رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
بين مشيئة الله وإرادة الإنسان
الأب فاضل سيداروس اليسوعيّ لقد اعتاد الناس أن يقولوا إنّ لله مشيئة علينا، وإنّه يريد أن نكتشفها لنُحقّقها. في ذلك شيء من الصواب وشيء من الخطأ: إنّ ذلك القول صائب لأنّ لديه تعالى رغبة وقصد محبّة على كلّ واحد منّا، شأنه شأن الأب، بل أكثر من الأب تجاه أبنائه: "اختارنا في المسيح قبل إنشاء العالم، لنكون في نظره قدّيسين بلا عيب في المحبّة، وقدّر لنا منذ القدم أن يتبنّانا بيسوع المسيح، على ما ارتضته مشيئته..." (أف 1/3-14). كما أنّ ذلك القول خطأ لأنّ الله لا يفرض عليك شيئاً، حتّى ولا رغبته فيه وقصد محبّته عليك. إنّه لا يفرضهما إطلاقاً، بل يعرضهما فقط عليك، ما يحثّ حرّيّتَك على التجاوب معه، ويدفعها إلى الإبداع والابتكار معه. يرنّم المُرنّم: "أبدِعْ مُستقبلَك مع إلهك الذي يمنحك إيّاه": الأمر هو مستقبلك، وأنت تُبدعه؛ وفي الوقت عينه أنت تُيدعه مع الله، الإله الذي يهبك إيّاه لأنّه خالق الأكوان والبشر، وهو سيّد تاريخ البشر ومستقبلك ? وإن كنت أنت صانعَه-، ويمنحك القدرة على إبداع مستقبلك معه، في تضافر بين مشيئته وإرادتك، حتّى إنّه ليصعب عليك أن تُحدّد بالتمام ما يعود إليه وما يعود إليك، ذلك بأنّ هناك تناغماً وتضافراً بين حرّيّته وحرّيّتك. ويُمكنك القول بأنّ ذلك ينبع منك مائة في المائة، ومنه تعالى مائة في المائة، وقد قال بولس في هذا الصدد: "اعملوا لخلاصكم بخوف ورعدة، فإنّ الله هو الذي يعمل فيكم الإرادة والعمل في سبيل رضاه. فافعلوا كلّ ما تفعلون..." (فل 2/12ت). وفسّر القدّيس برنارْدُس ذلك الكلام بقوله: "لا تعمل النعمة جزءاً والإرادة الحرّة جزءاً آخر، ولكنّهما يعملان العمل كلّه بفعل واحد لا يتجزّأ: هو، بالطبع، يعمل كلّيّةً، والنفسُ أيضاً كلّيّةً؛ ولكنّها، إذ إنّها تعمل كلّيّةً فيه، فهو يعمل كلّيّةً بها". على مَن يبحث عن مشيئة الله على حياته، أن يذكر دائماً هذا المبدأ الروحيّ. سرّ لقاء الله، أي الله يأتي إليك ردّدَ آباء الكنيسة: "إلهنا إله يأتي". ولقد ردّدتْ، من بعدهم، إليصابات الثالوث، الكرمليّة المتصوّفة، في مستهلّ القرن العشرين: "عندما يصل الله، فهو حاضر من قبل". إنّ الله يبادر فيأتي إليك كما أتى إلى تلميذي عمّاوس ليلة قيامته (لو24/13-35): التقاهما في خِضمّ خيبة أملهما، كما التقى التلاميذَ الاثني عشر في فرحهم عندما عادوا من الرسالة. وهو لم يأت في الماضي عندما تجسّد فحسب، ولن يأتي في آخر الرمان فحسب، بل إنّه يأتي إليك أيضاً، وهو يلتقيك في حاضرك، حيثما