رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تعليم الموعوظين وطالبي العماد مقدمة ترفع الكنيسة أنظارها إلى عريسها ربنا يسوع لتراه علي الدوام باسطًا يديه ليضم إليه أحباءه كل بني البشر، تراه لا يكف عن مناداة الجميع ليلتقوا معه مهما كلفه الأمر. هذا الموضوع هو سرور عريسها أن يجمع الكل في حضنه، "الأثمة والمتمرّدين، الفجار والخطاة، الدنسين والمستبيحين، قاتلي الآباء وقاتلي الأمهات، قاتلي الناس، الزناة..."(28)، بعدما يقدسهم ويطهرهم ويهيئهم للحياة السمائية الملائكية. هكذا أيضًا تتقدم الكنيسة، كهنتها وشعبها، رجالها ونساؤها، شيوخها وأطفالها، المتزوجون والبتوليون والأرامل. الكل يتقدم بروح عريسهم القدوس ممارسين عملهم، مقدمين له ثمار دمه المسفوك على عود الصليب، نفوسًا عرفته وآمنت به. لم تكن الكنيسة الأولى تعرف السلبية في العبادة، بل تتقدم كنورٍ حقيقيٍ أمام اليهود غير المؤمنين والوثنيين الأشرار، فتشهد لعريسها أمامهم بالحياة المقدسة والسلوك الطيب والقلب المنفتح للخطاة والفم المبارك للمضطهدين والصلاة الدائمة من أجل الكل والحديث عن الحق. هكذا يقول القديس أغسطينوس(29): [ما بين اضطهادات العالم وتعزيات الله تتقدم الكنيسة في سعيها إلى الأمام.] وإنني أترك الحديث عن عمل الكنيسة الكرازي للعودة إليه في مجال آخر(30) مكتفيًا الآن بالقول أنها لا تألو جهدًا عن أن تشرق تلقائيًا بنور المسيح وسط الظلمة فتبددها؛ وتعلن الحق فيموت الباطل، وتشهد للرب لتكسبهم أبناء له، فمتى تقبل إنسان هذا التعليم أو اشتاق إليه يُدعى موعوظًا حتى لحظة عماده فيُسمى ابنًا. ولما كانت مقالات الأنبا كيرلس الموجهة إلى طالبي العماد تُعتبر من أهم أعماله, لهذا رأيت ضرورة التحدث عن تعليم الموعوظين وطالبي العماد وعن طقوس العماد في الكنيسة الأولى(31). أولًا: الموعوظون Catechumens الموعوظ الحقيقي هو من يتقبل التعليم المسيحي لا لمجرد الدراسة العلمية أو الفلسفية أو بغرض آخر سوى التعرف علي الحق وتقبله. حقًا إن كثيرين دخلوا بين صفوف الموعوظين خلسة, منهم من دخل إلى المسيحية معجبًا بها كفلسفة أو من أجل البلاغة، كما أعجب أغسطينوس بعظات القديس أمبروسيوس أسقف ميلان، فكان يحضر لا ليعيش في شركة مع الرب بل لمجرد الدراسة الفلسفية. ومنهم من دخل بنيّة شريرة، أو حبًا للاستطلاع، أو بقصد إرضاء الغير، كأن يريد أحد الوثنيين الزواج بفتاة مسيحية أو تريد فتاة وثنية التزوج بمسيحي(32). هؤلاء يلزم على الراعي أن يفرزهم، فلا يحرمهم من الحضور للوعظ لكن لا يقبلهم في المسيحية ما لم يكن من أجل المسيح المصلوب. ليس هناك طريق آخر لقبولنا دخول أحد إلى المسيحية سوى قبوله الإيمان بالمسيح، وشوقه لحمل الصليب، والدخول من الباب الضيق للعبور إلى الأبدية. فالكنيسة لا تُسر بالعدد لأنها ليست حزبًا منافسًا، ولا تنخدع بالمظهر بل تطلب نفوسًا حيَّة مُحبة تود الاتحاد بالله والتمتع بالميراث الأبدي. والموعوظون في الكنيسة كانوا ينقسمون إلى أربع درجات حسب درجة تجاوبهم مع التعاليم وغيرتهم وشوقهم للشركة مع الله. أما عناصر الموعوظين فثلاث: 1. موعوظون من أصل يهودي: تُقدم لهم دراسات في نبوات العهد القديم وتحقيقها في شخص ربنا يسوع، وتكميل المسيحية للناموس الموسوي. 