على حافة القبر
المزمور الثامن والثمانون
1. المزمور الثامن والثمانون هو مزمور يتلوه المؤمن ليشكو الرب إلى الرب: لقد وصلت به الحالة إلى حافة الموت وليس من معين. والسبب الوحيد هو أن هذا الشر الذي يضرب المرتّل لا يأتي من الأعداء، ولا بسبب خطاياه. السبب الوحيد لذلك الشر هو الرب نفسه. ومع ذلك فهو لا يفعل شيئًا لتهدئة غضب الله، كأن يقدّم ذبيحة يعترف بها بخطاياه، بل يقبل بحالته دون معارضة. تتردّد في هذا المزمور كلمات القبر والجحيم والهاوية، والظلمة وعالم الأموات، فتجعل من كلماته صفحات مظلمة في الكتاب المقدس تذكّرنا بحالة أيوب دون أن تعطيها الأبعاد الكونية الشاملة التي تدفع بمشكلة أيوب إلى أبعد من حالة خاصّة.
2. النداء الأخير على حافة القبر.
آ 2- 3: مقدمة وتوسّل: أيها الرب اله خلاصي أصرخ إليك في الليل والنهار.
آ 4- 6: ينظر المرتّل إلى حالته: حياة تغمرها المحنة فصارت إلى النهاية.
حسبه المجتمع قريبًا من الموت بانتظار أن يراه ينزل إلى الهاوية. صار كلا شيء أمام الناس وأمام الله، أو كمحارب قُتل ودُفن يلتفت إليه أحد.
آ 7- 10: عداوة الله. المسؤول عن هذه الحالة هو الله الذي يتصرّف كعدوّ، فيغرق المسكين في عالم الظلمة ويبعد عنه الناس فيعزله عن كل حي. في هذه الحالة أية مقاومة يستطيعها المرتّل بوجه الله، وأي سلاح يحمله الإنسان المائت بوجه غضب الله الذي يشبه هجمات الأمواج. يحس أنه في سجن لا يقدر على الخروج منه، فيرى قواه تتركه ونظره يخسر بهاءه. "ذابت عيني من البؤس" (6: 8؛ 13: 4؛ 31: 10).
آ 10- 13: صرخة المؤمن إلى الله. يردّد صرخته كما في آ 2 دون أن يتشكّى من عداوة الله أو يبرّرها. وعندما يفكّر أن غضب الله هو سبب ألمه، يجد في هذه الفكرة شعاعًا من أمل، لأنه عرف من هو الذي يضربه وعرف أي باب يقرع. ويطلب من الرب أن يتدخّل قبل أن يفوت الأوان (اي 7: 21) وينزل المرتّل إلى عالم الموت. فالجحيم، مكان النسيان، لا يقع في نطاق حكم الله، وفيه لا تظهر قوّة الله الخلاصيّة. ظلالُ الموت في الجحيم لا تنشد أناشيد الله، والمرتّل الذي دخل في عالم السكوت والموت لا يستطيع أن يرنّم ترنيمة لله الذي أظهر له حبَّه ورحمته.
آ 14- 17: وينتظر المرتّل الجواب في ساعة الصباح أو طلوع الفجر، ساعة يتدخّل الله. لماذا يبتعد الله؟ لماذا يحجب وجهه عنه؟ لقد تحمّل المؤمن الكثير من الأهوال منذ صبائه. هل يمكنه أن يرجو رحمة الله ومحبته بعد أن جاز عليه غضبه؟
آ 18- 19: الخاتمة: بعد شعاع من أمل نعود إلى جو التشاؤم: أبعدتَ عني معارفي وأصدقائي فصرت رفيقَ الظلام.
3. يصوّر هذا المزمور المؤلم والمؤثّر محنة المرتّل فيراها عميقة وطويلة ولا سبب بشريًا لها إلاّ الله. محنته لا مخرج منها. وإن ظهر مخرج، أغلق حالاً كما تغلق أبواب الجحيم على الموتى. هذا يعلمنا أن الرجاء ليس أمرًا سهلاً. فرجاؤنا فوق كل رجاء لأننا نرجو المستحيل بعين البشر. رجاؤنا انتصار على اليأس وحتى على الموت. وحقيقة ما نرجو هو الرجاء ذاته، إذ في الرجاء خلاصنا (روم 8: 24).
