وجود المادة
قد تستغربون أن وجود المادة في حد ذاته يثبت وجود الله، فحينما تؤخذ الأمور بالطريقة الصحيحة تثبت الحقيقة بوضوح وبساطة.
العبارة الأولى في هذه النقطة قد تستغربون لها، وهى: لو مر وقت لم يوجد فيه شيء من الكائنات لما وجد اليوم أي كائن. هذه عبارة بسيطة لم تأخذ سطراً واحداً لكن يكمن وراءها كم هائل من الفكر.
إن الإثبات النظري لهذا الأمر هو كالآتي:
الكائن الأول من أوجده؟ هل أوجد هو نفسه؟ وكيف يوجِد نفسه قبل أن يوجَد؟ أي كيف يوجِد الكائن نفسه وهو في الأصل لم يكن موجوداً؟ إن الكينونة ينبغي أن تسبق القدرة على الصنع. إذن لا يمكن أن الكائن الأول يوجِد نفسه، وبالتالي يجب أن يكون الكائن الأول موجود بالضرورة. فهذا الكائن الأول يجب أن يملك في ذاته علة وجوده، وهو لم يخلق نفسه ولم يخلقه آخر.
كنت في كنيسة السيدة العذراء في ملبورن فوقف تلميذ صغير في المدرسة الملحقة بالكنيسة وسألني: من الذي خلق الله؟ وأنتم جميعاً معرضون أن يسألكم أولادكم هذا السؤال فأنا لا أعرف عائلة لم يسألهم فيها الأولاد هذا السؤال. إن إجابة هذا السؤال هو ما ذكرناه آنفاً في هذه النقطة، لكن كيف نقولها للأطفال الصغار؟
كانت هناك سبورة في المدرسة فرسمت عليها عربات قطار، وسألتهم هل تعرفون القطار؟ قالوا نعم (لأن الأطفال يحبون اللعب بالقطار)، فسألت من الذي يجر العربة الأخيرة؟ فقالوا ما قبلها. ومن الذي يجر ما قبلها قالوا ما قبلها. فقلت وفي أول القطار ماذا نجد؟ قالوا قاطرة locomotive، فقلت وهذه القاطرة تجر القطار كله لكن لا أحد يجرها.. فوافقوا على ذلك. إن القاطرة تجر القطار كله لكن لا يسبقها شيء يجرها. فإن قلنا أن هناك أحد خلق الله إذن هذا الآخر يكون هو الله الحقيقي. لا ينفع أن يخلق أحد الله، لأن من يخلقه سوف يكون أعظم منه، وبالتالي يكون هو الله الحقيقي. وهكذا قد تسألونني: الله الحقيقي من الذي خلقه؟ أقول لو افترضنا أن هناك من خلقه يكون الذي خلقه هو الله الحقيقي وهكذا، إلى أن نصل في وقت نقول أن الله الحقيقي هو الذي يخلق الكل لكن لا يمكن أن يخلقه أحد. وهذا ما نسميه "الكائن الضروري" في الشرح الثيئولوجي (ثيئولوجيا في اللغات اللاتينية Theology). فالله لم يخلقه أحد، وهو يجب أن يكون موجود بالضرورة.
إذن كما قلنا لو مر وقت لم يوجد فيه شيء من الكائنات لما وجد العالم كله، لأن الكائن الأول من الذي سيعمله؟ هذا هو مفتاح القضية كلها. لأنه كيف يبدأ العالم؟
إذا أخذنا أي قطعة أثاث كمثال، كالكرسي مثلاً، فالكل يعلم أنه من خشب والخشب كان شجرة قصها النجار وعملها بهذا الشكل، لكن قبل كل ذلك من الذي أوجد المادة ومن الذي أوجد العالم؟
هناك ملحدون يقولون أن الكائن الضروري هو العالم نفسه، وليس الله، وينادون بأزلية المادة. فيقولون أن المادة موجودة؛ هي لم توجد نفسها ولا أحد أوجدها.
هذا كلام ليس له معنى وليس له تفسير.
كيف وجِدَت المادة دون أن يوجدها أحد؟ حينما تطور العلم أثبت ولازال يثبت أن الوجود -وليس الكرة الأرضية فقط- بل الوجود كله، له أنظمة معينة من ناحية السرعة والزمن، وهذه لها تعقيدات كثيرة، وأن العالم الحالي في حالة تغير مستمر، وأنه غير ثابت على حال، وأيضاً أنه ينكمش،صحيح أن هذا الأمر يأخذ ملايين من السنين، والعلماء يدخلون إلى أعماق هذا الموضوع بطريقة نحن في غنى عن الخوض فيها، ويستنتجون من ذلك أن العالم قريب من الزوال والاضمحلال. أما الكائن الضروري الذي يملك في ذاته علة وجوده فلا يتناسب نظرياً مع فكرة عالم مضمحل، دائم التغير، وقريب من الاضمحلال.
هناك كتب كاملة تشرح هذه القضايا وتعالجها بمعادلات وحسابات فلكية وعلمية (مثل النظرية النسبية لأينشتين Einstein) لكن كل هذا ليس مجال بحثنا هنا. يكفى أن نعرف أن الكائن الضروري لابد أن يتسم بالثبات وعدم التغير. هذا ملخص مبحث قد يأخذ سنوات طويلة من البحث والدراسة.