2. موعوظون من أصل وثني: تُقدم لهم دراسات تتناسب مع ثقافتهم ودراساتهم، فلا عجب إن رأينا معلمين تخصصوا في دراسة الفلسفات الوثنية ليجتذبوا الوثنيين إلى الحق. 3. موعوظون هم أطفال المسيحيين المؤمنين. وقد عُرف عماد الأطفال في الكنيسة الأولى(33) بصورة عامة، تحت مسئولية آبائهم أو أشابينهم وفي عهدتهم(34)، إذ تعرف الكنيسة قيمة نفوسهم، وتدرك أهمية عضويتهم في جسد الرب. يقول العلامة أوريجينوس(35): [تسلَّمت الكنيسة من الرسل تقليد عماد الأطفال أيضًا. فالأطفال يعمدون لمغفرة الخطايا ليُغسلوا من الوسخ الجدي بسرّ المعمودية.] وقد زعم بيلاجيوس (360-430 م.) وأتباعه أن خطيئة آدم أصابته وحده دون أن تسري في أولاده. على هذا يُولد الرضيع بغير الخطية الأصلية، ولا يحتاج إلى عماد لأنه كآدم قبل السقوط. انبرى له القديس أغسطينوس (354-430م) وغيره من الآباء يؤكدون من الكتاب المقدس كيف أنه حبل بنا بالآثام، وتثقّلت البشرية كلها بالخطية الجدِّية (رو 5: 12). وبهذا يحتاج الطفل كما الكبير إلى صليب ربنا يسوع والتمتع بعمل قيامته. كما أصدر مجمع قرطاجنة(36) (418-424م) قانونًا يوجب عماد الأطفال ليتطهروا من الخطية الجدية. قد يعترض البعض قائلين: "لا يدرك الأطفال قيمة نعمة المعمودية، ولا يصونونها"، فيجيب القديس غريغوريوس النزينزي(37) بعد أن وبّخ الذين يحجمون عن التمتع بسرّ العماد بدعوى الحرص والحذر لئلا يسقطوا في الخطية بعد العماد، فيقول لهم: إن هذا الحذر في ذاته يحمل عدم حذر، بل هو خداع شيطاني، به تغلق النفس على ذاتها من أن تتمتع بعمل النعمة الإلهية، والتمتع ببركات المعمودية تحت ستار الخوف والحرص... وأخيرًا يوبّخ المُحجمين عن عماد أطفالهم قائلًا: [هل لديك طفل؟ لا تسمح للخطية أن تجد لها فرصة فيه! ليتقدس في طفولته، وليتكرس بالروح منذ نعومة أظافره! لا تخف على "الختم" بسبب ضعف الطبيعة! أيتها الأم ضعيفة الروح وقليلة الإيمان! لماذا وعدت حنة أن يكون صموئيل للرب من قبل أن تلده (1 صم 1: 10)؟! وبعد ميلاده كرسته له في الحال... ولم تخف قط من الضعف البشري بل وثقت في الله... سلّمي ابنك للثالوث، فإنه حارس عظيم ونبيل!] هذا وقد فرضت الكنيسة تأديبًا على الوالدين إذا أجلا عماد طفلهما فمات دون عمادٍ، قانونه الصوم والصلاة والحرمان من شركة الأسرار المقدسة لمدة عام كامل(38). ومن شدة شوقها واهتمامها بعضوية هؤلاء الأطفال فيها فرضت أيضًا عقوبات مختلفة على الوالدين اللذين يمتنعان عن عماد ابنهما بسب نذر العماد في مكان معين، أو على يد إنسان معين. ومات طفلهما، إذ حرَّمت الكنيسة النذر في أمر المعمودية مطلقًا! ويرى بنجهام(39) أن أطفال المؤمنين إذ ينالون سرّ العماد