رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مقالات الراهب القمص بطرس البراموسي
المسيحية والاستشهاد إن قصة الاستشهاد هي قصة المسيحية كلها.. فالاستشهاد والمسيحية صديقين متلازمين لا يفترقان عن بعضهما. فالاستشهاد هو قصة الكرازة بالإنجيل في كل العالم لأن الإيمان المسيحي كان ينتشر في كل مكان، وكانت جذوره تدب في أعماق البشرية.. فكان يمتد في المسكونة طولًا وعرضًا وعمقًا، وذلك بشهادة الدم أكثر من الوعظ والتعليم. فنجد مُعلِّمينا الكبار بطرس وبولس كليهما استشهد من أجل انتشار الإيمان: الأول مصلوبًا منكس الرأس، والآخر بحد السيف، ونالا إكليل الشهادة من أجل تمسكهم بالسيد المسيح. وهذا هو الفكر السامي في الكرازة والتبشير في المسيحية.. أن المبشر والكارز هو الذي يستشهد من أجل الإيمان، وليس مَنْ لا يؤمن بالدين هو الذي تقطع رقبته. فلم تعرف البشرية في كل عصورها شهداء مثل شهداء المسيحية.. من حيث شجاعتهم وإيمانهم ووداعتهم وشجاعتهم واحتمالهم وجدّهم وفرحهم بالاستشهاد.. فنجدهم يعانقون الموت في فرح وهدوء ووداعة عجيبة تذهل مَنْ يعذبونهم ومضطهديهم!! مما يجعلهم في آخر هذه المرحلة الأليمة يؤمنون بالسيد المسيح الذي يعبده النصارى، عندما يرون إيمانهم وجدّهم واحتمالهم للعذابات لآخر نَفَس!! فقد وجدنا "إريانوس" أشرس الولاة الذين قاموا بالتفنن في تعذيب المسيحيين، وكل مَنْ احتاروا في أمره أوصلوه إلى إريانوس القاسي القلب.. فتارة يعذبهم بالهنبازين، وتارة بالحرق، وتارة بتعليقهم على ساري المركب، وتارة أخرى بتمشيط أجسادهم ثم وضعهم في جير حي.. وتبارى في أنواع التعذيب. وأخيرًا نجد إريانوس هذا يؤمن بالسيد المسيح بل ينال إكليل الشهادة من أجل إيمانه!! يا ترى ما هو السبب في ذلك؟! وما الذي جعل الشهداء يحتملون هذا العذاب؟ * لقد نظروا إلى العالم نظرة وقتية.. فهذا العالم الفاني لا يُقاس بالحياة الأبدية التي سوف يحيون فيها.. وذلك لأنهم عاشوا الإنجيل وتعاليم الآباء الرسل.. "لأنَّ خِفَّةَ ضيقَتِنا الوَقتيَّةَ تُنشِئُ لنا أكثَرَ فأكثَرَ ثِقَلَ مَجدٍ أبديًّا. ونَحنُ غَيرُ ناظِرينَ إلَى الأشياءِ التي تُرَى، بل إلَى التي لا تُرَى. لأنَّ التي تُرَى وقتيَّةٌ، وأمّا التي لا تُرَى فأبديَّةٌ" (2كو4: 17-18). * وقد عاشوا حياة الغربة على الأرض، وشعروا أنهم غرباء ونزلاء في هذا العالم.. فالنزيل أو الغريب لا يمكنه أن يمتلك شيئًا إلاَّ في وطنه وفي أرضه.. "أيُّها الأحِبّاءُ، أطلُبُ إلَيكُمْ كغُرَباءَ ونُزَلاءَ، أنْ تمتَنِعوا عن الشَّهَواتِ الجَسَديَّةِ التي تُحارِبُ النَّفسَ" (1بط2: 11). إن حياتنا على الأرض مهما طالت فلا بد أن نرجع إلى وطننا السماوي مستقرنا الأخير بيتنا الأصلي، وإلى ميراثنا المحفوظ لنا في السموات.. وهذا ما أكّده لنا مُعلِّمنا بولس عندما قال: "في الإيمانِ ماتَ هؤُلاءِ أجمَعونَ، وهُم لم يَنالوا المَواعيدَ، بل مِنْ بَعيدٍ نَظَروها وصَدَّقوها وحَيَّوْها، وأقَرّوا بأنَّهُمْ غُرَباءُ ونُزَلاءُ علَى الأرضِ" (عب11: 13). * وقد شعروا أن هذا العالم قد