مريم وسرّ الفداء (٣)
((إشتراك العضو المميز في الجسد السرّي))
يقول القديس بولس: "إنّي أُتِمّ ما ينقص في جسدي من شدائد المسيح، لأجل جسده الذي هو الكنيسة" (كول 1/24). يُسيءُ من يعتقد أنّ هناك نقصاً في شدائد المسيح نفسه وآلامه الفدائية والتكفيرية، إذ إنّ صليب المسيح لا ينقصه شيء بتاتاً. فإن كان من نقص ففي جسده السريّ، الكنيسة، أي نحن... هذا ما يؤكده توما الأكويني: "ما ينقص من آلام المسيح، أي من آلام الكنيسة كلِّها التي رأسها هو المسيح، إنّي أُكمّله، أُضيف إليه قدري، إذا تعذّبت شخصياً، إذا عبرت الآلام التي تنقص جسدي. كان ينقص المسيح أن يتعذب في بولس ، أحد أعضائه، وفي سائر الأعضاء، كما كان قد تعذّب في جسده هو ." ولقد أصاب بسكال عندما قال إنّ المسيح "في حال نزاع حتى انتهاء العالم." فإن كان للمسيح أن يتعذب في بولس، أما كان له أن يتعذّب أكثر فاكثر في مريم، ذلك العضو المميَّز في جسده السرّيّ؟ وإن صحَّ أنّ بولس "مصلوب مع المسيح" (غل 2/19)، ألا يصحّ ذلك أكثر فأكثر بمريم أمّه؟ يقول القديس برنردس مخاطباً مريم: "لقد جاز حقّاً سيف في قلبك، يا أُمَّنا القديسة! هذا السيف، على كلّ حال، ما كان ليطال جسد الابن لو لم يجُزْ في نفس الأمّ. ومن المؤكَّد أنّ الحرية التي اخترقت جسمه، بعد أن لفظ الروح، لم تجُز في نفسه هو... أمّا في نفسك أنت، فبلى... ولذا فنحن يسعنا أن نسمّيك شهيدة، وأكثر: فإنّ اشتراكك في آلام ابنك يفوق بكثير شدّة العذاب الجسديّ في الاستشهاد" (الفرض الروماني، قراءة نهار 15 أيلول/ سبتمبر). لا بدّ لنا هنا من استطرادٍ في موضوع الألم. والسؤال المطروح هو: إن كانت آلام المسيح هي وحدها فدائيّة، إن كانت هي وحدها ما يخلّصنا، فلماذا علينا، كما يقول بولس الرسول، أن "نحمل في الجسد، كلَّ حين، موت يسوع" (2كور 4/10) ؟ ذلك أنّه: أوّلاً، ينبغي لصليب المسيح أن يُعلن بالفعل كما بالقول. ينبغي لنا، كما لبولس، أن "لا نعرف شيئاً إلاّ يسوع المسيح، وإيّاه مصلوباً" (1كور 2/2). وينبغي أن نعيش ذلك بكلّ كياننا، روحاً وجسداً، فنحمل في أجسادنا "سمات الرب يسوع" (غل 6/17)، فنكون حقّاً له لا لغيره... وهكذا ندخل معه في أُلفة خاصة (العذاب المشترك يقرّب ويوحّد)، ونتفهّم في العمق سرَّ التخلّي عنه وسرَّ موته، ونتحسّس آلام الناس فنكون لهم أصدقاء ذوي شفقة ومؤاساة وعطف. وهكذا نكون تبشيراً حيّاً بصليب المسيح.
ثانياً، إنّ العذاب الذي نتحمّله بروحٍ مسيحيّة تشفُّعٌ هو بالبشر أجمعين. ذلك أنّنا جميعاً جسد واحد. وإذا كان بولس الرسول قد أجاز لنفسه أن يقول للكولوسيّين إنّه "يقاسي الآلام لأجلهم" (1/24)، وفي حين أنّه لم يبشرهم هو بل رفيقه أبفراس، ولم يكن قريباً منهم بل بعيد جدّاً وفي الأسر، فإنّما كان ذلك لإيمانه بعلاقةٍ تربط جميع من يؤمنون بالمسيح، وهم مندرجون في جسده، أي الكنيسة.
ثالثاً، يريد الله- بالعذاب الذي نتحمّله عن رضى، والذي يكمّل فينا صورة المسيح المصلوب- أن يجعلنا شركاءه في الفداء.
اختبرت مريم كلّ ذلك إلى حدٍّ فائق. لقد أتمّت ما ينقص في جسدها من شدائد المسيح، لحل جسده الذي هو الكنيسة...، وارتسمتْ في قلبها سِمات صليب المسيح...، ودخلت في أُلفة المخلّص، كما لا ولن يدخل أحد...، وأدركتْ، بطريقةٍ فضلى، عذاب البشر، فهي تستطيع أن تشفع فيهم بشفقة لا متناهية، فتستحقَّ لهم العزاء والسلام... يقول الأب لورنتين: "مريم، على الجلجلة، لا تقاسي عذاباً جسديّاً، وهي ليست معلَّقة على صليب ابنها. وهي لا تقوم بعمل يُزاد من الخارج إلى عمل المسيح. إنّها تقاسي عذاباته هو. حصّتها؟ التألم معه، والنفاذ المعنويّ للسيف الذي تنبأ به سمعان الشيخ. آلامها؟ انعكاسٌ هي لآلام المسيح في مرآة نفسها الأموميّة. وإنّ ما في نيّتها، انعكاسٌ هو روحيّ لما في نيّة المسيح الفادي."