في الطفولة ينضمون إلى صفوف الموعوظين حالما يستطيعون التعليم. غير أننا نجد في كتابات آباء الكنيسة الأولى، ومنهم القديس كيرلس الأورشليمي -كما سنرى- أن مهمة تعليم أطفال المؤمنين غالبًا ما توكل إلى الآب أو الأم أو شماس أو شماسة. يقول القديس ديونيسيوس الأريوباغي(40): [إن هذا الأمر افتكر فيه معلمونا الإلهيون ورأوه موافقًا أن يُقبل الأطفال على هذا الوجه الشريف، أعني أن يُسلم الوالدان الطبيعيّان ولدهما لمربٍ صالح، وأن يبقى الطفل فيما بعد تحت إدارته، كأنه تحت عناية أبٍ إلهيٍ وكفيلٍ لخلاصٍ مقدسٍ، فمتمم السرّ يرفعه وهو معترف إلى الحياة المقدسة، طالبًا جحد الشيطان والإقرار بالإيمان.] ويقول القديس أغسطينوس: [إننا نؤمن ونصدق بتقوى وصواب أن إيمان الوالدين والأشابين يفيد الأطفال، وعلى هذا الإيمان يُعمدون.] نعود مرة أخرى إلى الموعوظين لنقول إنهم غالبًا ما يبقون في رعاية الكنيسة لمدة سنتين أو ثلاث سنوات، ينتقلون من فئةٍ إلى أخرى، حتى تطمئن الكنيسة على حسن نيتهم وتمسكهم بالإيمان وقبولهم للصليب، وعندئذ ينتقلون إلى آخر درجة من الموعوظين وهي: "طالبو العماد"،هذا الانتقال يختلف من شخص إلى آخر حسب غيرته ودراسته الفردية الخاصة قبلما ينضم إلى صفوف الموعوظين أو أثناءها. ثانيًا: معلمو الموعوظين إننا نعلم أن الكنيسة كلها منذ نشأتها كانت منطلقة للكرازة، مدركة قول الرب: "من لا يجمع فهو يفرق". فالكل يشعر بمسئوليته نحو الشهادة للرب، إن لم يكن بالكلام فبالقدوة الحسنة... يعمل أعمال المسيح الحي. وكما يقول العلامة أوريجينوس(41): [إن كل تلميذ للمسيح هو صخرة، وفية تكتمل الكنيسة الجاري بناؤها بيد الله.] ويحمل القديس كيرلس الأورشليمي مسؤولية تعليم الموعوظين الأطفال أو الكبار على الآباء والأشابين، إذ يقول(42): [إن كان لك ابن حسب الجسد أنصحه بهذا، وإن كنت قد ولدت أحدًا خلال التعليم، فتعهده برعايتك.] إذن كل مؤمن حقيقي يلتزم أن يكون له نصيب في تعليم موعوظ أو موعوظين، بصورة أو أخرى، فماذا نقول عن الكاهن الذي يدعوه الذهبي الفم "أب كل البشرية"؟! لقد سيم القديس غريغوريوس العجائبي(43) أسقفًا على قيصرية الجديدة، وكان بها سبعة عشر مسيحيًا فقط، وحين تنيح بسلام لم يكن بها سوى سبعة عشرة وثنيًا. على أي الأحوال لم يكن يُحرم كاهن ما من خدمة الموعوظين المنظمة في الكنيسة، بل يقوم كل منهم بنصيبه فيها. أما المرحلة الأخيرة للتعليم، فغالبًا ما كان يقوم بها الأسقف نفسه، أو كاهن يثق فيه من جهة قدرته التعليمية بالنسبة لهم. غير أن التاريخ سجل لنا عن أناس تخصّصوا في تعليم الموعوظين، نذكر منهم على سبيل المثال أن البابا ديمتريوس سلّم العلامة أوريجينوس مدرسة الإسكندرية التعليمية وهو بعد في الثامنة عشر من عمره(44). وأيضًا كتب القديس أغسطينوس إلى الشماس ديوجرانيس بقرطاجنة الذي اتسم بمهارة عظيمة ونجاحٍ في تعليم الموعوظين. ثالثًا: مادة الوعظ لهم 1. تُقَّدم دراسات خاصة بالذين كانوا من أصل يهودي تختلف عمن هم من أصل وثني، فيقدم لكل فئة ما يتناسب مع ثقافاتهم ودراستهم السابقة وأفكارهم. 