أنت، وكيفما أنت، وعلى أيّ حال أنت، فتكتشف أنّكما رفيقا طريق واحد، وتختبر أنّكما صديقان يتحاوران ويتبادلان أطراف الحديث، فتتعرّفان بعضكما إلى بعض، ويكشف الواحد للآخر عمّا في قلبه: أنت ما تعيشه وتخطّط له، وهو ما يفكّر فيه بشأنك؛ أنت تفتح له قلبك بجميع رغباتك ومشاريعك، وهو بقصد محبّته عليك. ومِن ثَمّ، تتنعّمان بعضكما ببعض، في أُلفة وعشرة وحميميّة. "إلهنا إله يأتي"، كما أتى يسوع القائم إلى التلاميذ السبعة على شاطئ بحيرة طبريّا (يو 21/1-14)، وقد تعبوا الليل كلّه ولم يُصيبوا سمكة واحدة لأنّهم كانوا يعملون بدونه، وقد نسوا ما سبق أن قال لهم: "بمعزلٍ عنّي لا تستطيعون أن تفعلوا شيئاً" (يو 15/5). أتى إليهم بالفعل في صميم عملهم وتعبهم وفشلهم وخيبة أملهم. لم يعرفوه في بادئ الأمر، ولكنّهم، عندما سمعوا صوت هذا الرجل الغريب الذي ينصحهم بأن يلقوا الشباك مرّة أخرى، وعملوا بنصيحته، حينذاك أصابوا سمكاً وافراً، حتّى كادت شباكهم تتمزّق. إلاّ أنّ شباكهم لم تتمزّق وسفينتهم لم تغرق، على خلاف الصيد الأوّل(لو 5/1-11)، لأنّهم تحلّوا بالقوّة والشجاعة والنضوج، كما وبالطاعة والتواضع، وقد عاشوا معه مدّة ثلاث سنوات. وحدث أمرٌ أعظم من ذلك، وهو أنّهم عادوا إلى الشاطئ ومعهم السمك الوافر، ففطروا معه فطاراً تألّف من ثمر عملهم وممّا أتى به يسوع نفسه. فيا لها من عظمة! ما هو من عند الإنسان يمتزج بما هو من عند الله: العمل البشريّ الحرّ يتّحد بالمبادرة الإلهيّة المجّانيّة، في تلاحم وتناغم. لا الواحد بدون الآخر! لا الواحد على حساب الآخر! بل الاثنان معاً: اتّحاد المشيئة الإلهيّة والإرادة البشريّة، في وحدة متآلفة. ربّما لم تنتبه أنّ الله قد خلق العالم بقوله: "ليكن...، فكان ذلك" (تك 1)؛ ولكنّه، عندما خلق الإنسان، لم يستعمل تلك العبارة، بل " لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا"، فاتحاً هكذا السبيل إلى إنسان حرّ مِثله، فأنشأ حواراً بين مشيئته الإلهيّة وإرادته البشريّة. وثمّة فرق هائل وبون شاسع بين أُمّنا حوّاء وأُمّنا مريم: حوّاء جعلت تضارباً ومُنافسة بين حرّيّتها وحرّيّة الله، بين إرادتها ومشيئته تعالى ("تصيران كالآلهة": تك 2/5 )، في حين أنّ مريم دمجت إرادتها الحرّة بمشيئته تعالى ("أنا آمة الربّ، فليكن لي بحسب قولك": لو 1/38 ). وأنت؟ إلى مَن تميل؟ وبمَن مِنهما تتشبّه؟ وكيف تفهم تعايش إرادتك الحرّة ومشيئته الإلهيّة؟ هناك مشهد إنجيليّ آخر يبيّن الوحدة عينها، وهو حوار يسوع مع الأعمى (لو 18/35-43)، وقد قال له: "ماذا تريد أن أصنع إليك؟". يسوع يبادر دائماً، غير أنّ مبادرته ليست اقتحاماً لحرّيّتك، بل هي فتح لأفق جديد، فرصة لتُعبّر له عن رغبة تسكن في صميم قلبك وتُحرِّك مشاعرك وفكرك وإرادتك. إنّ مبادرته هذه تساعدك على توضيح رغباتك الدفينة وعلى الإفصاح عنها، لك وله في آن واحد. وتذكر الرياضاتُ الروحيّة الإغناطيّة مراراً تلك الروح، عندما يجعل إغناطيوس المتروّضَ يطلب نعمةً في بداية كلّ تأمّل بقوله: "أطلبُ ما أريد وأرغب فيه". فالروح القدس يدفعك إلى أن تطلب إلى الله نعمة، تماماً مثلما دفع يسوع الأعمى إلى أن يطلب إليه نعمة البصر: فأنت تطلبها بحسب ما تريد وترغب فيه، غير أنّك لا تحصل عليها من تلقاء ذاتك، بل بنعمته تعالى؛ وهنا أيضاً تتناغم وتتضافر حرّيّتك الشخصيّة وحرّيّته تعالى. كلمة أخيرة في هذا الصدد: لماذا يبادر الله في حياتك؟ لأنّه "هو الذي أحبّنا" أوّلاً (1 يو 4/10). فحبُّه إيّاك سبّاق دائماً، يسبقك حيثما تذهب، ما يُطمئنك على أنّك لست وحدك في مُعترك الحياة، بل أنت برفقته. ثُمّ لأنّه يعرفك معرفة أفضل من معرفتك ذاتك، ويعلم أين يكمن خيرك الأعظم ومصلحتك الحقيقيّة، ذلك بأنّك قد تظنّ أنّ ما يصلح لك هو هذا أو ذاك، في حين أنّه أعلم منك في هذا الشأن؛ وعليه، فإنّ مشيئته تسبق إرادتك، كما أنّ محبّته تسبق محبّتك. ثمّة إذاً تضافر وتناغم بينك وبينه؛ وفي داخل ذلك، تندرج أولويّته المطلقة، لِما فيها من خير حقيقيّ يعود إليك، وقد لا تتيقّظ ولا تنتبه إليه، وأمّا هو فلا يفرضه عليك، بل يعرضه فقط عليك، وذلك برِقّة محبّته ولُطف مشيئته. سرّ اتّحادك بالله، أي الله في باطنك هذه هي مشيئة الله التي طالما عبّر عنها البشر، لاسيّما الروحانيّون منهم، تلك التي تتكوّن في داخل الحوار الحميم الذي يدور بينك وبينه، وفي أثناء الغذاء الذي تتناولانه، وقد سمّاه إغناطيوس " المعرفة الباطنيّة" (رر 104)، أي معرفتك إيّاه ومعرفته إيّاك من الداخل وفي العمق: أنت تتعرّف إلى شخصه ومشيئته؛ وهو يرى عُمق رغبتك وصميم مشاريعك. وإذّاك، تكتبان معاً صفحة جميلة تُعبّر عن ملء حياتك وعن حميميّة علاقتكما، وترسم مشيئته السبّاقة وإرادتك اللاحقة، بحيث إنّ مشيئته المقدّسة تصبح تدريجاً إرادتَك الحرّة، وإرادتُك الحرّة مشيئتَه المقدّسة، ويتحقّق ذلك التبادل على مرّ الأيّام وطوال السنين. وقد تعتري طريقَك رغباتٌ مُزيّفة، كما وقد تنشأ في قلبك مشاريعُ سطحيّة أو ناقصة ? يعتبرها إغناطيوس "علائق غيرَ مُنظَّمة"-، يخال إليك أنّها تُعبّر عن عمق كيانك، في حين أنّها بالفعل ليست أفضل ما فيك وما لديك؛ ولذا فإنّ الروح القدس يكشف لك عن باطن الأمور وأفضلها لك، فيحرّرك