رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تجربة الشراب يقول الكتاب: "ثم ارتحل كل جماعة بني إسرائيل من برية سين بحسب مراحلهم على موجب أمر الرب ونزلوا في رفيديم، ولم يكن ماءً للشرب" [1]. وبأكثر تفصيل يتحدث في سفر العدد (33: 12-15)، أنهم ارتحلوا من برية سين إلى دفقة ومن دفقة إلى ألوش ومنها إلى رفيديم. في سفر الخروج أراد أن يتحدث عن رفيديم مباشرة بعد برية سين لكي يربط بين تجربة الشراب (الصخرة المتفجِّرة) وتجربة الطعام (المن والسلوى). أما سفر العدد فتحدث بأكثر تفصيل حيث يرى العلامة أوريجانوس أن لهذه البلاد معنى خاص يمس رحلة المؤمن في انطلاقه من العبودية إلى حرية مجد أولاد الله. فكلمة دفقة في رأيه تعني "صحة" ، وكأن النفس التي تدخل إلى إعلانات الله بحكمة وتمييز وتتنقى خلال التجربة (سين) تعبر إلى حالة السلام النفسي أو الصحة. أما كلمة ألوش ففي رأيه تعني "أعمال"، لهذا يقول: [لا تندهش من أن الأعمال تتبع الصحة، لأنه متى تمتعت النفس بالصحة كعطية من الرب تقوم بالأعمال بفرح وبغير ملل، فيقال لها: تأكلي تعب يديك، طوباكِ وخير لك (مز 128: 2) ]. وبعد الأعمال تنطلق إلى رفيديم، التي في رأيه تعني "التمييز السليم" أو "الحكم السليم"، حيث تحكم النفس روحيًا في كل شيء ولا يُحكم فيها من أحد (1 كو 2: 15). ر ويرى العلامة أوريجانوس أن الجماعة خرجت "بحسب مراحلهم" [1]، أي خرجت مقسمة إلى أربع مراحل بنظام وتدبير حسن، خرجت من سين حتى بلغت رفيديم، أي خرجت من التجربة بتدبير حسن حتى بلغت "التمييز الحسن" والحكم السليم؛ أو على حد تعبيره: [من يخرج من التجربة بتدبير حسن يظهر في يوم الدين سليمًا (ذا حكم سديد)، أو بصحة بغير جراحات التجربة، كما هو مكتوب في الرؤيا: من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله (رؤ 2: 7). من يدبر أموره بالحق (مز 162: 5) يبلغ الحكم السليم ]. وفي رفيديم أيضًا تذمر الشعب على موسى قائلين: "لماذا أصعدتنا من مصر لتُميتنا وأولادنا ومواشينا بالعطش" [3]. في هذه المرة صرخ موسى بقلبه كما بلسانه قائلًا: "ماذا أفعل بهذا الشعب؟ بعد قليل يرجمونني؟!" [4]. في البرية قد تثور فيك أفكار التذمر حينما تشتد بك الضيقة، لكن ليكن لك قلب موسى ولسانه، فتصرخ إلى الله الذي يُخرج من الصخرة ماءً! صرخ موسى لله مؤمنًا أن النعمة الإلهية تفوق كل إمكانيات الطبيعة، إذ يستطيع الله بطريقة أو بأخرى أن يروي ظمأ هذا الشعب. وقد صارت حياة موسى بما احتوته من أعمال إلهية خارقة تمثل عمل النعمة في الكنيسة، وكما يقول القديس أمبروسيوس: [للنعمة قوة أعظم مما للطبيعة. موسى يرفع عصاه فينشق البحر، يلمس الصخرة فتتفجر المياه، يلقي الخشبة في المياه المرّة فتصير حلوة... هذا هو عمل الروح القدس في الكنيسة الفائق للطبيعة ]. 3. الصخرة المتفجرة ماءً: أولًا: تُشير الصخرة إلى السيِّد المسيح كقول الرسول بولس: "وجميعهم أكلوا طعامًا واحدًا روحيًا، وجميعهم شربوا شرابًا واحدًا روحيًا، لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح" (1 كو 10: 3)، أما الماء المتفجر فهو الروح القدس الذي قدمه لنا السيِّد سرّ تعزيتنا وتقديسنا وشركتنا مع الآب في ابنه. وتتلخص رمزية الصخرة للسيِّد المسيح في الآتي: أ. تمتع الشعب بمياه الصخرة بعد عبورهم البحر الأحمر وقتل فرعون وأعوانه، وشربهم من مياه مارة وينابيع إيليم وتمتعهم بنخيلها... هكذا لن يتعرف أحد على سرّ المسيح ويرتوي بينابيع الروح القدس إلاَّ بعدما يعبر في مياه المعمودية، جاحدًا إبليس وكل أعماله الشريرة، متمتعًا بالناموس الذي صار حلوًا خلال الصليب، أي ليس خلال حرفه القاتل بل في روحه، ومؤمنًا بعمل التلاميذ (الاثني عشر ينبوعًا) والرسل (السبعين نخلة)... وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [من يترك المصريين (رمزيًا محبة العالم) خلفه كغرقى في المياه، ويذوق العذوبة خلال الخشبة، وينعم بعيون المياه الرسولية ويستظل بالنخيل يقدر أن يتقبل الله، لأن الصخرة هنا - كما يقول الرسول - هي المسيح، هذا الذي هو صلد لا يلين بالنسبة لغير المؤمنين، أما بالنسبة للذي يستخدم عصا الإيمان فيصير له ينبوعًا يروي عطشه، ويفيض فيمن يتقبلونه، إذ قال: "إليه نأتي أنا وأبي وعنده نصنع منزلًا" (يو 14: 23)]. ب. روت الصخرة كل العطاشى، وكان ذلك رمزًا لينابيع العهد الجديد التي فجرها السيِّد المسيح، مناديًا العطاشى إلى البر أن يتقدموا ويشربوا من الماء الحي (يو 7: 37-40). والعجيب أن المرتل رأى في الصخرة رمزًا حيًا، لهذا نجده يقول: "من الصخرة كنت أُشبعك عسلًا" (مز 81: 16). يعلق على ذلك القديس أغسطينوس قائلًا: [جلب لهم في البرية من الصخرة ماءً لا عسلًا. والعسل هو الحكمة، التي تحتل المركز الأول في عذوبة أطعمة القلب...! كم من أناس يشبعون من هذا العسل فيصرخون قائلين: إنه حلو ليس شيء أفضل وأعذب منه يمكننا أن نفكر فيه أو نتحدث عنه!]. ر ج. ما كان للشعب أن يرتوي من هذا الينبوع ما لم يُضرب بالعصا، وهكذا ما كنا نعرف أن نرتوي من ينابيع محبة الله اللانهائية وننال الروح القدس فينا، ما لم يُضرب السيِّد المسيح محتملًا خلال العدل الإلهي ثمن خطايانا على الصليب. وكما ضُربت الصخرة علانية ومرة واحدة، هكذا عُلق السيِّد على الصليب أمام الشعب (لو 23: 48)، وقُدم مرة واحدة عن العالم كله (عب 7: 27)، حيث أفاض لنا دم وماء (يو 19: 34) كفارة وتطهيرًا لكل من يؤمن به. د. قال الرب لموسى: "مرّ قدام الشعب وخذ معك من شيوخ إسرائيل، وعصاك التي ضَربت بها النهر خذها في يدك واذهب. ها أنا أقف أمامك هناك. على الصخرة في حوريب..." [5-6]. دعوة الشيوخ لمرافقة موسى أثناء ضرب الصخرة وتفجير المياه إنما تحمل رمزًا أن الناموس (موسى) ليس وحده الذي شهد للصليب، ولكن أيضًا الآباء البطاركة وكل الأنبياء اشتركوا مع الناموس في الشهادة لعمل الفداء خلال الصليب. ثانيًا: يقول المرتل: "شق صخورًا في البرية وسقاهم كما من لجج عظيمة" (مز 78: 15). هنا لم يقل "الصخرة" بل صخورًا، لعله يُشير إلى رمز آخر، هو أن المؤمنين الذين كانت قلوبهم قبلًا تحجَّرت وجفَّت تفجَّرت فيها ينابيع حياة خلال الصليب لا لترتوي فقط، وإنما لكي تُفيض على الآخرين. في اليوم الأخير العظيم من العيد (يو 7: 37) إذ وقف رئيس الكهنة يسكب ماء أمام الشعب ليعلن عن عمل الله في حياتهم، وقف يسوع ونادى قائلًا: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ". ر هذه هي المرة الأولى التي يدخل فيها الشعب في حرب علانية مع شعب آخر. قبلًا حين أراد فرعون وجيشه أن يحاربوا الشعب كانت الأوامر الصادرة "قفوا وانظروا خلاص الرب... الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون" (4: 14). أما الآن بعدما تمتع الشعب بعبور البحر الأحمر ونالوا من الله كل شبعهم: المنّ والسلوى والصخرة المتفجرة التزموا أن يحاربوا، لكن ليس بقوتهم البشرية، إنما خلال عمل الله فيهم. وكانت هذه الحرب رمزًا للحرب الروحية بين ملكوت الله وملكوت إبليس حيث تتم الغلبة لأولاد الله خلال الصليب، ففي هذه الحرب نلاحظ الآتي: أ. كنا نتوقع من موسى في أول حرب علانية أن يصرخ راكعًا أو منبطحًا على الأرض... لكننا نراه يبسط يداه على شكل صليب رمزًا لغلبة الصليب. في هذا يقول العلامة ترتليان في إجابته على اليهود: [إني مندهش أنه في الوقت الذي كان فيه يشوع يحارب مع عماليق، كان موسى يصلي جالسًا بيدين منبسطتين. مع أنه كان في ظروف حرجة وكان بالحري يلزمه أن يُصلي بركب منحنية، ويدين تقرعان على الصدر، ووجه منبطح على الأرض... لكنه كان ضروريًا أن يحمل رمز الصليب حتى يغلب يشوع المعركة بالصليب ]. ويقول الأب فيكتوريانوس: [إذ رأى موسى قسوة ذلك الشعب رفع يداه في السبت، رابطًا نفسه رمزيًا بالصليب]. وأيضًا يقول الشهيد كبريانوس: [غلب يشوع عماليق بهذه العلامة التي للصليب خلال موسى ]. وفي تعلبيق العلامة أوريجانوس على هذا الحادث يقول: [عندما بسط المسيح يداه على الصليب احتوى العالم كله ]. ر ب. كان موسى على رأس التل يرمز للسيِّد المسيح الذي صلب على جبل الجلجثة، وكان يشوع مع رجال الحرب يجاهدون ضد عماليق رمزًا لجهاد الكنيسة المستمر ضد الخطية. وكأن الكنيسة تشترك مع المسيح في صليبه خلال اتحادها به وجهادها اليومي، لنقول مع الرسول بولس: "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ... قد صلب العالم ليّ وأنا للعالم" (غلا 2: 20، 6: 14). ج. لم يكن حور في عظمة موسى النبي، لكنه ما كان يمكن لموسى أن يبقى رافعًا يديه بدون هرون وحور... بهذا يدرك كل مؤمن موقعه في العمل الإلهي، ولا يستهين أحد بمواهبه مهما ظهرت أنها بلا قيمة. د. رفْع يدي موسى يُشير أيضًا إلى حياة المثابرة حتى النهاية. