منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 15 - 02 - 2022, 05:27 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,293

اللمسة الروحية لشفاء المرضى وإحياء الموتى

اللمسة الروحية لشفاء المرضى وإحياء الموتى





النص الإنجيلي (مرقس 5: 21-43)



21 ورجَعَ يسوعُ في السَّفينَةِ إِلى الشَّاطِئِ المُقابِل، فازدَحَمَ علَيه جَمعٌ كثير، وهو على شاطِئِ البَحْر. 22 فجاءَ أَحَدُ رُؤَساءِ المَجْمَعِ اسمُه يائِيرس. فلَمَّا رآهُ ارتَمى على قَدَمَيْه، 23 وسأَلَه مُلِحّاً قال: ((اِبنَتي الصَّغيرةُ مُشرِفَةٌ على المَوت. فتَعالَ وضَعْ يَدَيكَ علَيها لِتَبرَأَ وتَحيا)). 24 فذَهبَ معَه وتَبِعَهُ جَمْعٌ كثيرٌ يَزحَمُه. 25 وكانت هُناكَ امرأَةٌ مَنزوفَةٌ مُنذُ اثنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَة، 26 قد عانَت كثيراً مِن أَطِبَّاءَ كَثيرين، وأَنفَقَت كُلَّ ما عِندَها فلَم تَستَفِدْ شَيئاً، بل صارت مِن سَيِّئٍ إِلى أَسوَأ. 27 فلمَّا سَمِعَت بِأَخبارِ يسوع، جاءَت بَينَ الجَمعِ مِن خَلْفُ ولَمَسَت رِداءَه، 28 لأَنَّها قالت في نَفسِها: ((إِن لَمَسْتُ ولَو ثِيابَه بَرِئْتُ)). 29 فجَفَّ مَسيلُ دَمِها لِوَقتِه، وأَحَسَّت في جِسمِها أَنَّها بَرِئَت مِن عِلَّتِها. 30 وشَعَرَ يسوعُ لِوَقْتِه بِالقُوَّةِ الَّتي خَرجَت مِنه، فالتَفَتَ إِلى الجَمعِ وقال: ((مَن لَمَسَ ثِيابي؟)) 31 فقالَ له تَلاميذُه: ((تَرى الجَمْعَ يَزحَمُكَ وتقول: مَن لَمَسَني؟)) 32 فأَجالَ طَرْفَهُ لِيَرَى الَّتي فَعلَت ذلك. 33 فخافَتِ المَرأَةُ وارتَجَفَت لِعِلمِها بِما حدَثَ لَها، فَجاءَت وارتَمَت على قَدَمَيه واعتَرفَت بالحَقيقَةِ كُلِّها. 34 فقالَ لها: ((يا ابنَتي، إِيمانُكِ خَلَّصَكِ، فَاذهَبي بِسَلام، وتَعافَي مِن عِلَّتِكِ)). 35 وبَينَما هُو يَتَكَلَّم، وَصَلَ أُناسٌ مِن عِندِ رئيسِ المَجمَعِ يقولون: ((اِبنَتُكَ ماتَت فلِمَ تُزعِجُ المُعَلِّم؟)) 36 فلَم يُبالِ يسوعُ بهذا الكَلام، بل قالَ لِرئيسِ المَجمَع: ((لا تَخَفْ، آمِنْ فقط)). 37 ولَم يَدَعْ أَحَداً يَصحَبُه إِلاَّ بُطرُسَ ويعقوبَ ويوحَنَّا أَخا يَعقوب. 38 ولَمَّا وَصَلوا إِلى دارِ رئيسِ المَجمَع، شَهِدَ ضَجيجاً وأُناساً يَبكونَ ويُعْوِلون. 39 فدَخلَ وقالَ لَهم: ((لِماذا تَضِجُّونَ وتَبكون؟ لم تَمُتِ الصَّبِيَّة، وإِنَّما هيَ نائمة))، 40 فَضَحِكوا مِنهُ. أَمَّا هو فأَخرَجَهم جَميعاً وسارَ بِأَبي الصَّبيَّةِ وأُمِّها والَّذينَ كانوا معَه ودخَلَ إِلى حَيثُ كانَتِ الصَّبيَّة. 41 فأَخَذَ بِيَدِ الصَّبِيَّةِ وقالَ لها: ((طَليتا قوم!)) أَي: يا صَبِيَّة أَقولُ لكِ: قومي. 42 فقامَتِ الصَّبيَّةُ لِوَقتِها وأَخَذَت تَمْشي، وكانتِ ابنَةَ اثنَتَي عَشْرَةَ سَنَة. فَدَهِشوا أَشَدَّ الدَّهَش، 43 فَأَوصاهم مُشَدِّداً علَيهِم أَلاَّ يَعلَمَ أَحَدٌ بذلك، وأَمَرَهُم أَن يُطعِموها.



مقدمة



بعد يوم تعليم بالأمثال يروي مرقس الإنجيلي أربع معجزات ليسوع مُبيِّناً فيها لتلاميذه تصعيداً في إيمانهم بقدرة يسوع على العناصر الطبيعة (تسكين العاصفة (4: 35-41)، وبقدرته على الارواح الشريرة (طرد الشيطان من رجل)، ثم بقدرته على المرضى والنجاسة (المرأة المنزوفة) وأخيراً بقدرته على الموت (احياء ابنة يائِيرس). واليوم يحلّ يسوع مشكلتين نعاني منهما كخليقة: النجاسة والموت والمشكلتان متداخلتان بحيث ان الموت هو بسبب النجاسة وذلك من خلال معجزة الأخيرة شفاء مَنزوفَة واحياء ابنة يائِيرس؛ ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.





أولاً: تحليل وقائع النص الإنجيلي (مرقس 5: 21-43)



21 ورجَعَ يسوعُ في السَّفينَةِ إِلى الشَّاطِئِ المُقابِل، فازدَحَمَ علَيه جَمعٌ كثير، وهو على شاطِئِ البَحْر



تشير عبارة "الشَّاطِئِ المُقابِل" الى الشاطئ الغربي في كفرناحوم وهو العالم اليهودي حيث يقيم رئيس المجمع يائِيرس، وكان يسوع قد جاء من العالم الوثني (منطقة كرسي – جدارة) في الشاطئ الشرقي حيث شفى الرجل المَمْسوس فطرده اهل البلد لأنه أهلك خنازيرهم بأرسال فيهم الأرواح النجسة التي اخرجها من الرجل (مرقس 5: 1-20). وهكذا كانت الرسالة الانجيلية في بدايتها تنتقل بين العالم اليهودي والعالم الوثني.



22 فجاءَ أَحَدُ رُؤَساءِ المَجْمَعِ اسمُه يائِيرس. فلَمَّا رآهُ ارتَمى على قَدَمَيْه



تشير عبارة "أحد رُؤَساءِ المَجْمَعِ" إلى المسؤول عن العبادة في المجمع وإدارة المدرسة الدينية الاسبوعية وصيانة المبنى، وكان يُطلق هذا اللقب أيضا على وجهاء الجماعة الدينية أيضا (متى 9: 18). أمَّا "يائِيرس" في الاصل اليوناني Ἰάϊρος في العبرية "יאיר" (معناها يضيء أو ينير او المستنير (أفسس 5: 14) يشير إلى الناموس، وابنته تشير إلى الأمة اليهودية التي سقطت تحت تأثير المرض حتى أوشكت على الموت، وإنها لا تستطيع أن تنعم بالقيامة من هذا الموت ما لم تتمتع بروح الاستنارة حيث يقودها الناموس لا إلى الحرف القاتل، وإنما إلى المسيح القادر أن يُقيم الموتى. أمَّا عبارة "ارتَمى على قَدَمَيْه" فتشير إلى عمل جريء الذي يدل على الاحترام من ناحية، وعلى طرح عن نفسه كل كرامته كرئيس للمجمع في ضيقته الشديدة إذ كانت له ابنة توشك على الموت، لم تنجح معها معالجات الأطباء، ولا خدمة الأقرباء ولا تضرعات الأحباء ولم يبق رجاءً إلا في يسوع الناصري من ناحية أخرى. ويقابل عبارة "ارتَمى على قَدَمَيْه" فعل "سجد" في إنجيل متى، دلالة على الإقرار بان يسوع هو الله.



23 وسأَلَه مُلِحّاً قال: اِبنَتي الصَّغيرةُ مُشرِفَةٌ على المَوت. فتَعالَ وضَعْ يَدَيكَ علَيها لِتَبرَأَ وتَحيا.



