رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
إذ تنسم الله من الإنسان المتجدد في ذبيحته رائحة رضا بارك البشرية، مقدمًا لها ناموسًا تخضع له، وعهدًا يربطها به، وعلامة تسندها في أيام غربتها.
١. الله يبارك نوحًا وبنيه ١ ٢. ناموس نوح ٢-٧ ٣. تجديد العهد ٨-١٧ ٤. نوح وعريه ١٨-٢٣ ٥. نبوة نوح عن كنعان وسام ويافث ٢٤-٢٨ "وبارك الله نوحًا وبنيه، وقال لهم: اثمروا واكثروا واملأوا الأرض" [١]. إذ خرج نوح وبنوه إلى الأرض المتجددة بمياه الطوفان باركهم الله وقدم لهم ما سبق أن وهبه لآدم وحواء: "اثمروا واكثروا واملأوا الأرض"... وكأن الإنسان قد بدأ من جديد، أو كأن العالم قد انطلق انطلاقة جديدة خلال نوح عوض آدم الأول. هذه البركة في حقيقتها هي رمز للبركة التي نالتها الكنيسة في العهد الجديد خلال نوح الحقيقي، ربنا يسوع واهب النياح أو الراحة، فعوض آدم الأول صار لنا آدم الثاني رأسًا، وعوض حواء الأولى صارت لنا الكنيسة حواء الجديدة خلالها يولد أولاد الله ويتكاثرون وينمون جدًا. خلال آدم الأول صار لنا الميلاد الجسدي، وخلال آدم الجديد أو نوح الحقيقي صار لنا الميلاد الروحي. وكما يقول القديس مار يعقوب السروجي: [أبونا الأول لدغته الحية، وانحدرت به إلى الجحيم، وها هو هناك داخل الهلاك مطروح في مذلة يحيط به الوحل، وأصناف الدود، صار السوس لباسه، والعنكبوت رداءه. الأرض من تحته والسوس فوقه. لقد انحط في التراب فاحتضن طينه وابتلى بالهاوية. هذا هو أبونا الأول، وهذه هي بلده. فلو لم يتغير هذا الميلاد لكنا في ذلٍ عظيمٍ... اهربوا أيها السامعون من هذا الذل العظيم، واطلبوا لكم أبًا آخر في السماء. أسرع والتجئ إلى المعمودية واطلبها أمًا لك، فهي تقدم لك أبًا غنيًا مملوءًا خيرات. إنها تلدك حتى وإن كنت شيخًا، فتجعلك صبيًا محبوبًا للملك أبيك[194]]. ويقول القديس أغسطينوس: [إن لنا ميلادين: أحدهما أرضي والآخر سماوي. الأول من الجسد والثاني من الروح. الأول صادر عن مبدأ قابل للفناء والثاني عن مبدأ أبدي. الأول من رجل وامرأة الثاني من الله والكنيسة. الأول يجعلنا أبناء الجسد، والثاني أبناء الروح. الأول يصيرنا أبناء الموت والثاني أبناء القيامة. الأول أبناء الدهر والثاني أبناء الله. الأول يجعلنا أبناء اللعنة والغضب، والثاني أبناء البركة والمحبة. الأول يقيدنا بأغلال الخطيئة الأصلية والثاني يحلنا من رباطات كل خطيئة[195]]. إن كان الله قد وهب البشرية خلال مياه المعمودية بركة لتبدأ بانطلاقة جديدة خلال نوح عوض آدم، فقد وضع الله لها ناموسًا عوض الوصية التي قدمها قبلًا لآدم، وقد جاء هذا الناموس الذي يمكن دعوته "ناموس نوح" يحوي البنود التالية: أولًا: السماح بأكل لحوم الحيوانات والطيور والأسماك، إذ قال لهم "لتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء، مع كل ما يدب على الأرض وكل أسماك البحر دُفعت إلى أيديكم. كل دابة حية تكون لكم طعامًا، كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع" [3-4]. كان طعام الإنسان قبلًا العشب الأخضر، والآن سُمح له بأكل لحوم الحيوانات والطيور والأسماك... لماذا؟ لكي يهيئ الطريق لقبول الشريعة الموسوية التي بها يلتزم الكاهن أن يأكل من ذبيحة السلامة كرمز للتمتع بالتناول جسد ربنا يسوع ودمه، كقوله: "لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق، من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية" (يو ٦: ٥٤، ٥٥). فالذبيحة ليست كما يظن بعض الوثنيين لتهدئة غضب الله، إذ الله لا يُسر بالمحرقات ولا يأكل لحوم أو شحوم، إنما الذبيحة المقدسة وهي تعلن مصالحة الله مع الإنسان هي عطية للإنسان بها تشبع نفسه ويرتوي قلبه على مستوى روحي فائق للطبيعة. ثانيًا: إذ سمح بأكل اللحوم حذر من أكلها بدمها، ليهيئ الطريق للكشف عن خطورة الدم المبذول عنا كعنصر أساسي للتكفير والفداء، إذ "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة" (عب ٩: ٢٢)، "دم كريم من حمل بلا عيب دم المسيح" (١ بط 1: 19). من الجانب الجسدي منعه من أكل الدم أو شربه لأجل المحافظة على صحته، ومن الجانب السلوكي خشى عليه من التوحش والعنف، أما من الجانب الروحي فأراد تقديس الدم بكونه يمثل الحياة المبذولة من أجل خلاص الإنسان. ثالثا: خشي الله من السماح للإنسان بأكل لحم الحيوانات فتمتد يده على أخيه الإنسان لذا حذر من سفك دم الإنسان. أقام الله ميثاقًا مع نوح وبنيه، وجعل قوس قزح علامة للميثاق بينه وبينهم، وبينه وبين نسلهم من بعدهم. إذ جاء التأديب خلال الطبيعة (الطوفان) أقام الله العلامة في الطبيعة علانية (قوس قزح)، إما في العهد الجديد إذ حمل السيد المسيح تأديبنا في جسده جعل العلامة فيه خلال جراحات الصليب. يظهر قوس قزح حول العرش الإلهي (رؤ ٤: ٣؛ ١٠: ١)، ذلك لأن مجد الله ليس جبروتًا وعظمة فحسب وإنما هو أيضًا حب بلا حدود. وقوس قزح علامة الحب التي قدمها الله حين أقام ميثاقًا مع نوح بعد الطوفان، ويبقى الله كمحب للبشرية يقدم لنا كل حب خلال ميثاقه معنا. هذا القوس له ألوان كثيرة تعلن عن إحسانات الله وعطاياه المتعددة. وهو كقوس يشير إلى القوس الذي كان مستخدمًا في الحروب، وكأن الله يدافع عنا بقوسه لكن بدون سهم لأنه غير محب لسفك الدماء، به نغلب الخطية وندوس على الشيطان[196]. والعجيب أن الله في حبه للإنسان يعتز بالميثاق معه، فيقول: "ميثاقي" [٩، ١١، ١٥]، "قوسي" [13]. إذ خرج إلى الأرض الجديدة التي غسلتها مياه الطوفان "ابتدأ نوح يكون فلاحًا وغرس كرمًا" [٢]. لم يكن "عاملًا في الأرض" (تك ٤: ٢) كما كان قايين بل فلاحًا يغرس كرمًا، فقايين يشير إلى الإنسان الذي يصب عمله في الأرض والأرضيات ويبذل كل طاقته في الزمنيات، أما نوح فيشير إلى السيد المسيح الذي جاءنا كفلاح يغرس كرمه من جديد، أي الكنيسة التي صارت كما في أرض جديدة ترتوي بمياه الروح القدس وتغتسل بدم السيد المسيح القدوس. وقد جاء في أسطورة يهودية أن نوحًا حصل على "عُقلة" من كرم سقطت من الفردوس فغرسها[197]. على أي الأحوال غرس نوح كرمًا غالبًا ما كان لا يدرك فاعلية عصير الكرم المختمر... (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لذا يرى بعض الآباء في نوح أنه أول من اختبر المسكر[198]. إن كان قد سكر بمعرفة أو غير معرفة فقد تعرى، وسجل لنا الكتاب المقدس هذا الضعف ليؤكد لنا أن الخلاص لم يكن بسبب بر نوح الذاتي فإن كان بارًا إنما بسبب النعمة التي كانت تسنده في جهاده. كشف هذا الموقف عن الآتي: أولًا: خطورة السكر الذي يُفقد الإنسان سترته، ويعريه حتى أمام بنيه. يقول القديس چيروم: [لا يجوز لأحد أن يقول بأن السكر ليس بخطية نقرأ عن نوح أنه سكر مرة، ولكن الله يحذرنا من أن نظن فيه أنه سكير ومدمن للخمر[199]]. كما يقول: [ساعة