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [عندما يرفع موسى يديه ينهزم عماليق، وعندما يخفضهما بعد أن يتعب ليعطيهما راحة كان عماليق ينتصر. إذن لنرفع أيدينا نحن أيضًا في قوة صليب المسيح، ولنرفع الصلاة "في كل مكان بلا غضب ولا جدال، أيادي طاهرة" (أف 2: 8)، حتى نستحق معونة الله. هذا ما يحثنا عليه يعقوب الرسول قائلًا: "قاوموا إبليس يهرب منكم" (4: 7)، إذن لنبدأ بملء الإيمان فلا يهرب إبليس بعيدًا عنا فحسب، وإنما ينسحق أيضًا تحت أرجلنا، كما غرق فرعون في البحر وابتلعته أعماق الهاوية]. وفي عظة أخرى يتحدث بأكثر إسهاب عن رفع الأيدي للانتصار على عماليق قائلًا: [رفع الأيدي إنما هو رفع كل الأعمال نحو الله فلا تكون دنيئة ولا أرضية إنما تعمل لمجد الله والسماء. يرفع يداه من يكنز كنزًا في السماء (مت 5: 20-21)، لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا، وهناك تكون عيناك ويداك...! يرفع يداه ذاك الذي يقول: "لتكن رفع يديَّ كذبيحة مسائية" (مز 140: 2)، بهذا ينهزم عماليق. لكن الرسول يوصينا أن نرفع "أيادي طاهرة بلا غضب ولا جدال" (1 تي 2: 8)، كما يقول: "قوِّموا الأيادي المسترخية والركب المخلَّعة، وسيروا في الطريق المستقيم". إن حفظ الشعب الناموس (الوصية) يرفع موسى يداه وينهزم العدو، أما إن لم يحفظه فإن عماليق هو الذي ينتصر، فإننا نحارب الرؤساء مع السلاطين مع ولاة هذا العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات (أف 6: 11). ر إن أردت أن تغلب ارفع يديك، وارفع أعمالك، ولا تمض حياتك على الأرض... ارفع يديك نحو الله واحفظ وصية الرسول "صلوا بلا انقطاع" (1 تي 5: 17)، فيتم المكتوب: "يلحس الجمهور كل ما هو حولنا كما يلحس الثور خضرة الحقل" (عد 22: 4). هذا يعني أن شعب الله (الجمهور) يستخدم لسانه وصوته (يلحس) أكثر من يديه وأسلحته، بانسكاب صلواته نحو الله يهزم عدوه... هذا هو طريق الانتصار على العدو (الخطية) في المعركة]. ه. إذ غلب الشعب عماليق صعد موسى إلى الجبل ليتسلم الشريعة بعد عمل استعدادات ضخمة من جانب الشعب والكهنة، وكأن المؤمن بعد كل نصرة على الخطية - أي عماليق المحارب له - يدعوه الرب للارتفاع على جبل معرفة الله ليتسلم من يديه فهمًا أعمق ومعرفة لأسرار الوصية الإلهية. وكأن معرفتنا لا تقوم على مجرد القراءة والبحث في الكتب والعظات، وإنما بالأكثر على حياة الجهاد ضد الخطية بالصليب. ز. إن كان موسى النبي لم يدخل في الحرب مع عماليق بطريقة مادية ملموسة، لكنه كان خلال تقديس حياته لله وحِمله رمز الصليب، سرّ غلبة الشعب ونصرته. يعلق على هذا القديس أمبروسيوس قائلًا: [حين كان موسى صامتًا كان يصرخ (خر 14: 16)، وكان يحارب وهو مستريح، إذ لم يحارب فقط وإنما غلب أعداءه وهو لم يقترب إليهم. بقدر ما كان مستريحًا وكان الآخرون يحملون يديه كان يعمل أكثر من غيره، لأن يديه المرفوعتين كانتا تغلبان العدو، وبدونه ما كان يقدر الذين كانوا في المعركة أن يغلبوا. هكذا تكلم موسى وهو صامت، وحارب وهو مستريح! هل كانت له أعمال أعظم مما فعله حين كان في الخلوة يتسلم الشريعة في أربعين يومًا على الجبل (خر 24: 17)؟! في هذه الوحدة التقى بذاك الذي ليس ببعيد عنه وكان يتحدث معه!]. مقابلة يثرون لموسى "سمع يثرون كاهن مديان حمو موسى كل ما صنع الله إلى موسى وإلى إسرائيل شعبه" [1]، ولعلَّه سمع من ابنته صفورة التي رافقت موسى كل الطريق وعبرت معه البحر الأحمر، وعندما اقتربت من سكن أبيها ذهبت إليه تكرز له بأعمال الله العجيبة، وتأتي بأبيها الكاهن الوثني ليسمع ويرى عمل الله فيقدم "محرقة وذبائح لله" [12]. إن كان يثرون قد جاء بقلبه يمجد الله على أعماله الخلاصية، فإن موسى أيضًا العظيم في الأنبياء، الذي وهبه كل هذه العجائب لاقى حماه بكل اتضاع... "خرج موسى لاستقبال حميه وسجد وقبله" [7]. النبوة لم تعلِّمه التشامخ على الآخرين بل الاتضاع أمام حميه الكاهن الوثني. ولعلَّه باتضاع كسبه أيضًا للتعرف على أعمال الله. امتاز هذا اللقاء بأنه كان في الرب، لم يخرج عن تمجيد اسمه، كما امتاز بالفرح الروحي، إذ يقول الكتاب: "ففرح يثرون بجميع الخير الذي صنعه إلى إسرائيل" [9]، "وبارك يثرون الرب" [10]، وشهد له أنه "أعظم من جميع الآلهة" [11]، "وقدم محرقة وذبائح لله" [12]. ما أجمل اللقاءات التي تسير كلها في دائرة الرب وأعماله الخلاصية العجيبة، فإنها تملأ القلب فرحًا وتطلق اللسان للتسبيح، وتكسب حتى غير المؤمنين للإيمان. لم يقف الأمر عند هذا الحد بل يقول الكتاب: "وجاء هرون وجميع شيوخ إسرائيل ليأكلوا طعامًا مع حمى موسى أمام الله" [12]... كأن يثرون عرف الله كصديق له، حتى في أكله وشربه يشعر بوجوده أمام الله. يعلق العلامة أوريجانوس على هذا التصرف قائلًا: [كل ما يفعله القديسون إنما يفعلونه أمام الله، أما الخاطئ فيهرب من وجه الله. فقد كتب عن آدم أنه بعدما أخطأ هرب بعيدًا عن وجه الله (تك 3: 8)... وقايين إذ حمل لعنة الله بقتله. هابيل هرب من وجه الله (تك 4: 16)... وهكذا يهرب من وجه الله من كان غير مستحق لهذا الوجه]. ولا يقف الأمر عند الأمور الصالحة بل حتى عندما يخطئ القديسون أمام الله لذا سرعان ما يتوبون. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [الذين ينالون معرفة الله بوفرة ويتشربون تعاليمه الإلهية هؤلاء حتى إن أخطأوا إنما يفعلون هذا في حضرة الله وقدامه، كقول النبي "الشر قدامك صنعت" (مز 50: 6)... فميزة الذي يخطئ أمام الله إنه سريع التوبة، إذ يقول "أخطأت"، وأما الذي يهرب من وجه الله فإنه لا يقدر أن يتوب ولا أن يتطهر من خطاياه. هنا يظهر الفارق بين من يخطئ قدام الله ومن يهرب من الله بخطاياه ]. 3. مشورة يثرون: أولًا: إذ رأى يثرون موسى يتحمل كل المسئولية بمفرده، يقضي في كل كبيرة وصغيرة، من الصباح حتى المساء، أشار عليه أن يقيم رؤساء ألوف ورؤساء مئات ورؤساء خمسين ورؤساء عشرات، أناس ذوي قدرة، خائفين الله، أمناء، مبغضين الرشوة، يقضون بين الشعب كل حين، أما الدعاوي الكبيرة فتقدم إليه، وأطاع موسى حماه. يرى الآباء في موقف موسى البطولة الحقة من جهة اتضاعه، إذ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يقول الله عن موسى: "وأما الرجل موسى فكان حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض" (عد 12: 3). لم يكن من هو أكثر منه اتضاعًا، هذا الذي مع كونه قائدًا لشعب عظيم كهذا، وقد أغرق ملك المصريين (فرعون) وكل جنوده في البحر الأحمر كالذباب، وصنع عجائب عظيمة هكذا في مصر وفي البحر الأحمر وفي البرية، وتسلم شريعة عظيمة هكذا، ومع ذلك كان يشعر أنه إنسان عادي، وكزوج ابنة كان أكثر اتضاعًا من حميه؛ أخذ منه مشورة دون غضب. لم يقل له: ما هذا؟ هل تأتي إليَّ بمشورتك بعد أن قمتُ أنا بكل هذه الإنجازات الضخمة؟ هذه مشاعر أكثر الناس، فقد يقدم إنسان مشورة حسنة لكنها تُحتقر بسبب خسّة مركزه، أما موسى فلم يفعل ذلك، وإنما في اتضاع فكره تصرف حسنًا. ازدرى موسى بالبلاط الملكي (عب 11: 24-26) من أجل اتضاعه الحقيقي، لأن التفكير السليم والروح العالية إنما من ثمرة الاتضاع. أيّ سمو وأي عظمة أن يحتقر موسى القصر الملوكي والمائدة الملوكية؟! فقد كان الملوك عند المصريين يكرَّمون كآلهة، ويتمتعون بغنى وكنوز لا تُقدّر. لكنه ترك هذه كلها، ملقيًا بصولجان مصر، ومسرعًا إلى الالتصاق بالمستعبَدين والمثقَّلين بالأتعاب، الذين يستهلكون كل طاقتهم في الطين وعمل اللّبن، هؤلاء الذين يشمئز منهم عبيده. لقد جرى إليهم، وفضَّلهم عن سادتهم! حقًا إن كل إنسان متضع إنما يحمل روحًا سامية وعظيمة... فإن الاتضاع يصدر عن فكر عظيم ونفس عالية! ]. وفي موضع آخر يقول القديس الذهبي الفم: [ترك موسى هذه القصة - أي قبوله مشورة حميه - للعالم، منحوتة كما على عمود، إذ عرف أنها نافعة لكثيرين... إن كان موسى قد تعلم عن حميه أمورًا لائقة لم يكن يدركها، فكم بالأكثر يحدث هذا داخل الكنيسة؟! (أي يستفيد كل واحد من الآخرين). كيف حدث هذا أن غير المؤمن أدرك أمورًا لم يدركها الشخص الروحي؟!...]