12 - 04 - 2023, 03:21 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
خطب شعرية يلقيها أليهو
خدمة أليهو
لم يعد أحد على المسرح، فقد جلس أصدقاء أيوب الثلاثة على الأرض، ليس لديهم كلمة واحدة ينطقون بعد بها. ولم يعد أمام أيوب بعد دفاع أكثر مما نطق به، فصارت الحاجة إلى تدخل وسيط، وكان أليهو هو ذاك الوسيط الذي ظهر في هذه الأصحاحات.
تدخل أليهو
يتعجب بعض الدارسين لتدخل أليهو في النهاية، بدون مقدمات، ودون ذكرٍ له. فظن البعض أن الوحي الإلهي ألهم أحد رجال الله ليضع هذه الأصحاحات (32-37). لكن تدخل أليهو هنا طبيعي، فهو كشابٍ كان يليق به أن ينتظر حتى يُفرغ الشيوخ ما في جعبتهم، وهذا ما كان متبعًا في القديم، خاصة في الشرق الأوسط. لم يتدخل قبل ذلك، لأنه لم يرد أن يقاطع الشيوخ، كما أراد أن يتأنى ليرى ويدرس فكر كل شيخٍ أو فيلسوفٍ منهم، ويرى ما تسفر عنه هذه المناظرات في النهاية. كان أليهو يجيد الاستماع، ينصت إلى المباحثات والمناظرات بين الشيوخ، الآن يتقدم مستأذنًا أن يُعَّبر عن رأيه اللاهوتي في المشكلة.
غالبًا ما كان أيوب يختم حديثه في كل مرة مع أصدقائه بصرخةٍ موجهة إلى الله، والآن إذ كَّف الأصدقاء عن الحديث، بدأ يتدخل أليهو كاستجابة لصرخات قلب أيوب. فقد خدم أليهو كمن جاء سابقًا لوجه الرب، يُعد له الطريق، حيث يأتي الرب في الزوبعة (ص 38 إلخ).
قدم أليهو أربعة أحاديث: (أي 6:32-33: 33؛ 34: 1-37؛ 35: 1-16؛ 36: 1-37: 24)
ببدء حديثه يمكن القول إنه قد انتهى ليل المباحثات الطويل، وبدأ فجر يوم الحكمة يشرق ليبدد الظلمة. امتاز أليهو بإدراكه وتقديره لغنى نعمة الله التي لم ينشغل بها الشيوخ كثيرًا، لقد قدم شيئًا جديدًا ونافعًا.
سبب تدخل أليهو
العامل الرئيسي الذي دفع أليهو للكلام إدراكه أن أصدقاء أيوب قد فشلوا في الرد على تساؤلات أيوب بخصوص أحكام الله نحو الأبرار والأشرار في العالم، كما تطلعوا إلى قضية أيوب بمنظارٍ خاطئٍ، أو غير كاملٍ.
ومن جهة أخرى لام أليهو أيوب أنه وإن كان بارًا، غير أنه تطلع إلى الله كمن يعامله كعدوٍ. أنصت أليهو إلى صرخات أيوب طالبًا وسيطٍ للتدخل بين الله وبينه، ولعله ظن أنه قادر أن يقوم بهذا الدور، لكن أليهو لا يختلف عن أيوب، فإن كليهما مخلوقان من تراب، وكلاهما نفخ فيهما الله نسمة الحياة [1-7].
كان أليهو يود أن يدفع أيوب عن كبريائه ليمارس التوبة، فلا يموت في خطيته [17-18]. لعله أشار إلى أنه إن هدأ أيوب عن صرخاته، فسيقدم له الله رؤيا أو حلمًا يفسر له الأمر.
خصائص خطب اليهود
1. من خصائص خطابات أليهو وجود شعور عميق باحترام الله، هذا ووجهة نظره عن الخطية أعمق من التي ظهرت في خُطب الأصحاب الآخرين. وتلمح في أخلاقه الأدب والتواضع، كما يتحلى بالجراءة واحترام الآخرين غير أنه غير مُستعبد لأراء العامة, بل مُنقاد بالروح القدس. كان أليهو بمثابة رسول أرسله الرب لأيوب يحمل له البشارة الصحيحة عن خطة الله في التجارب، وظهور الله كمعلمٍ مصممٍ على قيادة الإنسان عن طريق التهذيب بالألم إلى طريق أكثر حكمة للحياة. لقد تكلم أليهو، وأظهر لأيوب أن تأديبات الله ليست بروقًا تظهر فجأة في الجو ولا نعلم مكان حدوثها, بل هي معاملات أبٍ حكيمٍ محبٍ، يهبنا فهمًا لإدراكها، حيث وضّح العهد الجديد إننا نؤدب الآن في الرب لكي لا نُدان مع العالم (1 كو 11: 32).
2. برز أليهو كوسيطٍ، ولكن شتان بينه وبين السيد المسيح كوسيطٍ للعهد الجديد. من حيث أليهو لم يحل اللغز كاملًا، لأنه مجرد رمز.
3. أوضح أليهو أنه يوجد سبب آخر للألم، ليس كعقابٍ للخطية، بل كوسيلة لتشجيع أولاد الله وتنقيتهم وتطهيرهم. وفي هذه الحالة لا يُعبر الألم عن غضب الله، بل يكون مجرد تأديب صادر من أبٍ محبٍ، بذلك مهد أليهو الطريق لمجيء ربنا يسوع.
4. يبين أليهو سبب سكوته بأن الأصحاب المتكلمين كانوا شيوخًا محترمين وهو صغير السن، لكنه تدخل وتكلم عندما فشل الأصحاب في الرد على شكوك ومخاوف أيوب، بالإضافة إلى احترام إعلانات الله التي يمكن أن تُكشف للشباب كما للشيوخ. فالسكوت الآن معناه احترام للناس أعظم من احترامه لإلهه.
5. يتحدى أليهو أيوب ليتكلم إذا كان عنده أي شيء يستحق أن يُقال (31-33)، وإن لم يستطع أن يقول كلام حكمة فليصغِ إليه، إذ يبدأ في تفنيد شكاوى أيوب.