ليصل بك إلى رغبات ومشاريع "مُنظَّمة"، في سبيل أن يتمّ التناغم والتضافر بين مشيئته تعالى وإرادتك المتحرّرة الحرّة. وفي الكتاب المقدّس العديد من الأمثلة، نستقي منها بعضها، علّك تبحث أنت عن غيرها تُفيد مسيرةَ بحثك عن مشيئة الله وعن "رغباتك المقدَّسة"، بحسب تعبير إغناطيوس: رغبة مُزيّفة: تذكّرْ طلبَ يوحنّا ويعقوب، ابني زبدى (مر 10/35-45)، عندما التمسا من يسوع أن يجلسا عن يمينه وعن يساره. فحوّل يسوع رغبتهما هذه المُزيّفة، المليئة بالمجد الباطل، إلى حقيقة اتّباعه والاتّحاد به (وتلك "رغبة مقدّسة"): ينبغي للتلميذ أن يقتفي أثر مُعلّمه، فيحمل معه الصليب ويشرب معه الكأس ويعتمد معه معموديّة الألم والموت. وإنّما ذلك سبيل المجد الحقيقيّ، لا الباطل المزيّف. هذا وقد وضع إغناطيوس على لسان يسوع الملك الأزليّ، في بداية مسيرة البحث عن مشيئة الآب، هذه الدعوة: "معي في الكدّ ومعي في المجد" (رر 95). وعليه، فما من مجد حقيقيّ إلاّ لك عبْر الألم والتضحية والموت عن ذاتك، شأنك شأن يسوع. وذلك ما يكشفه لك الروح القدس ويحقّقه فيك. رغبة ناقصة: أنت تعرف قصّة المُقعَد الذي حمله أصدقاؤه الأربعة إلى يسوع (مر 1-12). لقد مدح يسوع إيمانَهم الحقيقيّ، غير أنّه أوصل رغبتَهم في شفاء الجسد إلى أقصى حدودها، أي إلى شفاء النفس: "يا بنيّ، غُفرت لك خطاياك". فكم من مرّة أنت ترغب في أمور حسنة، ولكنّك تتوقّف في نصف الطريق ولا تجرؤ أن تذهب إلى نهايته. حينذاك، يوحي إليك الروح القدس أن تجتاز الطريق كلّه، وإن بِمَشقّة، إلى نهايته. رغبة سطحيّة: ربّما لا تعرف قصّة داود الذي رغب في تشييد بيت لله ، حالِماً في بناء هيكل عظيم يسكن فيه الله فيتمجّد في وسط شعبه (2 صم 7). أمّا الله، فأفهمه، عن طريق ناتان النبيّ (وقد يقوم بهذا الدور مرشدُك الروحيّ، أو مرافقُك في أثناء رياضة روحيّة ثقوم بها)، أنّ البيت الحقيقيّ الذي يقصده تعالى ليس مكانيًّا بناء هيكل في أورشليم-، بل زمنيّ ? نسله-: في "ملء الزمان"، تجسّد الله في شخص يسوع، وهو "من نسل داود". هكذا حوّل الله رغبة داود الصالحة، ولكن السطحيّة، إلى رغبة أعمق ستتحقّق تدريجاً في تاريخ شعب الله المُختار، مع مجيء المسيح المُنتَظر:"تأتي ساعة فيها تعبدون الآب، ر في هذا الجبل ولا في أورشليم... تأتي ساعة، وقد حضرت الآن، فيها العباد الصادقون يعبدون الآب بالروح والحقّ. فمِثل أولئك العباد يريد الآب" (يو 4/23). إذن لا تكتمل مشيئة الله في مكان مُعيّن، بل في التاريخ، عندما يصبح يسوع عمّانوئيل، أي الله معنا. ذلك هو مسكن الله الحقيقيّ، بمعنى أنّه لا يسكن