رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
حكمة الله وسلطانه عِنْدَ الشَّيْبِ حِكْمَةٌ وَطُولُ الأَيَّامِ فَهْمٌ [12]. لا يستطيع أحد أن ينكر تمتع البعض بالحكمة هذه التي ينالونها مع خبرة السنين وطول الأيام. "ما أجمل الحكمة للشيوخ والرأي والمشورة لأرباب المجد" (سيراخ 25: 7). قد تكون لهم الحكمة والإدراك والفهم للأمور لكنهم يعجزون عن تنفيذ حكمتهم، أما الله فكلي الحكمة والقدرة. ربما أراد أيوب أن يعلن لهم أنهم قد تسرعوا في الحكم عليه لأنهم رأوه بسقط في تجارب كثيرة، وكان يليق بهم أن ينتظروا مدة من الزمن لكي في حكمة صادقة يروا ما وراء التجارب. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم على لسان أيوب: [ألعلنا إذ نعرف هذا الكثير نظن إننا نعرف كل شيء؟ أنا أعلم أن الأشرار يعاقبون، لكنكم ترون أنه بالرغم من برِّي أنا أيضًا أعاقب. أضف إلى هذا، هل يحتاج الأمر إلى وقت لكي تفهموا عن أمر له أمثلة كثيرة متشابهة؟ ألا ترون كيف يقدم الكتاب المقدس عمق الخبرة؟ ماذا اقتنى القدماء بخبرة الأحداث بالتفصيل، وأنتم الأصغر منهم تقدمون تشكرات كثيرة لذاك الذي يعدد الأحداث. لقد حدثت لهم أحزان كثيرة ومن جوانب متعددة وأنتم أيضًا إن بحثتم في الأسفار المقدسة باهتمام شديد ترون الكثير منهم (قد دخلوا في ضيقات). هذا هو السبب لقول احدهم: "لتكن راغبًا في سماع مقالٍ صالحٍ"، وفي موضع آخر يقول: "لا تحتقر مقال القدامى"... فإن هؤلاء بالحق ملتحقون بمدرسة آبائهم" (ابن سيراخ 6: 35، 8: 8-9). إنكم لستم محتاجون إلى زمن، فإن كان الله نفسه يرغب أن يهبكم إياها، فلستم في حاجة إلى زمن.] * "الحكمة عند الشيب، والفهم بطول الأيام" [12]. ذلك لأن الحكمة نقتنيها بالدراسة، والتعلم يغرس في الذهن بدروس البشر. أما بالنسبة لله فالأمر على غير ذلك، لأنه هو نفسه الحكمة في شخصه، وهو الذي يعلم دروس الحكمة. الأب هيسيخيوس الأورشليمي البابا غريغوريوس (الكبير) عِنْدَهُ الْحِكْمَةُ وَالْقُدْرَةُ. لَهُ الْمَشُورَةُ وَالْفِطْنَةُ [13]. الله كلي الحكمة وحده يدرك كل الأمور وقادر أن يتمم إرادته لأنه كلي القدرة أيضًا. ليس من مقارنة بين حكمة الشيوخ مع حكمة الله. "هب لي الحكمة الجالسة إلى عرشك ولا ترذلني من بين بنيك" (الحكمة 9: 4). "على أنه إن كان في بني البشر أحد كامل، فما لم تكن معه الحكمة التي منك لا يحسب شيئًا" (الحكمة 9: 6). "إن معك الحكمة العليمة بأعمالك والتي كانت حاضرة إذ صنعت العالم وهي عارفة ما المرضي في عينيك والمستقيم في وصاياك" (الحكمة 9: 9) "ينبوع الحكمة كلمة الله في العلى، ومسالكها الوصايا الأزلية" (سيراخ 1: 5). * "عنده الحكمة والقوة، به المشورة والفهم" [13]. لم يتكلم أيوب تمامًا دون تقديم شهادة، ولا بدون دفاع (عن رأيه)، إنما يسند كلماته بشهادة المخلوقات، فإن جمال العناصر المنظورة تعلن عن حكمة الله وقوته العظيمة. الأب هيسيخيوس الأورشليمي يتحقق ذات الأمر عندما يتقدس الإنسان ويتطهر ويبلغ أعلى درجات الكمال خلال شركة الروح القدس، ومن