تشير عبارة "ِاِبنَتي الصَّغيرةُ مُشرِفَةٌ على المَوت" الى وضع يائِيرس طلبه أمَّام يسوع، على مثال كل مؤمن أمام ربه. كانت " ابنةً وحيدةً في نَحوِ الثَّانِيَةَ عَشرَةَ مِن عُمرِها "(لوقا 8: 42). اما عبارة "تَعالَ" فتشير الى طلب رئيس المجمع بإيمان، ومن المستحيل أن يتغاضى المسيح عن طلب كهذا؛ أمَّا عبارة " وضَعْ يَدَيكَ " فتشير الى علامة على نقل القوة من يسوع الى المريض، تمر من صاحب السلطة الى طالب النعمة. وهذه العبارة تدل على سلطان يسوع في الشفاء (متى 9: 18). وتدل على الحركة الطقسية لوضع الايدي، في حالة رسم شخص لمنصب أو وظيفة خطيرة كان يتم في وضع الأيدي كما فعل موسى (عدد 27: 18). وكما فعل الرسل إذا أرادوا أن يقبل أحد المؤمنين الروح القدس (اعمال الرسل 8: 17 -18) أو إذا أرادوا رسم أحد المؤمنين لعمل الخدمة والتبشير (1 طيموتاوس 4: 14). ووضع الأيدي يحمل معه مواهب روحية (متى 9: 26). وشفاء للمرضى (مرقس 16: 18). أمَّا عبارة " لِتَبرَأَ وتَحيا " فتشير الى تشديد على الخلاص التي يحصل عليه المرء بلمس يسوع. ويستحيل أن يتغاضى المسيح عن طلب كهذا مقرون بإيمان. ألم يقل بولس الرسول "أَمَّا الْبَارُّ فَبِالْإِيمَانِ يَحْيَا" (رومية 1:17). أين نحن من إيمان يائيرس؟



24 فذَهبَ معَه وتَبِعَهُ جَمْعٌ كثيرٌ يَزحَمُه



تشير عبارة "جَمْعٌ كثيرٌ يَزحَمُه " الى الفرق بين الجموع التي تتزاحم حول يسوع، والقلّة النادرة التي تصل إليه وتلمسه بإيمان. حيث ان لمسة الايمان وحدها هي القادرة أن تُظهر قوّة الشفاء المتأتية من الربّ؛ كثيرون هم الذين يسيرون وراء المسيح ولكن قليلون الذين هم الذين يتقدّمون بإيمان وبانسحاق النفس ليلمسوا الرب وينالون الشفاء. وحدها لمسة الإيمان تقدر أن تُظهر قوّة الشفاء المتأتية من الربّ.



25 وكانت هُناكَ امرأَةٌ مَنزوفَةٌ مُنذُ اثنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَة



تشير عبارة "امرأَةٌ مَنزوفَةٌ" إلى اضطراب المرأة في الحيض أو في الرحم مما كان يجعلها نجسة طقسياً كما جاء في الشريعة "كُلُّ مَن مَسَّ شَيئاً مِنها يَكونُ نَجِساً، فيَغسِلُ ثِيابَه ويَستَحِمُّ في الماء، وَيكونُ نَجِساً حتَّى المَساء"(الأحبار 15: 27)، وتستبعدها النجاسة من معظم العلاقات الاجتماعية بسائر اليهود. ولم تعد لدى هذه المرأة القُدرة أن تلد، وأن تعطي الحياة، لأن الدم مرتبط بالحياة. ولم يستطع الاطبّاء أن يفعلوا لها شيئاً. فالله وحده هو سيّد الحياة. أما عبارة "اثنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَة" فتشير إلى رقم كامل، حيث ظلت هذه المرأة في مرضها أثني عشرة سنة، ولم تكن بقادرة ان تحي حياة طبيعية، ولكن الرب يسوع غيّر الحال وشفاها. ويُعلق القديس هيلاريون أسقف بواتييه " إن اثنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَة" هي إشارة إلى قضاء كل زمانها السابق في نجاسة الخطيّئة التي استنزفت حياتها. إنها اِلتقت بالسيّد في الطريق". إن الله يستطيع ان يغيّر ما يبدو غير قابل للتغيير، فيمنح حياة جديدة ورجاء جديداً.



26 قد عانَت كثيراً مِن أَطِبَّاءَ كَثيرين، وأَنفَقَت كُلَّ ما عِندَها فلَم تَستَفِدْ شَيئاً، بل صارت مِن سَيِّئٍ إِلى أَسوَأ



تشير عبارة " قد عانَت كثيراً مِن أَطِبَّاءَ كَثيرين " إلى عدم قدرة الأطباء ان يفعلوا شيئا، حيث ان الله وحده هو سيدّ الحياة. عندما تتوقف البشرية عن السعي لإنقاذ نفسها بمفردها، وتطلب الرب، عندها يمكن أن نحصل على الشفاء والحياة. أمَّا عبارة " أَنفَقَت كُلَّ ما عِندَها فلَم تَستَفِدْ شَيئاً" فتشير الى قدرة يسوع تجاه فشل الاطباء الذين اخذوا كل مالها ولم يفدوها. بينما أن لوقا الإنجيلي كطبيب يحترم مهنة الطب لا يقول هذا بل يقول " وكانَت قد أَنفَقَت جَميعَ ما عِندَها على الأَطِبَّاء، فلَم يَستَطِعْ أَحَدٌ مِنهُم أَن يَشفِيَها"(لوقا 8: 43). وعندما ينفق الانسان ماله ويصبح فقيرا، عندها يغتني بالمسيح القادر على شفائه من أمراضه على خطى الشاب الغني الذي ارايد ان يتبع يسوع (لوقا 18: 18 -27).



27 لمَّا سَمِعَت بِأَخبارِ يسوع، جاءَت بَينَ الجَمعِ مِن خَلْفُ ولَمَسَت رِداءَه



تشير عبارة "فلمَّا سَمِعَت بِأَخبارِ يسوع" الى أهمية السماع الى يسوع بإيمان. لو لم تسمع لما جاءت، وان لم يُبشِّرها أحد فكيف تسمع؟ " فالإِيمانُ إِذًا مِنَ السَّماع، والسَّماعُ يَكونُ سَماعَ كَلاَمٍ على المسيح" (رومة 10: 17)؛ أمَّا عبارة "جاءَت بَينَ الجَمعِ مِن خَلْفُ" فتشير الى تصرف متستِّر لهذه المرأة النجسة من جرَّاء مرضها، ونجاستها المُعدية بحسب شريعة موسى (احبار 15: 18 -27)، حيث لا يحق لها الاختلاط بالجمهور، وكم بالاحرى بالنبي. وبالرغم ن من كل ذلك، اكتشفت المرأة في يسوع القدرة التي تحمل الخلاص والشفاء. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "أن هذه المرأة لم تجسر أن تقترب من المُخلص علانية، ولا أن تأتي إليه من أمامه، لأنها حسب الشريعة تُحسب نجسة، فجاءت من ورائه"، ولم يكن الازدحام مانعاً لها، بل اقتربت إلى وراء المسيح ولمست هدب ثوبه. أمَّا عبارة "لَمَسَت" فتشير إلى لمسة الإيمان التي أعادت الي المرأة المنزوفة الحياة بالرغم من انها نجسة، ولا يحق لها ان تلمس إنساناً (الاحبار 15: 25). فهي لا تحمل النجاسة (الموت) إلى يسوع، بل يسوع يحمل إليها الحياة. إذ اكتشفت هذه المرأة في يسوع القدرة التي تحمل اليها الخلاص، في حين كانت لمسة الجمع ليسوع هي لمسة فضول. أمَّا عبارة " رِداءَه" فتشير الى معطف يُجعل فوق اللباس الداخلي يُشبه العباءة. قد يستورده الاغنياء من الخارج، دلالة أنهم يعيشون على المستوى "الدولي". ورداء الفقير لا يمكن أن يُرهَن بعد المغيب لأنه غطاؤه في الليل (خروج 22 :25-26). وكان اليهود يخلعون المعطف حين يسيرون في الطريق أو حين يعملون (متى 24 :18؛ مر 10 :50). وكانوا يستعملونه لحمل العجين (خروج 12 :34) والخضار (2ملوك 4 :39) واللحم (حجاي 2 :12) والحِلي (قضاة 8 :25). وكان لباس خاص بالوجهاء والملوك ويُدعى "الجبّة "(1صموئيل 2 :19). كما كان لباس خاص بعظيم الكهنة (خروج 28 :4، 31) وقد يكون رداء مصنوع من كتَّان والقماش الناعم (1أخبار 15 :27).



