولا يَمثُلُ لَدى القَضاء بلِ انتَقَلَ مِنَ المَوتِ إِلى الحَياة" (يوحنا 5: 24). فهو قائم من الموت منذ الآن (يوحنا 11: 25-26)، وهو يسلك طريقه في النور (يوحنا 12: 46)، ويتمتع بالحياة الأبدية (يوحنا 3: 16). وعلى العكس، من لا يؤمن فقد حُكم عليه مُقدماً كما صرّح يسوع: "ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد" (يوحنا 3: 18). لذلك هناك علاقة بين الإيمان والاختيار بين الموت والحياة، بين النور والظلام، والاختيار يقتضي السلوك الأخلاقي للشخص المعروض عليه الإيمان كما جاء في قول يسوع "أَنَّ النُّورَ جاءَ إِلى العالَم ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّور لأَنَّ أَعمالَهم كانت سَيِّئَة" (يوحنا 3: 19). إذن، الإيمان ينبعُ من الحريّة، ولا يمكن فرضه ولا برهانه مثل النظريّات الجبرية والهندسيّة. وهو ليس أيضا رأيـا شخصيّا. فلكلّ واحد منا آراء تقريبيّة وأحيانا أكيدة. لكن الرأي لا يكفي ليقرّر مصيري واختياراتي في المستقبل. فالإيمان هو مصير لحياتي. "الإيمان خروجٌ من الذات بحثا عن وجه الله". وفي هذا الصدد يقول العالم جيريمياس: "الإيمان هو الثقة التي لا يمكن أن تصاب بالخيبة". إن اختيار الإيمان يظل ممكناً خلال شهادة يوحنا الراهنة (1 يوحنا 1: 2-3). وهدف إنجيل يوحنا هو حملنا على أن نشاركه إيمانه بأن "يسوع هو المسيح، ابن الله" (يوحنا 20: 31)، وعلى أن نصير أبناء الله بفضل الإيمان "بالكلمة" المُتجسِّد (يوحنا 1: 9-14). هذا الإيمان هو إيمان الكنيسة التقليدي: فإيماننا يتطلب منا أن نعترف بيسوع ونكون أمناء للتعليم الذي تسلمناه (1 يوحنا 2: 23-27)، وأن نزدهر في حياةٍ تخلو من الخطيئة (يوحنا 3: 9-10)، تنعشها المحبة الأخوية (يوحنا 4: 10-12). ولذلك "فإنَّ الإيمان ليس للامتلاك، وإنما للمشاركة. فكل مسيحي هو رسول" (البابا فرنسيس). وأسوة بالرسول بولس (رومة 8: 31-39)، يعتقد يوحنا أنَّ الإيمان يقود إلى الاعتراف بمحبة الله للبشر (1 يوحنا 4: 16) وإزاء الصراعات الآتية، يحث كتابُ الرؤيا المؤمنين على "الصبر وعلى التزام أمانة القديسين (رؤيا 13: 10) حتى الموت. وتقوم هذه الأمانة في أساسها دائماً على الإيمان الفصحي المُستند على قول الرب "أَنا الحَيّ. كُنتُ مَيتًا وهاءَنَذا حَيٌّ أَبَدَ الدُّهور" (رؤيا يوحنا 1: 18)، وتقوم أيضاً على الله الذي يثُّبت ملكوته بحيث لا يمكن مقاومته كما أكد يسوع لبيلاطس النبطي "لو لم تُعطَ السُّلطانَ مِن عَلُ، لَما كانَ لَكَ علَيَّ مِن سُلْطان، (يوحنا 19: 11-16). ويوم ينتهي دور الإيمان، "سنرى الله كما يصرح القديس يوحنا الرسول "نَحنُ مُنذُ الآنَ أَبناءُ الله ولَم يُظهَرْ حتَّى الآن ما سَنَصيرُ إِليه. نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا نُصبِحُ عِندَ ظُهورِه أَشباهَه لأَنَّنا سَنَراه كما هو" (1 يوحنا 3: 