رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
حجى والعقبات أمام بناء بيت اللّه عاد الرعيل الأول من السبى ، وكانت رغبتهم الأولى بناء بيت اللّه ، ولعلهم كانوا جذوة ملتهبة من الحماس والرغبة فى أن يروا هذا البيت قائماً فى أسرع وقت ، ولكن العقبة تلو العقبة ظهرت أمامهم فى الطريق ، إذا بالجذوة تنطفئ ، وإذا بهم ينصرفون عن العمل ، وتنقضى ستة عشر عاماً بعد وضع حجر الأساس دون أن يحركوا ساكناً،... وانتهوا - كما ذكر حجى - إلى أن الوقت لم يحن لبناء هذا البيت ، وربما يكون مفيداً جداً أن نقف من هذه العقبات التى تتكرر كثيراً ، وبصورة مشابهة عند إقدام الكثيرين على بناء بيوت اللّه ، فى العصور المختلفة من التاريخ !! .. ولعله من اللازم أول الأمر أن نخرج شخص اللّه من أن يكون عقبة فى الأمر ، إذ أنه على العكس من ذلك ، يرغب كل الرغبة ، فى أن ننشغل جميعاً ببناء بيوته ، وليس أدل على ذلك من سخطه على خراب البيت ، ولعنته التى أصاب بها الناس ، وتنبيهه لزربابل والشعب عن طريق النبيين : حجى وزكريا ، إن الخراب فى حد ذاته قاس ، وهو مناقض لمشاعر اللّه وقلبه ، وهو لا يستطيع أن يبصره دون حزن وألم ، وعندما خلق عالمنا لم يستطع أن يبقى على الأرض خربة وخالية ، ولمسها لمسة الحياة والجمال والقوة والعمران ، ... فإذا كان الخراب فى ذاته مروعاً أمام اللّه ، فإن خراب الخراب ، إن صح التعبير ، هو خراب بيوت اللّه بالذات ، ... وإذا كان بعض الذين عادوا من السبى، وفى ذكرياتهم القديمة - وهم شيوخ تجاوزوا السبعين عاماً - صورة بيت اللّه العظيم الذى قوضه نبوخذ نصر وأتى عليه بعد كل المجد الذى كان عليه ، والجهد الخارق للعادة الذى بذله سليمان فى بنائه ، .. إذا كانت هذه الصورة تحزن وتبكى إنساناً ، مهما تكن رقة قلبه ، فإنها فى الواقع تدمى قلب اللّه وتملؤه بالضيق والألم والحزن والمرارة ، ... ويكفى أن تسمع القول الإلهى : « ولماذا يقول رب الجنود . لأجل بيتى الذى هو خراب » " حجى 1 : 9 " .. فإذا عن للإنسان أن يسأل بعد ذلك : ولكن إذا كانت هذه هى رغبة اللّه ، وهذا قصده ، ... إذاً لماذا يترك هذا البيت يخرب وينجس ؟ ولماذا يسمح بأن تمتد إليه معاول الهدم ، على الصورة البشعة المتكررة فى التاريخ ؟؟ . ولماذا يسمح بأن تقوض كنائس وتخرب أو تغلق أبوابها ؟! . إن الجواب الواضح لا يمكن أن نجده بعيداً عن يسوع المسيح ، الذى كشف عن أمرين جوهريين أساسيين فى قلب اللّه ، أولهما غيرته المطلقة على هذا البيت ، الغيرة التى جعلته يضع سوطاً ، ويطهر الهيكل ، من الباعة ، والصيارف ، والرؤساء ، الذين حولوا البيت إلى مغارة لصوص ، ... والصورة الثانية هى نبوته عن الهيكل ، عندما تفاخر التلاميذ بعظمة بنائه ، وأكد لهم أنه سيهدم حتى الأساس دون أن يترك حجر على حجر لا ينقض !! .. ، وإذا كان المسيح قد واجه خطية العالم بصليبه العظيم ، فإنه لا يمكن أن تغلق كنيسة أمام عينيه دون أن يطعن مرة أخرى فى جنبه بحربة الصليب ! ! .. على أن المأساة تبلغ أقصاها فى الموازنة بين بيت اللّه ، وبيوت الناس بين الجهد الذى يبذل فى بيت اللّه ، والجهد الذى يبذل فى بيوت الناس ، ... والفاجعة الكبرى أن الناس على قدر ما يبذلون فى بناء بيوتهم ويزينونها