تفنيد شكاوى أيوب
1. تفنيد شكوى أيوب الأولى: في ظن أليهو أن أيوب اشتكى من استبداد الله في أعماله، وإنه إله غير عادل في تصرفاته مع عدم مراعاة البرّ في معاملات الله له. يؤكد أليهو أن الله عادل، وأن الإنسان يحصد ما يزرع, سواء كان الزرع شرًا أو صلاحًا، وأن السلطان المطلق خاص بالله وحده، وهو أكبر من أن يدركه الإنسان (أي 12:33). إن علم الله الكامل يضمن عدله، وإنه يجري عدله لخير الناس (30). ثم يسأل أليهو أيوب: هل يجوز لأي إنسان أن يملي على الله نوع التأديب الذي يقع عليه؟ (31-32)
2. تفنيد شكوى أيوب الثانية: وهي إن البرّ لا يجلب منفعةً للبار, فلا يكون أفضل مما لو كان خاطئًا فاجرًا. إذا كان الله يظهر كأنه غير مكترثٍ بصراخ المتضايق (أي 9:35، 12). فهو لا يجهل الشر، والدعوة تأتي أمامه، وأنه يتدخل في عدلٍ. وعندما يتألم الأبرار ويصرخون إلى الله ولا ينالون فرحًا، فذلك لأنهم لا يطلبون الطلبة الصحيحة, يكونون مثل الحيوانات يصرخون لمجرد كونهم يتألمون، ينقصهم شعور الثقة والإيمان بحكم الله البار. لهذا لا يحصلون على جواب، لأنهم متكبرون، والله لا يسمع للباطل والمتكبر.
نظرة أليهو اللاهوتية
بعدما صحح أليهو ما ظنه خطأ في آراء أيوب، يبدي ما يظهر له أنه إدراك أصح لله، ويمكن أن يقسم إلى ثلاثة أقسام:
(1) عظمة الله بإظهار عنايته في معاملة الناس (أي 1:36-25)، مثل قوله إن الأشرار لا يثبتون، وأن الله لا يحول نظره عن الأبرار, وإنهم إذا كانوا يصابون فلأجل خيرهم لكي يكونوا مستعدين لقبول التعليم.
(2) تُظهر ظواهر الأفلاك العجيبة عظمة الله: وهي فقرة مليئة بجمال التعبير الأدبي (أي 26:36- أي 37: 13). وذلك مثل تكوين المطر, والرعد, والثلج, والجليد والغيوم.
(3) دعوة أيوب إلى التأمل جيدًا في كلمات الله العجيب (أي 14:37-24)، وأن ما يظهر ظلمًا من الله إنما نراه كذلك بسبب قصر نظرنا، ويمكن إصلاحه بالتقوى الحقيقية. ثم يعلن أليهو لأيوب الموقف الذي يجب أن يتخذه. "ادعُ الرب، فيستقبلك الرب. قل: أخطأت، وما أتبعت الوصية، ولكن الله لم يجازني حسب أعمالي، بل افتدى نفسي من الهبوط إلى الموت، فبقيت حيًا أبصر النور".
وحدة أحاديثه
مع ما اتسمت به أحاديث أليهو من وقفات كثيرة (أي 34: 1؛ 35: 1؛ 36: 1)، لكنها تمثل وحدة واحدة متكاملة.
1. اعتذاره بالحديث في مجلس للشيوخ (أي 32: 6-22).
2. إجابات لاهوتية عن شكوى أيوب (أي 33: 8-11؛ 34: 5-9؛ 35: 2-3؛ 36: 17 إلخ).
3. استعرض في إجاباته نعمة الله (أي 33: 12-33).
4. استعرض أيضًا برّ الله (أي 34: 10-36: 25).
5. أبرز أيضًا سلطان الله وقوته (أي 36: 26-37: 14).
ملاحظة
يتطلع البابا غريغوريوس (الكبير) إلى أليهو الشاب بكونه يمثل المعلمين أو الكارزين الذين لهم معرفة صادقة وإيمان مستقيم، لكنهم متكبرون. لهذا كثيرًا ما يفسر كلمات أليهو وتصرفاته من هذا المنظار. وهي وجهة نظر يرفضها بعض الآباء، وحرصًا على عدم تشتيت فكر القارئ آثرت عدم عرضها.
اَلأَصْحَاحُ الثَّانِي وَالثَّلاَثُونَ ليتحدث أيضًا الشاب!
لم يُذكر أليهو قبل ذلك ربما لأنه واحد من بين جمهورٍ كثيرٍ ممن أحاطوا بأيوب، لا عمل لهم سوى الاستماع للحوار الذي دار بين أيوب وأصحابه. أما ما شجعه على الحديث فهو سماعه أن الحكمة نازلة من عند الله، توهب للفتيان كما للشيوخ [6-10]. يرى كثير من الدارسين أن أليهو، وإن كان لم يقدم نقاطًا جديدة جديرة بالاستحقاق، لكنه تكلم بدافع جديد ورغبة في التمتع بالحق [21-22].
1. ظهور أليهو
فَكَفَّ هَؤُلاَءِ الرِّجَالُ الثَّلاَثَةُ عَنْ مُجَاوَبَةِ أَيُّوب،َ
لِكَوْنِهِ بَارًّا فِي عَيْنَيْ نَفْسِهِ [1].
توقف الأصدقاء الثلاثة عن الحديث، إما لأنهم رأوا الله نفسه يدافع عنه بكونه بارًا، أو لأن أيوب يحسب نفسه بارًا، فلا نفع من الحوار معه. والواقع الحقيقي أنهم فشلوا في تأكيد اتهاماتهم ضد أيوب لأنهم حملوا في قلوبهم وأفكارهم نية غير صادقة، فجاءت اتهاماتهم لا وزن لها.
"لكونه بارًا في عيني نفسه" جاء هذا النص في الترجمة السبعينية والسريانية والعربية القديمة والكلدانية "لكونه بارًا في أعينهم". فقد اقتنعوا أنه بار، وأن اتهاماتهم لا أساس لها.
جاء النص في ترجمة سيماخوس Symmachus "لكونه ظهر بارًا أكثر منهم".