28 لأَنَّها قالت في نَفسِها: إِن لَمَسْتُ ولَو ثِيابَه بَرِئْتُ



تشير عبارة "إِن لَمَسْتُ ولَو ثِيابَه بَرِئْتُ" الى أمل المرأة الوحيد هو الاقتراب من يسوع المسيح الذي يريد الشفاء والحياة للبشر. هناك قوة تعمل باللمس كما جاء في انجيل مرقس "لأَنَّه شَفى كَثيراً مِنَ النَّاس، حتَّى أَصبَحَ كُلُّ مَن بِه عِلَّةٌ يتَهافَتُ علَيه لِيَلمِسَه" (مرقس 3: 10). فالمرأة لمست يسوع روحيا قبل ان تلمسه جسدياً. صلّت اليه بروحها قبل ان تصلي اليه بيدها. حاولت المرأة الآ تَظهر بين الناس، لأنها خجلت من مرضها الذي يجعلها في حالة النجاسة بحسب الشريعة. ويُعلق العلامة أوريجانوس " إنّ الرّب يسوع المسيح الّذي قدّم ذاته قُربانًا هو الأضحية الفريدة والكاملة، التي كانت ترمز إليها جميع الأضاحي في الشريعة القديمة وتمثّلها "كُلُّ مَن مَسَّها يَكونُ مُقَدَّساً" (الاحبار 6: 11)، فالذي يمسّ جسد هذه التقدمة يتقدّس مباشرةً، فإن كان نجسًا، أصبح نقيًا، وإن كان جريحًا التأم جرحه، هذا ما فهمته المرأة النازفة" (العظة 4 عن سفر الاحبار). أمَّا عبارة "بَرِئْتُ" فتشير إلى شفاء المرأة المنزوفة بدون دواء وبدون كلمة، إنما حصلت على الخلاص بلمس يسوع، ولأنها رأتِ في يسوع قدرة الربّ التي تخلّص البشر. وليس لمس الثوب هو الذي منح الشفاء للمرأة، بل إيمانها، أي اتصالها الشخصي ولقاؤها بيسوع، ولسان حالها ما ترنم به صاحب المزامير " شَعْبٌ لم أَعرِفْه يَخدُمُني، يَسمَعونَني يُطيعونَني" (مزمور 18: 43-44).



29 فجَفَّ مَسيلُ دَمِها لِوَقتِه، وأَحَسَّت في جِسمِها أَنَّها بَرِئَت مِن عِلَّتِها.



تشير عبارة "لِوَقتِه" في الأصل اليوناني εὐθὺς (معناها في الحال او للوقت) الى الشفاءُ حالاً، وفي وَقتِه. وهذه العبارة هي تعبير خاص بمرقس التي تكرَّرت (41) مرة في انجيله. أمَّا عبارة "أَنَّها بَرِئَت مِن عِلَّتِها" الى شعورها بشفائها الفجائي على صورة لم تكن تتوقعها. انها معجزة الشفاء، حيث ان المرأة المنزوفة أصبحت الآن طاهرة بعد ان تعافت من دائها، يُعلّق القدّيس أفرام السرياني "المجد لك، يا ابن الربّ المخفي، لأنّ قوّتك الشافية تُعلَن من خلال الألم المَخفي لامرأة بائسة. تمكّن الشهود أن يروا الألوهيّة الّتي لا يمكن رؤيتها، من خلال هذه المرأة الّتي كانوا يرونها. أصبحت الألوهيّة معروفة من خلال قوّة الإبن الشافية. جُعل إيمان المرأة البائسة ظاهراً من خلال شفاء المرأة البائسة. وإن كانت المرأة شاهدة على ألوهيّة المسيح، فهو بدوره كان شاهداً على إيمانها. قد تطلّع إلى إيمانها المَخفي، وأعطاها شفاءً مرئيّاً". ان هذا الشفاء يدل على ان يسوع يريد للبشرية الحياة، ويريدها وافرة (يوحنا 10: 10). ومن هذا المنطلق، قد تمَّ حوار سرّي بين يسوع والمرأة المنزوفة التي شُفيت، وكأن لم يسمعها أحد. الناس لم يعلموا بما حدث، لكن يسوع والمرأة وحدهما علما بذلك، لان المرض كان خفيَّا.



30 وشَعَرَ يسوعُ لِوَقْتِه بِالقُوَّةِ الَّتي خَرجَت مِنه، فالتَفَتَ إِلى الجَمعِ وقال: "مَن لَمَسَ ثِيابي؟



تشير عبارة " لِوَقْتِه " في الأصل اليوناني εὐθὺς (معناها في الحال او للوقت) تشير الى لَمْسُ طَرَفِ رِدائه كافٍ ليَتِمّ الشفاءُ حالاً، وفي وَقتِه. أمَّا عبارة "مَن لَمَسَ ثِيابي؟" فتشير إلى سؤال يهف الى اعتراف المرأة المنزوفة علنياً (رومة 10: 9-10) لكي يمدَحَ يسوع إيمانها أمام الجموع التي تزحمُه. أراد يسوع إعلام اليهود أن هذه المرأة لها حقٌّ بالحياة، وأنّ الله يحبُّها، ولذلك منَحَها الشفاء، لأنه ما من مريض نَجِس عندما يقترب أمام الله. وكانت لمستُها مقرونة ً بالإيمان الشخصي الناجم عن شعور عميق بالحاجة واقتناع بقوة يسوع الشافية، وهذه اللمسة تختلف عن لمسة الجمع الذي يزحم يسوع ولم ينالوا الشفاء (مرقس5: 30-32). إيمان المرأة يميّز قدرة يسوع الالهية على الخلاص والشفاء. وشفاء المرأة وخلاصها دلالة على قيمة لمس المرأة المنزوفة.



31 فقالَ له تَلاميذُه: تَرى الجَمْعَ يَزحَمُكَ وتقول: مَن لَمَسَني؟



تشير عبارة " تقول: مَن لَمَسَني؟ الى احتجاج التلاميذ الذي يُظهر الفرق الشاسع بين زحم يسوع وبين لمسة بالإيمان الشخصي عن شعور عميق بالحاجة والاقتناع بقوته المخلّصة. هناك من يلمس السيد بإيمان فيشفى وهناك كثيرين يزحمونه ويلتفون حوله بلا إيمان فلا يشفون من أمراض أجسادهم ونفوسهم وأرواحهم.



32 فأَجالَ طَرْفَهُ لِيَرَى الَّتي فَعلَت ذلك.



تشير عبارة " فأَجالَ طَرْفَهُ " الى نظر يسوع وفيه من تعبير التي يلاحظه مرقس الإنجيلي وقد تكرَّرت هذه الملاحظة خمس مرات في انجيله (3: 5، 34؛ 5: 32؛ 10: 23، 11:11).



33 فخافَتِ المَرأَةُ وارتَجَفَت لِعِلمِها بِما حدَثَ لَها، فَجاءَت وارتَمَت على قَدَمَيه واعتَرفَت بالحَقيقَةِ كُلِّها



تشير عبارة " اعتَرفَت بالحَقيقَةِ كُلِّها " الى إحساس المرأة بانها أخطأت فيما فعلت حيث تعدّت وصية من وصايا الشريعة حين لمست شخصاً وهي في حالة نجسة من ناحية (الاحبار 15: 45)، ومن ناحية أخرى أعلنت شفاءها وإيمانها.



34 فقالَ لها: " يا ابنَتي، إِيمانُكِ خَلَّصَكِ، فَاذهَبي بِسَلام، وتَعافَي مِن عِلَّتِكِ



تشير عبارة "يا ابنَتي" الى تكلم يسوع بحنان مع المرأة المنزوفة والخائفة، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " دعاها "ابنة" لأنها خلصت بالإيمان، فإن إيماننا بالمسيح يجعلنا أبناء له"؛أمَّا عبارة "إِيمانُكِ خَلَّصَكِ" فتشير الى التشديد على الإيمان الذي منحها الشفاء، كما ورد في انجيل متى "إِيمانُكِ أَبرَأَكِ " (متى 9: 22) حيث ان إيمان المرأة في حد ذاته هو الذي خلصها، لأنه ادخلها في علاقة شخصية مع يسوع المخلص؛ هذا الايمان جعل المرأة المنزوفة تذهب الى يسوع من اجل الشفاء وتثق به. وهذا الايمان ما هو إلاّ موقف الثقة الذي يرضى به يسوع ولذلك يلبّي طلبها (لوقا 7: 50). ولذلك الايمان بالمسيح شرط اساسي للمعجزة. ألم يقل المسيح إن "كُلُّ شَيءٍ مُمكِنٌ لِلَّذي يُؤمِن؟" (مرقس 9: 23). "إِن كانَ لَكم مِنَ الإِيمانِ قَدْرُ حَبَّةِ خَردَل قُلتُم لِهذا الجَبَل: اِنتَقِلْ مِن هُنا إِلى هُناك، فيَنتَقِل، وما أَعجَزَكُم شيء" (متى 17: 20). أمَّا عبارة " خَلَّصَكِ " فتشير الى قوة إيمان المرأة الذي منحها الخلاص، لأنه أدخلها في صلة مع يسوع، صاحب الخلاص. فيسوع ينسب شفاء المرأة الى إيمانها. والايمان ليس مجرد خبرة ذاتية، بل هو يستمد قوته مما يوضع الايمان فيه أي يسوع المسيح. قصد المسيح بهذه المعجزة شفاءً جسدياً وروحيا. يجب ألاّ ننظر الى يسوع كشافٍ للأمراض الجسدية فقط، إنما كمُخلّص يشفي من الداخل. وهذا يفترض أولاً وآخراً الإيمان، الذي هو لقاء وحوار شخصي مع المسيح. إيمان المرأة خلصها اي شفاها (متى 9:22) شفى جسدها وخلّص نفسها. ما من قوة لأي سر يخلو من الايمان بالمسيح الحَي. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "أنها شفيت لا من أجل هدب الثوب في ذاته وإنما من أجل إيمانها". اما عبار"فَاذهَبي بِسَلام " فتشير الى ثمرة الإيمان هو سلام القلب. واستعادت الصحة، وبذات الفعل لم تعُدْ مهمّشة ومستبعدة، لا بل بالعكس تحوّلت الى مناديه بعظائم الله أمام الشعب. أمَّا عبارة "تَعافَي " في الأصلاليوناني ὑγιὴς (معناها متعافية) فتشير الى الشفاء التي بحثت عنه المرأة. فالمرأة نالت أكثر مما ما كانت تطلب، إنها نالت شفاء الجسد وخلاص الروح. ويدل شفاء المرأة المنزوفة على ان الله يريد الحياة للبشر، وحياة اوفر (يوحنا 10: 11). وقدرته على الشفاء لا توقفها نجاسة، كما لا يوقفها الموت نفسه. أين نحن من إيمان المرأة المنزوفة؟