. ويرى العلامة أوريجانوس في هذا الأمر صورة رمزية لاستخدام الكنيسة لعلوم العالم وفلسفاته، فلا تعاديها، وإنما تنتفع منها بحكمة، إذ يقول: [عندما أتأمل موسى الممتلئ من الله، الذي كان الله يكلِّمه وجهًا لوجه، يستجيب لمشورة يثرون حميه كاهن مديان يصيبني الذهول من فرط إعجابي. يقول الكتاب "سمع موسى لصوت حميه وفعل كل ما قال" [24]. إنه لم يعارض، ولا قال له إن الله يكلمني، وكلمات السماء تسطر ليّ أفعالي، فكيف أقبل نصيحة إنسان، وإنسان وثني، غريب عن شعب الله؟! لكنه سمع له وفعل كل ما قاله له. إن لم ينظر إلى من الذي يحدثه بل استمع إلى الكلمات نفسها. هكذا إن تقابلنا نحن أيضًا مع كلمات بحكمه ينطق بها وثنيون فلا نرفضها من أجل مصدرها، معتذرين أننا تسلمنا الناموس من الله، فننتفخ بالكبرياء ونزدري بكلمات الحكماء... موسى الذي كان حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس (عد 12: 3) قبِل المشورة من إنسان أقل منه، مقدمًا مثالًا للاتضاع أمام رؤساء الشعب وصورة للسرّ القادم]. ثانيًا: إن رجعنا إلى سفر العدد نرى موسى يقول للرب: "لماذا أسأت إلى عبدك، ولماذا لم أجد نعمة في عينيك حتى أنك وضعت ثقل جميع هذا الشعب عليّ. ألعلِّي حبلت بجميع هذا الشعب أو لعلِّي ولدته؟!" (عد 11: 11-12). ما كان لموسى أن يستثقل عمل الرعاية، لأن الله هو الراعي الحقيقي، والأب غير المنظور الذي يرعى أولاده، لذلك إذ طلب الله من موسى أن يختار سبعين رجلًا قال له: "فأنزل أنا وأتكلم معك هناك وآخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم فيحملون معك ثقل الشعب، فلا تحمله أنت وحدك" (عد 11: 7)، وكأن الرب الذي يعطي موسى سحب منه ليعطي مساعديه... إننا لا ننكر أهمية تشغيل الطاقات الروحية في الكنيسة، لكن ليس بروح التذمر ولا بالشعور كأننا نحن الذين نحمل أثقال الشعب... إنما نحمل بركة مشاركتنا السيِّد المسيح، رئيس الكهنة وأسقف نفوسنا الخفي، الحامل ضعفات الكل! في سيناء لم يكن ممكنًا للخارج من أرض العبودية، السالك في طريق البرية القفر، أن يبلغ أرض الموعد ويستقر في أورشليم دون استلامه الشريعة الإلهية أو الوصية. لذا يصرخ المرتل في أرض غربته، قائلًا: "غريب أنا في الأرض، لا تُخف عني وصاياك" (مز 119: 19). تسلم الشعب الشريعة الموسوية، التي قُدمت لهم بطريقة تناسب طفولتهم الروحية، وفي نفس الوقت حملت في أعماقها أسرار "الكلمة الإلهي". لأنه ما هي الشريعة إلاَّ كلمة الله الذي هو وحده القائد والمخلص والمنير والمشبع للنفس. يقودها إلى حضن الآب، ويدخل بها إلى أمجاده الإلهية. لذا يقول القديس مرقس الناسك: [إن الوصية تحمل في داخلها السيِّد المسيح؛ من يدخل إلى أعماقها ويعيشها بالروح يلتقي بالكلمة الإلهي نفسه]. ويقول العلامة أوريجانوس: [إنه في أعماقها تكتشف النفس عريسها السماوي وتدخل معه إلى حجاله]. ويتحدث المرتل في المزمور 119 (118) عن الشريعة الإلهية كسند له في غربته فيرى فيها: أ. سرّ فرحه وسط آلام البرية: "بفرائضك أتلذذ. لا أنسى كلامك" (ع 16)، "أتلذذ بوصاياك التي أحببت" (ع 47)، "ما أحلى قولك لحنكي أحلى من العسل لفمي" (ع 103). ب. سرّ تسبيحه وتهليل نفسه: "ترنيمات صارت ليّ فرائضك في بت غربتي" (ع 54). ج. سرّ غناه الداخلي: "شريعة فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة" (ع 72). د. قائدة للنفس ومرشدة لها وسط مضايقات الأعداء: "خبأت كلامك في قلبي لكي لا أخطئ إليك" (ع 11)، "حبال الأشرار التفت عليّ، أما شريعتك فلم أنسها" (ع 61)، "لو لم تكن شريعتك لذتي لهلكت حينئذ في مذلتي" (ع 92). ه سرّ حياته: "لصقَت بالتراب نفسي فأحيني حسب كلمتك" (ع 25). ز. سرّ الاستنارة: "سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي" (ع 105)، "أضئ بوجهك على عبدك وعلمني فرائضك" (ع 135). أخيرًا إن الوصية تقدم لنا في روحها وأعماقها شخص المخلص عريس النفس ومشبعها لهذا يقول: "لكل كمال رأيت حدًا، أما وصيتك فواسعة جدًا" (ع 96). حدد سفر الخروج بدء استلام الشريعة بالشهر الثالث من الخروج، وموضع الاستلام "سيناء" حيث نزل الشعب مقابل جبل سيناء [1-2]. أما رقم "3" (الشهر الثالث) فكما سبق فقلنا يُشير إلى قيامة السيِّد المسيح الكلمة الإلهي في اليوم الثالث، وكأن الله يُريدنا أن نلتقي به خلال الوصية في مجد القيامة، فلا نراها أوامر ونواهٍ، ولا نواميس مكتوبة وفرائض وقوانين، بل سرّ قيامة لنا في الأمجاد الإلهية. خلال القيامة تصير الوصية بكل صليبها وأتعابها عذبة ولذيذة؛ يتحول طريقها الكرب إلى نير هين وحمل خفيف، وشركة آلام مع المسيح للتمتع بشركة أمجاده. كذلك اختياره الموضع "جبل سيناء" لم يكن بلا معنى، ففي رأي العلامة أوريجانوسأن "سيناء" تعني أيضًا ما عنته "برية سين" والتي قلنا أنها تعني "علِّيقة" أو "تجربة" حيث يلزم أن يكون للإنسان روح التمييز السليم حتى لا يسقط في تجربة خلال رؤى (العليقة) غاشة. وفي رأيه أن "سيناء" تعني أن النفس بدأت تقتني "الحكم العادل" خلال تسلمها للشريعة الإلهية أو الوصية، فتصير قادرة على التمتع بالأسرار الإلهية والرؤى السماوية. قبل أن يتحدث الله عن غاية الشريعة أعلن حبه العملي للشعب قائلاَ: "أنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إليَّ" [4]، وكأنما أراد أن يوضح أن الحب المتبادل هو أساس هذه الشريعة. لقد أحبنا وحملنا بالروح القدس (أجنحة النسور) وجاء بنا إليه، أي إلى أحضانه الإلهية لنختبر أحشاء محبته ونتعرف على أبوته. هذه هي غاية الشريعة: "تكونون ليّ خاصة من بين جميع الشعوب؛ فإن ليّ كل الأرض؛ وأنتم تكونون ليّ مملكة كهنة وأمة مقدسة" [5-6]. مع إنه ليس في احتياج لأن كل الأرض له، لكنه يُريد أن نكون خاصته، لنا دالة النبوة، مملكة كهنوتية وأمة مقدسة مكرسة له تحمل طبيعته كقدوس. أولًا: دعا موسى شيوخ الشعب ووضح أمامهم الكلمات التي أوصى بها الرب، كأنما يعرض عليهم العهد الذي يريد أن يقيمه الله مع شعبه، وبالفعل أعلن الشعب قبوله للعهد، إذ "قالوا كل ما تكلم به الرب نفعل" [8]. الله لا يُلزمنا بالعهد ما لم نعلن قبولنا له أولًا.! للأسف قبلوا العهد بالكلام لكنهم رفضوه بالعمل، فصار الناموس بالنسبة لهم لا ينفع شيئًا... قالوا: "كل ما تكلم به الرب نفعل"، لكنهم كسروا الوصية وحنثوا العهد، حتى جاء المخلص الذي وحده يقدر أن يتمم مشيئة الرب ووصيته في كمالها، وفيه نصير نحن أيضًا كاملين وغير كاسرين للناموس. ثانيًا: طلب الرب من موسى أن يتقدس الشعب ويغسلوا ثيابهم، ويكونوا مستعدين لليوم الثالث، لأنه في اليوم الثالث ينزل الرب أمام عيون جميع الشعب على جبل سيناء [10-11]. كما كان ذلك في الشهر الثالث من خروجهم التزموا بالاستعداد لنزول الرب أمامهم في اليوم الثالث... وهكذا حمل هذا السفر تأكيدات مستمرة لقبول قوة القيامة فينا. فإنه ما كان يمكن للشعب أن ينتفع بالوصية إن لم يتعرف على إمكانية تنفيذها خلال المسيح القائم من الأموات، الواهب الطبيعة الجديدة القادرة على تنفيذ الوصية الإلهية. أما التقديس وغسل الثياب، فهذه الأمور تكشف عن الحاجة إلى استعدادات خارجية وداخلية للصعود على جبل المعرفة (كما فعل موسى) والتعرف على الأسرار الإلهية. يقول العلامة أوريجانوس: [إن أتيت بملابس قذرة تسمع هذه الكلمة: "يا صاحب لماذا دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العريس؟" (مت 22: 12). إذن، لا يستطيع إنسان ما أن يسمع كلام الله إن لم يتقدس أولًا فيكون مقدسًا جسدًا وروحًا (1 كو 7: 34)، يغسل ثيابه ليدخل بعد لحظات إلى مائدة العريس ويأكل جسد الحمل ويشرب كأس الخلاص. لا يدخل أحد إلى هذه المائدة بملابس قذرة، وقد أوصت الحكمة بذلك في موضع آخر: "لتكن ثيابك كل حين بيضاء" (9: 8). لقد غسلت ثيابك مرة واحدة عندما نلت نعمة المعمودية، وتطهر جسدك. وتخلصت من كل دنس الجسد والروح، "فالذي طهره الله لا تدنسه أنت" (أع 10: 15)] وفي حديث القديس أمبروسيوس عن واجبات الكهنة، يقول: [تعلم أيها الكاهن وأيها اللاوي، ماذا يعني غسل ملابسك؟ يليق بك أن يكون جسدك نقيًا حتى تتقدم للأسرار. فإن كان الشعب قد مُنع من الاقتراب للذبيحة ما لم يغسلوا ملابسهم فهل، تطلب ذلك من الآخرين بينما يوجد دنس في قلبك وجسدك، وتتجاسر وتقدم عنهم تقدمة ؟!]. ويرى البابا أثناسيوس في هذا الاستعداد رمزًا للدخول إلى الحياة الفاضلة التي بدونها لا يقدر أن يدخل موسى إلى حضرة الله ويتسلم الشريعة، إذ يقول: [خلال الفضيلة يدخل الإنسان إلى الله، كما فعل موسى في السحابة الكثيفة حيث كان الله. أما خلال الرذيلة فيخرج الإنسان من حضرة الرب، كما حدث مع قايين حين قتل أخاه (تك 4: 16)، إذ خرج من لدن الرب عندما قلقت نفسه ]. كان الأمر صريحًا: "كونوا مستعدين لليوم الثالث، لا تقربوا امرأة" [15]، ليس لأن العلاقة الزوجية تحمل شيئًا من الدنس، وإنما لأجل تكريس كل الطاقات وانشغال الفكر بالكامل في انتظار الوصية... وقد رأى الآباء في هذه الوصية إشارة إلى التعفف في العلاقات الجسدية، وعدم ممارستها بطريقة شهوانية حتى تقدر النفس أن ترتفع مع موسى على جبل المعرفة وتتعرف على الله. ففي حديث القديس غريغوريوس أسقف نيصص عن البتولية يقول: [إن كنت تشتاق إلى الله لكي يعلن نفسه لك، لماذا لا تسمع موسى وهو يأمر الشعب أن يمتنعوا عن العلاقات الزوجية، لكي يؤخذوا إلى رؤية الله؟!]