في الأصحاحات السابقة رأينا أيوب لا ينكر أن له خطايا، وأنه كان يعترف بها، لكنه كان متألمًا لما حلّ به مما شوَّه صورته وأعثر أصدقاءه فيه.
لم يكن لديهم إجابة على هذا (أي على قول أيوب)، فصمت أيوب ليعطيهم الكلمة. ولما كان قد نال الشهادة من الله (أنه بلا لوم) أغلقوا أفواههم.
"لأن أيوب كان بارًا أمامهم"... لقد غيروا رأيهم السابق، إذ بحديثهم ضد أيوب يدينون الله. لاحظوا أنه في كلا الحالتين يوجد عدم تناسب. لقد دانوا أيوب كما الله أيضًا، وشهدوا ضد الاثنين. أما الله فلم يدافع عن نفسه، وإنما دافع عن أيوب، متجاهلًا الدفاع عن نفسه. فقد جذب الأنظار إليه (أي 1: 8)، كما قال أيضًا عن أيوب: "لم تقولوا الصواب عن عبدي" (راجع 42: 8). ففي هذا كله احتمل الله أقصى درجات الظلم.
الله في محبته لمؤمنيه يدافع عنهم، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. فيقول المرتل: "أصرخ إلى الله المحامي عني" (مز 57: 2). "الرب يحامي عني. يا رب رحمتك إلى الأبد، عن أعمال يديك لا تتخلَ" (مز 138: 8) أما عن الجماعة فقيل: "وأحامي عن هذه المدينة، لأخلصها من أجل نفسي، ومن أجل داود عبدي" (إش 37: 35؛ 38: 6؛ زك 9: 15).
في وسط اتهامات أقرب من لنا ترتفع أنظارنا إلى ربنا يسوع بكونه الحصن الذي نلجأ إليه، ملجأ خلاصنا، والمدافع عنا.
"صرت رجائي، وبرجًا في وجه العدو" (مز 61: 3). يقول: قلبي ثائر، فقد اتحدوا معًا من أقصى الأرض، وصرت أعاني وسط التجارب والهجوم... داخل الكنيسة تعاني الحنطة من عنف القش. وسط كل هذه الأمور، إذ يضطرب قلبي أصرخ من أقاصي الأرض.. المسيح نفسه هو البرج. يجعل نفسه برجًا من وجه العدو، وهو أيضًا الصخرة التي تُبني عليها الكنيسة. أتريدون ألا تُضربوا من الشيطان؟ اهربوا إلى البرج. لن يمكن لسهام الشيطان أن تتعبكم في ذلك البرج. هناك تحتمون وتثبتون... البرج أمامكم. استدعوا المسيح في أذهانكم، وادخلوا البرج!
فَحَمِيَ غَضَبُ أَلِيهُوَ بْنِ بَرَخْئِيلَ الْبُوزِيِّ مِنْ عَشِيرَةِ رَامٍ.
عَلَى أَيُّوبَ حَمِيَ غَضَبُهُ،
لأنَّهُ حَسَبَ نَفْسَهُ أَبَرَّ مِنَ اللهِ [2].
"أليهو" اسم عبري معناه "إلهي هو"،
يشير بالغضب هنا إلى انفعاله الداخلي وغيرته العظيمة للدفاع عن عدل الله وبرَّه ورعايته.
"على أيوب حميي غضبه، لأنه حسب نفسه بارًا أمام الله" [2]. غضب أليهو، ليس لأن أيوب أعلن أنه بار، وإنما لأنه فعل هذا أمام الرب، حيث حسب الله شاهدًا، أو ظن بأن أيوب أراد أن يدين الله. فتبريره لنفسه لم يكن بذي أهمية، وإنما أن يفعل ذلك بقصد إدانة الله، فهذا خطأ. يقول الكتاب: لا تبرر نفسك أمام الرب" (سيراخ 7: 5)...
هل هذا حدث؟ لم يكن فكر أيوب هكذا. أليهو هو الذي فهمه بهذه الطريقة، أما أيوب فلم يقل إنه أبرّ من الله، بل بالحري كانت فكرته أن الله هو المسئول عن نكباته. مع هذا لم يسئ إلى الله متهمًا إياه بالظلم، إنما هذا ما فهمه أليهو.
"أَلِيهُوَ" أو "الله هو يهوه". جاء اسمه وشخصيته يعلنان عن دوره كرسولٍ بين الله وأيوب، يهيئ الأخير ليتمتع برؤية الله القادم في الزوبعة. حمل ظلًا للوسيط الحقيقي ربنا يسوع (أي 33: 23-26).
برخئيل: تعني "الله يبارك"، وقد أشار اسم أليهو واسم والده أن هذه العائلة اتسمت بالتقوى، ولم تمارس العبادة الوثنية.
البوزي: كان بوز الابن الثاني لناحور، أخ إبراهيم (تك 22: 21)، وقد دُعيت هذه المنطقة في الصحراء العربية على اسمه، ورد اسم مدينة بوز في (إر 25: 23)؛ ربما أخذت اسمها عن العائلة.
ويرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن كلمة "بوزي" تُترجم "خسيس".
يرى بعض الربيين والقديس جيروم أن أليهو هو بلعام بن بعور.
ويرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن أليهو كمثل للكارزين المتكبرين يقدم لنا تفسيرًا لاسمه واسم والده واسم عشيرته، فإنهم وإن كانوا لا يعيشون حسب وصايا الرب، إلا أنهم يعرفون الله أنه ربهم. وإذ يتمتعون ببركة النعمة الإلهية في بلاغة حديثهم، لكن في سلوكهم المتكبر يظهرون أنهم محتقرون
ويرى Dr. Hodges أن أليهو هو إحدى ظهورات الأقنوم الثاني، وأن غاية السفر كله التركيز على شخص أليهو، وإبراز دوره في إقناع أيوب أن تبريره لا يقوم على اعتداده بأعماله الصالحة وتمسكه ببِّره الذاتي، وإنما بالإيمان بالقادر أن يبرر.