35 وبَينَما هُو يَتَكَلَّم، وَصَلَ أُناسٌ مِن عِندِ رئيسِ المَجمَعِ يقولون: "اِبنَتُكَ ماتَت فلِمَ تُزعِجُ المُعَلِّم؟



تشير عبارة "بَينَما هُو يَتَكَلَّم " الى سماح الرب يسوع بشفاء المرأة المنزوفة من اجل ان يشاهد رئيس المجمع بعينيّه ويلمس عمله الإلهي فلا يشك. اما عبارة "اِبنَتُكَ ماتَت فلِمَ تُزعِجُ المُعَلِّم؟" فتشير الى اليأس الذي يضعه الناس في قلب رئيس المجمع اعتقادا بأن سلطان يسوع كان يقف على حدود الموت، كما نستشف من قول مرتا ليسوع: "يا ربّ، لَو كُنتَ ههنا لَما ماتَ أَخي" (يوحنا 11: 21). ولم يعد في قدرة أحد ان يفعل شيئا امام الموت.



36 فلَم يُبالِ يسوعُ بهذا الكَلام، بل قالَ لِرئيسِ المَجمَع: "لا تَخَفْ، آمِنْ فقط"



تشير عبارة "فلَم يُبالِ يسوعُ بهذا الكَلام" الى إمكانية الرب يسوع ان يُحدث تغيير، عندما يتبيَّن انه ليس في مقدور أحد ان يفعل شيئا. فالرب يسوع يستطيع ان يفعل المستحيل. أمَّا عبارة "لا تَخَفْ" فتشير إلى أزمة يائِيرس التي جعلته مضطرباً خائفاً بلا رجاء. لكن كلمات يسوع أعانت إيمانه في وسط الازمة حيث انها دعوة الى الايمان والرجاء بوعده بالشفاء، لان سلطانه قوة قيامة. لقد تجاوز يائِيرس ما طلبه، ونال الإيمان القوي الذي كان بحاجة اليه. أمَّا عبارة " آمِنْ " فتشير الى التشديد على الإيمان. آمن! أي راهن على كلمة الله الّتي تريد الحياة وتصنع الحياة مهما ظهر من مظاهر الموت. الإيمان رهان. طلب يسوع من رئيس المجمع أن يؤمن بالمستحيل، وهو أنّ الموت لا يغلب الحياة، وإن ماتت ابنته فأنّها تحيا. الموت هو تحدّي الإيمان كما جاء في تعليم صاحب الرسالة الى العبرانيين: "الإِيمانُ قِوامُ الأُمورِ الّتي تُرْجى وبُرْهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى" (عبرانيين 11: 1).



37 ولَم يَدَعْ أَحَداً يَصحَبُه إِلاَّ بُطرُسَ ويعقوبَ ويوحَنَّا أَخا يَعقوب



تشير عبارة "بُطرُسَ ويعقوبَ ويوحَنَّا أَخا يَعقوب" الى الشهود الثلاثة للمعجزة والى اهمية الوحي الذي سيظهر في المعجزة. ويُعلق القدّيس أمبروسيوس "عند وصوله إلى المنزل، لم يأخذ الرّب يسوع معه سوى عدد قليل من الشهود على القيامة التي ستحصل: إذ لم يكن عدد كبير من الناس يؤمن بالقيامة" (شرح لإنجيل القدّيس لوقا 6: 60-63). وكانت تلك المرة الأولى التي يأخذ يسوع معه بطرس ويعقوب ويوحنا الذين كانوا معه على جبل التجلي (مرقس 9:2) وفي بستان الجسمانية (مرقس 14: 33). إنه اختارهم لخدمة خاصة، او لأنَّهم النواة الأكثر استجابة بين جماعة الرسل حيث أنهم يشاركون على وجه خاص في عمل المعلم او سرّه. ويُعلق القديس ايرونيموس "كان هؤلاء الثلاثة يرافقونه: اختير بطرس، وعليه بُنيت الكنيسة، وكذلك يعقوب، أول رسول تسلّم إكليل الشهادة، ويوحنا، أول رسول بشّر بالبتولية" (شرح لإنجيل القدّيس مرقس، 2).



38 ولَمَّا وَصَلوا إِلى دارِ رئيسِ المَجمَع، شَهِدَ ضَجيجاً وأُناساً يَبكونَ ويُعْوِلون



تشير عبارة" يَبكونَ ويُعْوِلون" الى رثاء الميتة، وهو امر مألوف عند موت اي شخص في الشرق. وبالعكس عدم البكاء هو عار وازدراء؛ حتى ان كان بعض الناس، وبخاصة النساء يحترفن الولولة، وكنًّ يتقاضين أجراً من عائلة الميت للنوح والعويل. وكانت تؤجّر أيضا الندَّابات وكذلك الزمّارين (متى 9: 23).



39 فدَخلَ وقالَ لَهم: لِماذا تَضِجُّونَ وتَبكون؟ لم تَمُتِ الصَّبِيَّة، وإِنَّما هيَ نائمة



تشير عبارة "نائمة" في نظر يسوع ان موتها غير نهائي حيث أن الله يستطيع ان يوقظ الاموات، جاعلا من الموت مجرد نوم. وشبَّه يسوع الموت بالنوم بالنظر إلى القيامة الآتية. واستعار يسوع الصورة نفسها عندما تكلم عن موت اليعازر "إنَّ صَديقَنا لَعازَرَ راقِد، ولَكِنِّي ذاهِبٌ لأُوقِظَه " (يوحنا 11: 11). الموت في الكتاب المقدس يُعبر عنه بالرقاد كما أكّد ذلك متى الانجيلي "فقامَ كثيرٌ مِن أَجسادِ القِدِّيسينَ الرَّاقِدين" (متى 27: 52). وقد شبَّه يسوع الموت بالنوم بالنظر إلى القيامة الآتية. أمَّا الموت كما يراه الله فهو نوم عميق تعقبه يقظة "فأَمَّا ونَحنُ نُؤمِنُ بِأَنَّ يَسوعَ قد ماتَ ثُمَّ قام، فكَذلِك سيَنقُلُ اللهُ بِيَسوعَ ومعَه أُولَئِك الَّذينَ ماتوا" (1 تسالونيقي 4: 14) ان سلطان يسوع يمتد الى ما وراء القبر (يوحنا 14: 12). عندما يأتي يسوع، لا يعود الموت موتاً، بل رقاداً الذي يسبق اليقظة. هذه الثقة بنهوض ابنته من الموت هو ما يطلبه يسوع من يائِيرس. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "هكذا علّمنا الرّب يسوع ألاّ نخاف الموت لأنّ الموت لم يعد الموت بالمفهوم نفسه: إنّه النوم فحسب... فمنذ مجيء الرّب يسوع المسيح، تحوّل الموت إلى نوم عميق"(عظات حول إنجيل القدّيس متّى، العظة 31.). ان الايمان لا يشفي المرض فحسب، بل يقتل الموت ويساعد الموتى على النهوض من الرقاد. وهذه الصبية ستقوم على مستوى الجسد، تعود إليها الحياة البشرية، ولكن قيامتها ستكون رمزاً الى قيامة من نوع آخر لا تموت بعدها.



40 فَضَحِكوا مِنهُ. أَمَّا هو فأَخرَجَهم جَميعاً وسارَ بِأَبي الصَّبيَّةِ وأُمِّها والَّذينَ كانوا معَه ودخَلَ إِلى حَيثُ كانَتِ الصَّبيَّة



تشير عبارة "فَضَحِكوا مِنهُ" الى توقّف الحاضرين من البكاء على الميِّتة، وبدّلوا بكاءهم بالضحك من كلام يسوع حول رقاد الموت لادعائه منح الحياة من جديد، فكان يصعب عليهم ان يتقوا بالمسيح، وإنهم بعيدين عن الإيمان الذي تحلّت به المرأة المنزوفة ويائِيرس. ويعلق القدّيس أمبروسيوس " سخرت الجموع منه، لأنّ الذين لا يؤمنون يسخرون. ليبكوا إذًا موتاهم أولئك الذين يعتبرونهم أمواتًا. عندما نؤمن بالقيامة، لا نرى في الموت نهاية بل راحة دائمة"(شرح لإنجيل القدّيس لوقا 6: 60-63). وفي النهاية أصبح ضحكهم شهادة حق أن الصبية ماتت وأن المسيح أقامها حيةً. أمَّا عبارة "فأَخرَجَهم جَميعاً" فتشير الى انزعاج يسوع من الضجيج والاستهزاء، وكان رد فعله هو إخراجهم من المكان. أمَّا عبارة " ودخَلَ إِلى حَيثُ كانَتِ الصَّبيَّة " فتشير الى دخول يسوع الى عالم الموت للقضاء على الموت. ويُعلق القدّيس كيرِلُّس، بطريرك الإسكندريّة " بمجرّد أن يدخل الرّب يسوع المسيح فينا بطبيعته البشريّة، فإنّنا نُبْعَثُ أحياءً " (شرح لإنجيل يوحنّا، 4).