. وكما استقبل الشعب قديمًا كلمة الله المنقوشة على اللوحين بالامتناع عن العلاقات الزوجية والاغتسال، وضعت الكنيسة على أولادها أن يمتنعوا عن فراش الزوجية ليلة تناولهم "الكلمة الإلهية"، وكما وضعت طقسًا جميلًا لغسل أيدي الكهنة قبل استلام الحمل، فيه يُراجع الكاهن نفسه في أمر نقاوة نفسه واستعداده الداخلي للخدمة. ثالثًا: يُحذِّر الرب الشعب قائلًا: "احترزوا من أن تصعدوا إلى الجبل أو تمسوا طرفه؛ كل من يمس الجبل يقتل قتلًا... بهيمة كانت أم إنسانًا لا يعيش؛ أما عند صوت البوق فهم يصعدون إلى الجبل" [12-13]. فلكي يصعد موسى الداخلي على جبل المعرفة وينعم بالأسرار الإلهية، يلزمنا ألاَّ نسمح للحواس التي تنشغل بالأمور المادية كالنظر والسمع أن ترتفع معنا ولا أيضًا الشهوات الحيوانية. بهذا لا يصعد معنا إنسان أو بهيمة، إنما يرتفع موسى وحده، أي إنساننا الداخلي وحده، حتى يتمتع بما لم تره عين وما لم تسمع به أذن وما لا يخطر على قلب إنسان (1 كو 2: 9). يرتفع إنساننا الداخلي ليتلمس من هو أعظم من الحواس والحسيات... أي الإلهيات عينها.! إذن، لا تسمح لإنسان أو حيوان في داخلك أن يعوقك عن رؤية الله، على الجبل المقدس فيك والحديث معه وجهًا لوجه! أما قوله: "عند صوت البوق فهم يصعدون على الجبل" [13]، فيعني أن الإنسان الداخلي إذ يتمتع برؤية الله وسماع الصوت الإلهي والحديث المباشر معه، حينئذ ترتفع حواسنا واشتياقاتنا وعواطفنا لتتقدس هذه جميعها في الرب. الأمور التي كانت قبلًا عائقًا عن الحياة مع الله تصير مقدسة للرب وآلات برّ لحساب الله. أولًا: يُقارن الآباء بين لقاء الشعب مع الله في العهد القديم، ولقائهم معه في العهد الجديد. ففي العهد القديم أقام موسى للشعب حدودًا من كل ناحية حتى لا يصعدوا على الجبل أو يمسوا طرفه "كل من يمس الجبل يُقتل قتلًا، لا تمسه يد بل يُرجم رجمًا أو يُرْمَى رميًا، بهيمة كان أم إنسانًا لا يعيش" [12-13]... هكذا مُنعوا من الاقتراب إلى الجبل أو لمسه، من يلمسه يُقتل، بطريقة مؤلمة بالرجم أو الرمي، ولا يمسه إنسان من الشعب حتى لا يتنجس به.!! أما في العهد الجديد فجاء كلمة الله ذاته وجلس على الجبل (مت 5-7) والتف حوله الخطاة كأولاد له. إنه يفتح بابه للجميع طالبًا بنوتهم له.! في العهد القديم حدثت رعود وبروق وسحاب ثقيل وصوت بوق شديد جدًا حتى ارتعد كل الشعب في المحلة [16]... "قالوا لموسى: تكلم أنت معنا فنسمع، ولا يتكلم معنا الله لئلاَّ نموت" (20: 19)... أما في العهد الجديد فكان الرب يتكلم بصوت هادئ وديع ليجتذب الكل إليه. وكما يقول القديس أغسطينوس: [هناك أُعطيَ الناموس خارجيًا حتى يرتعب الأشرار، وهنا يُقدم بطريقة داخلية لتبريرهم ]. في القديم عامَل البشرية كأطفال صغار يسمعون الصوت المرهب لكي يخافوا، أما في العهد الجديد فيحدثنا كأبناء ناضجين يُريدنا أصدقاء وأحباء له. وإذ يُقارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين الدعوتين في القديم حيث الحدود الضيقة والخوف والرعدة، وفي الجديد حيث الدعوة المفتوحة للجميع ويقول: [لقد دعانا للسماء، دعانا إلى مائدة الملك العظيم والعجيب، فهل نتلكأ ونتردد بدلًا من أن نسرع ونجري إليها؟! إذن أي رجاء لنا في خلاصنا؟ إننا لا نقدر أن نعتذر بضعفنا ولا نعتذر بطبيعتنا، لكن الكسل وحده هو الذي يجعلنا غير مستحقين!]. شكرًا لله الذي فتح أمامنا طريق الجبل المقدس وجعل كلمته تدعونا جميعًا بلا استثناء لا لنتسلم الشريعة منقوشة على لوحين من الحجر، إنما ليعطينا كلمته حيًا في داخلنا، ووصيته منقوشة في قلوبنا.! ثانيًا: استخدم الله صوت بوق شديد جدًا حتى ارتعد كل الشعب الذي في المحلة... وكان صوت البوق يزداد اشتدادًا جدًا وموسى يتكلم والله يجيبه بصوت [16، 19]. لماذا أُستخدم صوت البوق؟ يجيب البابا أثناسيوس الرسولي، قائلاَ: [الأبواق تبعث في الإنسان اليقظة والرهبة أكثر من أي صوت آخر، أو آلة أخرى. وكانت هذه الطريقة مستخدمة لتعليمهم، إذ كانوا لا يزالون أطفالًا]. ويرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن صوت البوق إنما يرمز للكرازة بالتجسد الإلهي، الأمر الذي بوَّق به الأنبياء ليُعلنوا للبشرية قرب مجيئه، لكنه إذ جاء الرسل وارتفعوا إلى قمة الجبل المقدس "كان صوت البوق يزداد اشتدادًا جدًا" [19]، أي أعلنوه بأكثر قوة حتى بلغ صوتهم أقصى المسكونة ورسالتهم نهاية العالم (مز 19: 5). ثالثًا: نزل الرب على جبل سيناء كنار آكلة، كان يتحدث مع موسى والجبل يدخن "وصعد دخانه كدخان أتون وارتجف كل الجبل جدًا" [18]. يقول المرتل عن الله: "قدامه تذهب نار" (مز 79: 3)، إذ هو نفسه نار آكلة، وخدامه حوله ويتقدمونه كنار ملتهبة (مز 104: 4)، يحرقون من كان خشبًا أو عشبًا أو قشًا، كما يُنقون من كان ذهبًا أو فضة أو حجارة كريمة. رابعًا: يقول الرب لموسى: "ها أنا آتي إليك في ظلام السحاب" [9]، وبالفعل "في اليوم الثالث لما كان الصباح أنه صارت رعود وبروق وسحاب ثقيل على الجبل" [16]. ويقول الكتاب المقدس: "وأما موسى فاقترب إلى الضباب حيث كان الله" (20: 20). إذن ما هو هذا السحاب والضباب الذي اقترب إليه موسى ليسمع صوت الرب.؟ ويجيب القديس جيروم على هذا السؤال خلال تعليقه على قول المرتل: "السحاب والضباب حوله" (مز 97: 2)، إذ يقول: [أمران يُحيطان بالرب: السحاب والضباب (الظلام). أظن أنها ذات السحابة التي وردت في الإنجيل. "وسحابة نيِّرة ظللتهم" (مت 17: 5). هذا حدث عندما تجلَّى الرب وسقط التلاميذ على وجوههم أمامه، وجاءت سحابه نيِّرة ظللتهم. أظن أنها تشبه السحاب الذي قيل عنه في موضع آخر: "حقك إلى السحاب" (مز 36: 5). أي حق الرب قيل عنه في الإنجيل: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). حتى الله هو المسيح؛ يبلغ حتى إلى السحاب، أي إلى الرسل والأنبياء، هؤلاء الذين كانوا كالسحاب الذي أمَرَه ألاَّ يُمطر على إسرائيل (إش 5: 6). هذا يتفق مع ما ورد في سفر القضاة حيث جزَّة الغنم كانت جافة بينما كان المطر ينزل على بقية العالم. هذا يعني أن إسرائيل صار جافًا بينما كان المطر ينزل على العالم كله. "السحاب والضباب حوله"، "هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر" (إش 19: 1). لتعرف ماذا يعني هذا؟ الرب قادم، الرب المخلص قادم إلى مصر حيث نعيش، قادم إلى أرض الظلمة حيث فرعون، لكنه لا يأتي إلاَّ قادمًا على سحابة سريعة. ما هي هذه السحابة السريعة؟ أظنها القديسة مريم التي حملت الابن بغير زرع بشر. جاءت هذه السحابة السريعة إلى العالم وأحضرت معها خالق العالم. ماذا يقول إشعياء؟ "الرب قادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر من وجهه، الرب قادم فترتعب أوثان مصر جدًا ويرتطم بعضها ببعض وتتحطم. هذه هي السحابة التي حطمت معبد سيرابيس في الإسكندرية، إذ لم يحطمه قائد بل حطمته السحابة القادمة إلى الإسكندرية (الحاملة للمسيح)... لقد عرفنا السحاب فلنبحث الآن عن الضباب. الرب في الضباب، هو في النور وفي الضباب أيضًا. هو في النور بالنسبة للمبتدئين الذين يتحدث معهم بوضوح، لكنه بالنسبة للمتقدمين يحدثهم بطريقة سرائرية Mystically، فهو لا يتحدث مع الرسل كما مع الجماهير، إذ يتحدث مع الرسل بطريقة سرائرية. ماذا يقول؟ "مَنْ له أذنان للسمع فليسمع" (لو 8: 8). هذا هو معنى "وضباب حوله"، أي حوله أسرار. لهذا يقول في سفر الخروج إن كل الشعب كانوا واقفين أسفل وأما موسى وحده فصعد على جبل سيناء في ضباب سحابة ثقيل، لأن كل شعب الله غير قادر على التعرف على الأسرار، أما موسى فكان وحده يقدر أن يفهم. لهذا يقول الكتاب: "جعل الظلمة سترة حوله" (مز 18: 12). دعا الله موسى ليحذر الشعب والكهنة لئلاَّ يقتحموا الجبل فيسقط منهم كثيرون [21]. ولئلاَّ يبطش الله بالكهنة! لقد تحوّل الجبل إلى قدس أقداس بنزول الرب عليه، لذا خاف الرب على شعبه وكهنته لئلاَّ يهلكون بسبب حب استطلاعهم واقتحامهم المقدسات الإلهية المهوبة! لم يصعد إلاَّ موسى وهرون، موسى كممثل للكلمة الإلهية وهرون كممثل لكهنوت السيِّد المسيح، فالمسيح وحده الكلمة الإلهي والكاهن يدخل إلى المقدسات الإلهية، وبدونه نهلك! الوصايا العشر 1. مقدمة الوصايا العشر: ما كان يمكن للشعب أن يتقبل الوصايا الإلهية أو يتذوق الشريعة وهو في أرض العبودية، لذا خرج به الرب إلى البرية ليسلمه الشريعة هناك، مبتدأ بالقول: "أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية" [2]. وبالرغم من أن هذه العبارة جاءت كمقدمة للوصايا وليست في شكل وصية إلاَّ أن اليهود اعتبروها جزءً من الوصية الأولى. تُسمى الوصايا العشر بالكلمات العشر Decalogue (خر 34: 28، تث 