ثم يصير أكثر استحقاقًا لنوال نعمة الحكمة والمعرفة، حتى تزال عنه كل أدران الدنس والجهل، فيبلغ هذا التقدم بكمال وفي نقاوة. بهذا تكون الحياة التي نالها من الله جديرة بالله، الذي يقصد لها أن تكون طاهرة وكاملة. فيستحق المخلوق لهذه الحياة (المقدسة) (ويكون على مثال الخالق)؛ لأن الإنسان بهذه الطريقة التي يريدها له الخالق ينال منه القوة على الوجود أبديًا... *يهتم (الله) بالنفس [أي موضع القدرات والمشاعر والأحاسيس[ في كل إنسانٍ، ليكون عاقلًا، وينال المعرفة، ويعمل ذكاؤه بشكلٍ لائقٍ وسط حياة الجسد، فتصير مشاعره وإدراكاته (عب 5: 14) صالحة. العلامة أوريجينوس هُوَذَا يَهْدِمُ فَلاَ يُبْنَى. يُغْلِقُ عَلَى إِنْسَانٍ فَلاَ يُفْتَحُ [14]. من يقتنِ الله يتمتع بحكمته وقدرته عاملتين فيه، أما من يقاوم حكمة الله بحكمته البشرية، لن يلحق به إلا الحماقة. تُهدم حياته بسماح إلهي، وليس من يقدر أن يبنيه. يرجع بنا أيوب إلى عصر إقامة برج بابل حيث اتكل الإنسان على حكمته وقدرته، وظن أنه قادر على مقاومة الله. هؤلاء ظنوا أنهم قادرون على بناء برج في السماء، لكنهم فشلوا وتشتت طاقتهم. وهوذا خراب سدوم وعمورة يشهد بفشل مقاومة الله. يغلق الله بالسماح بمرضٍ أو كارثةٍ أو يسمح للإنسان بالموت، فيدخل القبر ولا يخرج منه. عندما يغلق على الأشرار في جهنم من يقدر أن يصعدهم من هناك؟ حينما يصر الإنسان على أن يغلق قلبه على ممارسة خطية ولا يفتحه ليتقبل نعمة الله ومساندته تبقى الخطية حبيسة قلبه، تملك عليه وتقوده وهي في سجن القلب المغلق، كما حدث مع فرعون الذي رفض بقلبه أن ينصت لصوت الله خلال الضربات ومع وعوده بفمه المخادع، كان يضمر في قلبه العنف والمقاومة لعمل الله، لذا قيل: "ولكني أقسي قلب فرعون" (خر 7: 3)، وذلك بتركه حبيسًا لشره وعنفه. يقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير) مثلًا آخر لمن صار قلبه مغلقًا، وهو عيسو، فقد أغلق قلبه بإرادته وذلك بشره واستهتاره حتى باع بكوريته بأكلة عدس، قائلًا: "أنا ماض إلى الموت، فلماذا لي البكورية؟" (تك 25: 32). احتقر عيسو البكورية، ولم يقدم توبة عن ذلك ولا عن شروره فانغلق قلبه على شره، وقد أراد والده أن يفتح هذا الباب ليهبه البركة قبل أن يموت (تك 27: 4)، لكن الرب رفض هذا الابن لأنه لم يتب، وقدم الأب البركة للابن الأصغر بغير إرادته. لقد صرخ عيسو صرخة عظيمة لم تصدر عن نفسٍ متواضعةٍ منسحقةٍ، فصارت توبته كلا شيء، عاجزة عن جذب نعمة الله لفتح قلبه. * الله القدير يهدم قلب الإنسان عندما يتخلى عنه، ويبنيه عندما يملأه، فإنه لا يهدم نفس الإنسان بالدخول في حرب بل بانسحابه منه. عندما يترك القلب لذاته ينصرف إلى لا شيء، بل إلى هدمه لذلك عندما يحدث أن قلب السامع لا يمتلئ بنعمة الله القدير، بسبب خطاياه باطلًا يقدم الكارز من الخارج نصائحه له. فيكون كل فمٍ يتكلم منه كأنه أبكم، إن لم ينطق الله بصوتٍ في القلب من الداخل، ذاك الذي يوحي بالكلمات التي تُقدم للأذن. هكذا يقول النبي: "إن لم يبن الرب البيت