الشفاعة المرفوضة
القمص تادرس يعقوب
أرميا 15 - تفسير سفر إرميا
"ثم قال الرب لي:
وإن وقف موسى وصموئيل أمامي لا تكون نفسي نحو هذا الشعب.
اطرحهم أمامي فيخرجوا"
نحن نعلم أن شفاعة النبي لدى الله من أجل الشعب كانت عملًا أساسيًا في حياته، لذا أراد الله تأكيد صدق نبوة إرميا بالرغم من عدم قبول شفاعته في أمر رفع التأديب، لأنه وإن تشفع موسى وصموئيل النبيين لن تُقبل شفاعتهما في ذلك الحين، ولن يُسمح للشعب أن يقف أمامه. كأن عدم قبول شفاعة إرميا ليس علتها ضعف في شخصه أو في عمله، وإنما في إصرار الشعب على عدم التوبة.
ذكر المزمور (99: 6) موسى وهرون وصموئيل كشفعاء عظماء يستجيب الله صلواتهم.
قدم لنا العهد القديم موسى شفيعًا في (خر 32: 11-14؛ 20: 34؛ 32: 30؛
عد 10: 13-19؛ 14: 13-19؛ تث 9: 26-29). كما قدم لنا صموئيل النبي شفيعًا في (1 صم 7: 5-11؛ 12: 19-25). قيل: "فدعا صموئيل الرب فأعطى رعودًا ومطرًا في ذلك اليوم، وخاف جميع الشعب الرب وصموئيل جدًا. وقال جميع الشعب لصموئيل: صلِ عن عبيدك إلى الرب إلهك حتى لا نموت... فقال صموئيل للشعب: لا تخافوا... وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم بل أُعلمكم الطريق الصالح المستقيم" (1 صم 12). هكذا امتزجت صلواته وشفاعاته بتعليمه لهم ليعيشوا حسب العهد الإلهي.
لم يكن هذان النبيان شفيعين فحسب، بل كانا أيضًا وسيطين في أقامة عهد بين الله والشعب
ذِكر هذين النبيين له معنى خاص بالنسبة لإرميا النبي، إذ كان يُنظر إليهما كنموذجين حيين لخدمته، حاسبًا نفسه خلفًا في سلسلة الأنبياء
وُصف إرميا في سفر المكابيين الثاني كشفيعٍ دائم: "فأخبرهم أيضًا برؤيا قد رآها وهي موثوق بها، فتشجعوا جميعًا. وهذه هي الرؤيا أن أحد رؤساء الكهنة، وهو شريف كريم صالح وفصيح، ومنذ حداثته منكب على كل فضيلة، وقد ظهر يمدّ يديه مستشفعًا لأجل الشعب. ثم ظهر شخص آخر بثياب فاخرة وبهيئة جميلة. فقال رئيس الكهنة إن هذا هو إرميا نبي الله، وهو محب لإخوته يشفع دائمًا لأجل الشعب والمدينة المقدسة" (2 مك 15).
من محبة الله لهم أنه لا يشفق عليهم إلى حين، ولا يقبل شفاعة الأنبياء عنهم حتى يرد غضبه، لأنه يريد خلاصهم الأبدي بالرجوع إليه أولًا. إنه لا يطلب أن يرفع التأديب المؤقت مهما بدا قاسيًا، إنما يُريد مجدهم الأبدي.
الله الذي يُسر بوحدتنا وصلاتنا لبعضنا البعض يرفض أحيانًا حتى شفاعة قديسيه متى رأى فينا تهاونًا بخلاصنا، فإنه لا يستطيع إنسان ما أن يفدينا. وكما يقول المرتل: "الأخ لن يفتدى، فهل يُفتدى إنسان؟" (مز 49: 7). حقًا إننا نُصلي لأجل بعضنا البعض، ونطلب صلوات القديسين عنا، لكن بروح الالتقاء مع المخلص نفسه كفادٍ وحيدٍ وفريدٍ.
* يوجد بعض الناس يتكلون على أصدقائهم، وآخرون على فضائلهم (قوّتهم)، وآخرون على غناهم. هذه هي عجرفة البشرية التي لا تتكل على الله... "الأخ لن يفتدى، فهل يخلص إنسان؟" هل تتوقع إنسانًا يفتديك من الغضب القادم؟!
القديس أغسطينوس
* لا تتطلع إلى أخٍ لخلاصك... بل إلى الإله المتأنس يسوع المسيح، هو وحده قادر أن يقدم فدية لله عنا جميعًا... دم ربنا يسوع المسيح المقدس والثمين جدًا، الذي سفكه لأجلنا جميعًا...