4: 13، 10: 4)، كُتبت على لوحيّ حجر (خر 32: 15)، وتدعى "كلمات العهد" (تث 29: 1) ولوحي الشهادة (خر 31: 18)، والشهادة (خر 25: 16). ورد نص هذه الوصايا مرة أخرى في سفر التثنية (5: 6-21)، والفارق بينهما أن النص في سفر الخروج قدم تبريرًا لوصية تقديس السبت أن الله استراح بعد الخلقة في اليوم السابع، أما في سفر التثنية فارتكز على أنه في ذلك تذكار للخلاص من أرض العبودية والدخول إلى الراحة. لم تأخذ الوصايا العشر أرقامًا في الكتاب المقدس لهذا ظهر نوعان من التقسيم: أولًا: التقسيم القديم الذي عرفه اليهود، وأورده يوسيفوس وفيلون ، وأخذ به العلامة أوريجانوس ولا تزال الكنائس البروتستانتية غير اللوثرية تأخذ به. يقوم هذا التقسيم على التمييز بين الوصية الخاصة بمنع تعدد الآلهة [3]، والوصية الخاصة بعدم إقامة عبادة الأوثان [4]، باعتبارهما الوصيتين الأولى والثانية، هذا مع اعتبار "لا تشته امرأة قريبك..." جزءًا من الوصية التي تأمر ألاَّ يشتهي ممتلكات القريب [17]. بهذا التقسيم تصير الوصايا الأربع الأولى خاصة بعلاقة الإنسان بالرب، أما الوصايا الباقية "الستة" فخاصة بعلاقة الإنسان بأخيه. وقد نادى هذا الرأي بأن كل لوح حمل خمس وصايا، فتكون الوصية الخامسة الخاصة بإكرام الوالدين قد نُقشت مع الوصايا الخاصة بعلاقة الإنسان بالله على اللوح الأول، ويبرر أصحاب هذا الرأي ذلك، بأن اليهود كانوا يرون إكرام الوالدين أمرًا مطلقًا بلا شرط (مر 7: 10-13)، وكأن الوصية الخاصة بذلك هي امتداد للوصايا الخاصة بعلاقة الإنسان بالله. ويلاحظ أن الرسولي بولس حين ضم الوصايا الخمسة الأخيرة معًا لم يضم هذه الوصية إليها، ولو أنه ترك المجال لدخولها مع هذه الوصايا (رو 18: 5). أما السيِّد المسيح فقد ضمها إلى ذات المجموعة (مر 10: 19). ثانيًا: التقسيم الذي تُنادي به الكنيسة الكاثوليكية والكنائس اللوثرية، وقد اعتمدت الكنيسة على أغسطينوس الذي اعتبر أن الوصية الخاصة بعدم تعدد الآلهة تضم معها الوصية الخاصة بعدم عبادة الأوثان، بينما جعل من الوصية الخاصة بعدم اشتهاء امرأة القريب وصية مستقلة عن عدم اشتهاء ممتلكات القريب. بهذا يرى أن الوصايا الخاصة بعلاقة الإنسان بالله هي ثلاثة، والوصايا الخاصة بعلاقة الإنسان بقريبه سبعة، اللوح الأول شمل الثلاث وصايا الأولى، والثاني شمل الوصايا السبع الأخيرة. ويلاحظ أن الوصايا العشر قد حملت جانبًا سلبيًا فيما عدا وصيتيّ تقديس السبت وإكرام الوالدين، كما أن الوصية الخاصة بإكرام الوالدين هي الوصية الوحيدة التي لها وعد. وقد لخص السيِّد المسيح هذه الوصايا جميعها في وصية "المحبة لله والقريب" (مت 22: 37، رو 13: 9، غل 5: 14، يع 2: 8). ما دمنا نتحدث عن الوصايا العشر التي هي صُلب الناموس، يلزمنا أن ندرسه على ضوء كلمات معلمنا بولس الرسول: "ظاهرين أنكم رسالة المسيح مخدومة منّا، مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحيّ، لا في ألواح حجرية بل في ألواح قلب لحمية. ولكن لنا ثقة مثل هذه بالمسيح لدى الله، ليس أننا كُفاة من أنفسنا كان نفتكر شيئًا كان من أنفسنا، بل كفايتنا من الله. الذي جعلنا كفاة لأن نكون خدام عهد جديد، لا الحرف بل الروح، لأن الحرف يقتل ولكن الروح يحييّ. ثم إن كانت خدمة الموت المنقوشة بأحرف في حجارة قد حصلت في مجد، حتى لم يقدر بنو إسرائيل أن ينظروا إلى وجه موسى لسبب مجد وجهه الزائل، فكيف لا تكون بالأولى خدمة الروح في مجد. لأنه إن كانت خدمة الدينونة مجدًا فبالأولى كثيرًا تزيد خدمة البرّ في مجد" (2 كو 3: 3-9). اهتم كثير من الآباء بالكشف عن العبارة "الحرف يقتل ولكن الروح يحيي"، لكنني أكتفي هنا ببعض اقتباسات للقديس أغسطينوس عن مقاله "عن الروح والحرف" في كتاب بعث به إلى مرسيلينوس في ستة وستين فصلًا، أوضح فيه النقاط التالية: 1. بالناموس انكشفت الخطية ولم تعالج: "حرف الناموس الذي يُعلمنا عدم ارتكاب الخطية يقتل إن غاب عنه الروح الذي يهبه حياة، إذ يجعلنا نعرف الخطية دون أن نتجنبها، كما يجعلها تتزايد بدلًا من أن تُقل، إذ يضيف إلى الشهوة الشريرة (التي يمنعنا عنها الناموس) تعدّينا للناموس نفسه" . مع كون الناموس صالحًا في ذاته إلاَّ أنه يزيد من الشهوة الشريرة حينما يحرمها، فيكون الأمر كاندفاع الماء الذي يجري على الدوام في اتجاه معين فإذا قابله حاجز ما فبتعديه للحاجز تزداد قوته ويسرع في انحداره إلى أسفل (يصير شلالًا قويًا). ومع شيء من الفارق يصير ما نشتهيه محبوبًا جدًا حينما نُحرم منه، وتعتبر هذه هي الخطية التي تخدع وتقتل بواسطة الوصية، "إذ حيث ليس ناموس ليس أيضًا تعد" (رو 4: 15). 2. أعلن الناموس عن الحاجة إلى طبيب: "دخل الناموس لكي تكثر الخطية" (رو 5: 20). فبوجوده ظهر(الإنسان) مذنبًا ومرتبكًا وفي حاجة لا إلى طبيب بل إلى الله نفسه كمعين له، يوجه خطواته حتى لا تُسيطر عليه الخطية. صار لزامًا لكي يشفي أن يُسلم نفسه لمعونة الرحمة الإلهية. وبهذا إذ تكثر الخطية يجب أن تزداد النعمة جدًا (رو 5: 20)، ليس خلال استحقاق الخاطئ لكن خلال تدخل الله الذي يُعينه". "في الحقيقة إن الناموس بإصداره الوصايا مع التهديدات وعدم تبريره لأي إنسان، يكشف أن تبرير الإنسان هو عطية من الله بمعونة الروح القدس... متبررين مجانًا بنعمته (رو 3: 24)". 3. الناموس صالح والوصية عادلة: ونحن كمسيحيين نلتزم بالوصايا العشر (مع مراعاة السبت كرمز للأحد)، إذ يقول: "الوصايا العشر نافعة ومفيدة لمن يعمل بها، بل ولا يستطيع أحد أن ينعم بالحياة ما لم يحفظها". لكنها تعطي حزنًا للإنسان الحرفي إذ لا تحرره من الخطية، لذا قيل "الذي يزيد علمًا يزيد حزنًا" (جا 1: 18)، أما الذي يحفظ الناموس روحيًا حسب الإنسان الداخلي فيكون له الناموس فرحًا، يقول القديس أغسطينوس: [لو وجد الإيمان الذي يعمل بالمحبة (غلا 5: 6)، يبدأ الإنسان يُسر بناموس الله حسب الإنسان الباطن (رو 7: 22). هذا هو عطية الروح القدس لا الحرف، حتى مع وجود ناموس آخر في أعضائنا يُحارب ناموس ذهننا، إذ نتغير عن حالنا القديم ونمضي في تجديد مستمر من يوم إلى يوم، أي أنه بنعمة الله يتحرر إنساننا الباطن من جسد هذا الموت بربنا يسوع المسيح]. 4. الناموس والعهد الجديد: يقول القديس أغسطينوس: [لاحظ هذا أيضًا في الشهادة التي أدلى بها النبي بطريقة أكثر وضوحًا في هذا الأمر، إذ يقول: "ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدي فرفضتهم يقول الرب، بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب. أجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها في قلوبهم، وأكون لهم إلهًا وهم يكونون ليّ شعبًا. ولا يعلمون بعد كل واحد صاحبه وكل واحد أخاه قائلين اعرفوا الرب، لأنهم كلهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الرب. لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد" (إر 31: 31-34)... ما الفرق الذي أظهره الله بين العهدين، القديم والجديد..؟ تم التغيير بسبب الروح المحيي الذي بدونه الحرف يقتل...]. إنه يرى أن العهد القديم سُميَ "قديمًا"، لأن الخطية التي للإنسان القديم كانت تعمل في الإنسان ولم يقدر حرف الناموس أن يشفيها، أما العهد الجديد فسُميَ كذلك من أجل عطية روح الله الحيّ (2 كو 3: 3) الذي نقش الوصية بطريقة جديدة لا في ألواح حجرية بل في ألواح قلب لحمية . في العهد القديم جاءت الوصية منذرة من الخارج، أما في العهد الجديد فنلنا نعمة الروح القدس المحييّ في القلب في الداخل. في هذا يقول: "الاختلاف بين العهدين القديم والجديد، أن الأول كُتب على الألواح لكي يُنذر، الأول من الخارج، أما الثاني فيبهج في الداخل. بالأول صار الإنسان متعديًا خلال الحرف القاتل، أما بالثاني فصار حيًّا بواسطة الروح المحيي". هذا ويرى القديس أغسطينوس أن كل الناموس قد لخصه السيِّد المسيح في الحب لله والقريب، فإن كنا قبلًا نسمع وصايا نعجز عن تنفيذها، ففي العهد الجديد تُسكب المحبة في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا (رو 5: 5)، بهذا صار تنفيذ وصايا الناموس ممكنة وسهلة، لأن هذا هو عمل الروح القدس الذي يُسكب الحب فينا فيكمل كل الناموس. أكد السيِّد المسيح أنه ما جاء لينقض الناموس بل ليكمله (مت 5: 17)، فمن ناحية كشف أعماق الناموس ودخل بنا من حرفيته إلى روحه الخفي، فلم يعد الناموس مجرد وصايا وأوامر بل تلاقٍ مع "كلمة الله" الخفي، وكما يقول القديس مرقس الناسك: [يختفي الرب في وصاياه، فمن يطلبه يجده فيها، لا تقل إني قد أتممت الوصايا ولم أجد الرب، لأن من يبحث عنه بحق يجد سلامًا]. ومن ناحية أخرى أوصانا الرب في العهد الجديد بقتل رأس الخطايا، فلم يطالبنا بعدم القتل فحسب وإنما