41 فأَخَذَ بِيَدِ الصَّبِيَّةِ وقالَ لها: طَليتا قوم!، أَي: يا صَبِيَّة أَقولُ لكِ قومي



تشير عبارة "فأَخَذَ بِيَدِ الصَّبِيَّةِ" الى الاتصال الجسدي الذي كان صانعو المعجزات يعلقون أهمية كبرى عليه. ويعلق القدّيس العلامة ايرونيموس هو لا يلمس الأذن ولا الجبين...، بل اليد، أي الأعمال السيّئة" (عظات عن إنجيل مرقس، العظة 2). أمَّا عبارة "طَليتا قوم!" بالآرامية טַלְיְתָא קוּמִי (يا صبية قومي) فتشير الى كلمة يسوع الفاعلة، إذ قامت الفتاة في الحال من ناحية، من ناحية أخرى تشير العبارة الى ايمان رئيس المجمع الشخصي بيسوع. ويُعلق القديس كيرلس الاسكندري "بكون المسيح الله، فقد أعطى الصبية الحياة بأمرٍ فائق القدرة. كما أعطاها الحياة عندما لمست جسده المقدّس، وفي ذلك شهادة بأنه في كلمته كما في جسده هناك قدرة إلهيّة أتمّت هذه المعجزة" (شرح للإنجيل يوحنا 4). والجدير بالذكر بان الآرامية كانت لغة فلسطين في القرن الاول المسيحي، وبالتالي فهي لغة يسوع والتلاميذ. وهي تشير في ضوء انجيل مرقس الى الطابع الاحتفالي الليتورجي. وترجمة مرقس هذه العبارة الآرامية "طَليتا قوم!" الى اليونانية ὅ ἐστιν μεθερμηνευόμενον Τὸ κοράσιον من الأدلة على انه كتب انجيله للقراء الرومانيين الذين كانوا يتكلمون باليونانية وقتئذٍ ومثل ذلك ترجمة" بَوانَرْجِس، أَيِ: ابنَيِ الرَّعْد " (مرقس 3: 17) او " قُربان" קָרְבָּן (مرقس 7: 11) و ((إِفَّتِحْ!)) אִפַּתַּח أَيِ: انفَتِحْ (مرقس 7: 24) وأَبَّا، אַבָּא يا أَبَتِ، (مرقس 14: 36)، " ((أَلُوي أَلُوي، لَمَّا شَبَقْتاني؟ אֱלָהִי אֱלָהִי לְמָה שְׁבַקְתַּנִי أَي: إِلهي إِلهي، لِمَاذا تَركتَني؟ (مرقس 15: 34). أمَّا عبارة " قومي " في الأصل اليوناني ἔγειρε (معناها ينهض او يستيقظ) فتشير الى التعبير عن قيامة الأموات التي توحي بصور الاستيقاظ من النوم والنهوض. وقد استعمل هذا الفعل للحديث عن القيامة الأخيرة (دانيال 12: 2)، وعن إقامة يسوع للموتى (لوقا 7: 22) وعن قيامة الرب (لوقا 9: 22). ويسوع بإحياء هذه الصبية يدل على أنه الرب. ويقدِّم لنا انجيل مرقس من خلال هذه المعجزة تعليم الكنيسة حول القيامة: " إنَّ مُخَلِّصنا يسوعَ المسيحِ قَضى على المَوت وجَعَلَ الحَياةَ والخُلودَ مُشرِقَينِ بِالبِشارة" (2طيموتاوس 1: 10). حين نكون بخطر، كبطرس في عرض البحر، وعلى وشك الغرق، يمدّ يسوع يده ويمسك بنا (متى14: 31).



42 فقامَتِ الصَّبيَّةُ لِوَقتِها وأَخَذَت تَمْشي، وكانتِ ابنَةَ اثنَتَي عَشْرَةَ سَنَة. فَدَهِشوا أَشَدَّ الدَّهَش



تشير عبارة "فقامَتِ الصَّبيَّةُ لِوَقتِها " الى إحياء الصبية تذكرنا نبوءة هوشع: “مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ الْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ. أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟" (هوشع 13:14)". يريد الله الحياة للبشر، وحياة اوفر كما يوكد يسوع "أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم "(يوحنا 10: 11). وقد روي لنا الانجيل ثلاث معجزات خاصة بإقامة السيّد المسيح للموتى: إقامة ابنة يائِيرس، وإقامة ابن أرملة نائين (لوقا 7: 11-17) وإقامة لعازر (متى 28: 1-8)، وهي تمثل عمله الإلهي في إقامتنا من موت الخطيّئة من ناحية، وقيامته من الموتى. امَّا عبارة " لِوَقتِها " في الأصل اليوناني εὐθὺς (معناها في الحال او للوقت) تشير الى قيام الصبية حالاً، وفي وَقتِه. أمَّا عبارة "ابنَةَ اثنَتَي عَشْرَةَ سَنَة" فتشير الى عمر البلوغ والزواج للفتاة اليهودية وإعطاء الحياة؛ لكنها هي الآن على باب الموت. كما هو عدد السنوات التي عانت فيها المرأة المنزوفة. ولدى هاتين المرأتين، يرتبط العدد في الحادثين بخبرة موت وليس بخبرة حياة، ذلك لأن حياتهما في هذه اللحظة كانت مهددة بالموت. ويُعلق القديس هيلاريوس أسقف بواتييه " أن "اثنَتَي عَشْرَةَ سَنَة " هي إشارة إلى جماعة اليهود الذين ينتسبون إلى اثني عشر سبطًا وقد سقطوا تحت الموت، فانطلق الناموس كقائد لهم يُعلن الحاجة إلى مجيء المسيّا ليقيمهم". وهناك موازاة بين الخبريْن عمر الابنة يوم ماتت والمرأة المنزوفة منذ 12 سنة (مرقس 5: 25). وترتبط مدة اثنا عشر سنة بتجربة أو بتهديد بالموت بدلا من الحياة والصحة. إن هذين الشفاءيْن تمّا بواسطة الاتصال بيسوع: المرأة النازفة لمست رداء يسوع وتوقّف النزيف، ويسوع أمسك الابنة بيدها، وعادت إليها الحياة. فكل من يلمس يسوع يشفى، وكل من يلمسه يسوع أيضاً يَشفى. اظهر يسوع سلطانه على الموت بعد ان ظهر سلطانه على المرض. ومن هذا المنطلق، نستنتج أنَّ إحياء ابنة يائِيرس هو استباق لسلطان يسوع على الموت. وخلاصة القول إن الإيمان هو محور هاتين المعجزتين حيث يتم الانتقال من إيمان المرأة المنزوفة التي بحثت عن منفعة خاصة الى إيمان ثان بلقاء شخصي بيسوع، وأخيرا الى إيمان الكامل بذلك الذي يقيم الموتى.



43 فَأَوصاهم مُشَدِّداً علَيهِم أَلاَّ يَعلَمَ أَحَدٌ بذلك، وأَمَرَهُم أَن يُطعِموها



تشير عبارة "أَلاَّ يَعلَمَ أَحَدٌ" إلى امر يسوع بالصمت وكتم السر، لان الوقت لم يأتِ بعد للتعرف على قدرة يسوع في القيامة وانه ابن الله القادر على إقامة الموتى، لان هذه المعجزة لا يُدرك معناها حقاّ إلا على ضوء قيامة يسوع وبعد قيامته. وبالرغم من ان الصمت أمر صعب في مثل هذا الوضع وفي تلك الظروف، ولكن لا يحق للتلاميذ ان يبوحوا الآن بهذا السر حيث أنَّ الشعب بحاجة الى بعض الوقت لكي يتعرّف على هوية يسوع الذي ما جاء للتظاهر، بل للدعوة الى ملكوت الله الذي يمرُّ في الآلام والموت قبل ان يبلغ الى القيامة. قيامة الموتى هي العلامة المسيحانية الأولى التي يطبق عليها مرقس الإنجيلي نظرية السر. لكن هذا الوحي بقي سراً لا يعرفه الا التلاميذ. امَّا عبارة "أَمَرَهُم أَن يُطعِموها " فتشير الى حقيقة قيامة الصبيَّة كما يُعلق القديس ايرونيموس "عندما كان يقيم أحدًا من الأموات يأمر بتقديم طعام له حتى لا يُظن أن القيامة وهم"، ويؤكد ذلك القديس أمبروسيوس " ثمّ أمر يسوع بأن تُطعم. هذه هي شهادة الحياة كي لا يُعتبر الأمر مجرّد خيال، بل حقيقة" (مقالة عن القدّيس لوقا 6: 58-61).





ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 5: 21-43)



بعد دراسة وقائع النص الانجيلي (مرقس 5: 21-43) يُمكننا استنتاج النقطة المشتركة في المعجزتين وهي لمسة يسوع التي تُظهر سلطانه على المرض والموت. بعد اعجوبة "تسكين العاصفة" و"طرد الشيطان من رجل" يروي مرقس الإنجيلي (مرقس 5: 21-43) معجزتين متشابكتين في شفاء المرأة المنزوفة واحياء ابنة يائيرس، وذلك بلمس يسوع مشدداً على الايمان. ومن هنا سنتناول نقطتين: اللمسة الروحية في الإنجيل المقدس وأبعاده ضد المرض والموت والخطيئة والخوف والعبودية.



1) اللمسة الروحي في الإنجيل المقدس



في الاناجيل وردت لفظة اللمس ἅπτωثلاثين مرة في علاقتها مع معجزات الشفاء. وبهذه المعجزات يُحقِّق يسوع نبوءة أشعيا "ها أَن هذه قد مَسَّت شَفَتَيكَ، فأُزيلَ إِثمُكَ وكُفِّرَت خَطيئَتُكَ" (6: 5-7). وتشير هذه اللمسة الى ما صرّح به نعمان السوري لدى شفائه من البرص على يد النبي اليشاع: "كُنتُ أَحسَبُ أنّه يَخرُجُ ويَقِفُ ويَدْعو باسم الرَّبِّ إِلهِه ويحَرِّكُ يَدَه فَوقَ المَكانِ ويَشفِي البَرَص" (2 ملوك 5: 11).



برأ الابرص عندما لمس يسوع بيده كما ورد في انجيل مرقس "فأَشفَقَ عليهِ يسوع ومَدَّ يَدَه فلَمَسَه فزالَ عَنهُ البَرَصُ لِوَقِته وبَرِئ" (مرقس 1: 40)؛ وكذلك شفى يسوع الاصم المعقود اللسان بلمس لسانه إذ "جعَلَ إِصبَعَيه في أُذُنَيه، ثُمَّ تَفَلَ ولَمَسَ لِسانَه" (مرقس 7: 33). المرض هو تعبير عن شقاء الانسان وحالته الزائلة. أمَّا لمسة المسيح فتشفيه من مرضه وتحرِّره من الخطيئة التي تقوده الى الموت.



وذكر انجيل مرقس ايضا الشفاء من علل كثيرة مرتين من خلال اللمس" إذ شَفى كَثيراً مِنَ النَّاس، حتَّى أَصبَحَ كُلُّ مَن بِه عِلَّةٌ يتَهافَتُ علَيه لِيَلمِسَه" (مرقس 3: 10) "وحَيثُمِا كانَ يَدخُل، سَواءٌ دَخَلَ القُرى أَوِ المُدُنَ أَوِ المَزارِع، كانوا يَضَعونَ المَرْضى في السَّاحات، ويَسأَلونَه أَن يَدَعَهم يَلمِسونَ ولَو هُدْبَ رِدائِه. وكانَ جميعُ الَّذينَ يَلمِسونَه يُشفَون" (مرقس 6: 56). وقد لاحظ المرضى "أنّ قُوَّةً كَاَنت تَخرُجُ مِنهُ فتُبرِئُهُم جَميعاً؛ لذا "كانَ الجَمعُ كُلُّه يُحاوِلُ أَن يَلمِسَه" (لوقا 6:19) او لمس ردائه كما كان الحال مع المرأة المنزوفة (مرقس 5: 27) او "يَلمِسونَ ولَو هُدْبَ رِدائِه" (مرقس 6: 56). فكل من كان يلمسه بإيمان، كان يشفى (مرقس 5: 56) او يخلص διεσώθησαν (متى 14: 36) لأنه لمس المسيح، مصدر الحياة. ويدل الشفاء على ان الله يريد الحياة للبشرية (يوحنا 10: 10). وشرط الشفاء الوحيد هو الايمان. وقد كشف يسوع الى المرأة المنزوفة القوة الالهية التي تنبعث منه لما حاولت ان تفهم الشفاء ولمسته بإيمان كما جاء في جوابه "يا ابنَتي، إِيمانُكِ خَلَّصَكِ" (مرقس 5:34).



عرف يسوع كثير من الناس، البعض سعى اليه مثل يائيرس والمرأة المنزوفة، أمَّا هو فقد سعى اليهم جميعاً، دون اعتبار لعظمتهم مثل الحاكم الروماني (مرقس 5: 15: 1-15) قائد ديني بارز (يوحنا 3: 1-21) رجل قانون (متى 22: 34-35) ملك (لوقا 23: 23 7-11) قائد مئة روماني (لوقا 7:1-10) او احد رجال الحكومة (يوحنا 4: 46-53) رئيس الكهنة (متى 26: 62-68) نبي (متى 3)، او حقارتهم مثل جابي الضرائب المحتقر (متى 9/9) والابرص المنبوذ (لوقا 17: 11-19) خائن (يوحنا 13: 1-3) رجل مشلول عاجز (مرقس 2: 1-12) او تلميذه يشك فيه (يوحنا 2:24-29) او عدوه يكرهه (أعمال 9: 1-9)؛ سواء كانوا اغنياء مثل الشاب الغني (مرقس 9: 17-27) والرجل الغني (مرقس 10: 17-23)؛ ام فقراء مثل الارملة الفقيرة (لوقا 7: 11-17) والشحاذ الأعمى (مرقس 10: 10: 46) سواء كانوا خطأة مثل المرأة الزانية (8: 1-11) اللص اليمين (لوقا 23: 40-43) ام قديسين مثل الرسل والتلاميذ، فيسوع يهتم بالجميع على حد سواء، وليس احد يخرج عن دائرة لمسة محبته. ومن هنا نجد ابعاد للمس الروحي: ضد المرض والموت والخطيئة والخوف والعبودية



2) ابعاد اللمسة الروحية: ضد المرض والموت والخطيئة والخوف والعبودية



ا) لمسة شفاء ضد المرض



يظهر سلطان يسوع على المرض من خلال لمسات يسوع "كانوا يَضَعونَ المَرْضى في السَّاحات، ويَسأَلونَه أَن يَدَعَهم يَلمِسونَ ولَو هُدْبَ رِدائِه. وكانَ جميعُ الَّذينَ يَلمِسونَه يُشفَون" (مرقس 6: 56) "كانَ الجَمعُ كُلُّه يُحاوِلُ أَن يَلمِسَه، لأَنَّ قُوَّةً كَاَنت تَخرُجُ مِنهُ فتُبرِئُهُم جَميعاً" (لوقا 6: 19). "الَّذينَ مسَّ اللهُ قُلوبَهم" (1 صموئيل 10: 26). وأجلى مثال على لمسات يسوع ضد المرض هي معجزة المرأة المنزوفة (مرقس 5: 25-34). قد تألمت هذه المرأة جسديا ومادياً أيضاً لأنها أنفقت كل ما عندها، وتألمت نفسياً أيضاً لأنها مريضة ولا تملك المال، وتألمت اجتماعيا ايضا لأنه في ذلك الوقت كانت الشريعة تعتبر نازفة الدم نجسة ومرفوضة من المجتمع. لذا تريد المرأة ان تتستر، لأنها كانت تخجل من مرضها، ولأنها كانت في حالة نجاسة شرعية من الناحية الطقسية كما تنص الشريعة الموسوية "أَيَّةُ آمَرأَةٍ سالَ دَمُها أَيَّاماً كَثيرةً في غَيرِ وَقْتِ طَمثِها أَوِ آمتدَّ السَّيَلانُ إِلى ما بَعدَ وَقتِ طَمْثِها، تكونُ في جَميعِ أَيَّامِ سَيَلانِ نَجاسَتِها كما في أَيَّامِ نَجاسَةِ طَمْثِها: إِنَّها نَجِسَة (الاحبار 15: 25). فهي نجسة وتنجّس كل من يلمسها. ولعل ذلك هو السبب في انها أتت من وراء يسوع حتى لا يراها أحد.



وكان الاعتقاد قديما هو انه حتى المناديل والمآزر التي يُؤتى بها من الشخص الذي له القدرة على الشفاء كان بها قوة شافية كما حدث مع بولس الرسول "حتَّى صارَ النَّاسُ يأخُذونَ ما مَسَّ بَدَنَه مِن مَناديلَ أَو مآزِر فيَضَعونَها على المَرْضى فَتَزولُ الأَمراضُ عنهُم، وتَذهَبُ الأَرواحُ الخَبيثة" (اعمال الرسل 19: 12)؛ وكذلك ظل الشخص الذي له القدرة على الشفاء يشفي كما حدث مع بطرس الرسول "حتَّى إِنَّهم كانوا يَخرُجونَ بِالمَرْضى إِلى الشَّوارِع، فَيَضعونَهم على الأَسِرَّةِ والفُرُش، لِكَي يَقَعَ ولَو ظِلُّ بُطرُسَ عِندَ مُرورِه على أَحَدٍ مِنهُم" (اعمال الرسل 5: 15).



