شخصية العلامة يوسابيوس القيصرى
EUSEBIUS OF CAESAREA
يبدأ العصر الذهبي للأدب الآبائي بكتابات باهرة لأبى التاريخ الكنسى يوسابيوس بامفيليوس Eusebius Pamphili اسقف قيصرية فلسطين، وهو مؤرخ ومجادل في نفس الوقت، وشخصية هامة في تاريخ الاريوسية في أيامه، وواحد من اخر المدافعين، ويقدم لنا صورة عن المتغيرات الجذرية التي حدثت في أيامه في تاريخ العالم بأمانة كاملة أكثر من أي مؤرخ آخر.
ولم تكن قيصرية فلسطين مكان تعليمه ونشاطه الأدبى وكرسية الاسقفى فقط، بل وأيضاً مدينة ميلاده سنه 263 م، وقد صارت هذه المدينة مركزاً للعلم والمعرفة منذ أن رحل أوريجانوس اليها وأنشأ مدرسته الشهيرة هناك، وقد شكلت مؤلفات أوريجانوس أساس المكتبة التي طورها بامفيليوس كاهن كنيسة قيصرية، وقد تحمس بامفيليوس لاصدار نص معتمد من الكتاب المقدس ولكن على أساس نص أوريجانوس المسمى (الهكسابلا – السداسى) وتفاسيره على العهدين القديم والجديد.
ولإتمام هذه المهمة احتاج إلى معاونين ومساعدين، فتقدم يوسابيوس ليكون عضواً عاملاً في هذه الجماعة الدراسية، وبدأ يساعد بامفيليوس الذي شجعه وعلمه كيف يعتمد على نفسه وعلى ذهنه وزوده بنصائحه، ودان يوسابيوس لمعلمه بامفيليوس بالفضل الكثير في تعلميه وتدريبه الفكرى، وتعبيراً عن شكره ومحبته لاستاذه قرن اسمه باسمه فدعى نفسه "يوسابيوس بامفيليوس" أي أنه الابن الروحي لبامفيليوس.
وهكذا دخل يوسابيوس في تاريخ آباء الكنيسة باسم "يوسابيوس بامفيليوس" وما زال يوجد مخطوط قديم من نسخة الكتاب المقدس التي أعدها بامفيليوس ويوسابيوس معاً.
واستلم يوسابيوس عن معلمه تكريم أوريجانوس تكريماً عميقاً، وانشغل بتراثه الأدبى حتى يزيد من شهرة هذا العلامة السكندرى، وبدأ في إصدار مجموعة مراسلاته، الأمر الذي ساعد على عدم ضياع هذا التراث أو تشتته.
وفى الاضطهاد الأخير نال بامفيليوس اكليل الشهادة، في العام السابع من اضطهاد دقلديانوس في السادس من فبراير سنة 310 م، وكتب يوسابيوس سيرته تكريماً لذكراه واعترافاً بمحبته له، ويوسابيوس نفسه هرب إلى صور ومنها إلى برية مصر في Thebais، ولكن قبض عليه هناك وسجن.
ويبدو أن العام الذي انتهت فيه الاضطهادات ضد الكنيسة (سنة 313 م) هو نفس عام تجليس يوسابيوس أسقفاً لقيصرية، وقد صارت له صداقة متينة مع قسطنطين الملك وكان ذا تأثير عليه، وبدأت شهرته كعالم تطغى على شهرة معلمه منذ ذلك التاريخ.
وقد دخل يوسابيوس -كأسقف- في الجدال الآريوسى، الذي اعتقد أنه يستطيع أن ينهيه باقتراحات بتنازلات متبادلة من كلا الطرفين، بدون أن يدرك الأهمية الحقيقية للعقيدة موضع النقاش، وكتب عدة رسائل يؤيد فيها أريوس، وكان له دوره المؤثر جداً في مجمع قيصرية المكانى الذي أعلن ارثوذكسية فكر وعقيدة آريوس رغم أنه طلب منه الخضوع لأسقفه، وبعد ذلك بقليل عقد مجمع مكانى في انطاكية سنة 325 م. حرم أسقف قيصرية لرفضه للصيغة الايمانية المعارضة للتعليم الآريوسى المنحرف، وفي مجمع نيقية سنة 325 م أراد أن يكون واسطة مصالحة، ورفض عقيدة (الهوموأسيوس Homoousios- مساواة الاب والابن في الجوهر) التي لأثناسيوس لأنه ظن أنها تؤدى إلى السابليانية Sabellianism، كما ذكرنا أيضاً هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.وأخيرً وقع على قانون الإيمان النيقاوى كمجرد ارضاء خارجى لرغبة الإمبراطور، لكن بدون أي اقتناع حقيقى داخلى، ولم يستخدم قط في كتاباته بعد سنة 325 م. التعبير "هومواوسيوس" بل أيد صراحة يوسابيوس أسقف نيقوميدية وقام بدور بارز في مجمع انطاكية المكانى سنة 330 م، الذي خلع الاسقف يوستاثيوس Eustathius، وكان له أيضًا دور هام في مجمع صور سنة 335 م. الذي حرم القديس أثناسيوس الرسولى، وبجانب ذلك كتب كتابين ضد مارسيللوس اسقف أنقره الذي خلع من كرسيه بعد ذلك بعام.