عدم الغضب الذي هو بداية الطريق للقتل، ولم يسألنا الامتناع عن الزنا وإنما عدم النظر إلى امرأة بقصد شرير، الذي هو بداية السقوط في الزنا إلخ... كذلك أعطانا إمكانية التنفيذ ففي القديم أعلنت الوصية أو الناموس عجز الإنسان تمامًا عن تقديس ذاته وتبريره، فجاء السيِّد المسيح ليعطينا نعمة الروح القدس القادر على تقديس نفوسنا وأجسادنا، فتصير الوصية التي كانت مستحيلة هي قانون إنساننا الجديد. رقم عشرة: يُشير رقم 10 إلى الكمال على الأرض، فقد شبَّه العالم كله بعشر عذارى (مت 25: 1)، وبعشرة عبيد لله أعطاهم عشرة أمناء ليتاجروا فيها (لو 19: 13). وشُبهت الكنيسة بامرأة لها عشرة دراهم (لو 15: 8)، وقد جاءت وصية العشور مفترضة أن الإنسان يملك عشر وحدات هو كل ماله، يقدم جزء منه (1 ÷ 10) لله(279)... أخيرًا إذ أتكلم عن الوصايا العشر فإني أعمل كل الجهد على الاختصار، راجيًا الرجوع إلى كتاب "الوصايا العشر في المفهوم المسيحي" لقداسة البابا شنودة الثالث. تبدأ الوصايا العشرة هكذا: "أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي... لأني أنا الرب إلهك إله غيور" [2-5]. في قوله: "لا يكن لك آلهة أخرى أمامي" لا يعني وجود آلهة أخرى، إنما يحذر شعبه من السقوط في التعبد لآلهة الوثنيين مع عبادتهم لله. ويرى القديس أثناسيوس الرسولي [أن الله أعطانا هذه الوصية لكي يسحب البشر بعيدًا عن التخيلات الخاطئة غير العاقلة الخاصة بعبادة الأوثان... ليس كما لو كانت هناك آلهة أخرى يمنعهم عنها، وإنما أوصى بذلك لئلاَّ ينحرفوا عن الله الحقيقي ويقيموا لأنفسهم آلهة مما لا شيء، كما فعل الشعراء والكتّاب]. إن كنا الآن لا نتعرض لعبادة الأوثان، لكن الله يُحذرنا من الآلهة الأخرى التي تملك في القلب كمن يحب العالم أو الكرامة أو مديح الناس أو الشهوات... وهناك "الذين آلهتهم بطونهم" (في 3: 19). إنه يُريدنا أن نحبه ليملك على القلب تمامًا، ليس لأنه يُريد أن يستعبدنا أو يذلنا، وإنما لأنه "إله غيور"... لذلك أصر أن يصف نفسه هكذا "أنا الرب إلهك إله غيور". وقد علق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة قائلًا: [قال الله هذا لكي نتعلم شدة حبه. فلنحبه كما يُحبنا هو، فقدم ذخيرة حب كهذه. فإننا إن تركناه يبقى يدعونا إليه، وإن لم نتغير يؤدبنا بغضبه، ليس من أجل التأديب في ذاته. أُنظر ماذا قال في حزقيال عن المدينة محبوبته التي احتقرته: "هأنذا أجمع جميع محبيك ضدك، وأسلمك ليدهم فيرجمونك بالحجارة ويذبحونك، فتنصرف غيرتي عنك، فأسكن ولا أغضب بعد" (راجع حز 16: 37-42). ماذا يمكن أن يقال أكثر من هذا بواسطة محب متقد احتقرته محبوبته، ومع هذا يعود ويحبها مرة أخرى بحرارة؟! لقد فعل الله كل شيء لكي نحبه، حتى أنه لم يشفق على ابنه من أجل أن نحبه، ومع هذا فنحن متراخون وشرسون . ويعلق العلامة أوريجانوس على نفس العبارة قائلًا: [انظروا محبة الله، فإنه يحتمل ضعفات البشر لكي يعلمنا ويدخل بنا إلى الكمال... كل امرأة مرتبطة برجلها تخضع له وإلاَّ صارت زانية، تبحث عن الحرية لكي تخطئ. ومن يذهب إلى زانية يعرف أنه يدخل إلى امرأة زانية تُسلم نفسها لكل من يَقْدم إليها، لذا فهو لا يغضب إن رأى آخرين عندها. أما المتزوج شرعيًا فلا يحتمل أن يرى زوجته تُخطئ، وإنما يعمل دائبًا على ضبط طهارة زواجه، ليتأكد أنه الأب الشرعي (للطفل ثمرة زواجه). إن فهمت هذا المثل تستطيع أن تقول أن النفس تتنجس مع الشياطين والأحباء الآخرين الكثيرين، فعادة يدخل عندها روح الزنا، وعند خروجه يدخل روح البخل ثم روح الكبرياء ثم روح الغضب ومحبة الزينة والمجد الباطل، ويدخل آخرون كثيرون يزنون مع النفس الخائنة دون أن يَغييّر أحدهم من الآخر... ولا يطرد الواحد الآخر، بل بالعكس كل منهم يقدم الآخر... وكما رأينا الروح الشرير الذي يقول عنه الإنجيل: "إن خرج من إنسان يرجع ومعه سبعة أرواح أشر منه" (يو 11: 24-26)، ويسكن هذه النفس. هكذا لا يغير الواحد الآخر في النفس التي تبيع ذاتها للزنا مع الشياطين. أما إن اتحدت النفس مع زوج شرعي، العريس الذي يخطبه بولس للنفوس، قائلًا: "إني خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2)، هذا الزواج تكلم عنه الإنجيل قائلًا: "إن ملكًا صنع عرسًا لابنه" (مت 22: 2)، تهب النفس ذاتها له وترتبط به شرعيًا، حتى وإن كانت في ماضيها خاطئة وسلكت كزانية، لكنها متى ارتبطت به تتعهد ألاَّ تخطئ مرة أخرى. النفس التي اختارته عريسًا لها لا يحتمل أن تلهو مع الزناة. وهو أيضًا يَغيّير عليها، ويدافع عن طهارة حياته الزوجية. يُدعى الله "إلهًا غيورًا"، لأنه لا يحتمل أن ترتبط النفس التي وهبت ذاتها له بالشياطين... إن كنا قد عرفناه بعد ما استنرنا بكلماته الإلهية ونلنا المعمودية، بعد الاعتراف بالإيمان، والارتباط بمثل هذه الأسرار العظيمة فإنه لا يريدنا أن نخطئ أيضًا، ولا يحتمل أن يرى النفوس التي دُعيَ لها عريسًا وزوجًا أن تلهو مع الشياطين، وتزني مع الأرواح النجسة، وتتمرغ في حمأة الإثم. وإن حدثت هذه المصيبة، فعلى الأقل يريدها أن ترجع وتتوب. هذا نوع جديد من محبته لنا: أن يقبل النفس التي ترجع إليه بعد الزنا وقد تابت بكل قلبها كقول النبي: "إذا طلّق رجل امرأته فانطلقت من عنده وصارت لرجل آخر، فهل يرجع إليها بعد؟! ألا تتنجس تلك الأرض نجاسة. أما أنت فقد زنيت بأصحاب كثيرين، لكن ارجعي إليّ يقول الرب" (إر 3: 1). ثم يقول: "انطلقت إلى كل جبل عالِ إلى كل شجرة خضراء وزنيت هناك فقلت بعدما فعلتِ كل هذه ارجعي إليّ فلم ترجع" (إر 3: 7). إذن الله الغيور، يبحث عنك ويشتهي أن ترتبط نفسك به ويحفظك من الخطية ويقوِّمك ويؤدبك ويغضب عليك... والخلاصة إن كان يستخدم اتجاهك نوعًا من الغيّرة فتيقن أنه بالنسبة لك هو رجاء خلاصك. أخيرًا فإن هذا الحب الزوجي الذي يربط النفس بعريسها قد سحب قلوب الخطاة والزناة للتوبة، كما شد قلوب الكثيرين لحياة البتولية والرهبنة، إذ رأوا في العريس السماوي ما يشبع القلب بفيض. وقد احتل هذا "الحب" مركز الصدارة في الكتابات الآبائية الروحية. جاءت الوصية هكذا: "لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إلهك إله غيور" [4-5]. وقد سبق أن تحدثنا عن هذه الوصية في كثير من التوسع، وقلنا أن الكنيسة ملتزمة بلا شك بتنفيذ هذه الوصية، لكنها تحفظ روح الوصية لا حرفها، لأن الحرف يقتل وأما الروح فيحييّ (2 كو 3: 6). روح الوصية هو وقف تسلل العبادة الوثنية إلى الشعب وليس منع استخدام الصور في ذاتها، فقد عرف الشعب اليهودي بتعرضه للسقوط في نوعين من الانحراف الوثني: أ. الامتثال بالوثنيين المحيطين بهم، كما سقط سليمان الملك في عبادة الآلهة الغريبة عندما تزوج بوثنيات. ب. الخلط بين العبادة الوثنية وعبادة الله الحيّ، كما يظهر من عبادتهم للعجل بقصد التعبد لله الحيّ خلال هذا العمل الرمزي (خر 32: 5). هذا من جانب ومن جانب آخر، كما يقول الأب يوحنا الدمشقي: [إن منع الصور في العهد القديم قام جوهريًا على عجز الشعب اليهودي عن التمييز بين العبادة Lateria الخاصة بالله وحده والتكريم Probynesis الذي يمكن تقديمه لغير الله]. ويظهر ذلك بوضوح من أمر الله لشعبه قديمًا بإقامة صورًا معينة هو حددها، لا كحليّ يتزين بها بيت الرب، وإنما كجزء حيّ في الطقس التعبدي. فخيمة الاجتماع نفسها والهيكل فيما بعد جاء برسم إلهي، أيقونة مبدعة تصور السمويات (عب 8: 5، خر 25: 40)، كما احتويا صورًا مثل تمثاليّ الكاروبين على غطاء تابوت العهد... وكان موسى وجميع الشعب يسجدون أمام التابوت، والرب يتكلم معهم من بين الكاروبين (عد 10: 35-36، خر 25: 22). هذا وكان الشاروب مصورًا على حجاب خيمة الاجتماع بين قدس الأقداس والقدس. كما صارت صورة الكاروب وحدة فنية متكررة منقوشة على حوائط الهيكل، وعلى مصراعيّ الباب (1 مل 6: 27-29، 32؛ 2 أي 3: 7) دلالة على حلول الله في بيته المقدس. أمر الله موسى أن يعمل تمثالًا من النحاس لحيّة محرقة (نارية) يضعها على عمود في البرية لتكون سرّ شفاء لكل من ينظر إليها (عد 21: 8-9). إذن الله لم يمنع الأيقونات والتماثيل إلاَّ من حيث الخوف عليهم من السقوط في الانحرافات الوثنية. لكن إذ زال هذا الخوف صارت الأيقونات تقوم بدور تعليمي بكونها لغة جامعة يفهمها كل إنسان أيًا كان جنسه، ودور روحي... في ذلك يقول الأب يوحنا الدمشقي: [إن سألك وثني أن تعرفه عن إيمانك فخذه إلى الكنيسة وأقمه أمام الأيقونات]. كما كتب البابا غريغوريوس الكبير رسالة إلى سيرينوس أسقف مرسيليا الذي أمر بتحطيم الأيقونات لكي يمنع ما رآه عملًا شريرًا، جاء فيها: [نمى إلى علمنا إنكم حطمتم صور قديسين في غيرة لا يمكن تصورها، وقد بررتم هذا على أساس أنه لا يجوز عبادة الصور. منعكم عبادتها أمر يستحق المديح. أما تحطيمكم لها فهذا تُلامون عليه. التعبد للصورة شيء واستخدامها لاستذكار موضوعها شيء آخر. فإن الرسم بالنسبة للأُمِّي كالكتابة للمتعلم. تستخدم الرسومات في الكنائس حتى يقدر على الأقل الأُمِّيون أن يقرءوا خلال تطلعهم إلى الحوائط ما لا يستطيعون قراءته في الكتب]. يقول الأب يوحنا من كرونستادت: [الأيقونات في البيوت والكنائس ليست قطعًا فنية للعرض أو الزينة، وإنما هي معين لنا في تحقيق حياة الصلاة خلال المنظورات]. ويقول الأب ليونتيوس: [كما أنك في تكريمك لكتاب الشريعة لا تنحني لمادة الجلد أو الحبر بل لأقوال الله الواردة فيه، هكذا إذ أكرِّم أيقونة المسيح لا أقدم الكرامة للخشب والرسم، حاشا!... أفتقد ذنب الآباء في الأبناء: يرتعب البعض إذ يسمعون الرب يقول: "أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء" [5]، قائلين: وما ذنب الأبناء ليحملوا أجرة ما فمله آباؤهم؟ نجيب على ذلك بالآتي: أولًا: نحن لا ننكر أن الأبناء يحملون ثمار أخطاء آبائهم، فالجنين الذي يتغذى طوال فترة الحمل على دم أم غضوب وثائرة يحمل ثمرة هذا الغضب في صحته الجسدية والنفسية، فغالبًا ما يخرج حاملًا بعض الأمراض الجسدية والطبائع الفظة... لكن الله أكد لنا أنه لا يجازي الإنسان على أخطاء والديه، فكثيرون ممن لهم الطبائع الحارة بالتوبة صاروا قديسين فنالوا بركة أعظم مما لغيرهم. أكد الله هذا الأمر على لسان إرميا النبي القائل: "في تلك الأيام لا يقولون بعد الآباء أكلوا حصرمًا، وأسنان الأبناء ضرست؛ بل كل واحد يموت بذنبه؛ كل إنسان يأكل الحصرم تضرس أسنانه" (إر 31: 29-30). وشرح حزقيال هذا الأمر بأكثر وضوح، قائلًا: "وكان إليَّ كلام الرب قائلًا: ما بالكم تضربون هذا المثل... قائلين: الآباء أكلوا الحصرم، وأسنان الأبناء ضرست. حتى أنا يقول السيِّد الرب، لا يكون لكم من بعد أن تضربوا هذا المثل في إسرائيل. ها كل النفوس هي ليّ. نفس الأب كنفس الابن، كلاهما ليّ. النفس التي تخطئ هي تموت... الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن. برّ البار عليه يكون، وشر الشرير عليه يكون" (خر 18: 1-25). ثانيًا: كلمات الرب لا تعني أن الله ينتقم لنفسه في الأبناء عما فعله آباؤهم... لكنه يريد أن يؤكد طول أناته، فإنه يترك الأشرار للتوبة سنة فأخرى، وجيلًا فآخر، وإذ يصمم الإنسان على عمل الشر يؤدب في الجيل الثالث أو الرابع ليس من أجل خطايا آبائهم لكن من أجل إصرار الأبناء على السلوك الشرير بمنهج آبائهم. في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليس معنى هذا أن إنسانًا يتحمل عقوبة جرائم ارتكبها غيره، ولكن مادام هذا الإنسان يرتكب خطايا كثيرة ولم ينصلح حاله، إنما يرتكب ما فعله آباؤه، فبعدل يستحق العقاب أيضًا ]. ويقول القديس أغسطينوس: [من تغير حاله في المسيح كفّ عن أن يكون ابنًا للأب الشرير، إذ لم يعد يمتثل بشره، بهذا لا تفتقد شرور آبائه فيه ]. بهذا إذ قال اليهود: "دمه علينا وعلى أولادنا" صدقوا، إذ يتحمل أبناؤهم هذا الدم الذي سفكه آباؤهم ماداموا مُصرِّين على جحد هذا الدم، أما إن قبلوا المخلص فإنهم لا يعودوا أولادًا لسافكي دم المسيح بل أولادًا لله. الوصيتان الأولى والثانية خاصَّتان بعبادة الله الحيّ بعيدًا عن كل انحراف وثني، أما الوصية الثالثة فتخص "اسم الله". إذ خشى الله على شعبه أن يُقسموا بأسماء آلهة أخرى أعطاهم الرب أن يحلفوا باسمه، إعلانًا لاسم إلههم وتمييزًا لهم (تث 6: 13، 10: 20؛ إش 48: 1؛ مز 63: 1)؛ كما أمرهم: "لا تدخلوا إلى هؤلاء الشعوب... ولا تذكروا اسم آلهتهم، ولا تحلفوا بها، ولا تعبدوها ولا تسجدوا لها" (يش 23: 7). وقد اشترط عليهم ألاَّ يحلفوا باسم الرب كذبًا (لا 19: 12)، وأن يوفرا ما قد حلفوا به باسم الرب. هذا بالنسبة للقسَم، أما بالنسبة لترديد اسم الله، فقد طلب منهم أن لا يرددونه باطلًا، أي بلا سبب جوهري، فإن اسمه قدوس (لو 1: 49)، مهوب (مز 111: 9)، عظيم بين الأمم (ملا 1: 11)، عجيب في الأرض كلها (مز 8: 9)... علينا أن نهابه ونوقِّره، لا ننطق به إلاَّ في خشوع وبكل إجلال، فقد أمرنا موسى النبي قائلًا: "لتهاب هذا الاسم الجليل المرهوب، الرب إلهك" (تث 28: 58)، موضوع حبنا وشبعنا وصلواتنا: "باسمك أرفع يدي، فتشبع نفسي كما من لحم ودسم" (مز 63: 4)، "محبوب هو اسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي" (مز 119: 97)... أما في العهد الجديد فقد بلغ المؤمن إلى النضوج الروحي فيليق ألاَّ يحلف البتة كقول السيِّد: "ليكن كلامكم نعم نعم لا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرير" (مت 5: 37). وعرفنا اسم السيِّد المسيح المخلص، "فكل من يدعو باسم الرب يخلص" (رو 10: 13)، ومن أجل اسمه نحتمل بصبر ولا نَكِل (رؤ 2: 3)، ومن أجله نهان فنفرح ونُسرّ (أع 5: 14)، وباسمه تخرج الشياطين (مر 16: 17)، وتُجْرَى آيات وعجائبها (أع 4: 29-0 3). سبق أن تحدثنا عن هذه الوصية بشيء من التوسع، لذا أرجو الرجوع إلى هذا البحث منعًا من التكرار . قلنا إنها وصية أبدية تلتزم الكنيسة بتنفيذها، بالدخول إلى "السبت" الحقيقي، أي "الراحة"، التي صارت لنا خلال قيامة السيِّد المسيح، فإن كان الله قد استراح في اليوم السابع بعد نهاية عمل الخليقة، صارت راحتنا ببداية الخليقة الجديدة التي صارت لنا بقيامتنا مع السيِّد المسيح. وفيما يلي بعض أقوال الآباء في هذا الشأن: * نحن نحفظ اليوم الثامن بفرح، اليوم الذي فيه قام الرب من الأموات، ليعلن عن نفسه أنه يصعد إلى السموات. رسالة برنابا (القرن الثاني) * إننا نتمسك بالسبت الروحي (الأحد)، حتى مجيء المخلص، إذ استرحنا من الخطية. القدِّيس إكليمنضس السكندري * الذين يعيشون حسب التدبير القديم الخاص بالأمور المستقبلة لا يحفظون السبت بل يحفظون يوم الرب، اليوم الذي فيه قامت حياتنا بواسطة المسيح بموته. القدِّيس أغناطيوس وضع الرب إكرام الوالدين في مقدمة الوصايا الخاصة بعلاقتنا بالآخرين، فيأمرنا بإكرامنا لهما قبل أن يوصينا "لا تقتل" أو "لا تزن" إلخ... وهي الوصية الوحيدة والمقترنة بمكافأة أو وعد (أف 6: 2). وكانت الشريعة صارمة على من يكسر هذه الوصية: "من ضرب أباه أو أمه يُقتل قتلًا... ومن شتم أباه أو أمه يقتل قتلًا" (خر 21: 15-17). من يعاند ولا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمه يرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت (تث 21: 18-21). ومن يستخف بأبيه أو أمه يصير تحت اللعنة (تث 27: 16). يبدو أن اليهود استغلوا هذه الوصايا فأساء البعض التصرف في معاملة أولاده، إذ أرادوا الطاعة المطلقة بلا اعتبار لنفسية الأولاد وشخصياتهم. فجاء السيِّد المسيح ليكشف المفاهيم العميقة لهذه الوصية، ففي الوقت الذي فيه كان السيِّد خاضعًا للقديسة مريم والقدِّيس يوسف (لو 2: 51)، هذا الذي تخضع له كل القوات السماوية (في 2: 10)، واهتم بأمه وهو على الصليب مشغولًا بخلاص العالم كله وساقطًا تحت الآلام، مسلمًا إيَّاها لتلميذه القدِّيس يوحنا (يو 19: 27)... إذ به يضع مفهومًا جديدًا لهذه الطاعة وذلك عندما عاتبته أمه قائلة: "يا بنيّ لماذا فعلت بنا هكذا؟! هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين" (لو 2: 48-49)، أجابها: "لماذا كنتما تطلبانني؟! ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي!" (لو 2: 49)... ويعلق الإنجيلي على هذه الإجابة قائلًا: "فلم يفهما الكلام الذي قاله لهما" (لو 2: 50). إجابة السيِّد المسيح كانت أشبه بثورة في عالم الطفولة، إذ أعطى للأبناء حق التفاهم مع الوالدين، والطاعة في الرب (أف 6: 1)، وليس الطاعة المطلقة كما فهمها اليهود، وكما كانت البشرية في ذلك الحين تفهمها. هذا المفهوم الإنجيلي امتد للطاعة للأب الروحي، إذ يقول الرسول بولس: "إن بشرناكم نحن أو ملاك من السما بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما" (غلا 1: 8)، معطيًا لأولاده الروحيين حق عدم الطاعة إن كانت ليست في الرب. يتحدث القديس جيروم عن الطاعة في الرب، قائلًا: [تقول الوصية "إكرم أباك" لكن فقط إن كان لا يفصلك عن أبيك الحقيقي. تذكر رباط الدم، ما دام والدك يعرف خالقه، أما إذا لم يفعل ذلك فسيرنم لك داود قائلًا: "اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي سمعك. انسي شعبك وبيت أبيك، فإن الملك اشتهى حسنك فهو ربك" (مز 44: 10-11). ففي هذه الحالة تكون المكافأة عظيمة لنسيانك الوالد إذ "اشتهى الملك حسنك" ]. أما مفهوم إكرام الوالدين فمتسع، يشمل الطاعة والخضوع وقد ضرب اسحق مثلًا حيًا لطاعة أبيه إبراهيم الذي أراد أن يقدمه ذبيحة للرب كأمر الله له؛ وأيضًا المحبة والاحترام ونرى في سليمان الحكيم مثلًا حيًا، إذ جاءته والدته "قام الملك للقائها وسجد لها وجلس على كرسيه ووضع كرسيًّا لأم الملك فجلست عن يمينه" (1 مل 2: 19)، والنجاح أيضًا نوع من إكرام الوالدين، إذ يقول الكتاب: "الابن الحكيم يُسر أباه، والابن الجاهل حزن أمه" (أم 10: 1). الإعالة هي تكريم عملي للوالدين، وكما يقول القديس جيروم: [لا تفسر التكريم في كلمات مجردة... بل مدهم باحتياجاتهم الضرورية للحياة. لقد أمر الرب بإعالة الوالدين المحتاجين بواسطة أولادهم، وفاءً لأعمالهم الحسنة التي قدمت للأولاد في طفولتهم]. وقد وبّخ السيِّد المسيح الفريسيين الذين وضعوا تقليدًا يخالف كلمة الله، فقد سمحوا للأبناء أن يقدموا ما يحتاج إليه الوالدان إلى الخزينة في الهيكل لحساب الفقراء، فإن سألهم الوالدان شيئًا يقولون: "قربان" (مت 15: 4)! فأبطلوا وصية الرب بتقليدهم الشرير . أخيرًا إن كانت هذه الوصية حملت إكرام الوالدين حسب الجسد، والآباء الروحيين فبالأولى جدًا تنفيذها على الأبوين الروحيين يكون الله أبونا والكنيسة هي أمنا. ويرى القدِّيس إكليمنضس السكندري أن الأبوين هنا هما الله بكونه أب ورب لنا، والأم هي المعرفة الحقة والحكمة التي تلد الأبرار. 