حديث الرب الوداعى للتلاميذ : وقبل أن يخرج السيد المسيح مع تلاميذه من بيت مارمرقس بدأ معهم حديثه الوداعى الطويل والذى سجله لنا القديس يوحنا فى أربعة اصحاحات هى الأصحاح الرابع عشر ، والخامس عشر ، والسادس عشر ، والسابع عشر ، بدأ حديثه فى العلية فى بيت مارمرقس واستمر طوال الطريق وكذلك فى بستان جثسيمانى المكان الذى أختاره ليتم القبض عليه فيه . حدثهم وهم فى العلية عن السماء موضع راحتهم ، وعن أنه هو الطريق ولا يوجد طريق سواه ، وحدثهم عن إستجابة اللـــه لصلواتهم وعن الروح القدس المعزى الآخر الذى سيرسله إليهم ، والذى سوف يمكث معهم إلى الأبد ، وعن الشركة الدائمة بينه وبينهم بعد إنطلاقه ... وحدثهم أيضا عن إرشادات الروح القدس لهم ، وترك سلامه الذى يفوق كل عقل ، وكذلك حدثهم عن إغتباطه بإنطلاقه . ثم قال لهم : " لكن لكى يعرف العالم أنى أحب أبى وأنى أعمل ما أوصانى به أبى . قوموا ننطلق من هنا " ( يو 14 : 31 ) . وطبعا الأنطلاق ليس للهرب ولكن إلى البستان المكان الذى اختاره ليتم القبض عليه فيه ، والذى يعلم يهوذا أنه سيجد فيه السيد المسيح إذ لم يجده فى بيت مارمرقس إذ لم يجده فى بيت مارمرقس إذ كان قد قضى الليالى الكثيرة مع السيد المسيح والتلاميذ فى الصلاة فى هذا البستان . وفى الطريق حادثهم السيد المسيح عن الثمار المطلوبة منهم وعن المحبة التى فى قلوبهم تجاه كل الناس وتجاه بعضهم البعض ... وحدثهم عن بغضة العالم وأهل العالم لهم ... وحدثهم ثانية عن المعزى روح الحق الذى يشهد للسيد المسيح ( يو 15 ) . وكذلك حدثهم فى الطريق عن المتاعب التى تنتظرهم ولكنه سيرسل لهم المعزى الذى سيبكت الأشرار على خطاياهم ، ومن يفتح ذهنه لعمل روح الله يقبله الله ، وحدثهم عن لقائه بهم بعد قيامته وأنه سوف يستجيب طلباتهم ، وأنه سيترك حالة التواضع هذه ويعود إلى مجده ... ( يو 16 ) ....ولكن يبدو أن التلاميذ حتى هذة اللحظــــة كانوا غير مدركين تماما لموضوع الفداء ودور السيد المسيح وهو مقبل على الصلب ... ، ومثلهم مثل بقية الشعب اليهودى كانوا يتطلعون إلى المسيا الذى يخلص الشعب من نير الحكم الرومانى .... وإلى إعادة مجد الدولة العبريــــــة . وفى البستان قدم فى حديثه صلاة من أجل أن يمجده الله كما مجد هو الله الآب ( شهد له يهوذا بأنه أسلم دما بريئا ، شهدت له زوجة بيلاطس ، وشهدت له عناصر الطبيعة ، شهد له بيلاطس ، شهد له هيرودس ، شهد له لونجينوس " قائد الكتيبة " ، اللافتة التى علقوها على الصليب لم تدنه بشىء ) ، وكذلك صلى من أجل تلاميذه لكى يحفظوا ويتقدسوا ويتمجدوا . ( يو 17 ) . الآم الرب فى البستان : طلب السيد المسيح من تلاميذه البقاء فى البستان ، وأخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا ، وطلب منهم السهر والصلاة ، ثم انتحى جانبا فى صلاة حارة ، صلى ثلاث مرات وكان يعود كل مرة ليجد بطرس ويعقوب ويوحنا نائمين . كان حزنه واكتئابه ليس آلاما جسدية وإنما صراع روحى رهيب ، هو كذبيحة محرقة موضع سرور أمام الأب ، وموضع سرور لنفسه ، ولكن أن يكون ذبيحة خطيئة وإثم وتقع عليه جميع خطايا العالم منذ خلقته وحتى يوم القيامة .... لا يكون هذا موضع سرور لنفسه ولا للأب ، ولم يذكر العهد القديم أن ذبيحة الخطيئة والأثم رائحة سرور أمام الله ، من هنا نفهم كيف أن الأب اشتم ذبيحة السيد المسيح كرائحة سرور وهو يمثل ذبيحة المحرقة ، وكيف أن الآب حجب وجهه عن السيد المسيح وهو يمثل ذبيحة الخطية وهو يرفع جميع خطايا العالم فى جميع العصور وهو البار الذى " لم يعمل ظلما ولم يكن فى فمه غش " ( إشعياء 53 : 9 ) ، ومن هنا نفهم لماذا صرخ السيد المسيح نحو الآب قائلا : " إلهى ..إلهى ..