ليس من بين آباء الكنيسة من نادى بهذا الرأي، لكن يمكن القول أنه كان رمزًا للسيد المسيح القادم لتحقيق الوساطة والمصالحة، فيبرر المؤمنين السالكين فيه بالروح والحق.
رام: رام - آرام هو ابن أخ بوز، ولعل أيوب كان من جيل سابق لأليهو، إذ كان يكبره في السن. ويرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن كلمة أن "رام" معناها "مرتفع". المؤمنون الحقيقيون مرتفعون، إذ يمكنهم أن يقولوا مع الرسول بولس: "فإن محادثتنا نحن هي في السماوات" (في 3: 20).
"لأنه حسب نفسه أبرّ من الله"، لعله يقصد "لأنه حسب نفسه بارًا أمام الله". جاءت الترجمة الحرفية: "برّر نفسه his soul أمام الله". لقد دافع لا عن سلوكه فحسب، وإنما أيضًا عن أفكاره ودوافعه الداخلية.
اختلف أليهو عن الأصدقاء الثلاثة من جهة نية الطرفين، إذ لم يحمل أليهو حقدًا أو حسدًا من جهة أيوب مثل هؤلاء الأصدقاء. ومن جانب آخر لم يتهمه بأنه مرتكب شرور خفية خطيرة أو أنه مرائي، إنما ما انتقده فيه، أنه في حديثه لم يبرر الله، بل ما كان يشغله هو تبرير نفسه أمام الله كما أمام الناس حتى وإن كان خشيه أن يتعثروا فيه كرجل الله.
وَعَلَى أَصْحَابِهِ الثَّلاَثَةِ حَمِيَ غَضَبُهُ،
لأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا جَوَابًا،
وَاسْتَذْنَبُوا أَيُّوبَ [3].
لقد أدانوا أيوب، لكنهم عجزوا عن الإجابة على حججه بصفة عامة، وفي تبريره لنفسه. حقًا لقد جلسوا صامتين، لكنهم لم يغيروا أفكارهم من جهته، وفي نفس الوقت فشلوا في الرد عليه.
ما أخطأ فيه أصدقاء أيوب هو عدم تمتعهم بروح الحنو مع إنسانٍ مُجرب متألم مثل أيوب. لقد اتهموه بالرياء وأنه شرير، ومع عجزهم عن إثبات ذلك لم يريدوا أن يتراجعوا. لقد بلغوا إلى النتيجة والحكم على إنسان مقدمًا قبل محاورته، ولم يكن في حوارهم هدف سوى تحطيمه تمامًا.
لعل من سمات أليهو الرائعة، أنه وقد امتلأ قلبه حنوًا على أيوب، لكنه كوسيطٍ بين الطرفين، لم يأخذ موقف المحاباة لأيوب على حساب أصدقائه، بل برقةٍ وتعقلٍ أبرز خطأ الطرفين. لقد بدأ بأيوب حتى يعطي للأصدقاء الفرصة أن يقبلوا كلماته بجديةٍ،ٍ ويعيدوا تقييم حوارهم مع أيوب.
وَكَانَ أَلِيهُو قَدْ صَبِرَ عَلَى أَيُّوبَ بِالْكَلاَمِ،
لأَنَّهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُ أَيَّامًا [4].
انتظر أليهو حتى صمت الشيوخ وتوقفوا عن الكلام. بانتظاره أظهر حكمة الشيوخ وهو شاب؛ فقد صمت حين تكلموا، ليس لأنهم كانوا أحكم منه، وإنما لأنهم كانوا أكبر منه سنًا. التزم بالترتيب الحسن والتدبير اللائق، وعندما صمتوا عن فشلٍ مع إصرار على ما في فكرهم تكلم بروح الحق في جرأة مع تعقل. وقد أوصى الكتاب المقدس بتكريم الشيوخ، ولكن في الرب:
"لا تهن أحدًا في شيخوخته، فإن الذين يشيخون هم منا" (سيراخ 8: 7).
"لا تزجر شيخًا، بل عظه كأبٍ، والأحداث كإخوة" (1 تي 5: 1).
لا تقبل شكاية على شيخٍ، إلا على شاهدين أو ثلاثة شهود" (1 تي 5: 19).
فَلَمَّا رَأَى أَلِيهُو أَنَّهُ لاَ جَوَابَ فِي أَفْوَاهِ الرِّجَالِ الثَّلاَثَةِ،
حَمِيَ غَضَبُهُ [5].
غار أليهو على الرب، فقد أخطأ أيوب بعدم تسليمه الأمر لله، حاسبًا أن ظلمًا قد وقع عليه. واعتبر أليهو صمت الشيوخ الثلاثة نوعًا من الرضًا والموافقة على رأي أيوب لذا غار على مجد الرب وحكمته.
2. التزامه بالتدخل
فَقَالَ أَلِيهُو بْنُ بَرَخْئِيلَ الْبُوزِيُّ:
أَنَا صَغِيرٌ فِي الأَيَّامِ، وَأَنْتُمْ شُيُوخٌ،
لأَجْلِ ذَلِكَ خِفْتُ، وَخَشِيتُ أَنْ أُبْدِيَ لَكُمْ رَأْيِيِ [6].
في العصور القديمة، خاصة في منطقة أسيا، لم يكن يُسمح للصغار الدخول في الحوار مع من هم أكبر سنًا، بل وأحيانًا يلتزم الصغير بالصمت قدر المستطاع في أي موضوع.
قوله: "أنا صغير في الأيام"، هو اصطلاح يشير إلى وجود فارق في السن، أيا كان قدره، كما قد يشير إلى أنه أقل منهم خبرة عبر الأيام لصغر سنه، لكنه لا يعني أقل منهم في الحكمة.
قُلْتُ: الأَيَّامُ تَتَكَلَّمُ،
وَكَثْرَةُ السِّنِينَ تُظْهِرُ حِكْمَةً [7].
يرى أليهو أن الحكمة لا تتوقف على خبرة السنوات المجردة. يمكننا أن نميز بين ثلاثة أنواع من الحكمة:
الحكمة المكتسبة خلال خبرة الحياة، هذه تنمو مع السنوات، يعتز بها الشيوخ.