بسخاء حتى تبدو تحفا رائعة ، .. وعلى قدر ما يفخرون بذلك ويتباهون ، فالأمر على العكس تماماً فى بيت اللّه ، إذ تقبض اليد وتجد مالا يحصى ويعد من أسباب الاعتذار من المساعدة أو المساندة أو المساهمة ، ... إن أى بيت عادة ، يكشف مظهره ومبناه عن صاحبه وساكنه ، فالفقير لا يمكن أن يملك قصراً ، والغنى يرفض أن يسكن فى كوخ ، وأنت لست فى حاجة إلى حساب دقيق حتى تعرف ساكن البيت من مجرد نظرة إلى بيته ، ... وقد وضع الناس فى أيام حجى ، وإلى اليوم مايزالون يضعون اللّه ونفوسهم فى الوضع العجيب الغريب،... لقد مر الشاب ذات يوم بكنيسة من الكنائس فى مدينة من المدن المصرية ، وكانت أقرب إلى عشة من عشش الفراخ ، وتعجب الشاب أبلغ العجب ، إذ أن بعض أعضاء هذه الكنيسة كانوا من أغنياء البلاد ، وكانوا يملكون القصور الشامخة ، فى المدينة نفسها ، وفى غيرها من المدن ، ... وعجب الشاب ، وقد امتلا من المرارة والأسى ، كيف يرضى هؤلاء أن يناموا ليلة واحدة فى بيوتهم المغشاة ، وبيت اللّه خراب ، ... وهل يقبل هؤلاء وغيرهم أن يبدو اللّه الذى لا تسعة سماء السموات ، والأرض موطئ قدميه ، هل يرضوا أن يبدو السيد العظيم ، كاليتيم والفقير والبائس الذى لا يملك إلا كوخاً خرباً ليسكن فيه !! ؟ ... إن كل من يهتم ببيته ، وينسى بيت اللّه، يضع اللّه فى هذا الوضع المخجل الجارح !! فإذا أخذنا الأمر من وجهة أخرى ، فإنه من الصعب على الإنسان أن يواجه نفسه بهذه الحقيقة الجارحة المعراة ، والضمير مهما كان من عثراته لا يمكن أن يواجه هذا المنطق دون خجل ، ولابد للضمير أن يجد حلا للمشكلة ، وهذا الحل الأحمق يأتى بنوع من المداورة فى التفسير ، فإذا كان الإنسان يرفض أن يرى بيت اللّه خرباً أو أدنى إلى الأكواخ ، وهو يرفض أن يتهم نفسه بالشح والبخل ، فالأفضل أن يربط بين البناء والتأجيل ، فالوقت لم يبلغ أو يأت بعد لبناء البيت ، ... وضع اليهود الأساس ، ثم توقفوا عن العمل ، وظل التوقف ستة عشر عاماً ، فما العذر !! ؟ ليس هناك من عذر إلا أن الوقت لم يحن ، وسيأتى يوم ما ، فيه لابد أن نبنى وننهض للعمل ، !! ... وهنا مرة أخرى تأتى الموازنة بين بيوت الناس وبيت اللّه ، عندما يبنى الإنسان مسكناً أو قصراً ، إنه لا يهدأ أو يستريح حتى يتممه ، والأفضل أن يغشيه ، ويبدع فيه بكل ما فى هندسة الديكور من فن وجمال ، ... وهو لا يقبل أن يرجئ اللمسات الفنية الأخيرة قبل أن يسكن فيه ، بل هو حريص على السرعة والإبداع معاً ، ... وهو غير ضنين بكل جهد أو مال فى هذا السبيل ، ... أما بيت اللّه فهذا شأن آخر ، وأمر آخر ، وأسلوب آخر ، ... والتأجيل هنا مريح ، ومعقول ، ويهدئ النفس تماماً ،... ومأساة التأجيل هنا ليست مثيرة ومزعجة فحسب ، بل أكثر من ذلك تقود إلى نوع من الختل والخداع ، يفقد معه الإنسان سلامة التفكير ، والقياس الصحيح ، إذ يصبح التأجيل الواقع الذى يألفه الناس ، ولا يرون غيره ، ... فإذا أنت مررت بالخراب أياما وشهوراً وسنوات ، وارتسم أمام عينيك ، وأضحى من معالم الحياة ، فإن التغيير بعد ذلك يصبح أمراً يوشك أن يكون شاذاً وغير مألوف !! .. فإذا نهض السائل يقول : « أليس من واجبنا التغيير ؟ يجد الجواب السريع : لقد ورثنا الخراب عن آبائنا ونحن لا نستطيع أن نغير الواقع بين يوم وليلة ، ... فليبق إلى أن تأتى أيام أفضل يمكن معها عمل مثل هذا التغيير !! ... وإذا كان الإنسان فى حد ذاته سخط على آبائه الذين أورثوه الخراب ، ... فمن الغريب أو العجيب أنه يرضى أن يورث أبناءه ذات الخراب ، ... وكان بالأولى أن يفعل العكس ، لعله يعطيهم حياة أيسر وأسهل ، ... إنه يذكرنا بأحد المهاجرين ، الذى عرض فى الولايات المتحدة مزرعة وبيتاً بثمن بخس ، يكاد يقرب من تكاليف البيت فقط ، وعندما سئل عن السبب أجاب : إن أقرب كنيسة ومدرسة أحد على بعد عشرين ميلا من المكان ، وهو لا يستطيع أن يرى أولاده محرومين من بيت اللّه ، ومن العبادة المسيحية !! .. والذين يهتمون بأن يبنوا بيوتاً مغشاة ، كان أولى بهم أن يهتموا ببناء بيت الرب ، حتى يستطيعوا أن يورثوا أولادهم أثمن ما يورث الإنسان فى الأرض ،... الإيمـــان الذى سكـــــن فى آبائهم وأجدادهم من قبل !! .. ومن الواضح دائماً أن الإنسان بطبعه ملول ، فإذا جنح إلى التأجيل ، فإنه سيجنح فى العادة إلى المزيد منه ، وهذه كارثة التأجيل فى الحياة ، .. فإذا أجل الإنسان الخلاص،... فيخشى أن يضيع منه ، متقسياً بغرور الخطية..، وما أكثر ما خرج شاب من اجتماعات النهضة ، تحت تصميم أن يودع ماضيه الآثم ، وإذ يرى الشيطان منه هذا التصميم ، لا يقاومه فى المبدأ ، ولكن يصارعه فى التوقيت ، وهنا الطامة الكبرى، والتى مثلها فيلكس الذى سمع بولس يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة ، فارتعب ، وخرج من الإرتعاب من باب التأجيل الموارب ، وهو يقول للرســـــول : « أما الآن فاذهب ومتى حصلت على وقت أستدعيك » ... " أع 24 : 25 " ومن المؤسف أنه استحضر بولس مراراً كثيرة بعد ذلك ، ... ... ولكن لا للتوبة ، بل على أمــــــل أن يعطيه بولس دراهم ليطلقه !! ... وقد قاوم السيد المسيح التأجيل فى الخدمة ، سواء فى الذى أراد أن يقوم بها بعد أن يموت أبوه ثم يدفنه ، أو فى ذاك الذى طلب أن يودع الذين فى بيته !! .. وكلاهما أشبه بمن قال فى أيام حجى : « إن الوقت لم يبلغ لبناء بيت الرب » "حجى 1 : 2 " . وقد صح اللّه هذا الوضع الخاطئ بمعاودة التأمل فى التأجيل ، إذ طلب من الشعب : « اجعلوا قلبكم على طرقكم » " حجى 1 : 5 " أى أن يفكروا بعمق أكثر ، واهتمام أعمق ، فى الطريق التى يسلكونها ، ... كما طلب المسيح من تلميذيه المشار إليهما أن يتجنبا التأجيل ، تاركاً للموتى روحيا أن يدفنوا موتاهم ، أو محدثاً عن الخطر الذى يلحق بمن يضع يده على المحراث ثم ينظر إلى الوراء !! .. وثمة أمر آخر ينبغى إدراكه ، أن اللّه - وإن كان هو القادر على كل شئ ويمكن أن يقيم من الحجارة أعظم مبنى رآه الإنسان ليكون بيت عبادة له - إلا أن سياسته الدائمة أن يبنى عمله بسواعد الإنسان وشركته ، وهو يذكرنا بما حدث فى الحرب العالمية الثانية ، إذ دمرت القنابل كنيسة ألمانية ، أعادها الألمان بعد الحرب ، ولم يتغير فيها سوى تمثال للمسيح قطعت ذراعاه ، وعندما أراد البعض أن يضعوا الذراعين ، رفض الآخرون ، إذ قالوا : إن ذراع المسيح فى الأرض هى تلاميذه وأتباعه وخدامه بين الناس ، ... ولو وعى الشعب أيام حجى هذه الحقيقة لأدركوا أنهم أمام أعظم امتياز ، وأرهب مسئولية ، ... وأن