ليس لأنه سكن بيننا "في شبه جسد الخطية" (رو 8: 3)، تظن أن ربنا إنسان مجرد؛ وتفشل في ملاحظة قوة لاهوته. إنه لا يحتاج إلى تقديم فدية لله عن نفسه، ... فإنه "لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه غش" (1 بط 2: 21)
القديس باسيليوس الكبير
* وكما قال أيضًا النبي معلنًا ذات الشيء: "الأخ لن يفتدى، فهل يُفتدى إنسان؟ كلا، حتى وإن كان موسى أو صموئيل أو إرميا. اسمع كمثالٍ ما يقوله الله في هذا الأمر الأخير: "لا تصلِ لأجل هذا الشعب، فإنني لا اسمع لك". ولماذا تتعجب إنني لا أسمع لك، "وإن وقف موسى وصموئيل أمامي" لا أقبل طلباتهم عن هؤلاء الناس. نعم، إن توسل حزقيال يُقال له: "وإن وقف نوح ودانيال وأيوب فإنهم لا يخلّصون..." وإن توسل البطريرك إبراهيم لأجل المصابين بمرض مُستعصى شفائه ولا يمكن تغيرهم فإن الله يتركه ويذهب في طريقه (تك 18: 33) حتى لا يقبل صرخته لأجلهم. مرة أخرى إن فعل صموئيل ذلك ُيقال له: "لا تنح على شاول" (راجع 1 صم 16: 1). وإن توسل أحد من أجل أخته وكان الأمر غير مناسب يسمع ذات الإجابة التي قيلت لموسى: "ولو بصق أبوها بصقًا في وجهها" (عد 12: 14)[295] .
* أوضحنا بإسهاب إننا بحسب رآفات الله ومحبته يلزمنا أن يكون لنا رجاء الخلاص في أعمالنا البارة (بنعمة الله) دون حسبان لآبائنا وأجدادنا وآباء أجدادنا، أو أقربائنا وأصدقائنا وعائلاتنا وجيراننا، لأن "الأخ لا يفتدى، فهل يُفتدى إنسان؟"... لقد استجْدَت الخمس عذارى زيتًا من رفيقاتهن ولم يحصلن على شيء. فالإنسان الذي دفن وزنته في الأرض يبدى أعذارًا لكنه يُدان
القديس يوحنا الذهبي الفم
سبق أن تحدثنا عن طلب صلوات أو شفاعات الغير بدون التوبة في تعليقنا على (7: 16؛ 11: 14).
إذ يتحدث العلامة أوريجينوس عن قوة الصلاة، يرى في ارتباط شخص صموئيل النبي بموسى النبي هنا يحمل معه ذات الرتبة، هذا الذي أدركت والدته أنها عاقر والتجأت إلى الله بالصلاة فوهبها إيّاه.
يعلن هذا الحديث الإلهي عن عجز البشرية في التشفع في الخطاة حتى يأتي السيد المسيح. جاء في سفر حزقيال: "وطلبت من بينهم رجلًا يبني جدارًا ويقف في الثغر أمامي عن الأرض لكيلا أخربها فلم أجد" (حز 22: 30). لقد جاء ربنا يسوع المسيح، الإنسان الكامل، الذي وقف في الثغرة يشفع في البشرية، وكما جاء في إشعياء: "فرأى أنه ليس شفيع، فخلصت ذراعه لنفسه وبره هو عضده" (إش 54: 16). يقول الرسول بولس: "وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبت مواعيد الآباء" (رو 15: 8).
الآن إذ يرفض الله شفاعة أنبيائه عن الشعب يقول: "أطرحهم أمامي فيخرجوا" [1]. إنها تقابل قول إيليا النبي وتلميذه إليشع: "حيّ هو الرب الذي أنا واقف أمامه" (1 مل 17: 1؛ 18: 15؛ 2 مل 3: 14؛ 5: 16)، حيث يعني وجودهما أمام الله الذي يهبهما حضرته كسّر قوتهما؛ يثبتهما ويهبهما حالة القيام بغير انطراح أو سقوط. أما هذا الشعب وقد ارتبط بآلهة غريبة، ووضع ثقته فيها، ومسرته في الشهوات الجسدية والرجاسات، فلا يستحق الوقوف بل يبقى مطروحًا بلا عون، ويُطرد من الحضرة الإلهية... "لأنه أية خلطة للبر والإثم؟! وأيّة شركة للنور مع الظلمة؟! وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟!" (2 كو 6: 14-15).
في القديم وهب الله شعبه الخروج ، لكي يخرجوا من عبودية فرعون منطلقين إلى الأرض التي تفيض عسلًا ولبنًا، حيث الشبع والحرية. الآن يطردهم من أمامه فيخرجوا ، لكنه خروج من حالة الحرية والشبع إلى العبودية لإبليس وشروره وإلى الفراغ.