وكان إعجاب ومحبة يوسابيوس للامبراطور، الذي أرسى السلام بين الكنيسة والإمبراطورية بعد سنوات من الاضطهادات الدموية، كبيراً جداً، وتمتع يوسابيوس نفسه بمكانة خاصة لدى قسطنطين، وفي التذكرين العشرين والثلاثين لتتويج الإمبراطور وتقليده الحكم، ألقى يوسابيوس كلمتى مديح للامبراطور، وعندما تنيح قسطنطين في 22 مايو سنة 337 م. قدم يوسابيوس كلمة تأبين طويلة له، إذ يبدو أنه كان مستشاره اللاهوتى الأكبر، وقد مات يوسابيوس بعد امبراطوره بأعوام قلائل في سنة 339 م. أو سنة 340 م.
الملامح اللاهوتية والروحية في فكر العلامة يوسابيوس
تكلم العلامة يوسابيوس عن التقدم إلى ما هو قدام في الحياة الروحية، فرسم منهاج للسير بلا عيب في الطريق الروحي وعدم الرجوع إلى الوراء وعدم الميل لا يمين ولا يسار ولا نظر للوراء من أجل بلوغ الهدف، ويقول: طالما أن القلب لا يزال بعد غير كامل فهذا هم كبير وتعب كثير بل أنه قد يتردى إلى أسوأ مما هو عليه، أما حينما يصل إلى قمة الكمال فحينئذ يكون قد تأسس في الفضيلة وتحرر من كل خوف، يطلب من الله أن يوضح له ولا يخفى عنه وصاياه حتى يكملها إلى المنتهى متفهماً لها حتى يعبر هذا العالم وهو بلا لوم.
ويتحدث يوسابيوس عن الحرب الروحية والقوات المضادة التي تحارب النفس في تفسيره للمزمور 118، فيقول: الله يصد عنا المضادات ويتولى قضاء الأعداء غير المنظورة بنفسه من أجل محبته للبشر، إذ قد تبنى قبضتهم لأنها قضيته.
وفى تأكيد على الارادة المتجهة نحو الله يحث العلامة يوسابيوس على المواظبة على الاجتهاد والمثابرة، لان النفس التي تخطئ تذبل منجذبة في غفلة الخطية، ولن تقوم ولن تستيقظ إلا بتذكر الخير وإدانتها لنفسها واعترافها بخطاياها السابقة وتعلم الوصايا والثبات فيها.
وهو بذلك يرسم معالم الطريق الروحي والحياة الداخلية بالشركة مع الله، ثم يذكر ملمح هام عن المكافأة والجعالة التي يحظى بها المجاهدون، عندما يتكلم عن نهاية العالم الزائلة وهيئته ليتبعه عالم جديد، وعوض الكواكب المنظورة يضئ المسيح نفسه لأنه شمس الخليقة الجديدة وملكها، عظيمة هي قوة هذه الشمس الجديدة، وعظيم هو بهاؤها، حتى أن الشمس التي تضئ الان والقمر والكواكب الأخرى تظلم أمام هذا النور الأبدى العظيم.
أما عن الملامح اللاهوتية في فكره، فيؤكد يوسابيوس على حياة الطهارة من أجل التأمل في الأمور العلوية (الإلهيات) فعدم الطهارة هو عدم التقوى وظلمة الجهل، أما نقاوة الفكر من الناحية الأخرى، فهى التقوى والتقوى تلازمها معاينة الله.
ويرى يوسابيوس أن تجسد الله اللوغوس هو استعلان السر الذي تدور حوله نبوات العهد القديم: "اللوغوس المتجسد هو وحدة الذي اعطانا نعمة معرفة الثالوث بميلاده السرى لأنه لا موسى ولا أي من الانبياء وهب خدمة هذه النعمة لشعب الله في العهد القديم، لأنه في ابن الله اللوغوس فقط أعلنت نعمة الآب للكل، لأن الناموس بموسى أعطى أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا".
ويقارن يوسابيوس بين مسحاء العهد القديم من كهنة وملوك وأنبياء وبين السيد المسيح نفسه موضحاً أن ما ناله رجال العهد القديم كان رمزاً، فكانوا عاجزين عن أن يقيموا من أتباعهم مسحاء، أما السيد المسيح فهو وحده الذي دعى اتباعه مسيحيين لأنهم صاروا فيه مسحاء.
والكنيسة عند أسقف قيصرية هي وحدها "تملك الطريق الملوكى"، ومن ثم تعطى (معرفة النعمة الالهية)، لأن الكنيسة تملك اللاهوت الكامل، لأن فيها حُفظ سر الخلاص، سر تدبير الله، لأنها تجمعت من الأمم، وهب لها هذا السر بفضل نعمة فائقة مختارة، لأن فيها – كما يقول الرسول – كل كنوز الحكمة والمعرفة، ويقول يوسابيوس:
(استعلن سر الخلاص لكنيسة المسيح فقط بنعمته)
ومن المسيح الطريق والحق تتسلم الكنيسة معرفتها لسر الثالثوث القدوس السرى المبارك، وتحفظه كرجائها الذي لا يخزى.
وللنور في لاهوت وفكر يوسابيوس مكانه خاصة، والنور الذي أشار اليه القديس يوحنا اللاهوتى في بداية إنجيله أو النور الذي ضئ في الظلمة، هو نور اللوغوس الذي بقدرته خلق النفوص العاقلة الناطق، وهو الذي ينير كل انسان آتياً إلى العالم، وهو النور اذى لا يُدنى منه والذي لم يره أحد قط.
وشرح أبو التاريخ الكنسى أن حق الثالثوث قد أستعلن بتجسد اللوغوس، ومنذ ذلك الحين ظل في الكنيسة يقودها ويمنحها المواهب المتعددة، مواهب الروح والحكمة والمعرفة والايمان والمحبة.