وُضع في الشرير، وأن الحياة فيه كلها حزن وألم وضيق.. ولكن هذا الضيق والألم سرعان ما سوف يتحول إلى فرح، عندما نصل إلى السماء.. وهذا ما قاله السيد المسيح له المجد: "الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنَّكُمْ ستَبكونَ وتنوحونَ والعالَمُ يَفرَحُ. أنتُمْ ستَحزَنونَ، ولكن حُزنَكُمْ يتحَوَّلُ إلَى فرَحٍ" (يو16: 20). * ولمعرفتهم أيضًا أن نهاية ضيقات وأحزان وآلام هذا العالم الذي نعيش فيه سوف تؤول إلى مجد عظيم في السماء.. ولذلك صبروا واحتملوا الآلام مُفضلين الضيقات الأرضية التي تؤهلهم إلى المجد السماوي الذي لا يوصف.. عاملين بما ذكره مُعلِّمنا بولس الرسول: "صادِقَةٌ هي الكلِمَةُ: أنَّهُ إنْ كُنّا قد مُتنا معهُ فسَنَحيا أيضًا معهُ. إنْ كُنّا نَصبِرُ فسَنَملِكُ أيضًا معهُ" (2تي2: 11-12). "فإني أحسِبُ أنَّ آلامَ الزَّمانِ الحاضِرِ لا تُقاسُ بالمَجدِ العَتيدِ أنْ يُستَعلَنَ فينا" (رو8: 18). * ولذلك زهدوا كل شيء في أيديهم وفي العالم، عائشين حياة التجرد والاختلاء من كل ممتلكات العالم، سائرين على خُطى بولس الرسول الذي قال: "لأنَّنا لم نَدخُلِ العالَمَ بشَيءٍ، وواضِحٌ أنَّنا لا نَقدِرُ أنْ نَخرُجَ مِنهُ بشَيءٍ. فإنْ كانَ لنا قوتٌ وكِسوَةٌ، فلنَكتَفِ بهِما" (1تي6: 7-8).. وذلك لأن مُعلِّمنا بولس اعتبر أن الغنى هو غنى الروح وليس الجسد.. (أي الغنى الروحي وليس الجسدي). * لذلك اشتهوا أن ينطلقوا من الجسد لكي يكونوا مع المسيح.. "ليَ اشتِهاءٌ أنْ أنطَلِقَ وأكونَ مع المَسيحِ، ذاكَ أفضَلُ جِدًّا" (في1: 23). وما شجعهم على هذا هو قول السيد المسيح: " في بَيتِ أبي مَنازِلُ كثيرَةٌ، وإلاَّ فإني كُنتُ قد قُلتُ لكُمْ. أنا أمضي لأُعِدَّ لكُمْ مَكانًا، وإنْ مَضَيتُ وأعدَدتُ لكُمْ مَكانًا آتي أيضًا وآخُذُكُمْ إلَيَّ، حتَّى حَيثُ أكونُ أنا تكونونَ أنتُمْ أيضًا" (يو14: 2-3). من أجل هذا اشتهى آباءنا القديسين الاستشهاد.. لأنه هو الذي يُؤهلهم لهذا اللقاء مع عريسهم السمائي، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى.. وقد فعلوا كل ذلك من محبتهم العجيبة للسيد المسيح، مُفضلين الحياة معه عن سواه، واضعين أمام أعينهم الآية القائلة: "مَنْ أحَبَّ أبًا أو أُمًّا أكثَرَ مِني فلا يَستَحِقُّني، ومَنْ أحَبَّ ابنًا أو ابنَةً أكثَرَ مِني فلا يَستَحِقُّني" (مت10: 37).. فكانت حياتهم في الجسد وليست للجسد، وحياتهم في العالم وليست للعالم.. عاشوا في العالم دون أن يعيش العالم في داخلهم وفي قلبهم.. لذلك أحبوا الموت أفضل من الحياة في الخطية.. سفكوا دمائهم من أجل محبتهم في الملك المسيح الذي بذل نفسه على عود الصليب من أجلهم. فيا إلهنا الصالح.. الذي أعنت آباءنا الشهداء على احتمال الآلام والعذابات.. من أجل تمسكهم باسمك المبارك.. أعنَّا نحن أيضًا لكي نستطيع أن نشهد لاسمك القدوس المبارك.. ونقدم للكل مَثلًا حيًا للإنسان الذي يشهد للمسيح في كل مكان.. ليروا أعمالنا الصالحة فيمجدوك أنت.. الذي لك كل المجد والإكرام من الآن وإلى الأبد آمين. |
|