باطلًا يتعب البناؤون" (مز 127: 1). يقول سليمان: "أنظر عمل الله، لأنه من يقدر على تقويم من عوجه؟!" (جا 7: 13)... استطاع قايين أن يتمتع بالنصائح صادرة عن صوت الله، ومع هذا لم يقدر أن يتغير. بسبب خطية قلبه الشرير في الداخل تركه الله، مع أنه وجه إليه كلمات من الخارج لتحمل شهادة عليه. حسنا أضاف: "يغلق على إنسان فلا يفتح" [14]" فكل إنسان متى مارس الخطأ في كل طرقه ماذا يفعل سوى أن يجعل من نفسه سجنًا لضم يره؟ الشعور بالإثم في النفس قد يضغط عليه حتى وإن لم يتهمه أحد من الخارج. وإذا ترك في عمى قلبه الشرير بحكم من الله يكون كمن أغلق على ذاته، فلا يجد موضعًا للهروب، ولا يستحق أن يجد موضعًا هكذا. فكثيرًا ما يحدث أن أشخاصًا يشتاقون إلى ترك عاداتهم الشريرة ولكن لأنهم إذ تثقلوا حتى الأرض بسبب حملهم يغلقون على العادة الشريرة في السجن ولا يستطيعون أن يخرجوا هم من أنفسهم. البابا غريغوريوس (الكبير) العلامة أوريجينوس * "بمعونة الله نحن نفعل الخير الذي نمارسه ". * "ليس أقوى من الذي يتمتع بالعون السماوي، كما أنه ليس أضعف من الذي يحرم منه ". * "لنكن أقوى من الجميع، متمثلين ببولس وبطرس ويعقوب ويوحنا، فانه أن غاب عنا عون الله لا نقدر أن نقاوم أتفه إغراء ". * "لا نخشى شيئا، فإننا لكي نقهر الشيطان يلزمنا أن نعرف أن مهارتنا لن تفيد شيئا، وأن كل شيء هو من نعمة الله". *"الذين يعاقبون، فمن أجل العدالة،أما الذين يكللون، فمن أجل النعمة. فلو أنهم مارسوا ألف عمل صالح، إنما يتمتعوسن بالسماء والملكوت مقابل هذه الأعمال الصغيرة لأجل حرية النعمة، فيرتفعون إلى ما لا يقاس ". القديس يوحنا الذهبي الفم يَمْنَعُ الْمِيَاهَ فَتَيْبَسُ. يُطْلِقُهَا فَتَقْلِبُ الأَرْضَ [15]. في يد الله الأمطار، إن منعها تيبس الأرض وتنعدم ثمارها (أي 4: 7). وإن سمح لها بفيض ففيض المطر الجارف يفسد محاصيل الأرض وتنهار المباني. ربما يشير هنا إلى طوفان نوح فغرقت الأرض. * إن أغلق السماء من يفتحها؟ وإن فتح ميازيب الطوفان من يغلقها؟ من يقدر أن يزيد من المطر أو يمسكه عن السقوط بقدرٍ كافٍ، إلا الذي يدير الكون بمقياسه وموازينه؟ القديس غريغوريوس النزينزي وإن كان تعبير "المياه" يشير إلى عطية الروح القدس كما قال صوت الحق في الإنجيل: "من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حي"، مضيفًا: "قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه" (يو 7: 38-39)... فإن الروح القدس إذ يُمنع عن ذهن السامع يصير الحس في الحال يابسًا، هذا الذي كان خلال الرجاء يبدو أخضر في السامع. البابا غريغوريوس (الكبير) * لقد أنجبت المياه الأولى حياة، لا يتعجب أحد إن كانت المياه في المعمودية أيضًا تقدر أن تهب حياة. * كان روح الله محمولًا على المياه هذا الذي يعيد خلقة من يعتمد. كان القدوس محمولًا على المياه المقدسة، أو بالحري على المياه التي تتقبل منه القداسة. بهذا تقدست المياه بالروح وتقبلت إمكانية التقديس. هذا هو السبب الذي لأجله إذ كانت المياه هي العنصر الأوَّلِي (للخلقة) حصلت على سرّ التقديس خلال التوسل لله. العلامة ترتليان القديسإكليمنضس السكندري عِنْدَهُ الْعِزُّ وَالْفَهْمُ. لَهُ الْمُضِلُّ وَالْمُضَلُّ [16]. هو صاحب القدرة والقوة وهو مصدر الحكمة والفهم. إنه يهتم بكل البشر حتى البسطاء الذين يضللهم الغير، والخبثاء الذين يضللون إخوتهم. يستخدم كل الأمور لتحقيق خطته الإلهية، إذ كلا من المُضِلْ والمُضَلْ تحت يديه. يتمجد في الكل، وإن كان لا يقبل الضلال والخبث والمكر. في النهاية يترنم المؤمنون: "هللويا، فإنه قد ملك الرب الإله القادر على كل شيء" (رؤ 19: 6). * إن كان أحد لديه القوة والسلطان، أو اكتسب الفهم والتعقل، فهذا من عند الله، يتقبلها منه، هذا الذي يعطي بسخاء للذين يريدون أن ينالوا. وواضح أنه يستردها ممن يريد. من بين كثيرين يوجد مثال يعلمكم هذا، وهو نبوخذنصر، هذا الذي كانت قوته عظيمة فقال عنه دانيال: "أنت يا أيها الملك الذي كبرت وتقويت، وعظمتك قد زادت وبلغت إلى السماء، وسلطانك إلى أقصى الأرض" (دا 4: 22). على أي الأحوال إذ تشامخ في كبرياء في كل مناسبة لم يفقد سلطانه وملكوته فحسب، بل وفقد المعرفة والفهم، "وطُرد من بين الناس، وأكل العشب كالثيران" (دا 4: 33). صار يفكر مثل بهيمة، وليس كما يفكر البشر. لماذا حدث هذا معه؟ هذا ما شرحه دانيال بكل وضوح: "تمضي عليك سبعة أزمنة حتى تعلم أن العلي متسلط في مملكة الناس، ويعطيها من يشاء" (دا 4: 25). وعندما عرف (نبوخذنصر) ذلك استرجع روحه، وفي نفس الوقت ملوكيته، عندما قدم تسبيحًا ومجدًا لله (دا 4: 34- 37). الأب هيسيخيوس الأورشليمي يَذْهَبُ بِالْمُشِيرِينَ أَسْرَى، وَيُحَمِّقُ الْقُضَاةَ [17]. ليس فقط الأفراد تحت سلطانه، وإنما حتى تحركات الأمم والشعوب لا تفلت من يدي ضابط الكل. كثيرًا ما يسمح بالحمقى الذين يظنون في أنفسهم أنهم مشيرون حكماء أن يسقطوا في الأسر كغنائم حربية، تُسلب كرامتهم وثروتهم وحريتهم؛ ليس فقط يُسلبون من حكمتهم بل وأحيانًا كما من آدميتهم. حتى القضاة الذين يُعرفون بمشورتهم وسمو أفكارهم يصيرون أحيانًا حمقى كما حمَّق الله مشورة أخيتوفل، وصار اسمًا على مسمي، إذ معناه "أخو الجهل أو الغباء". وكما قيل بإشعياء: "رؤساء صوعن صاروا أغبياء؛ رؤساء نوف انخدعوا، وأضل مصر وجوه أسباطها" (إش 19: 13). كثيرًا ما يفقد الشيوخ أصحاب الخبرات الطويلة والحكمة قدرتهم على الفهم، فعامل الزمن الذي قادهم للحكمة هو عينه الذي يسبب ضعف الشيخوخة، فيعيدهم إلى حالة تشبه الطفولة، كمن هو بلا خبرة ولا فهم. * "يذهب بالمشيرين إلى نهاية غبية" [17]، ذلك عندما يفعلون صلاحًا بدون هدفٍ صالحٍ، بل يطلبون المكافأة الوقتية. فإن كان ابن الله الآب العلي الوحيد قد صار إنسانًا ليكرز بالحقائق الأبدية، لذلك دعي "ملاك المشورة العظيم" (إش 9: 6)، فبحق نفسر "المشيرين" بالكارزين الذين يزودون السامعين لهم بمشورة الحياة. ولكن عندما يبشر أي كارز بالحقائق الأبدية ليقتني مكاسب وقتية فبالتأكيد "يذهب إلى نهاية غبية"، إذ يهدف نحو بلوغ ذلك بجهوده المضنية، هذه التي