9. الوصية السادسة: عدم القتل: لا يطيق الله أن يرى الدم البريء مسفوكًا بلا ذنب، إذ يقول لقايين: "صوت دم أخيك صارخ من الأرض" (تك 4: 11)، ولا يحتمل حتى سفك دم الشرير، إذ يقول: " كل من قتل قايين فسبعة أضعاف ينتقم منه، وجعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده" (تك 4: 14-15). تظهر كراهيته لسفك الدم قوله لداود النبي المحبوب لديه: "قد سفكت دمًا كثيرًا وعملت حروبًا عظيمة، فلا تبني بيتًا لاسمي" (أي 22: 8). الله الذي أوصى بعدم القتل صرح به بالنسبة للزناة (لا 20: 10-16)، وللقاتل نفسه (خر 21: 14)، ولضارب أبيه أو أمه أو شاتمهما (خر 21: 15، 17)، ولكاسر يوم السبت (خر 31: 15)، والمجدف على اسم الرب (لا 24: 16)... وأمر به في بعض الحروب مع الوثنيين. كان هذا كله يناسب العهد القديم، إذ لم يكن يستطيع الإنسان أن يميز بين الخاطئ والخطية، وعابد الأوثان وعبادة الأوثان، فبالقتل أراد أن يؤكد رفضه التام للخطية وعبادة الأوثان التي للأمم. أما في العهد الجديد، إذ دخل المؤمنون إلى النضوج الروحي لم يعد القتل عقوبة للخاطئ، إنما يلزم خلاصه من الخطية علة موته. والقتل لا يعني مجرد سفك الدم، فهناك من يقتل بلسانه كقول الكتاب: "لسانهم سيف قتّال" (إر 9: 8)، "ألين من الزيت كلماته وهي سيف مسلول" (مز 55: 21). وهناك قتل بالنيَّة: "كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس" (1 يو 3: 15). وهناك قتل بالمسئولية كمن يترك إنسان ثوره النطَّاح ينطح آخر فيقتله (خر 21: 28-29). وهناك قتل للروح كقول الكتاب "الحرف يقتل" (2 كو 3: 6). وقد اعتبر القديس إكليمنضس الإسكندري المبتدعين أشر من القتلة، إذ يقول: [القتل هو هلاك أكيد، فمن يرغب في استبعاد التعليم الحقيقي الخاص بالله والخلود... أكثر ضررًا من القاتل]. يقول الرسول: "اهربوا من الزنا؟ كل خطية يفعلها الإنسان هي خارجة عن الجسد، لكن الذي يزني يخطئ إلى جسده" (1 كو 6: 18). بالزنا نسيء إلى أجسادنا التي هي أعضاء المسيح (1 كو 6: 15)، والتي هي هيكل الروح القدس (1 كو 6: 19). ليست خطية بشعة يكرهها الله مثل الزنا، حتى دعيت في الكتاب "نجاسة" (2 بط 2: 10)، بها تتنجس النساء (خر 18: 11)، وينجس الرجل جسده (2 بط 2: 10). وتتنجس ثيابه (رؤ 3: 4)، وينجسون الأرض (إر 3: 6-9). من فرط بشاعتها دعيت عبادة الأوثان زنًا (إر 3: 6-9)، وبسببها عاقب الرب الأرض بالطوفان (تك 6: 1-2)، وحرق سدوم وعمورة (تك 19: 24-25)، وكاد يفنى سبط بنيامين كله (قض 20)، وقدم الرسول بولس تأديبًا قاسيًا حتى كاد الزاني أن يُبتلع من الحزن المفرط (1 كو 5: 3، 5)، واعتبرها الرب السبب الوحيد لحل رباط الزوجية المقدس (مت 5). وأراد السيِّد المسيح أن يحفظنا منها تمامًا فأوصانا ألاَّ نتطلع إلى امرأة لنشتهيها، وكأنه أراد أن يغلق الباب من بداية الطريق. وجاءت القوانين الكنسية صارمة في هذا الأمر فعاقب الكاهن الذي يسقط فيها بالحرمان من عمله الكهنوتي كل أيام حياته. ويرى القديس إكليمنضس الإسكندريأن للزنا مفهوم أوسع من المعنى الدارج إذ يقول: [من يترك المعرفة الكنسية الحقيقية والإيمان بالله ويَجري وراء باطله فهو يزني...) . وقد كتب الآباء كثيرًا عن حياة العفة والطهارة سواء بالنسبة للمتزوجين أو البتوليين . ليست السرقة هي أخذ مال الغير بل سلبه، فالتلاميذ لما جاعوا قطفوا السنابل من الحقل، والشريعة تقول: "إذا دخلت كرم صاحبك فكلْ عنبًا حسب شهوة نفسك، شبعتك، ولكن في وعائك لا تجعل. إذا دخلت زرع صاحبك، فاقطف سنابل بيدك، ولكن منجلًا لا ترفع على زرع صاحبك" (تث 23: 24-25). أُعتبر اتهام يعقوب بسرقة آلهة لابان أمرًا بشعًا (تك 31: 30، 32)، وأيضًا اتهام إخوة يوسف بسرقة الكأس (تك 44: 7-9). تزداد بشاعة هذه الخطية إن كان المسروق منه محتاجًا مثل الأرملة (مر 12: 40)، أو الإقراض بربا لمحتاج أو رهن ثياب أحد أو غطائه (خر 22: 25-27)، أو كان الشيء المسروق من المقدسات. اعتبر الله من يمتنع عن دفع العشور سرقة (غلا 3: 7-10)! واعتبر القديس إكليمنضس الإسكندري أن كل من ينسب شيئًا لغير صاحبه فهو يسرق ، كمن يسرق أفكار الآخرين وينسبها لنفسه. الشهادة بالزور تعني الكذب، ويعتبر الشيطان "كذابًا أبو الكذاب" (يو 8: 44)، فمن يكذب يعمل أعمال أبيه الشيطان. لما كانت الشهادة الزور لها خطورتها على الجماعة وضعت الشريعة، "على فم شاهدين أو ثلاثة تقدم كل كلمة" (تث 19: 15). وقد اهتم الكتاب المقدس بالصمت المقدس، لأن كثرة الكلام لا تخلو من معصية، والتسرع في الحديث قد يدفع الإنسان للكذب بغير عمد. "لا تشته امرأة قريبك. ولا تشته بيت قريبك، ولا حقله، ولا عبده، ولا أمَته، ولا حماره، ولا شيئًا مما لقريبك" (خر 20: 17، تث 5: 21). هذه الوصية كشفت عن عمق الناموس، إنه أراد أن يقتل الخطية من جذرها، لكن اليهود لم يفهموا. يتساءل البعض أوصى الناموس الموسوي "لا تشته"، وأوصى العهد الجديد بذات الوصية، فما الفارق؟ أوصى الناموس لكنه لم يعط العلاج، كشف عن عجز الإنسان عن تنفيذ الوصية لكي يطلب العلاج، أما العهد الجديد فأعطانا إمكانيات التنفيذ بالروح القدس العامل فينا. في هذا يقول القديس أغسطينوس: [يقول الناموس: لا تشته، حتى أننا إذ نجد أنفسنا ساقطين في هذه الحالة المرضية نطلب العلاج. بهذه الوصية نعرف في أي اتجاه نهدف بجهادنا!]. كما يقول: [بناموس الأعمال يقول لنا الله اصنعوا ما آمركم به (لا تشته)، ولكن بناموس الإيمان نقول لله أعطنا ما أوصيت به]. لا تقف الشهوة عند الأمور الخاصة بشهوات الجسد، وإنما شهوة الامتلاك أيضًا ومحبة المال، فيقول القديس أمبروسيوس: [محبة المال رذيلة قديمة وعتيقة، أظهرت ذاتها حتى في إعلان الناموس، إذ جاء الناموس لكي يقمعها]. 14. خوف الشعب ورعدته: تكلمنا في الأصحاح السابق عن البروق والرعود والجبل الذي كان يدخن، كما تحدثنا عن الضباب الذي اقترب إليه موسى حيث كان الله. هنا أكتفي بتقديم مقارنة بين رعدة الشعب وخوفه أثناء استلام موسى للشريعة، ومنظر العلية في العهد الجديد حيث حل الروح القدس على الكنيسة، على لسان القديس أغسطينوس: [في العهد القديم منع الشعب خلال الرعب الفظيع من الاقتراب من المكان الذي فيه الناموس، أما في الحالة الثانية فحلّ الروح القدس على الذين اجتمعوا معًا في انتظار عطية الله التي وعد بها. هناك عمل إصبع الله على ألواح حجرية، أما هنا فعمل في قلوب البشر. هناك أعطى الناموس ظاهريًا حتى يرتعب الأشرار، أما هنا فأعطى سرًا لكي يتبرَّروا (أع 2: 1-47). لأن هذا: "لا تزن لا تقتل لا تسرق لا تشهد بالزور لا تشته، وإن كانت وصية أخرى هي مجموعة في هذه الكلمة أن تحب قريبك كنفسك، المحبة لا تصنع شرًا للقريب، فالمحبة هي تُكمل الناموس" (رو 13: 109). والآن هذا ليس مكتوبًا على ألواح حجرية، بل "انسكب في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا" (رو 5: 5). لذلك فإن المحبة هي ناموس الله... وإذ تنسكب المحبة نفسها في قلوب المؤمنين حينئذ يكون لدينا ناموس الإيمان والروح الذي يهب حياة لكي نحب ]. كما افتتح الله حديثه في الوصايا بتأكيده إنه الله الواحد الذي لا يعبدون معه آخر غيره، هكذا بعد أن ختم الوصايا حذر الرب موسى لئلاَّ ينحرف بنو إسرائيل في عبادة الأوثان... |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
المُجَرِب وتجربة جيحزي |
كل ألم وتجربة |
يسى وتجربة الفراق |
بين تجربة آدم وتجربة المسيح |
رسالة ندم وتجربة...! |