والحكمة كهبة طبيعية قدمها لله للإنسان بوجه عام، إذ وهبهم العقل بالطبيعة (ع 8). وكثيرًا ما يكون بعض أبنائنا أكثر منا حكمة وذكاءً، وإن كانوا لا يتمتعون بذات خبرتنا.
وأخيرًا الحكمة عطية روح الله، يقدمها لأتقيائه.
مع اعتزازنا بالنوعين الأولين من الحكمة وتقديرنا لهما، لكن تبقى حكمة الله الفائقة هي موضوع طلبنا المستمر من الله. "هب لي الحكمة الجالسة معك إلى عرشك، ولا تنبذني من بين أبنائك" (حك 9: 4).
* كل هذه الحكمة والتعقل يوجدان في المسيح، وبالمسيح نفهم الله (الآب) ونراه، فما يتبقى من حكمة في العالم، وأية حكمة من هذا النوع خارج المسيح وبدونه تُحسب أمرًا فارغًا بلا قيمة ودنيئًا.
* يقول سليمان في الجامعة إن عيني الحكيم في الرأس (جا 2: 14). أدرك بولس أهمية الرئاسة. لقد عرف لماذا توجد العينان في الرأس. إن كان المسيح هو رأس المؤمن، وعينا الحكيم في الرأس، فستكون كل حواسنا وعقلنا وفكرنا وحديثنا ومشورتنا (إن كان حكماء) هي في المسيح.
وَلَكِنَّ فِي النَّاسِ رُوحًا،
وَنَسَمَةُ الْقَدِيرِ تُعَقِّلُهُمْ [8].
يُترجم النص العبري حرفيًا "الروح نفسه"، فيعني أن الإنسان يوهب له الروح واهب الحكمة، أو روح الإلهام. سبق فكّرم أليهو الشيوخ من أجل خبرتهم، الآن يبرز أن الحكمة هي عطية الله، يُمكن أن يتمتع بها الشيخ كما الشاب. الحكمة الحقيقية وإن لم تتجاهل الخبرة عبر الحياة، لكنها أساسًا هي إلهام من القدير، أو نسمة من القدير "نشمة شاداي nishmat Shaday".
يرى البعض أن كلمة "روح" هنا تشير إلى النسمة التي وهبها الله للإنسان (تك 2: 7)، فتعطيه فهمًا.
لَيْسَ الْكَثِيرُو الأَيَّامِ حُكَمَاءَ،
وَلاَ الشُّيُوخُ يَفْهَمُونَ الْحَقَّ [9].
مع كثرة الأيام قد ينال الإنسان خبرات نافعة سواء في حياته أو في حياة الآخرين يلتقي بهم ويتعامل معهم، وأيضًا قد يجمع الكثير من الأمثال المملوءة حكمة، ويحفظ بعضها عن ظهر قلب، ومع هذا قد لا يمارس الحكمة، ولا يتمتع بروح التمييز والفهم.
هذه هي الحجة التي يبرر بها أليهو موقفه أنه اقتحم الموقف ليتحدث بين شيوخ، ويشير إليهم ببعض الأحكام والنصائح، بل ويوبخهم.
يرى البعض أنه يتحدث عن الحكمة الموهوبة من الله، إذ قدم للإنسان نسمة حياة عاقلة. "يرجع التراب إلى الأرض كما كان، وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها" (جا 12: 7). "يقول الرب باسط السماوات ومؤسس الأرض، وجابل روح الإنسان في داخله" (زك 12: 1).
لِذَلِكَ قُلْتُ اسْمَعُونِي.
أَنَا أَيْضًا أُبْدِي رَأْيِيِ [10].
يطلب أليهو من الشيوخ ألاَّ يحتقروه بسبب صغر سنه، إنما عليهم أن يسمعوه أولًا وعندئذ يفحصوا كلماته.
يليق بنا ألاَّ نستخف بمن هم أصغر منا سنًا، بل ننصت إليهم، يقول الحكيم: "ولد فقير وحكيم، خير من ملك شيخ وجاهل" (جا 4: 13).
3. بصبرٍ احتمل ما سبق فقالوه
هَأَنَذَا قَدْ صَبِرْتُ لِكَلاَمِكُم.
أَصْغَيْتُ إِلَى حُجَجِكُمْ،
حَتَّى فَحَصْتُمُ الأَقْوَالَ [11].
كأنه يقول لهم: "كنت أنصت إلى كلامكم، وأصغي إلى حججكم، فوجدتكم محبين للجدال، تبحثون عن كلمات مجردة من هنا وهناك، ولم يشغلكم في الأمر سوى وجود كلمات أيا كانت لتحقيق ما في داخلكم من نحو أيوب، لا أن تتلامسوا مع الحق، وتقدموا حبًا. وهو بهذا يتهمكم على أسلوبكم في الحوار. فهو أسلوب من يريد أن يغلب ويتفوق بالكلمات، لا من يبني نفسه والآخرين. ما كان يشغلهم في كل حوارهم أن ينازعوا أيوب، وها هم قد فشلوا في نزاعهم العقيم.
* عندما تلتقي بإنسان محب للمجادلات، ويبدأ يجادل معك فيما هو بديهي وحق، اقطع الحديث وانسحب سريعًا، إذ تَحوَّل ذهنه إلى حجر.
فكما أن الماء يفسد أجود أنواع الخمور، هكذا المناقشات الغبية تفسد الفضلاء في السيرة وفي طباعهم.
* اهرب دائمًا من كل إنسان لا يكفّ عن المجادلة في حديثه.
* إذا ابتعدَت النفس من كل مناقشةٍ وتشويشٍ واضطرابٍ؛ فإنّ روح الله يدخل فيها وتلك التي كانت عاقرًا تصير مثمرة.
فَتَأَمَّلْتُ فِيكُمْ، وَإِذْ لَيْسَ مَنْ حَجَّ أَيُّوبَ،
وَلاَ جَوَابَ مِنْكُمْ لِكَلاَمِهِ [12].
