رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الحيرة الخلاقة حلّ المساء وقد التقطت السماء غيمة شاردة لتسربل بها القمر الناقص وكأنّها تستحي من إرسال ضياءً غير مكتمل على رؤوس البشر. أُوقِدت المشاعل لتحلّ محلّ القمر المختبِئ، وسرَى ضوءٌ تُحرِّكه نسمات الليل النابتة من بطن البحر المُتلاطِم. كان البحرُ يُرسِلُ الهواء وكأنّ بوسيدون (إله البحار)، الذي يقطن في هيكلِه الواقع غرب جزيرة فاروس، يريد إطفاء شُعلة المدينة ليسري الظلام ويحتضن القلوب والعقول. توجّه إليوس إلى الموسيون تلك المرّة. وبينما كان يسير، كانت تبدو له المدينة جديدة كلّ الجدّة. أصبح يرى في المدينة ما لم يره قبلاً، وبدأ يسمع عمّا لم يسمعه من قبل. فالإسكندريّة كانت تعني له من قبل؛ الموسيون والجمنزيوم والمكتبة والسيرابيوم. لم يتعرّف على الوجه الخفي للإسكندريّة على حقيقته قبل هذا اليوم. وجد أنّ ما تعلّمه عن المدينة الفاضلة والعدل الاجتماعي يُختبر في تلك اللحظات. كان يحبّ في أفلاطون ميله إلى العدالة ومُناصرتها مقابل أي شيءٍ آخر، الأمر الذي وجده ينهار في المدينة؛ فالعدل غائب لخدمة مصالح أشراف المدينة وقادتهم. نظر إلى صورة هوراس الشاعر وهو يستجمع كلماته من فضاء الذاكرة، مُتحسِّرًا على العدل التائه بين مصالح الأغنياء، حين قال: إذا كان الرجل عادلاً حازمًا فقد تتصدّع الدنيا كلّها من حوله وتتساقط فوق رأسِه، وتجده تحت حطامها غير هيـّابٍ ولا وَجِلٍ .. كانت تجري في عقله كلمات أفلاطون عمّن يحب الحقيقة فلا يجازي الإساءَة بالإساءِة، بل يُفضِّل أنْ يتحمّل على أنْ يرتكب هو الظلم. ويضرب في الأرض برًّا وبحرًا يبحث عن الناس الذين لا يجد الفساد سبيلاً إليهم … والذين يهبون أنفسهم للفلسفة بحقٍّ ويمتنعون عن الشهوات الجسميّة. وإذا ما عَرَضَت عليهم الفلسفة أنْ تُطهرِّهم من الشرِّ وتُحرِّرهم منه، أحسّوا بأنّ من واجبهم ألاّ يقاوموا تأثيرها فيهم؛ ومن أجل ذلك يميلون نحوها، ويسيرون خلفها للهدف الذي تقودهم إليه. شعر إليوس أنّ أفلاطون إنمّا كان يوصِّف حياة المسيحيّين قبل أنْ يراهم، وأنّ الفلسفة المُحرِّرة ليست شيئًا سوى تعاليم المسيح يسوع. دخل إلى الموسيون وذهب ليلاقي بلينوس، الذي حالما رآه ابتسم وقال: مرحبًا برجل المهام الصعبة. لم يستطِع إليوس أنْ يُبادِله الابتسام، وقال بصوتٍ شاحبٍ مُختنقٍ: مرحبًا أيّها المُعلِّم .. ـ ما لك يا إليوس، يبدو أنّ همومًا قد باتت ليلتها في عقلك .. ـ إنّي في حيرةٍ من أمري أيّها المُعلِّم. فمنذ أنْ رأيت رِقَّ الإنجيل على طاولتك وأنا مدفوعٌ لعالم المسيحيّين. وحينما دخلت ذلك العالم رأيت ما لم أره من قبل .. رأيت متناقضات الحياة .. ـ ماذا تعني؟ ـ لقد بدأ الأمر بأبوللونيا أختي التي جاهرت بإيمانها المسيحي، وحينما هممتُ بمواجهة كليمندس بغضبي وجدت قوى تدفعني دفعًا إلى عالمهم وهناك شعرت أنّ يدًّا تستوقفني وتطرحني بلا حراك. لقد سمعت عن فضيلة ضبط النَفْس التي كان يتحدّث عنها سقراط إلاّ إنّني لم أرها مُتجسّدة من قبل بهذا الشكل. لقد جلست وسطهم وهم يعانون من ظلمٍ شديدٍ بيد أنّ إيمانهم كان يُحلِّق بهم بعيدًا عن ثورات الغضب والشغب الذي طالما اعتدته ممّن يقع عليهم ظلمٌ. إنّ هناك سِرًّا دفينًا في قلب كلٍّ منهم يدفعه لتجاوز الحياة بكلّ ما يجري فيها بل ويسخر من الموت الأليم الذي قد يصادف أحدهم على الطريق. لقد رأيت اليوم فتيات صغيرات يُقدِّمن الحبّ لفقراء المدينة وبالرغم من ذلك نالهم من الوالي جزاءً صارخًا، وجُلِدن بقسوةٍ ولم يُحرّكن ساكنًا ولم يصرخن طالبات الرحمة ولم تنُح نساؤهم ولم يتجمهر رجالهم، بل بدا الجميع وكأنّهم يُقدّمون ذبيحة للإله .. لم يفعلوا شيئًا سوى الصلاة .. الصلاة فقط!!! قام بلينوس من مقعدِه ووقف قبالة ردهة الغرفة ضامًا يديه خلف ظهره المنحني، وهو يقول: إنّ ما تعانيه من غصّةٍ أليمةٍ في قلبك لما رأيته، أعانيه ألمًا في عقلي الذي حاصرته كلمات يوحنّا .. أشعر أنا أيضًا أنّي مُحاصَر لا أستطيع الفرار من تلك الكلمات. وكلّما هممت بالخروج من دائرتها وجدت خيطًا يجذبني بقوّةٍ إلى تلك الدائرة لأبقَى في مدار صداها المُتردّد بقوّةٍ في أعماقي الداخليّة .. لا أفهم ما الذي يحدُث لي .. لم يسبق لي أنْ شعرت بأنّ قوّةً خفيّةً تقودني قبل هذا اليوم. كان المنطق وحده قائدي وكانت الفلسفة وحدها ربّان سفينتي، ولكنّي الآن أتلمّس أبعادًا جديدةً في نفسي تصرخ وتئنّ طالبةً مثل هذا التعليم الذي للوغوس المسيحيّين. لقد وجدت رقًّا يحتوي بعض كلمات أرسلها أثيناغورس، زميل الموسيون القديم والذي تحوّل إلى المسيحيّة، إلى الإمبراطور ماركوس أوريليوس والإمبراطور لوكيوس أوريليوس لدرء الشبهات عن مذهبِهم وحياتِهم التي تقوَّل عليها البعضُ، وهو الأمرُ المُستمِرُ حتّى الآن في الموسيون. لقد بدأت أُطالعه لعلّي أفهم كيف اقتاد ناصريٌّ، رجلاً عظيمَ الشأن مثل أثيناغورس، ولعلّي أميط اللّثام عن حياتِهم غير المفهومةِ للكثيرين في الإسكندريّة .. ـ وهل توصّلت لشيءٍ؟ ـ دعني أقرأ لك بعضًا من كلماته. فَرَدَ بلينوس الرقَّ الذي كان على الطاولة وسط غيره، وبدأ يقرأ .. … لقد زعموا ضدّنا قصصًا عن ولائمٍ تتعارض مع التقوى، كذا عَلاقات جنسيّة مُحرّمة بين الجنسين حتّى يبرّروا لأنفسهم أُسُس الكراهية. ولأنّهم يعتقدون أنّه بالترهيب يمكنهم أنْ يدفعوننا بعيدًا عن مسار حياتنا، أو بتأليب الحُكّام علينا وجعلهم قساة غير متسامحين، لِما قالوه علينا من اتّهامات كبيرة. وإنْ كانت جهودهم تبوء بالفشل مع أولئك الذين يعلمون جيّدًا أنّه منذ القِدَم ـ و ليس فقط في أيامنا تلك ـ من المعتاد أنْ تشنّ الرذيلة حربًا شعواء على الفضيلة، حتّى إنّ فيثاغورس ومعه ثلاثمائة آخرين، اُعدِموا حرقًا، وكذلك تمّ نفي هيراقليطس وديموقريطس، واحد من مدينة الأفسسيّين والآخر من أبديرا لأنّه اتُّهم بالجنون، كما حَكَمَ الأثينيّون على سقراط بالموت . ولأنّهم ـ لم يكونوا أقلّ سوءًا ـ من جهة الفضيلة، وحسب آراء العامّة، كذلك فالاتّهامات العشوائيّة من بعض الأشخاص لن يمكنها أنْ تُلقي بظلالها علينا فيما يتّصل باستقامة حياتنا، لأنّنا نقف مع الله، في سيرةٍ عطرةٍ، ورغم ذلك سوف أتولّى الردّ على هذه الاتّهامات أيضًا، وإنْ كنت واثقًا أنّ ما قلته حتّى الآن، أظهر لك ما أريد، لأنّكم وأنتم الذين تفوقون الناس كلّهم ذكاءً، تعرفون أنّ هؤلاء الذين يتوجّهون بحياتهم إلى الله، ليصير كلٌّ منهم بلا لومٍ ولا شكايةٍ أمام الله، لا تراود أذهانهم أفكارٌ حتّى عن أبسط الخطايا، لأنّنا لو اعتقدنا أنّنا نحيا حياتنا هذه فقط لكان هناك شكٌّ في أنّنا نُخطِئ، وذلك لعبوديّتنا للحمٍ ودمٍ، أو قد تتسيّدُ علينا محبّة الكسبِ والرغبةِ الحيوانيّة. نحن نعلمُ أنّ الله شاهدٌ على فكرنا وكلامنا ليل نهار. إذ أّنه وهو النور، يُبصِرُ ما في قلوبنا. إنّنا لواثقون بأنّه عندما نترك هذه الحياةُ الراهنةُ، سنحيا حياةً أخرى أفضل من تلك التي نحياها الآن؛ حياةً سماويّةً وليست أرضيّةً، إذ سنسكن بالقرب من الله. ومع الله سنتحرّر من كلّ تغيُّرٍ أو ألمٍ، بالروح وليس بالجسد، رغم أنّه سيكون لنا جسدٌ … لأنّ الله لم يخلقنا كغنمٍ أو كحيواناتٍ، تلك التي تحمل الأثقال كمجرّد أداةَ عملٍ ممّا يعني أنّنا سنهلك ونصبح عدمًا. بناءً على ذلك فمن غير المحتمل أنْ نرغب في عمل الشرّ حتّى لا ندفع بأنفسنا أمام الديـّان الأعظم لنعاقب!! ساد صمتٌ .. وكأنّهم قد اتّفقا على ما لا يمكن إعلانه في الموسيون .. قَطَعَ بلينوس حبال الصمت قائلاً لإليوس: دبِّر لي لقاءً مع مُعلِّم المسيحييّن .. |
25 - 04 - 2014, 05:33 AM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
..::| مشرفة |::..
|
رد: الحيرة الخلاقة
ميرسى على هذا الطرح الرائع |
||||
25 - 04 - 2014, 10:10 AM | رقم المشاركة : ( 3 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: الحيرة الخلاقة
مشاركة جميلة جدا ربنا يبارك حياتك |
||||
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
الخطية هي فكر الحماقة |
الحماقة |
فكر الحماقة خطية |
من الحماقة |
من الحماقة |