الحمامة في سفر النشيد
لعلَّه من المُلفِت للانتباه أن أكثر سفر تكلَّم عن الحمام هو سفر نشيد الأنشاد، ومع أنَّه ذُكر فيه أنواع متعدِّدة من الطيور، إلاَّ أنَّ أكثر طائر تكرَّر ذكره هو الحمام!! حيث ذُكر ست مرَّات؛ مرَّة واحدة بالارتباط بالعريس (5: 12)، والذي يُكلِّمنا عن الرب تبارك اسمه، وخمس مرَّات بالارتباط بالعروس (1: 15؛ 2: 14؛ 4: 1؛ 5: 2؛ 6: 9)، والتي تُكلِّمنا نبويًّا عن العروس الأرضيَّة*.ولعلَّ السَّبب في ذلك أنَّ هذا السفر الفريد يُجسِّم لنا جو المحبَّة المتدفِّقة، ويُعبِّر عن العواطف الرَّاقية المرهفة. ولا نجد بين الطيور من يُصوِّر لنا هذه الأحاسيس الجميلة أكثر من الحمام! إنَّه حقًّا طائر المحبة، واللطف والوداعة والرقَّة. ألم يتَّخذه الربّ له كل المجد مثالاً للبساطة (مت10: 16)؟، وألم يُؤخذ تجسيمًا للأقنوم الإلهي؛ الروح القدس (لو3: 22)؟ من أجل ذلك لا عجب أن نرى للحمام مكانًا متميِّزًا في سفر المحبَّة والشركة.
وسوف نتوقَّف قليلاً أمام العبارات التي ذُكر فيها الحمام، لنتعرَّف على بعض المعاني الجميلة، والدروس المفيدة التي يُمكننا أن نجتنيها من هذا الطائر المحبوب، والذي يملأ بمنظره الجذَّاب جنبات هذا السفر الإلهي.
أوَّلاً: ما ذُكر عنه بالارتباط بالعروس:
«ها أنتِ جميلة يا حبيبتي، ها أنتِ جميلة. عيناكِ حمامتان» (نش1: 15)
«ها أنتِ جميلة يا حبيبتي، ها أنتِ جميلة. عيناكِ حمامتان من تحت نقابكِ» (نش4: 1)
كما ذكرنا أنَّ الحمام ذُكر بالارتباط بالعروس خمس مرَّات، مرّتين يُشير العريس إلى عيني عروسه، وثلاث مرَّات يُشير إليها هي نفسها. والعجيب أنَّه في الإشارتين عن عيني العروس يشيد العريس بجمال العروس، وفي كلّ عبارة يُكرِّر أنَّها جميلة مرّتين!!
فمن أين صار لها مثل هذا الجمال الأخَّاذ؟ هل هي في أصلها كذلك؟ الإجابة نجدها على فم العروس نفسها: «أنا سوداء ... كخيام قيدار». ثم تستطرد قائلة: «لا تنظرنَ إليَّ لكوني سوداء، لأنَّ الشمس قد لوَّحتني» (نش1: 5، 6). لقد شوّهتها الخطية، وتركت فيها آثارًا كريهة، وما عاد أحد ينظر إليها بعين التقدير والاعتبار، وانطبق عليها ما قاله الرب عنها في حزقيال16: 5 «لم تُشفق عليكِ عينٌ .. بل طُرحتِ على وجهِ الحقل بكراهة نفسكِ».
ولكن ما أعظم نعمة الله المغيِّرة في عملها غير المحدود، فإن قالت العروس عن نفسها إنها سوداء، إلاّ أنها تستطرد قائلة: «وجميلة»!! (نش1: 5). وكيف يمكن أن يكون ذلك؟ هذا ما نجده أيضًا في كلمات الرب لها في حزقيال16: 8-13«فمررتُ بكِ، وإذا زمنكِ زمن الحب»، وما أعظم ما فعلته المحبة معها، وما أروع النعمة التي تدفَّقت عليها، إذ يستكمل الربّ حديثه معها بالقول: «فبسطتُ ذيلي عليكِ .. وجملتِ جدًّا جدًّا فصلحتِ لمملكة».
ولكن لماذا يُشير العريس إلى عيني العروس بصفة خاصة وهو يتكلَّم عن جمالها؟ لا شكّ أن العينين لهما تأثير كبير لكل من ينظر إليهما، إذ أنَّهما تعكسان أوّل انطباع، وتعبران عن حالة الشخص حتى قبل أن يتكلَّم! فالعين إذًا تُشير إلى الفطنة والقدرة على التميِّيز، ولا سيَّما في الأمور الروحية.إنها نافذة على النفس وهي نافذة النفس على العالم.
لقد كنَّا قبلاً في حالة عمى روحي، وهذا ما يُعلنه الرسول بولس: «إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تُضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح» (2كو4: 4). ولكن الآن نقول مع الذي قال: «كنت أعمى والآن أُبصر» (يو9: 25). ولكن لماذا التشبيه هنا بالحمام بالذات؟ لأن الحمام يتميز بالوداعة والبساطة. وسوف نتوقف قليلاً لنعرف كيف يمكن لعيوننا أن تعكس هاتين الصفتين، وهذا ما سنراه في العدد القادم