أوضح فشلهم في الحوار، فقد عجزوا عن إقناع فكر أيوب وتغييره، كما فشلوا في تقديم إجابات مقنعة على أسئلته. لقد نطقوا بكمٍ هائل من الكلمات، عجزت عن إزالة ما في فكر أيوب.
فَلاَ تَقُولُوا: قَدْ وَجَدْنَا حِكْمَةً.
اللهُ يَغْلِبُهُ لاَ الإِنْسَانُ [13].
هنا يبرز أليهو ما وراء حوارهم ومناقشاتهم، فقد ظنوا في أنفسهم أنهم قادرون على إقناعه بحكمتهم الخاصة، مع أن الإنسان يحتاج إلى إقناع داخلي صادر عن الله، الذي وحده يغلب الفكر ويُخضعه، الأمر الذي يعجز عنه الإنسان مهما كانت قدراته اللغوية والفلسفية.
لم يسمح الله لهم بالنصرة في حوارهم حتى لا يعتدوا بحكمتهم الذاتية.
4. أعماقه تدفعه للتدخل
فَإِنَّهُ لَمْ يُوَجِّهْ إِلَيَّ كَلاَمَهُ،
وَلاَ أَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَا بِكَلاَمِكُمْ [14].
يقول أليهو: "إنني لست طرفًا في الحوار، فإن أيوب لم ينطق بكلمة واحدة ضدي، لهذا فإن حديثي لا يحمل انفعالات، أو يصدر عن إثارة داخلية، إنما ينبع عن الرغبة في الحق. وفي نفس الوقت سوف لا أتحدث معه بأسلوبكم المملوء عنفًا وجفاءً، فحمل غباوة خرجت من أفواهكم. هكذا دون محاباة، وفي غير تحيز أتكلم معه وأيضًا معكم".
تَحَيَّرُوا.
لَمْ يُجِيبُوا بَعْدُ.
انْتَزَعَ عَنْهُمُ الْكَلاَمُ [15].
يبدو أنه تحول بنظره إلى الحاضرين، وبدأ يتحدث معهم عن موقف الأصدقاء الثلاثة، حيث صاروا في حيرة، لم يستطيعوا أن يجيبوا بكلمة، فقد شعروا بأن كلماتهم لغو لا قيمة لها.
يرى Good أن الحديث هنا لا عن الأصدقاء، بل عن كلماتهم التي لم تعد تحمل أية فاعلية، تخرج من أفواههم لتتبدد في الهواء، لا تحمل أي معني؛ لا تقدم شيئًا جديدًا.
فَانْتَظَرْت،ُ لأَنَّهُمْ لَمْ يَتَكَلَّمُوا.
لأَنَّهُمْ وَقَفُوا لَمْ يُجِيبُوا بَعْدُ [16].
يقول أليهو أنه ينتظر من الأصدقاء أن ينطقوا بكلمة، ويجيبوا على أيوب، وإذ صاروا بُكم، تقدم هو ليتكلم.
يرى البابا غريغوريوس (الكبير)في أصدقاء أيوب رمزًا للهراطقة الذين يثيرون مجادلات كثيرة، يتهمون الكنيسة ويقاومونها، لكنهم في النهاية يسند الرب كنيسته ويُبكم الهراطقة.
فَأُجِيبُ أَنَا أَيْضًا حِصَّتِي،
وَأُبْدِي أَنَا أَيْضًا رَأْيِيِ [17].
قد حان الوقت ليأتي دور أليهو. الآن صار كمن ينال نصيبه، بأن يكشف عن المعرفة التي كتمها طوال الحوار الذي دار بين أيوب والأصدقاء. حسب هذا نصيبه الذي صار له كعطية لطيفة مقدمة له.
يرى البعض أن قوله: "وأبدي أنا أيضًا رأيي" في الأصل العبري يحمل مسحة من الرقةٍ والتواضعٍ، لا تظهر بوضوح في الترجمات إلى اللغات الأخرى. كأنه يقول: "حتى أنا الصغير، إنسان متواضع مثلي، يُسمح له أن يعبر عن آرائه، بينما لم يعد لدى الشيوخ والعظماء ما ينطقون به".
لأَنِّي مَلآنٌ أَقْوَالًا.
رُوحُ بَاطِنِي تُضَايِقُنِي [18].
يحمل المؤمن الحقيقي روحًا نارية، متشبهًا بالله النار الآكلة، أو نار حب لا تُطفأ (خر 24: 7؛ تث 4: 24؛ عب 12: 29)، فيصير كأحد خدام الله الذين قيل عنهم: "خدامه لهيب نار" (عب 1: 7).
يحمل المؤمن كلمة الله - نار الحب المتقد - فيصير كمعلمنا بولس الرسول إذ كان "منحصرًا بالروح" (أع 18: 5)، مملوء غيرة روحية متفدة، يقول: "فإني أغار عليكم غيرة اللَّه، لأني خطبتكم لرجلٍ واحدٍ، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 1).ويصرخ مع إرميا النبي: "أحشائي، أحشائي، توجعني جدران قلبي، لا أستطيع السكوت" (إر 4: 19)، "فقلت لا أذكره، ولا أنطق بعد باسمه، فكان في قلبي كنارٍ محرقة، محصورة في عظامي، فمللت من الإمساك ولم أستطع" (إر 20: 9).
هكذا شعر أليهو كمن يحصره روح الله، ويلهب نيران حبه نحو أيوب كما نحو أصدقائه وجميع الحاضرين، يطلب في غيرة متفدة من أعماقه ما هو لبنيانهم ومجدهم الأبدي.
لقد صمت الأصدقاء الثلاثة ولم يجدوا كلمة ينطقون بها، لأنهم افرغوا الكلمات الصادرة عن حسدهم لأيوب، وصاروا كمن قاموا بتفريغ ما في جعبتهم، أما أليهو الذي صمت إلى حين، ففي داخله كلمات حب لا تفرغ، يود أن يتكلم لا كمن يشتهي التعليم، ولا من كرسي السلطة، ولكن من موقع الحب والحنو على الجميع، تفيض كلماته من أحشائه، أو كما يقول: "روح باطني".