ونرى في هذا المزمور العبث الذي يطبع الالم والمحنة والموت. هذا يعني أن لا تفسير منطقيًا للألم والموت. نستطيع أن نعطي جوابًا كما فعل أصحاب أيوب. زادوا على ألمه ألمًا، وكشفوا عن قلبهم القاسي وعواطفهم المحجَّرة، وجعلوا من الله وثنًا مثل بقية الأوثان لا قلب له ولا أحشاء. لا جواب لجنون الألم إلاّ جنون الصليب، ولا جواب لمحنة الموت إلاّ محنة الجلجلة. لا ننتظر جوابًا عقلانيًا من الله. فالجواب هو يسوع المسيح، ونحن نخلص لا بالعقل والمنطق، بل بيسوع المسيح وحده.
يفهم المرتّل أن الناس يحسبونه ميتًا فيبتعدون عنه، وأن الله يحسبه غير موجود. فإن كان الإنسان الكائن على الأرض يستطيع أن يحضر أمام الله في هيكله، فهل يستطيع ذلك من نزل إلى الجحيم؟ الله ليس بين الأموات، لذلك ليس الأموات بشرًا. الله ليس في القبور، لأن القبور عالم الموت، والرب هو رب الحياة، والحياة هي حضور أمام الله وصلاة له ومديح. فمن لا يستطيع أن يصلّي ليس بإنسان. لقد صار المرتّل في عالم الموت، ولكن بقي له أثر صغير من عالم الحياة وهو صلاته. فهل تستطيع صلاته أن تعيده إلى عالم الله، وهو الذي لم يبق له من رفيق إلاّ الموت؟
4. لقد سبقت صلاة المصريين وفلسفة اليونانيين ما عرفه إسرائيل عن حياة الخلود مع الله. لقد جاء الوحي تدريجيًا ليطرح في القرن الثاني ق. م. فكرة القيامة النهائية للإنسان نفسًا وجسدًا. ويعلّمنا العهد الجديد أن الله لا ينجينا من عالم الموت إلاّ بواسطة يسوع المسيح.
هذا المزمور تنشده بعض الليتورجيات يوم الجمعة العظيمة والسبت العظيم. فترى فيه صورة مسبقة عن طريق يسوع إلى الموت وقد مرّ عبر عزلة قاتلة أحسّ فيها أن الله تركه (مر 15: 43) والناس تخلّوا عنه (لو 23: 49)، فغمره حزن عميق قالت فيه الرسالة إلى العبرانيين (5: 7): "وهو الذي في أيام حياته البشريّة رفع الصلوات والتضرّعات بصراخ شديد ودموع إلى الله القادر أن يخلّصه من الموت". ونحن إذ ننشد المزمور 88 نتعلّم أن نقاسم المسيح ضيقه وآلامه منتظرين مشاركته في مجده.
5. لماذا ترذل يا رب صلاتي وتميل بوجهك عني؟
يذكر المرتّل باختصار الضيقات التي هزّت جسد المسيح، لا الرأس فقط بل الأعضاء أيضًا، لأن بولس الذي صار عضوًا بدوره هتف: "يجب أن أعوِّض في جسدي ما ينقص من محن المسيح" (كو 1: 24). فكل المحن التي يصوِّرها المزمور تحقّقت وتتحقّق أيضًا في أعضاء جسد المسيح.
والله يميل بنظره عن الذين يصلّون إليه ولا يجيبهم إلى ما يطلبون لأنهم يجهلون أن ما يطلبونه لا يليق بهم. فالكنيسة فقيرة وهي جائعة وعطشانة في منفاها فلا تقدر أن تشبع في وطنها. الكنيسة هي في المحن منذ صباها. فإن ارتفع أحد أعضائها في هذه الحياة فلكي يمتلئ تواضعًا.
ولماذا كل هذا؟ لكي تكون صلاة هذا الجسد المقدس، منذ الصباح، أي بعد ليل الخيانة وفي فجر الإيمان، لتنبيه الله إلى أن يأتي الخلاص الذي خلّصنا به لا في الواقع بل في الرجاء والذي ننتظره بالثبات والصبر. حينئذ لن يرفض الله صلاتنا لأنه لن يكون شيء نطلبه بل نتقبّل كل ما طلبناه باستقامة.
حينئذ لا يميل الله بوجهه لأننا نراه كما هو، لن نكون فقراء لأن الله نفسه يكون غنانا. هناك لن نتألم لأنه لن يبقى فينا مرض. سنرتفع ولا نعرف بعدُ التحقيرَ والذل لأن كل معارضة ترذل.
لن نعرف بعد غضب الله ولو على سبيل المحنة، لأن عطفه يبقى فينا ونبقى نحن فيه. والمخاوف التي يرسلها لن تعكّرنا لأن المواعيد التي تمّت تجعلنا سعداء. (أوغسطينس).