كان يجب أن يهرب منها الفكر المستقيم. البابا غريغوريوس (الكبير) يأتي هذا الفكر للسالكين في حياة البرّ، ويبتدئ الإنسان يمجّد جهاده، ويجمع لنفسه مديح الآخرين له. فيتصور فزع الشياطين منه، شفاءه للنساء، ازدحام الجماهير حوله يلمسون هدب ثوبه، وأخيرًا يتنبأ له بتكريسه للكهنوت. وأن الناس يفدون إليه ليجعلوه كاهنًا، وعندما يرفض الكهنوت يقيدونه ويقودونه رغمًا عنه. بعدما يشعل الشيطان فيه هذه الآمال الكاذبة، ينسحب تاركًا المجال لمحاربات أخرى يقدمها شيطان الكبرياء أو شيطان التذمر، الذي يأتي حالًا ويعرض عليه أفكارًا مضادة لهذه الآمال، حتى أنه في بعض الأوقات يستسلم لأفكار شيطان الزنا، هذا الذي منذ لحظات كان يرى في نفسه أنه قديس وكاهن وقور! أما "شيطان الكبرياء" فهو سبب سقوط النفس المحزن للغاية. إنه يشير على النفس ألا تنظر إلى الله كمعين لها، بل تنسب إلى ذاتها كل ما هو صالح. فتبتدئ تنتفخ أمام الإخوة، وتحسبهم جهلاء، لأنهم لا يعرفون منزلتها السامية. الكبرياء يتبعه الغضب والتذمر. والشر الأخير يتبعه خروج الإنسان عن وعيه والغيظ ورؤية شياطين كثيرة في الهواء . *يصعب عليك الهروب من فكر المجد الباطل، لأن كل ما تصنعه لطرده يمكن أن يكون عاملًا مساعدًا لإنشاء دافع جديد نحو المجد الباطل. هذا والشياطين لا تقاوم دائمًا كل فكر سليم، بل أنها أحيانًا تشجع فينا بعض الأفكار السليمة على رجاء أنها تقدر بعد ذلك أن تخدعنا. القديس أوغريس وَيَشُدُّ أَحْقَاءَهُمْ بِوِثَاقٍ [18]. يسمح الله أحيانًا بأصحاب السلطة كالملوك أن ينحطوا عن مراكزهم، ويتجردوا من كل كرامة. يحل مناطقهم، فيسقط السيف من جانبهم، والتيجان من رؤوسهم. ولعله يشير هنا إلى انحدارهم ليكونوا عبيدًا إذ كان العبيد لا يمنطقون أحقاءهم. يَذْهَبُ بِالْكَهَنَةِ أَسْرَى، وَيَقْلِبُ الأَقْوِيَاءَ [19]. إذ تحدث عن فئات الحكماء مثل المشيرين والقضاة، وفئات أصحاب الخبرة كالشيوخ، وفئات أصحاب السلطة كالملوك الآن يتحدث عمن يظنون في أنفسهم أبرارًا، وهم فئة الكهنة. هؤلاء الذين أحيانًا في ريائهم يظنون أنهم لا يُمسون لأنهم خدام الله والعاملون لحساب شعبه. لكن الله ليس عنده محاباة حتى كهنته يسمح لهم بالسبي، فيفقدون كرامتهم وسلطتهم وثروتهم التي كانوا يعتزون بها. أخيرًا يشير إلى فئة الأقوياء، سرعان ما يصير القوي ضعيفًا. كم من جبابرة بأس سقطوا في مصيدة أناس ضعفاء، وكم من جيوش قوية انهزمت أمام جيوش أضعف منها. هكذا لا يليق بأحد أن يعتمد على قوته الزمنية ولا على حكمته الذاتية وفهمه البشري المجرد ولا سلطانه ولا مركزه الاجتماعي أو الديني. * "يقود الكهنة إلى الخزي، ويقلب الأقوياء" [19] عظمة الكاهن العظيمة هي برّ الخاضعين له. فالكارز الممتاز حسنًا يقول لتلاميذه: "لأن من هو رجاؤنا وفرحنا وإكليل افتخارنا؟ أم لستم أنتم أيضًا أمام ربنا يسوع المسيح في مجيئه؟" (1 تس 2: 19)، لكن يتجاهل الكهنة حياة المسئولين عنهم، ولا يثمرون في تقدمهم أمام الرب. بهذا يصيرون في خزي، لا يجدون مجدًا أمام الديان الحازم، هؤلاء الذين لا يطلبونه في حياة المخدومين بإلحاحهم في الكرازة. حسنًا قال: "ويقلب الأقوياء". بحكمٍ عادلٍ يترك قلوب الذين يحكمون، إن كانت لا تتطلع إلى المكافأة الداخلية، فتطرح خارجًا، حيث تخدع نفسها بأن تفرح بالمجد الزمني عوض الأبدي. البابا غريغوريوس (الكبير) القديس أمبروسيوس يَقْطَعُ كَلاَمَ الأُمَنَاء،ِ وَيَنْزِعُ ذَوْقَ الشُّيُوخِ [20]. إذ يعتز أصحاب الفصاحة والخطابة والفلسفات على إبداعهم اللغوي أو جاذبية شخصياتهم، هؤلاء يقفون أحيانًا كخرس، ليس من كلمة في فمهم، لأنهم أهانوا الذين وهبهم العقل وأعطاهم موهبة الكلمة وخلق أفواههم. * "يغير شفاه الأمناء، وينزع تعاليم الشيوخ" [20]. عندما لا يمارس الكاهن الصلاح الذي يخبر به، فإن ذات عمل شفتيه يُنزع منه، فلا يجسر أن ينطق بما لا يمارس. قيل بالنبي: "وللشرير قال الله: مالك تحدث بفرائضي، وتحمل عهدي على فمك؟" (مز 50: 16). أيضًا يسأله: "لا تنزع من فمي كلام الحق كل النزع، (مز 119: 43). إذ يظهر أن الله القدير يعطي كلمة الحق للذين يمارسونها، وينزعها عمن لا يمارسوها... يقول الحق في الإنجيل: "من فضلة القلب يتكلم الفم. الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يخرج الصالحات. والإنسان الشرير من الكنز الشرير يخرج الشرور" (مت 12: 34- 35).. أيضا يقول يوحنا: "هم من العالم، من أجل ذلك يتكلمون من العالم"(1 يو 4: 5). حسنًا قيل: "الذي يغير شفاه الأمناء، وينزع تعاليم الشيوخ". البابا غريغوريوس (الكبير) إن كان الفصحاء يعرِّفون الخطيب بأنه "إنسان صالح قادر على الكلام" إذ يلزمه أن يكون بلا عيب في سلوكه كما في شفتيه (خَطابته) حتى يكون مستحقًا للمديح، لأن المدرس الذي كلماته لا تسندها أفعاله يفقد كل تأثير على سامعيه. القديس إيرونيموس القديس يوحنا الذهبي الفم يُلْقِي هَوَانًا عَلَى الشُّرَفَاءِ، وَيُرْخِي مِنْطَقَةَ الأَشِدَّاءِ [21]. إذ يهين الشرفاء خالقهم، يجتنون لأنفسهم الهوان. "يسكب هوانًا على رؤساء ويضلهم في تيهٍ بلا طريق". (مز 107: 40). * "يلقي هوانا على الشرفاء، ويرفع المضطهدين" [21]. استمر الشعب اليهودي في وصية الناموس، بينما لم يكن يعرف العالم الأممي كله شيئًا عن وصية الله، دُعي الأولون شرفاء بالإيمان، بينما سقط الآخرون في هوى عدم الإيمان. ولكن عندما أنكرت اليهودية سرّ تجسد ربنا، وآمن العالم الأممي به، سقط الأشراف في الهوان، وارتفع الذين انحدروا إلى خطية عدم الإيمان، ونالوا حرية الإيمان الحقيقي. إذ رأى إرميا ذلك قبل حدوثه بزمن طويل قال: "صار السيد كعدو. ابتلع إسرائيل. ابتلع كل قصوره، أهلك حصونه" (مرا 2: 5). البابا غريغوريوس (الكبير) * نقول نحن المسيحيون أن اليهود، بالرغم من سابق تمتعهم بعطف الله إذ كانوا محبوبين منه أكثر من غيرهم، إلا أن هذا التدبير والنعمة الإلهين قد تحولا إلينا، عندما نقل يسوع السلطان العامل بين اليهود إلى مؤمني الأمم. العلامة أوريجينوس يَكْشِفُ الْعَمَائِقَ مِنَ الظَّلاَمِ، وَيُخْرِجُ ظِلَّ الْمَوْتِ إِلَى النُّورِ [22]. إذ سقط الإنسان الأول في العصيان، صار الموت يرافق ذهنه كظلٍ له، بل وأكثر التصاقا من الظل. ليس ما يرعبه مثل الموت، حتى دعاه الرسول بولس: "آخر عدو"، أو أعنف عدو يواجه الإنسان. لكن موت السيد المسيح على الصليب حطم سلطان الموت في عرينه. بالموت داس الموت، ووهبنا قوة الحياة الأبدية والقيامة. أزال السيد المسيح تعبير الموت من قاموس فكرنا، فصار عوضًا عنه تعبير "ظل الموت؟ أو "الرقاد" أو "الانتقال". نتغنى قائلين: "لا يكون موت لعبيدك بل هو انتقال". ونرتل مع الرسول بولس، قائلين: "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟" (1كو 15. لقد فضح الرب الموت فصار ظلًا بلا كيان في حياة المؤمنين به. أشرق بنوره على القبور، فانفضح ضعف ظل الموت. رفع الرب الغطاء عن الظلمة، وأدركنا أن لا موضع لنا في مملكة الظلمة، حيث أشرق علينا شمس البرّ. يفضح الله المؤامرات التي تُدبر في الظلام، والشر الذي يرتكب في الخفاء. عندما ظن ملك آرام أن من بين رجاله من هو خائن، قال له أحد عبيده: "اليشع النبي الذي في إسرائيل يخبر ملك إسرائيل بالأمور التي تتكلم بها في مخدع مضطجعك" (2 مل 6: 12). * "يكشف الأعماق من الظلام" [22]. ما هي الأعماق؟ الأمور المخفية، الأفكار التي لا تظهر في بهاء النهار. هذا هو السبب أن أيوب يتحدث عن الظلام. فإن المسيح نفسه يستخدم نفس الكلمات لكي يقر ويثبت كلمات أيوب عندما يقول للرسل: "ليس مكتوم لن يُستعلن، ولا خفي لن يُعرف" (مت 10: 26). اذكروا الكلمات التي أضافها: "الذي أقوله لكم في الظلمة، قولوه في النور. والذي تسمعونه في الأذن نادوا به على السطوح" (مت 10: 27). "ويخرج ظل الموت إلى النور" [22]. ظل الموت هو الخطية، بنفس الطريقة كما أن الظل يكشف عن الجسم الذي له الظل، هكذا الخطية تعني "شوكة الموت هو الخطية" (1 كو 15: 56)، وخاصيتها المميزة لها. على أي الأحوال ظل الموت هذا يعلن به عن سره (رو 16: 25؛ كو 1: 26) للبشرية، ويعلن عن برّه (مز 98: 2؛ رو 1: 17)، بنفس الكيفية يكشف عن الخطية (أف 4: 22)، ولا يسمح لها أن تختفي. وإذ نعرف قبحها وأنها تفسد النفس، لنهرب جميعنا منها! هذا هو السبب أن المسيح قال عن الشعب اليهودي: "لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية" (يو 15: 22)، بمعنى آخر، لما عرفوا قوة الخطية. لكنه يضيف: "وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم"، لأنهم عرفوا دنسها، ورائحتها الشريرة، وخبثها إن قورنت بالبرّ والجمال الذي لم يكن معروفًا من قبل. الأب هيسيخيوس الأورشليمي يُكَثِّرُ الأُمَمَ ثُمَّ يُبِيدُهَا. يُوَسِّعُ لِلأُمَمِ ثُمَّ يُشَتِّتُها [23]. الله هو ضابط التاريخ كله، يسمح أحيانًا للبعض أن ينمو ويكون لها سلطان لتحقيق هدف معين لتأديب شعبه، كما حدث مع بابل التي كانت دويلة صغيرة، سرعان ما هزمت أشور العظيمة واحتلت مركزها، وسبت يهوذا، وإذ تشامخت بابل على الله في لحظات انهارت لتحتلها فارس ومادي. التي كانت رأسًا صارت ذيلًا بل وتلاشت. * "يجعل الأمم في تيه ويبيدها؛ يبعثرها ثم