* يستخدم بولس هنا كلمة أقوى بكثير من "الحب" المجرد. فالنفوس الغيورة تلتهب بحماس من جهة المحبوبين لها. الغيرة تفترض عاطفة قوية. لذلك فلكي لا يظنوا أن بولس يطلب سلطة أو ثروة أو كرامة يضيف أن غيرته إلهية. فقد قيل عن الله إنه غيور، ليس بطريقٍ بشريٍ، وإنما لكي يعرف كل واحدٍ حقه في السيادة على مَن يحبهم، وأن ما يفعله هو من أجل نفعهم المتزايد.
تقوم الغيرة البشرية أساسًا على الأنانية، أما الغيرة الإلهية فهي قوية ونقية.
لاحظ الفارق بين العروس البشرية والكنيسة. ففي العالم المرأة العذراء قبل الزواج تفقد بتوليتها بزواجها. أما في الكنيسة فإن الذين كانوا بتوليين إلى حدٍ ما قبل رجوعهم إلى المسيح يتمتعون بالبتولية فيه. لذلك فإن الكنيسة كلها عذراء.
* يقال أيضًا عن الله أنه غيور، فلا يظن أحد أن (اللاهوت) به هوى، وإنما لكي يعرف الكل أنه يفعل كل شيء ليس إلا من أجلهم هؤلاء الذين يغير عليهم، لا ليقتني شيئًا بل لكي يخلصهم.
هُوَذَا بَطْنِي كَخَمْرٍ لَمْ تُفْتَحْ.
كَالزِّقَاقِ الْجَدِيدَةِ يَكَادُ يَنْشَقُّ [19].
إذ قدم أليهو عذرًا أنه يتكلم في حضرة الشيوخ دخل في مناجاة مع نفسه، بأنه قد امتلأ داخله بغيرةٍ متقدةٍ، حتى كادت نفسه تنفجر كالزقاق الجديد المملوء خمرًا، أو كمنفاخٍ حدٌَاد مملوء هواءً. في مناجاته يعلن أنه لا يحابي أحدًا، ولا يتملق إنسانًا!
جاءت أحاديث أليهو ليس كمن يطلب إجابة على تساؤلات أو على اتهامات، وإنما كمن ينظر إلى المشكلة بنظرة عامة، ليهيئ الطريق للحوار بين الله وأيوب.
يمكننا تفسير كلمات أليهو رمزيًا، فالبطن تشير إلى أعماق القلب، والخمر الجديدة إلى الروح، كقول السيد المسيح أن تُوضع خمر جديدة في زقاقٍ جديدٍ (مت 17:9). فإذ امتلأ التلاميذ بالروح القدس الذي حلّ عليهم في يوم الخمسين، صاروا كزقاقٍ جديدٍ مملوءة خمرًا جديدة، فانطلقت ألسنتهم تنطق حسب الروح. وإذ لم يدرك اليهود الحق الإلهي اتهموا التلاميذ أنهم مملؤون سلافة كسكرى (أع 4:2).
أَتَكَلَّمُ فَأُفْرَجُ.
أَفْتَحُ شَفَتَيَّ وَأُجِيبُ [20].
لم يستطع أليهو أن يحتفظ بالصمت، فانفجر بالحديث حتى تستريح نفسه. هذا ما جدث مع إرميا النبي المملوء بالحنو الشديد نحو شعب الله، كيف اشتهى أن يصمت لكن نيران حبه ولهيب كلمة الله التي في أعماقه، ألزماه بالكلام.
لست أظن أننا نلوم أليهو على موقفه، بل نتعلم منه متى نصمت ومتى نتكلم، وكما يقول الحكيم: "للسكوت وقت، وللتكلم وقت" (جا 3: 7).
* العاقل هو من يسعى في إرضاء الله ويُكثر من الصمت، وإن تكلم يتكلم قليلًا، ينطق بما هو ضروري ومرضي لله.
* في الصمت ترى عقلك، ولكن عندما تستخدم عقلك فإنك تتكلم في داخل نفسك. لأنه أثناء الصمت يلد العقل الكلمة، وكلمة الشكر التي تُقدم لله هي خلاص الإنسان.
* من يتكلم بغباءٍ ليس له عقل، إذ يتكلم دون أن يفكر في كل الأمور. لذلك امتحن ما هو مفيد لك، لأجل خلاص نفسك، لكي تفعله.
القديس أنبا أنطونيوس الكبير
لاَ أُحَابِيَنَّ وَجْهَ رَجُلٍ،
وَلاَ أَتَمَلَّقُ إِنْسَانًا [21].
كأنه يقول: "أتوسل إليكم، دعوني ألاَّ أحابي إنسانًا من أجل شخصه، ولا أداهن الناس من أجل ألقابهم". هذا ليس حديثًا موجه إلى الحاضرين، ولا صلاة يقدمها لله، لكنه تعبير يكشف عن تصميم قلبه أن يتكلم بروح الحق، دون محاباة للوجوه، ولا مداهنة لأحدٍ أيا كان مركزه أو إمكانياته. يود أن ينطق بالحق دون خوف أو مجاملة أو نفع شخصي له.
"هذه أيضًا للحكماء محاباة الوجوه في الحكم ليست صالحة" (أم 24: 23).
"محاباة الوجوه ليست صالحة، فيذنب الإنسان لأجل كسرة خبز" (أم 28: 21).
"وأنتم أيها السادة افعلوا لهم هذه الأمور، تاركين التهديد عالمين أن سيدكم أنتم أيضًا في السماوات وليس عنده محاباة" (أف 6: 9).
"وأما الظالم فسينال ما ظلم به وليس محاباة" (كو 3: 25).
"أناشدك أمام الله والرب يسوع المسيح والملائكة المختارين أن تحفظ هذا بدون غرض ولا تعمل شيئًا بمحاباة (1 تي 5: 21).
"يا إخوتي لا يكن لكم إيمان ربنا يسوع المسيح رب المجد في المحاباة" (يع 2: 1).
"وإن كنتم تدعون آبا الذي يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحد، فسيروا زمان غربتكم بخوف" (1 بط 1: 17).
"لأن ليس عند الله محاباة" (رو 2: 11).