2. تُقدم لهم دراسات تأملية لاهوتية مبسطة لأهم العقائد المسيحية، وقد رتبت هذه الدراسات بعد مجمع نيقية المسكوني في القرن الرابع، بصدور قانون الإيمان، الذي يُعتبر ملخصًا شاملًا، يقدم للموعوظين مع شرحه لكي يحفظوه ويفهموه. ويظهر اهتمام الكنيسة بتسليم قانون الإيمان أن الأسقف بنفسه هو الذي يقوم بذلك إذ نجد الأسقف أمبروسيوس يكتب رسالة إلى أخته مرسيلينا قائلًا(45): [في اليوم التالي إذ كان يوم الرب، بعد الدروس والعظة -لما خرج الموعوظون- سلمت لطالبي العماد قانون الإيمان في معمودية الباسليكي.] ويقول الأنبا يوحنا خلف كيرلس الأورشليمي في رسالته إلى جيروم(46): [إن العادة عندنا أن نسلم تعليم الثالوث القدوس بصورة عامة خلال الأربعين يومًا للذين سيتعمدون.] كذلك يفتتح القديس أغسطينوس(47) مقاله عن "قانون الإيمان" لطالبي العماد قائلًا: [استلموا يا أولادي دستور الإيمان الذي يُدعى قانون الإيمان، وإذ تتقبلونه اكتبوه في قلوبكم وردِّدوه يوميًا قبل النوم وقبل الخروج، سلِّحوا أنفسكم بقانون إيمانكم. قانون لا يكتبه الإنسان لكي يقرأه، بل كي يردده، حتى لا ينسى ما تسلمه بعناية. سجلوه في ذاكرتم...] 3. بعد قانون الإيمان يقومون بشرح الصلاة الربانية، وكما يقول القديس أغسطينوس(48): [بعدما نعرف من نؤمن به نصلي إليه. إذ كيف نصلي لمن لا نعرفه ولا نؤمن به؟!] 4. في الفترة الأخيرة يقوم المعلمون بتحفيظهم بعض التلاوات، أي صلوات قصيرة. 5. وفي الأيام القليلة قبل العماد أو بعده مباشرة تقدم لهم مائدة دسمة عن شرح ترتيب العماد ومفاهيمه، وسرّ المسحة وفاعليتها، وسرَ التناول وبركاته... الأمور التي لا تجيز الكنيسة الحديث عنها مع المبتدئين. وأخيرًا يمكننا تقسيم جميع التعاليم السابقة إلى قسمين رئيسيين هما: 1. دراسات بسيطة تقدم المبادئ الأولية للإيمان المسيحي. 2. دراسات أعمق تقدم شرحًا لأسرار الكنيسة. يظهر هذا التقسيم بوضوح في مقالات القديس كيرلس، كما تظهر أيضًا في "تعاليم الاثنى عشر رسولًا"(49)، التي ذكرها البابا أثناسيوس الرسولي(50) أنها ليست من الكتب المقدسة لكن الآباء أشادوا بقراءتها للداخلين إلى الإيمان حديثًا. هذه التعاليم موجهة على وجه الخصوص إلى الذين هم من أصل وثني حتى دعيت "تعاليم الرب للأمميين خلال الاثني عشر"، وهي تنقسم إلى قسمين: 1. الفصول الست الأولى: تحمل تعاليم أولية للأمميين. 2. بقية الفصول تشرح ترتيب العماد الصلاة والصوم وخدمة يوم الرب وتقديس سرّ الإفخارستيا... هذا وإننا نختتم حديثنا عن تعليم الموعوظين بالقول: خصصت الكنيسة الجزء الأول من القداس الإلهي للموعوظين، يحمل قراءات ووعظ يحضرها المؤمنون والموعوظون ليتعرفوا عل الحق. ولكن قبل البدء في قداس المؤمنين يصرخ الشماس(51)مناديًا بخروج الموعوظين، وتغلق الأبواب، ويقوم الشمامسة بحراستها حتى ينتهي القداس الإلهي! |
|