يجلبها" [23]... إنه ليس هو الذي يقود الأمم بعيدًا، إنما يسمح لهم أن يشردوا، يذهبون بأنفسهم إلى الإبادة خلال شرورهم، إذ لا يرغبون في العودة إلى لإيمان به. أما عن الأمم المشتتة (المبعثرة)، فيود أيوب أن يقول للرب: "بددهم"، بينما يود أن يقود الذين يرغبون في الجري نحو نور (إش 60: 3) للتمتع بالكرازة. إنه لن يتعدى العدالة، بل يسلك بما يليق مع كل أحدٍ سواء كان في الإيمان أو عدم الإيمان. لهذا إذ حمل سمعان الرب الطفل على ذراعيه قال: "إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين" (لو 2: 34). الأب هيسيخيوس الأورشليمي يَنْزِعُ عُقُولَ رُؤَسَاءِ شَعْبِ الأَرْضِ، وَيُضِلُّهُمْ فِي تِيهٍ بِلاَ طَرِيقٍ [24]. من هم رؤساء الأرض الذين يفقدون فهمهم، إلا أبناء إبراهيم حسب الجسد، وقد انسحبوا عن بنوتهم له روحيًا بجحدهم مخلص العالم، ورفضهم ما كان أبوهم إبراهيم يتهلل بيومه قبل مجيئه بأجيالٍ كثيرة. جحودهم حوَّل حياتهم إلى برية قاحلة، حيث لا ترتوي قلوبهم بمياه الروح القدس الذي يحول البراري إلى فردوس إلهي! * "يغير قلوب رؤساء شعب الأرض" [24]. بقوله: "شعب الأرض" يحتاج الإنسان أن يفهم به الشعب اليهودي، لأنه التصق بالأرضيات. فإن بولس أيضًا الذي تحدث عن الذين "وضعوا عقولهم في الأرضيات"". رؤساؤهم هم الكهنة والكتبة والفريسيون. يقصد بتغير قلوبهم، أنه يحولها. الأب هيسيخيوس الأورشليمي العلامة أوريجينوس القديس يوحنا الذهبي الفم يَتَلَمَّسُونَ فِي الظَّلاَمِ وَلَيْسَ نُورٌ، وَيُرَنِّحُهُمْ مِثْلَ السَّكْرَانِ [25]. الذين كانوا قادة شعوب عظماء، لهم قوتهم العسكرية وسلطانهم المرهب سرعان ما فقدوا كل شيء، وصاروا في مذلةٍ وضعفٍ. وكما يقول المرتل: "سُلب أشداء القلب... كل رجال البأس لم يجدوا أيديهم" (مز 76: 5). صاروا كمن هم ضالين "في تيه بلا طريق" [ع 25]. يتحسسون الطريق في الظلام ويترنحون كسكرى بلا وعي ولا تفكير ولا قوة. هكذا يتحدث أيوب عن الله ضابط الكل، الذي في قبضة يده كل التاريخ، محولًا الأحداث لحساب ملكوته. لا تستطيع قوة ما أن تقاومه! * لماذا؟ لأنهم "أحبوا الظلمة أكثر من النور" (يو 3: 19)، بطريقة صار فيها الرب نفسه متهمًا لهم. لماذا أحبوا الظلمة أكثر من النور؟ لأن أعمالهم شريرة. فإنه لأمر حتمي أن الذين يمارسون الشرور يترنحون كالسكرى". فإنهم كسكرى يكونون مخبولين، عاجزين عن تمييز بين أمرٍ وآخر، أو بين الشر والصلاح. الأب هيسيخيوس الأورشليمي لا تحزنوا على غياب الهيكل هنا، ولا تيأسوا لافتقاركم إلى كاهن. ففي السماء تجدون مذبحًا وكهنة الخيرات العتيدة، على رتبة ملكي صادق، في موكبهم أمام الله (عب 5: 10). فقد شاءت محبة الرب ورحمته أن ينزع عنكم الإرث الأرضي، حتى يتسنى لكم أن تطلبوا السماوي. العلامة أوريجينوس |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
أيوب | حكمة الله المخفية |
أيوب | لأقتنيك يا حكمة الله |
أيوب | القديسون شهود على حكمة الله |
أيوب مقارنة حكمة الملائكة بحكمة الله |
ليئة التي سمحت لها حكمة الله |