وحالما مسّت المرأة ثياب يسوع شفيت فوراً. ولكن يسوع لم يدعْها تمضي بدون ان يُفهمها ما حدث، فطرح سؤال "مَن لَمَسَ ثِيابي؟" (مرقس 5: 30)؛ لانَّ يسوع اراد ان يجعلها تقف أمامه وأمام الآخرين بكرامة ودون أن تكون أسيرة للخوف، لأنها ابنة للرب، وتعلن علنيّاً على ان شفاءها هو استجابة لِلَمسة إيمانها، وليس شفاؤها صادراً عن طاقة نفسية او علامة سحرية. لم تكن هناك قوة سحرية في ثياب يسوع، وانما ينسب يسوع شفاء المرأة الى إيمانها. "يا ابنَتي، إِيمانُكِ خَلَّصَكِ، فَاذهَبي بِسَلام، وتَعافَي مِن عِلَّتِكِ" (مرقس 5: 43). إن يسوع الذي تنبه للمعاناة الإنسانية، يدعونا ان نسير على خطاه وان نفكر أيضًا بأولئك الذين يساعدون المرضى ليحملوا صليبهم بإيمانٍ وفرح، وخاصة الأطباء، والممرضين ومقدمي العناية الصحية، بالإضافة الى أولئك الذين يقدمون الخدمات الروحيّة والإرشادات الدينية خلال العلاجات الطبية وأحياناً النفسية.



ونستنتج مما سبق أنَّ الايمان بالمسيح هو شرط لا بدَّ منه لكل شفاء ومعجزة. والإيمان حسب نصوص معجزات يسوع هو "لمس يسوع المسيح"، ولمسه يعني ملاقاته، الوثوق به التعرّف اليه شخصيّاً. وأكد يسوع ان الايمان شفاها، والايمان الحي يقتضي عملا، والايمان الذي لا يتحوَّل الى عمل، ليس إيمانا. فالإيمان ليس خبرة ذاتية، بل علاقة شخصية مع يسوع. هو اختبار روحي يبدأ بمغامرة روحية ومُؤسِّسُه ومنفِّذُه هو الله نفسه. وبعبارة اخرى لمسة المرأة المنزوفة هي لمسة إيمان شخصي ناجم عن شعور عميق بالحاجة والاقتناع بقوة يسوع الشافية. ايمان لا يعرف الخوف ولا التعب ولا يضع شرطا ولا يتخذ حُجَجاً. وعليه فان هذه اللمسة تختلف عن لمس الجمع الذين كانوا يزحمون يسوع (مرقس 5: 31). فإيمان هذه المريضة هو الذي ميَّزها عن الكثيرين غيرها، الذين كانوا مثلها يطلبون الشفاء. ومجرد لمس هُدْب ثوب المسيح مقروناً بالإِيمان، كان باب الخلاص لها، وقد قال الكتاب: "فالإِيمانُ بِالقَلبِ يُؤَدِّي إِلى البِرّ، والشَّهادةُ بِالفمِ تُؤَدِّي إِلى الخَلاص" (رومة 10:10). بينما معاشرة يهوذا الإِسخريوطي للمسيح ومساكنته ثلاث سنين دون إيمان لم تأت بهذه النتيجة، بل زادته دينونة.



ب) لمسة الحياة ضد الموت



سلطان يسوع لا يقتصر على المرض بل يمتد الى ما وراء القبر، الى الموت. ويظهر سلطان يسوع على الموت في لمسة ابنة يائِيرس، رئيس المجمع واحيائها من الموت (مرقس 5: 21-24، 35-43). ويُعلق القديس كيرلس الاسكندري "إنّ الرّب لم يمنح كلماته القديرة على إحياء الموتى فحسب، إنّما لكي يُظهر أيضًا أن جسده هو جسدٌ مُحيي، كان يلمس الموتى فينفخ الحياة في أجسادهم الميتة".



جاء يائِيرس الى يسوع في كفرناحوم وهو على شاطئ البحيرة وسجد له طلبا الشفاء ابنته قائلاً: "تَعالَ وضَعْ يَدَيكَ علَيها لِتَبرَأَ وتَحيا" (مرقس 5: 23). فأظهر يائِيرس كامل إيمانه بالمسيح متحدياً كلام الناس عندما أخبروه انَّ ابنته قد ماتت. وأصبحت الحياة ممكنة عندما يتقبل المرء محدوديته ويتوقف عن رغبته في تخليص نفسه بنفسه، ويلجأ إلى من يستطيع فعلاً أن يمنح الحياة. ويسعى وراء الرب، يحصل على الحياة. ويُعلق القديس يوحنّا بولس الثاني البابا " وهنا نرى كيف أن الرّب يسوع يأتي لملاقاة البشريّة في المحطّات الأكثر صعوبةً والأكثر ألمًا. إن المعجزة التّي قام بها الرّب في بيت يائِيرس تظهر لنا قدرته المضادّة للشّر. إنّه ربُّ الحياة والمنتصر على الموت" (حديث بتاريخ 02/04/1987 موجّه إلى شباب التشيلي).



وقد أتمّ يائِيرس الشروط الأربعة اللازمة لنيل المعجزة، وهي: القدوم إلى المسيح. والاتضاع أمامه، والحرارة في الطلب والإيمان الحي به. فوطّد يسوع ايمان يائيرس بالرغم من أن الشكوك لا تزال تحوم حول يسوع "وضحكوا منه" عندما قال انها نائمة. يعلق القدّيس أمبروسيوس "عندما نؤمن بالقيامة، لا نرى في الموت نهاية بل راحة دائمة" (مقالة عن القدّيس لوقا 6: 58-61).



الموت في نظر يسوع ليس موتا، بل رقاداً يسبق اليقظة. فدخل يسوع مع ثلاثة من رسله وِأَبي الصَّبيَّةِ وأُمِّها الى غرفة الموت، وبسلطانه أمسك يد الجثة، وكلّم الروح التي فارقت الجسد، وأُرجِعها إليه بقوله: "يا صبية قومي". وللوقت قامت الصبية ومشت. ثم أمر أبويها أن يقدّما لها طعاماً. فأحدثت هذه المعجزة دهشة عظيمة فتحققت نبوءة أشعيا "يُزيلُ المَوتَ على الدَّوام وَيمسَحُ السَّيِّدُ الرَّبُّ الدُّموعَ عن جَميعِ الوُجوه" (أشعيا 25: 8). ووصف الرسول بولس عمله أنه "أَبْطَلَ الْمَوْتَ وَأَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُودَ" (2 طيموتاوس 1:10). حصل يائِيرس على احياء ابنته بفضل ايمانه "أَمَّا الْبَارُّ فَبِالْإِيمَانِ يَحْيَا" (رومية 1:17). ونجد لمسة الحياة ضد الموت ايضا في إحياء ابن ارملة نائين (لوقا 7: 11-17)؛ إذ تقدم يسوع ولمس النعش وقال: "يا فتى، أقولُ لَكَ: قُمْ! هل تحتاج لقوة الحياة بأن تملأ قلبك، أفكارك، كلامك، خدمتك وعلاقاتك؟ ويعلق القدّيس كيرِلُّس، بطريرك الإسكندريّة " فإذا كان مجرّد لمس جسده المقدّس أعطى الحياة لأولئك الأموات، فكم بالحريّ هي الفائدة الّتي نجنيها من تناولنا الإفخارستيّا المُحْيِية " (شرح لإنجيل يوحنّا، 4). لنطلب لمسة يسوع بإيمان!



ج) لمسة التقديس ضد الخطية



نجد لمسة التقديس ضد الخطيئة في معاملة يسوع مع الخطأة. يسوع هو القدوس، هو الكلي القداسة، إنه الطاهر الذي لم يعرف الخطيئة. وعندما كان يتجوّل في خدمته، كان يجلس مع العشارين والخطأة ويأكل معهم، وأجمل مثال على ذلك المرأة الزانية (8: 1-11) اللص اليمين (لوقا 23: 40-43) لقد لمسهُ هؤلاء الناس ونالوا حالاً الشفاء. لمستهم لم تُنجس يسوع، بل قدّستهم وصاروا أصحّاء! الم يقل سيدنا يسوع المسيح: "ما جِئتُ لأَدعُوَ الأَبرار، بلِ الخاطِئين" (مرقس 2: 17).



