لذلك نجد أن الله في العهد القديم أظهر الطريق الوحيد للخلاص والنجاة من الموت، لأن [أمر الله موسى - في الشريعة - أن يصنع حية من نحاس ويرفعها ويثبتها على رأس ساري فكان كل من لدغته الحيات ينال الشفاء بمجرد تثبيت نظره على الحية النحاسية، ولقد صنع موسى هذا بتدبير وقصد إلهي، حتى أن أولئك المعوقين بالاهتمامات الأرضية، وعبادة الأصنام، ولذات الشيطان، وكل أنوع الشر - (هذه الأشياء هي سم الحيات) - فأنهم بهذه الوسيلة يتطلعون إلى أعلى، إلى ما هو فوق إلى الأمور السمائية، واذ يبتعدون بنظرهم عن الأشياء السُفلية فترة من الوقت فأنهم يعطون اهتمامهم لما هو أعلى وأسمى، وهكذا يتقدمون رويداً رويداً إلى ما هو أعلى وأكثر سمواً لكي يعرفوا ويتعلَّموا ذلك الذي هو الأعلى جداً والأسمى جداً والفائق لكل الخليقة.
ولكن ما المقصود بالحية الميتة؟ الحية المثبتة على رأس الساري كانت تشفي أولئك الذين لدغتهم الحيات. فالحية النحاسية التي بلا حياة قد أبطلت فعل سم الحيات التي فيها حياة. وهذا رمز إلى جسد الرب. فالجسد الذي أخذه من العذراء، قد قدمه على الصليب، وعلقه هناك مثبتاً على الخشبة، وهذا الجسد المائت على الصليب غلب وقتل الحية التي تعيش وتزحف داخل القلب. فهو أعجوبة عظيمة: كيف أن حية ميتة قتلت حية عائشة، ولكن كما أن موسى صنع أمراً جديداً لما عمل حية من نحاس، هكذا الرب ايضاً قد صنع شيئاً جديداً من العذراء مريم، ولبس هذا الجسد بدلاً من أن يحضر معه جسداً من السماء، فالروح السماوي دخل في الطبيعة الانسانية وعمل فيها، وجعلها تدخل في شركة مع اللاهوت اذ لبس الجسد البشري الذي صوره وشكله في بطن العذراء، وكما أن الرب لم يأمر بصنع حية من نحاس في العالم الا في عهد موسى، هكذا ايضاً لم يظهر في العالم جسد بلا خطية الا جسد الرب يسوع. لأنه حينما تعدى آدم الأول الوصية، ملك الموت وتسلط على جميع أبنائه بدون استثناء ولذلك جاء الرب وغلب بجسده المصلوب الحية العائشة.
وهذا الأمر العجيب "هو لليهود عثرة ولليونانيين جهالة" [22] ولكن ماذا يقول الرسول؟
يقول: "ولكننا نكرز بيسوع المسيح وإياه مصلوباً، وهو لليهود عثرة ولليونانيين جهالة وأما عندنا نحن المخلصين فالمسيح قوة الله وحكمة الله" [23]، لأن الحياة هي في الجسد المائت على الصليب. هنا الفداء. هنا النور] [24]
ولكي ندرك قوة الفداء لندخل فيه ينبغي أن نعرف أن الرب يسوع أتى في ملء الزمان كالتدبير ليُقدِّم نفسه ذبيحة كفارة عن حياة العالم، لذلك قدَّم لنا في العهد القديم الرمز اللازم لكي يُؤهل فكرنا ويكيف كل قوانا وقدراتنا العقلية والكيانية لتستقبل خلاصه العظيم الفائق لنعي ونُدرك ما يقدمه لنا من مجد وبهاء يفوق كل قدراتنا، وذلك لكي يُعيدنا لما هو أعظم مما كنا فيه قبل السقوط، بل أيضاً يعطينا ضماناً أننا سنظل في الحضن الإلهي ولن نخرج خارجاً أبداً، طالما نحن متمسكين بخلاصه ولن نطرح عنا اسمه، لأنه اتحد بنا بسبب اتخاذه بشريتنا متحداً بها اتحاداً غير قابل للافتراق، لأن هو الذي نزل بذاته وبشخصه واتخذ جسدنا مسكناً له، هو عينه الذي صعد بنفس ذات الجسد عينه الذي اتحد به اتحاداً فائقاً بسرّ لا يُشرح، وجلس به عن يمين العظمة في الأعالي، ويستحيل أن يتخلى عن جسده، لذلك نحن قد ضمنا به أننا لن نُطرح خارجاً، فخلاصنا أصبح مضموناً ولنا الآن ثقة بالدخول للأقداس، لأننا لا ندخل بقدراتنا وأعمال الناموس بل بما منحه لنا، لأننا فيه وهو فينا فكيف لا نكون معه، وهو متحداً بنا حسب التدبير الخلاصي المعلن في الإنجيل.