"ليس عند الرب إلهنا ظلم ولا محاباة ولا ارتشاء" (2 أي 19: 7).
إذ أرسل الله ابنه الوحيد من أجل محبته للعالم كله بلا محاباة، وبذله لأجلنا أجمعين، نتلمس عدم محاباة الله. هذا وبكوننا أعضاء في جسد المسيح محب البشرية يليق بنا ألا يكون لنا محاباة. فمن جهة عدم محاباة الله قيل:
* الله ليس عنده محاباة من جهة الأشخاص، أنه يحكم بالأعمال.
* إن كان أحد يشك في هذا يكفيه أن يقرأ ما قاله بطرس عند زيارته للأممي كرينيلوس: "بالحق أنا أجد أن الله لا يقبل الوجوه، بل في كل أمةٍ الذي يتقيه ويصنع البرّ مقبول عنده" (أع 1: 34-35). نذهب إلى أبعد من هذا ونقتبس ما يقوله ربنا في الإنجيل: "الذي لا يؤمن به قد دين، لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد" (يو 3: 18).
* جميعًا وُلدنا متساوين، أباطرة ومعدمين، ونموت متساوين. بشريتنا متساوية.
يقدم لنا سليمان الحكيم نفسه مثلًا حيًا في عدم المحاباة، حيث يتطلع إلى نفسه كملكٍ ذي غني عظيم وكرامةٍ لا يختلف في شيءٍ عن أي إنسان معدم.
"إني أنا أيضًا إنسان قابل للموت، مساوٍ لجميع الناس، مُتَّحّدِّرٌ من أولِ من جُبِلَ من الأرض، وقد صُوِّرتُ جسدًا في بطن أمٍّ، وفي مُدة عشرةِ أشهرٍ تكوَّنتُ في الدم، من زرع رجلٍ. ومن اللذة التي تصاحب النوم" (الحكمة 7: 1-2).
لأَنِّي لاَ أَعْرِفُ التَّمَلُّقُ.
لأَنَّهُ عَنْ قَلِيلٍ يَأْخُذُنِي صَانِعِي [22].
دفاعه عن أيوب ليس صادرًا عن محاباة أو مداهنة، ولا لطلب نفعٍ خاصٍ به، فإنه لم يعد لدى أيوب من سلطةٍ أو إمكانيات حتى يداهنه أليهو، وإنما يدافع عمن هو في وسط المزبلة، وإن كان في دفاعه يشير إلى خطأ أيوب الذي مع برِّه حين أتهم انشغل تمامًا بالدفاع عن نفسه، حتى على حساب تأكيد رعاية الله له وحنوه عليه.
كان أليهو يتمتع بالشعور بالحضرة الإلهية، فلا يخشى إنسانًا ما، الأمر الذي يسقط في شباكه كثيرون، كقول الحكيم: "خشية الإنسان تضع شركًا، والمتكل على الرب يُرفع" (أم 29: 25). ما كان يشغل قلب أليهو هو شعوره بسرعة مجيء الرب، حيث يُحمل من هذا العالم ويقف أمامه، ويعطي حسابًا عن كل ما في قلبه وفكره كما عن سلوكه، وذلك أمام الخالق العارف بكل أسرار الإنسان، ولا يُخفى عليه شيء.
هذا ما كان يدفعه للصمت ليسمع ويدرس في تأني، وهو ما يدفعه للكلام ليُقدم الحق في بساطةٍ وبدون تنميقٍ.
هنا يدعو الله: "صانعي"، فهو الله الخالق المُهتم به شخصيًا، والعارف بأعماقه. هو إله الحق، وهو الحب، يقدم الحق لمؤمنيه، ويكشف لهم عنه أكثر فأكثر، ويسندهم لينطقوا بالحق، ويسلكوا فيه.
هكذا يختم أليهو مقدمة حديثة الطويلة بتأكيد أنه لا يتملق أحدًا، ولا يحابي أصحاب الألقاب، إنما يقدم الحق في بساطة من أجل صانعه الذي يقف أمامه في يوم الرب العظيم.
من وحي أيوب 32
ليلتهب قلبي بنار كلمتك، فأنطق بحقك!
* إلهي، يا من وهبني فكرًا ولسانًا!
قدس أعماقي وكلماتي وتصرفاتي.
أعرف كيف أصمت بلساني،
فيتكلم قلبي بالحب لك، ولكل البشرية.
تئن نفسي مع أنات كل قلبٍ.
وتصرخ أعماقي مع صرخات كل مظلومٍ.
تسمع صرخات نفسي الصاعدة إلى عرشك!
* هب ليّ أن أتكلم في حين حسن،
أنطق بما تهبني من كلمات،
فلا أخاف إنسانًا،
ولا أتملق غنيًا أو صاحب سلطان.
هب ليّ الحكمة الجالسة إلى عرشك،
فأنطق بكلمتك، محفوظًا بحكمتك.
* وهبتني نسمة من عندك،
لكي تتقبل حكمتك، وتسلك بروحك القدوس.
أغير على خلاص كل نفسٍ،
وأشتهي أن تتمجد في كل إنسانٍ،
لكنني في غيرتي لا أتكل على خبرتي المجردة،
ولا تشغلني سنين عمري مهما طالت أو قصرت.
إنما أحملك في داخلي،
لتتكلم أنت بي، وتعمل بروحك فيّ وفي إخوتي!
من يقدر أن يجدد حياتي سواك؟
من يقدر أن يُصلح فكر إخوتي إلاَّ روحك؟
* أعماقي تئن من أجل كل نفسٍ تائهةٍ،
أحشائي توجعني،
ذاب قلبي كالشمع من أجل كل البشرية!
لأتكلم، بل تتكلم أنت فيّ وبي.
أنطق بكلمتك، فتستريح نفسي، وتتعزى بك!
لأتكلم، منتظرًا انطلاقي إليك!
أدخل إلى الأحضان الإلهية،
وتُسر نفسي من أجل كل الذين يتمتعون بالأمجاد!
نعم، تعال أيها الرب يسوع!
تعال، لتحمل كل مؤمنٍ إلى أمجادك!
قلوبنا لن تتوقف عن شهوة مجيئك!
|