ولم تنجسه قط لمسة من إنسان نجسٍ بحسب الشريعة: فقد لمس الأبرص الذي كان من المفروض أن يكون منعزلاً عن الناس بسبب مرضه (مرقس 1: 40)، ولم يوبِّخ المرأة المنزوفة عندما لمست هدب ثوبه (مرقس 5: 25). كذلك عندما لمس نعش الشاب الميت، رغم أن هذا العمل كان مُعارضاً للشريعة اليهودية، لكن يسوع أسمى وأعلى من أي قوانين وشرائع، إنه إله مجيد! النجاسة الحقيقية لا تأتي من امور خارجية، مثل نزيف الدم، والبرص، بل من داخل قلب الانسان، كما علّم الرب يسوع ذات يوم: " ما مِن شَيءٍ خارجٍ عنِ الإِنسان إِذا دخَلَ الإِنسانَ يُنَجِّسُه. 16 ولكِن ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان... أَنَّهُ مِن باطِنِ النَّاس، مِن قُلوبِهم، تَنبَعِثُ المَقاصِدُ السَّيِّئةُ والفُحشُ وَالسَّرِقَةُ والقَتْلُ 22 والزِّنى والطَّمَعُ والخُبثُ والمَكْرُ والفُجورُ والحَسَدُ والشَّتْمُ والكِبرِياءُ والغَباوة. 23 جَميعُ هذِه المُنكَراتِ تَخرُجُ مِن باطِنِ الإِنسانِ فتُنَجِّسُه" مرقس 7: 14، 14، 15، 20،219). ومهما كنَّا خاطئين، ونرى نفوسنا بأننا في حالة النجاسة، يكفي أن نأتي الى يسوع ونطلب لمسته ننال الشفاء من خطايانا، وتتقدس حياتنا وأفكارنا، وكلامنا ونصير إنساناً جديداً مُكرساً لله.



د) لمسة الأمان ضد الخوف



نجد لمسة الايمان ضد الخوف في حادثة التجلي حيثِ "استَولى علَي التلاميذ خَوفٌ شديد. فدنا يسوعُ ولمَسَهم وقالَ لَهم: "قوموا، لا تَخافوا" (متى 17: 6-8). لكن ما أعظم لمسة يسوع، ما ان لمست المرأة المنزوفة الخائفة السيد المسيح، حتى شعرت سلام القلب، ثمرة إيمانها. وكذلك لمس تلاميذه الخائفين المضطربين، فرَدَّ السلام الى نفوسهم. إن قلبه مليء بالحنان والحب والعطف، وهو يرثي لضعفنا، ولقد اقترب من تلاميذه الضعفاء بكل محبة، ولمسهم وأقامهم.



وتكلم الكتاب المقدس كثيراً عن الخوف، حيث هنالك وعود كثيرة من الرب تشجِّع على عدم الخوف. يسوع نفسه يتفهم مخاوفنا واضطراباتنا، هنالك مخاوف كثيرة في حياتنا: مخاوف من المستقبل، مخاوف من المجهول، مخاوف من التغيير. يسوع يتفهم خوفنا لأنه "امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة" (عبرانيين 4: 15). وقبل الصلب "جعَلَ يَشعُرُ بالرَّهَبةِ والكآبة. فقالَ لتلاميذه: "نَفْسي حَزينَةٌ حتَّى المَوت". لذلك فهو يعرف تماماً هذا الشعور.



وفي حادثة أخرى، تُبيِّن لمسة الامان ضد الخوف من خلال حادثة انقاذ بطرس من الغرق "عندَما رأَى بطرس شِدَّةَ الرِّيح، فَأَخَذَ يَغرَق في المياه "فمَدَّ يسوعُ يَدَه لِوَقْتِه وأَمسكَه"، وما إن أصبحت يد بطرس في يد يسوع، حتى عاد السلام الى قلبه وسار على المياه بأقدام ثابتة (متى 14: 22-33). لمسة يسوع تُحَوّل القلب الخائف والمضطرب إلى قلبٍ ثابت فنشعر بأمان! لذا علينا ان لا نسمح مطلقا لمخاوفنا ان تمنعنا من الاقتراب منه.



ه) لمسة تحرِّر ضد العبودية



نجد لمسة يسوع ضد العبودية خاصة في حادثة شفاء المرأة المنحنية الظهر (لوقا 13: 10-17). لقد كانت المرأة مُقيدة بروح مرض لمدة ثمانية عشر سنة، ولم تستطع أن تنتصب بسبب هذا القيد! ولم تستطع ان تتمتع بالنظر في وجوه الناس، بل كانت تنظر إلى الأرض دائماً، وكان ظهرها مُحّدَباً. فجاء يسوع وحررها من العبودية وذلك "بوَضَعَ يَدَيهِ علَيها، فانتَصَبَت مِن وَقْتِها" (لوقا 13: 13).



وكم من قيود وأتعاب جعلتنا منحنين إلى أسفل، حيث يمكن ان نكون عبيد لعادة معينة مثل: التدخين، الحلفان باسم الله باطلا، النميمة، وقيود جنسية. أو قد تثقل ظهورنا الهموم والمشاكل فننحني ولا نستطيع الوقوف! لكن هذه المرأة تحررت بمجرد لمسة واحدة من يسوع، وانتصبت ومجدت الله. فلنتقدم الى يسوع بثقة، ولندعه كي يلمسنا ويحررنا من عبوديتنا فيسود على حياتنا. اللمسة الروحية تعلمنا أن نعي عجزنا في التغلب على الشر وحدنا، بل انن بحاجة أن نبحث عن الخلاص في يسوع المسيح الطبيب والحياة.



الخلاصة



بعد ان واجه السيد المسيح العاصفة وأخضعها، واجه المرض والموت محطمًا شوكتهم بلسمة حبه. قد لا يؤمن الانسان المعاصر بالشفاء عن طريق اللمس. والواقع ليس اللمس الذي يشفي، انما يسوع هو الذي يبعث في المريض إيمانا بان يلمسه. فمن لا يؤمن، ويلمسه خارجيا فقط، لن يختبر يسوع وبالتالي لن يحصل على الشفاء (مرقس 5: 31). أمَّا من يلمس يسوع بإيمان فذاك الذي يشترك في قوته الإلهية كما حدث مع شفاء الصبي المصاب بالصرع "فأَخَذَ يسوعُ بِيَدِه وأَنَهَضَه فقام" (مرقس 9: 27). وهناك ايضا مثال الامهات اللواتي كنَّ يقدمن اطفالهن ليسوع كي يباركهم ويصلي عليهم "وأَتَوهُ بِأَطفالٍ لِيَضَعَ يَدَيهِ علَيهم" (مرقس 10: 13). وليس لهذا اللمس اي علاقة في السحر بل إنها عادة يهودية يستخدمها علماء الشريعة.



كيف يمكن ان نلمسه "نلمس" يسوع اليوم ونَنال المُعجزة التي نريدها؟ من خلال الكلمة؛ عندما تتأصل روحنا مع الكلمة. إن تركنا كلمة الرب "تلمسناَ"، فكأنَّ يسوع يلمسنا. إن هذه اللمسة تتخطى الحواس؛ اننا نؤمن بروحنا. يقول الكتاب "فالإِيمانُ بِالقَلبِ يُؤَدِّي إِلى البِرّ" (رومة 10:10). عندما نؤمن بكلمة الرب، ونتجاوب وفقاً لإيماننا، نحن نتواصل مع قوة الرب. والقوة تعمل فقط عندما نؤمن بروحنا ونتصرف بناءً على ذلكَ؛ هذا هو الإيمان: إنه استجابة الروح البشرية لكلمة الله.



الرب يريدنا أن نلمسه لمسة إيمان. مهما كانت مشكلتنا اليوم. من خطيئة وزنى ومرض وكذب… الرب مشتاق أن نلمسه ليشفينا من كل مرض وموت وخطيئة وخوف وعبودية. لمسته قوية، شافية، محرّرة ولها أعظم تأثير. إنها لمسة تُغيّر، تُحرّر وتشفي ليس فقط الجسد، وإنما الفكر والنفس والروح، لمسة تُغيّر المصير! وبوسعنا الا نلمس طرف ردائه بل جسده ودمه في القربان المقدس. هذا هو إلهنا المبارك، ربنا يسوع المسيح، الذي قيل عنهُ "جميع الذين لمسوه نالوا الشفاء" (متى 14: 36).





دعاء



أيها الاب السماوي، انت يا من أرسلت ابنك يسوع المسيح الى أرضينا لكي يهتم بحاجاتنا ويحرِّرنا من مخاوفنا التي تمنعنا من الاقتراب منه، دعه يلمس حياتنا بقوّته فنعرف حدودنا ونلجأ اليه ونؤمن بالمستحيل لأنه هو وحده القادر أن يشفينا من أمراضنا ويعيد إلينا الحياة من خلال علاقتنا الشخصية معه على مثال المرأة المنزوفة ويائيرس رئيس المجمع. وها نحن نستودع ذواتنا وحياتنا بين يديك يا رب، ونؤمن بانك تأخذ بيدنا وتدعونا لنقوم. وتتحقق فينا كلمتك القدوسة "إيمانُنا خَلّصَنا". ‏ آمين




الأب لويس حزبون - فلسطين

رد مع اقتباس
 


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
يسوع فقد استباح استراحة السبت لشفاء المرضى
صلاة لشفاء المرضى
صلاة لشفاء المرضى
صلاة للقديسة مريم العذراء لشفاء المرضى
صلاة لشفاء المرضى


الساعة الآن 02:47 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024