اللّه أعطى سليمان امتيازه العظيم ببناء الهيكل ، وأعطى جستنينان الأمبراطور امتيازاً ، وأعطى المهندس وليم ويكهام ، وهو يبنى كنيسة من أعظم الكنائس الإنجليزية ، أن يكتب على النافذة : « هذا العمل صنع وليم ويكهام » ... ولما سأله ادوارد السابع ملك إنجلترا متعجباً : ماذا يقصد بذلك ، أجاب : « إن بناء الكنيسة قد منحه شرفاً ومجداً وإمتيازاً ، فهو لم يبن الكنيسة ، لكن الكنيسة هى التى بنته » ... واللّه على الدوام يتحدى تلاميذه وأتباعه ، إذ يضع الإمتياز مع المسئولية جنباً إلى جنب ، فإذا أمسك بهما الإنسان كان أسعد ما يكون ، إذا لم يتنبه إليهما يسمع الصوت « لأجل بيتى الذى هو خراب وأنتم راكضون كل إنسان إلى بيته » .. " حجى 1 : 9 " . وهناك الحقيقة التى تتبع هذا ، أن الإنسان لابد أن يركض ، ولا يمكن أن يعيش فى فراغ ، ... ولعل هذا ما قصده اللّه بالقول : « وأنتم راكضون » فإذا كانت الأيام تدور، وهو يركض مع الزمن ، ولا يمكن أن يعود إلى الوراء ، فإنه من جانب الحياة والعمل، سيركض أيضاً..، وهو إذاً لم يركض فى خدمة بيت اللّه ، فإنه سيركض ويملأ الفراغ فى بيته وشهواته وأعماله ، ... « أليس جهاد للانسان على الأرض وكأيام الأجير أيامه » ؟ .. " أيوب 7 : 1 " والأمر كله يتوقف على القبلة التى يركض إليها ، ومن المؤسف أن الشعب أيام حجى ، عندما تركوا بيت اللّه بعد أن وضعوا الأساس ، حملوا أدواتهم معهم ، أدوات البناء ، ليبنى كل واحد بيته ، ومسكنه ، ودائرته الخاصة،.. ومن العجيب أن جميع الاعتذارات التى منعتهم من بناء بيت اللّه ، تلاشت ، وذهبت كالبخار ههنا ، .. كانوا فقراء عن الانفاق ، وقد عادوا من السبى، وكان عذرهم الحاجة وضيق ذات اليد ، ... لكن هذا العذر لم يظهر وهم يبنون بيوتهم على الشكل الفخم ، والصورة الجميلة ، ... كانوا خائفين متعبين منهوكى القوى ، لعل غيرهم يأخذ مكانهم فى بناء بيت اللّه ، ... أما فى بناء بيوتهم ، فهم لا يعرفون الراحة أو الهدوء ، حتى يخرج كل شئ على الوجه الأجمل والأكمل !! .. والحقيقة الأخيرة فى العقبات ، والتى يصح أن تذكر ، هى أن عمل اللّه لا يمكن أن يكون سهلا أو فسحة أو نزهة ، إنه دائماً عمل شاق ممتلئ بالصعاب والمتاعب والعقبات ، ولعل مجده الصحيح فى صعوبته وقسوته ، ... إن قلب المسيحية العظيم صليب حمله سيدها ، ودعا إليه أتباعه على الدوام : « إن أراد أحد أن يأتى ورائى فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعنى » " لو 9 : 23 " إن مجد الحياة فى صعابها المقهورة وفى مشاقها التى ينبغى التغلب عليها ، إن المسيح لم يدع أتباعه ليعيشوا أطفالا ، بل ليضحوا أبطالا ، ... وهو لم يدعهم إلى نزهة خلوية ، بل إلى معركة دامية !! .. وهو يقول هنا لبناة بيت اللّه : « اصعدوا إلى الجبل وأتوا بخشب وابنوا البيت فأرضى عليه وأتمجد قال الرب » . "حجى 1 : 8 " إنها معركة الصعود إلى الجبال ، وقطع الأخشاب هناك ، وحملها ، مهما يكلف ذلك من مشقة أو عرق أو دموع ، ... وهو عمل اللّه الذى يدعو إليه من ينبغى أن يكافحوا ويبذلوا : « فاشترك أنت فى احتمال المشقــــات كجندى صالح ليسوع المسيح » . " 2 تى 2 : 3 " أجل!! وليس فى المسيحية أو فى عمل اللّه إكليل دون جهاد أو صليب !! .. |
|