واحدة سكر فينا عرّت (نوحًا) الذي ظل مستترًا طوال ستمائة عام بالوقار[200]]. كما يقول: [بعد سكره تعرى جسده، فإن تدليل النفس يؤدي في النهاية إلى السقوط في الشهوة، فالبطن تتخم أولًا وعندئذ تثور الأعضاء[201]]. ويقول القديس أمبروسيوس: [يا لسلطان الخمر، فقد جعلت ذاك الذي لم تغلبه مياه الطوفان أن يصير عاريًا![202]]. إن كانت الخمر هكذا تسكر الإنسان، فتعري ذاك الذي استتر بالوقار أكثر من ستمائة عام، ذاك الذي لم تستطع أن تبلغ إليه مياه الطوفان، فإن الخطية هي بالحقيقة الخمر المسكر الذي يعري النفس ويفضحها، أما السيد المسيح فهو اللباس البهي الذي يستر النفس من فضيحتها الأبدية. يقول القديس چيروم: [نحن ثوب المسيح إذ يلبسنا خلال إيماننا به نلبسه نحن أيضًا (كثوب لنا)، وكما يقول الرسول أن المسيح هو لباسنا، نرتديه عندما نعتمد (غلا ٣: ٢٧). فإننا إذ نلبس المسيح يلبسنا هو أيضًا![203]]. ثانيًا: إذ تعرى نوح أبصر حام عورة أبيه، أما سام ويافث فبوحي الناموس الطبيعي حرصا ألا يبصروا عورة أبيهما. هنا تظهر وحدة الناموس الطبيعي والناموس المكتوب وتطابقهما، إذ يحذر الناموس الإنسان من كشف عورة الأب أو الأم (لا ٨: ٦– ١٨). هذا وكشف العورة لا يفهم فقط بالمعنى الحرفي البحت، إنما ربما يقصد به عدم الاعتداء على زوجة الأب أو ارتكاب الفتاة شرًا مع زوج أمها!... لكن ما فعله حام كان فيه سخرية بأبيه المتعري بالمعنى الحرفي لمعنى التعرية. إن كنا نرى بالإيمان كل إنسان أبًا أو أمًا أو أخا أو أختًا لنا، فليتنا لا نعري أحدًا، إنما نستر بالحب قدر ما نستطيع في المسيح يسوع ساتر خطايانا! "فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير" [٢٤]. يرى البعض أن المقصود بابنه الصغير هنا حفيده كنعان بن حام، لكن الأرجح أنه حام. يرى العلامة أوريجانوس أن كنعان رأى عوره جده فأخبر أباه حامًا، وقال أن كنعان هزيء بجده كثيرًا... على أي الأحوال يبدو أن حامًا وابنه كنعان اشتركا في السخرية بنوح، فكانًا يمثلان الذي يصلبون السيد المصلوب لأنفسهم مرة ثانية ويشهرونه بسبب أعمالهم الشريرة (عب ٦: ٦). وقد لعن نوح حفيده كنعان، مباركًا إله سام وطالبًا الخيرات ليافث... وقد جاءت كلماته تحمل نبوة عن الأجيال المقبلة، ويلاحظ فيها الآتي: أولًا: لم يلعن نوح ابنه حامًا بل حفيده كنعان، ولعل حفيده كان أكثر سخرية به من ابنه؛ هذا ويرى الشهيد يوستين أن الابن الذي باركه الله بفمه من قبل مع أخوته لا يمكن أن يُعلن، وقد حلت اللعنة بالابن الذي مارس خطية أبيه وربنا بصورة أبشع. هذا ومن ناحية أخرى فإن دعوة كنعان بعبد العبيد أي النزول إلى أدنى صور العبيد إنما هي نبوة عن الكنعانيين الذين عاندوا الله وانحرفوا إلى الرجاسات الوثنية مثل تقديم أبنائهم ذبائح للأصنام (لا ١٨: ٢٥– ٢٨؛ تث ٢٠: ١٧، ١٨). ثانيًا: حين تحدث عن سام، بارك "إله سام" ، فقد نُسب الرب لنسل سام، إذ منهم خرج إبراهيم وإسحق ويعقوب، وكما يقول القديس أغسطينوس[205]: [أن النبوة تحققت بولادة السيد المسيح منهم حسب الجسد؛ فإن كان اسم "سام" يعني "سامٍ" أو "عالٍ" فأي أسم أسمى من السيد المسيح الذي فاح عبيره في كل موضع؟! ثالثًا: جاءت النبوة عن "يافث" والذي يعني "توسع" أو "ملء" أن الله يفتح له فيسكن في مساكن سام، فقد اتسعت مساكن سام كنيسة (السيد المسيح) لتقبل ملء الأمم، أي تقبل يافث فيها. |
|