مكاناً، بل شخصاً، وهو ابنُه الحبيب؛ ويسكن في قلبك أنت. لم يفهم داود ذلك في التوّ، غير أنّ الله عمل في تاريخ شعبه المختار ليحقّق قصدَه، وهو قصد محبّة كاملة: "إنّ الله أحبّ العالم حتّى إنّه جاد بابنه الوحيد" (يو 3/16). ربّما أدركت أنّ الله يدفعك إلى تجاوز ذاتك ومشاريعك، نحو آفقة شاسعة أعظم ممّا كنت تتصوّره وتتمنّاه. لقد عبّر إغناطيوس عن التبادل بينك وبين الله، واتّحادكما بعضكما ببعض، والتضافر والتناغم بين مشيئته وإرادتك، في عبارته الشهيرة: "عندما يجري البحث عن مشيئة الله، من الأوفق، بل من الأفضل بكثير، أن يُشرك الخالق والسيّد النفسَ الأمينة في ذاته، مُعانقاً إيّاها في حبّها وتسبيحها إيّاه" (رر 15). إنّ ذلك الاتّحاد يُعرّفك "معرفةً باطنيّة" بسرّ علاقة اتّحاد قلبك بقلبه، وسرّ ملء الألفة والعشرة بين مشيئته وإرادتك، فتعلمان، وحدكما، سرَّكما الحميم. إلاّ أنّ ذلك الاتّحاد لا يعني إطلاقاً ذوبانك فيه، أو تلاشي إرادتك في مشيئته، أو امتصاص مشيئتِه إرادتَك الحرّة. كلاّ! تذكّر أن يسوع القائم، بعدما كشف عن ذاته لتلميذي عمّاوس، " غاب عنهما"، وذلك ليتيح لإرادتهما الحرّة أن تتحقّق في خضمّ الحياة، مثل البحر الذي ينسحب فيسمح للأرض بأن تظهر. ولذا فقد قالا: "ألم يكن قلبنا متّقداً عندما كان يحدّثنا في الطريق؟". فقد أدركا عمق ما اختبراه، لا عندما كان حاضراً، بل عندما اختفى، وحينذاك حكّما عقلهما ومشاعرهما وإرادتهما الحرّة، وأيقنا ما عاشاه. وأنت أيضاً، عندما تبحث بصدق عن مشيئته تعالى عليك ? أثناء رياضة روحيّة، بإرشاد مُرافق-، تختبر شيئاً عميقاً واقتراباً منه حميماً؛ وعندما تعود إلى حياتك العاديّة، تدرك أنّ قلبك كان مضطرماً حبًّا له. سرّ الغيريّة، أي الله يقودك إلى تجاوز ذاتك نحو الآخرين إنّ اتّحادك بالله قد تمّ بالفعل، ربّما من دون أن تدري، بعمل الروح القدس فيك، ذلك بأنّه، أثناء مسيرة اكتشافك مشيئةَ الله ورغباتِك العميقة، قد حرّرك من ضيق نظرتك إلى الأشخاص والأُمور، ووسّع آفاقك، وطهّر قلبك من الأنانيّة والانطوائيّة، وحوّل رغباتك إلى نظرة شاملة تضمّ البشر، طبقاً لكلام الله لأورشليم المختارة على لسان أشعيا النبيّ: "وسِّعي موضعَ خيمتكِ" لتستضيفي الشعوب والأُمم (أش 54/2؛ راجع أش 60-62)؛ وثمثُّلاً بمريم العذراء التي أسرعت عند أليصابات بعد البشارة (لو 1/39)؛ واقتداء بتلميذي عمّاوس عندما التقيا الرسلَ بعدما التقيا الربّ القائم؛ وكلّ ذلك على مثال الله الذي يحبّ جميع البشر ويضمّهم إلى قلبه؛ وتحقيقاً لوصيّة يسوع: "اذهبوا في العلم كلّه" (مر 16/15). ولهذه