2). وباختصار، يمكننا القول إنَّ سماع كلام المسيح والتلمذة له ليسا مجرد مغامرة وخبرة عابرة، بل التزاما، وأمانة ومثابرة. فيسوع يطلب من تلاميذه ومن كل واحد منا أن نثق ونؤمن به. إن الإيمان عطية من الله للإنسان وهو في الوقت عينه تسليم حرٌّ ومطلقٌ من الإنسان لله، ويُعلق القديس يوحنا ماري فيانيي "إذا فتحنا قلبنا بثقة للمسيح كي يملك علينا، فسنختبر بدورنا أن سعادتنا الوحيدة على هذه الأرض هي حب الله واليقين أنه يحبنا" الخلاصة يمثِّل كلام يسوع عن خبز الحياة رد فعل لفئتين من الناس: فئة أولئك الذين يتبعون يسوع بثقة وشجاعة، فكان كلامه سبباً لتجديد ولائهم له وإرادتهم في اتباع المعلم، وفئة أولئك الذين يتبعونه من أجل مآربهم الشخصية، فكان كلامه حجر عثرة وسبباً للابتعاد عنه ولم يعودوا يطيقون سماعه "فارتدَّ عِندَئِذٍ كثيرٌ مِن تَلاميِذه وانقَطعوا عنِ السَّيرِ معَه “(يوحنا 6: 66). أين نحن من هذه الفئات؟ هل نحن على استعداد لعيش كل ما يتطلب منا إتباع المسيح؟ كان كلام يسوع صعباً على الكثير من تلاميذ يسوع الأمس واليوم، وغريبا بل مرفوضا من العديد من الناس حولنا. ونحن لا يمكننا أن نعرف معنى الحياة إلا بهبة من الله الآب، وهو من يمنحنا روحه القدّوس، ذاك الذي أنعش قلب ابنه الحبيب يسوع. طعام الجسد لا يجدي نفعًا، لأنّ القلب هو نبع حياتنا، ولا يُشبع القلب سوى روح الله. والكلام الذي يُكلّمنا به يسوع هو روح وحياة. في الإيمان نختار يسوع ونسمع صوت روحه القدّوس، وكلّنا يقين أنّه يقودنا إلى الفرح والنّور والحياة. فلمَن نذهب إذًا، وكلام الحياة الأبديّة عند يسوع؟ " أَليومَ إِذا سَمِعتُم صَوتَه فلا تُقَسُّوا قُلوبَكم " (مزمور 95: 7-8) وليس هناك ما نختتم موضوع تأملنا عن الإيمان إلا بتصريحات الكاردينال جوزيف راتسنجر "ليس الإيمان المسيحيّ فكرة بل حياة، وليس فكرًا ينطوي على ذاته بل تجسّد، بل روح في جسد التاريخ والمجتمع، ليس الإيمان المسيحيّ روحانيّة مماثلة العقل بالله، بل طاعة وخدمة، إنه تجاوزٌ للذات، وتحرير الذات بفعل الانخراط في خدمة الوجود الأسمى الذي ليس من صنع يدي ولا من ابتكار عقلي الإيمان، قرارٌ شخصيّ، واستقبال، وثقة تستدعي سؤالا وتساؤلات وبحث". (مدخل إلى الإيمان المسيحيّ). وسبقه العلامة توما الأكوينيّ وقال "إن الإيمان في نفس الوقت ثقة وتفكير وطرح التساؤلات". فليس الإيمان "تعليما" بل "التزاما" ودعوة ملحة. وعلى الإنسان أن يختار الإيمان "ومن يَثبُتُ إِلى النِّهايَةِ في الإيمان فذاكَ الَّذي يَخلُص" (متى 24: 13). دعاء أيها الآب السماوي، نسألك أن توجّه اختيارنا إلى ابنك يسوع المسيح، فأعِن قلة إيماننا" (مرقس 9: 24)، لكيلا تردَّنا صعوبة في فهم كلماته، ولا عسر في قبول آياته فنجد فيه النور والحياة ـ لأن عنده كلام الحياة الأبديّة بل هو وحده يُعطي الحياة. الأب لويس حزبون - فلسطين |
|