الوصيّة صدى عظيم في روحانيّة إغناطيوس عندما أوصى رفاقَه: "انطلقوا فأشعلوا وأضرموا العالم أجمع". ذلك بأنّ ثمر الاتّحاد بالله هو الانفتاح على الآخرين، فأنت ترغب الآن أن يختبر الآخرون ما اختبرتَه أنت من حميميّة العلاقة، وأُلفة العشرة، واتّحاد المشيئة والقلب. وعليه، فإنّك تشرع في الذهاب والانطلاق نحوهم لتُشعلهم بنار محبّتكما. ذلك بأنّ المحبّة لا تُغلقك على ذاتك، ولا حتّى عليه تعالى، بل تفتحك على الآخرين، في غيريّة اكتسبتَها منه تعالى، لأنّ محبّة الله ومحبّة الآخر إنّما هي محبّة واحدة، ولأنّ خدمة الله وخدمة القريب إنّما هي خدمة واحدة، وقد ختم إغناطيوس مسيرة رياضاته الروحيّة بطلب نعمة واحدة وحيدة: "أن أُحبّ عزّتَه الإلهيّة وأخدمها في كلّ شيء" (رر 233). هكذا تنطلق من الصلاة إلى العمل وأنت تخدم الله عندما تخدم البشر. ويظلّ بطرس مَثلاً أعلى لك، وقد سأله يسوع: "أتحبُّني؟... نعم، يا ربّ، أنت تعلم أنّي أُعِزُّك... اِرعَ خرافي...، اِرعَ غنمي". فالحبّ يدفع إلى الخدمة، والخدمة تنبع من الحبّ. وتتحقّق تلك الدعوة إلى الحبّ والخدمة في الكنيسة أُمّك. ربّما قرأتَ في ذكريات القدّيسة تريزا الطفل يسوع هتافها، بعد أن بحثت مدّة طويلة بحثاً مُضنياً اكتشفتْ من خلاله مشيئةَ الله على حياتها: "تملّكَني فرحٌ غامر، فهتفتُ: يا يسوع، يا حُبّي...، لقد وجدتُ أخيراً دعوتي. دعوتي هي الحبّ. أجل، لقد وجدتُ مكاني في الكنيسة، وهذا المكان، أنت، يا إلهي، منحتَني إيّاه...، ففي قلب الكنيسة أمّي، سأكون الحبّ... وهكذا سأكون كلّ شيء... وهكذا سيتحقّق حلمي!!!". وأنت أيضاً مدعوٌّ مثلها إلى أن تبحث عن دعوتك الشخصيّة الفريدة، وأن تكتشفها، وهي دعوة إلى الحبّ والخدمة، فتُحقّقها في الكنيسة أمّنا. الخاتمة هل كنت تتوقّع، في بداية مسيرتنا هذه، أنّ بحثك عن مشيئة الله واكتشافك إيّاها سيؤول بك إلى تجاوز ذاتك إلى هذا الحدّ من الانفتاح على رغباتك الدفينة، ومن تجاوز ذاتك عليه تعالى، وعلى حبّ الآخرين وخدمتهم؟ يا لَعظمة سرّ مشيئة الله عليك وإرادتك البشريّة الحرّة التي تتجاوب معه! المراجع : - للتعمُّق في القضيّة تعمُّقاً لاهوتيًّا، راجع في سلسلة "الإيمان والحياة" مطبوعات الآباء اليسوعيّين في مصر. - كتابنا: سرّ مشيئة الله وحرّيّة الإنسان 1992. - وكذلك روفائيل خزام اليسوعيّ هل لله مشيئة خاصّة في حياتك؟ - 1991 - للتعرُّف إلى طريقة البحث عن مشيئة الله بحثاً عمليًّا، راجع كتابنا مدخل إلى روحانيّة إغناطيوس دي لويولا سلسلة "الحياة الروحيّة" دار المشرق بيروت ط 2 1996 الفصل 5: الاختيار الإغناطيّ |
|