لماذا تركتنى ... " ( وهو يمثل ذبيحة الخطيئة ) . هذه الآلام النفسية والجسدية كانت مهولة .. صرخ السيد المسيح من شدة الألم معبرا عن رغبته الطبيعية فى تجنب الألم ولكنه جاء خصيصا من أجل هذا ، لذلك قال : " يا أبتاه إن شئت فجنبنى هذه الكأس " ثم قال بعدها : " لتكن لا مشيئتى بل مشيئتك " خضعت مشيئته الناسوتية كما هى خاضعة دائما لمشيئته اللاهوتية ، ليس له مشيئة منقسمة بل مشيئة واحدة هى مشيئة الآب التى هى مشيئة الأبن بإستمرار . ظهر له الملاك يمجد لاهوته ليتقوى ناسوته . وأنه جاء يسبح الله قائلا : " لك القـــــــوة " ( لوقا 22 : 43 ) ظاهرة العرق الدموى هى ظاهرة نادرة ، لأنه فى الأحوال العادية حين يزداد الألم بالإنسان حتى لا يستطيع أن يتحمل ، ففى هذه الحالة غالبا ما يفقد الإنسان وعيه ، ولكن إذا لم يحدث هذا فإن الشعيرات الدموية المحيطة بالغدد العرقية يزداد الضغط عليها فتنفجر وينضح الدم من البشرة مختلطا بالعرق ، وهذا لا يحدث من جبهة الأنسان فقط بل من الجسم كله . ويكون نتيجة إختلاط الدم بالعرق أن يحدث نسمم فى جسم الأنسان وهذا ما أبرزه القديس لوقا الأنجيلى والطبيب . محاكمة الرب يسوع : ماهى التهمة التى أقيمت ضده ؟ وما هو الأساس الذى بنيت عليه محاكمته ؟ يستنتج المدقق فى أدوار القضية كلها أن هناك مظاهر تغاير الشريعة اليهودية مغايرة فاضحة . وهذا واضح من الكتب اليهودية مثل : المشنة العبرانية ، والتقاليد اليهودية القانونية القائمة فى ذلك العصر . فمثلا كان غير قانونى فى الشريعة اليهودية : + أن يقوم حرس الهيكل بأمر رئيس الكهنة بإلقاء القبض على أى انسان ، فإن هذا كان يترك عادة إلى الشهود المتطوعين . + وكان غير قانونى أيضا أن يحاكم إنسان على تهمة تستوجب عقوبة الأعدام فى أثناء الليل + ولم يكن جائزا محاكمة متهم بعد غروب الشمس إلا فى التهم المدنية المالية . + كذلك كان غير قانونى أن يتقدم القضاة لأستجواب المتهم بعد أن تناقضت أقوال الشهود وثبت كذبها ، وكان واجبا إطلاق سراحه ، ومعاقبة الشهود بالأعدام رجما – طالما ثبت كذب شهادتهم . يعلم كل من درس رواية المحاكمة – كما وردت فى الأنجيل المقدس – أن هناك ثلاث تهم أصلية أقيمت ضد يسوع فى أدوار المحاكمة المتعاقبة : 1- هــدد بنقض الهيكل وهدمه . 2- أدعى أنه ابن اللــــــــه . 3- أثار الشعب ضـــــد قيصر . بقى أن نلقى نظرة على الظاهرة الغريبة الأخرى فى هذه المحاكمة ، فإن يسوع الناصرى قد حكم عليه بالموت ، لا بناء على أدلة المدعين عليه ، بل على اعتراف انتزع منه انتزاعا بعد أن استحلفه رئيس الكهنة . ويبدوا لنا جليا أنه بعد استماع أقوال الشهود ورفض شهادتهم ، اتخذت اجراءات القضية اوضاعا شاذة غير قانونية ، وموضع عدم المشروعية أن رئيس المحكمة حاول بتوجيه الأسئلة مباشرة إلى المتهم ، أن يتلمس الأسباب اللازمة للحكم عليه مما عجز عنه الشهود أنفسهم . وهذا يناقض تناقضا تاما حرفية القانون القضائى اليهودى وروحه ، وقد كان مرماه أن يحوط حياة المواطن اليهودى بكل أسباب الضمان . فإن إقامة الدعوى فى قضية عقوبتها الموت كانت موكولة بحسب الشريعة اليهودية إلى الشهود دون سواهم ، فكانت مهمتهم أن يلقوا القبض على المتهم ، وأن يجيئوا به إلى ساحة القضاء ، وكانت مهمة المحكمة أن تصون حقوق المتهم بكل الوسائل الممكنة ، وتبذل كل جهد فى تمحيص أقوال الشهود واصدار حكم عادل لا تحيز فيه على الأدلة التى يتقدمون بها . ونظرة واحدة إلى نص الرواية فى هذه القضية تدلنا على أن المتهم فيها لم يفز بهذه الحصانة القضائية . ويبدو هذا من لهجة الحنق والغيظ التى وجه بها رئيس الكهنة سؤاله إلى المتهم بعد أن تهدمت أقوال الشهود : " أما تجيب بشىء ؟ ماذا يشهد به هؤلاء عليك ؟ " ولعل الأعتراض لم يكن على هذا السؤال فى حد ذاته ، فقد كان من حق المسيح كمتهم أن يدلى بأى أقوال أو حقائق دفاعا عن نفسه . كان من اللائق أن يسأل إذا كان لديه شىء يعلق به على أقوال الشهود . أما الذى يسترعى أنظارنا فهو العداء المكشوف نحو المتهم ، وهو نذير بما سيجىء بعد هذا السؤال ، فإن رئيس الكهنة كشف عن نواياه ، وأزال كل المظاهر التى تلبس القضية شكلها القانونى الظاهر على الأقل . ذلك أن قيافا وهو واقف فى مكانه وسط المحكمة وجه إلى يسوع القسم الأعظم فى الدستور العبرانى : " أستحلفك بالله الحى " ( متى 26 : 63 ) ولم يكن بد أن يجيب يسوع وهو اليهودى التقى النقى المحافظ على الشريعة صونا لحرمة هذا القسم العظيم . وقد جاء بكتاب المشنة اليهودى : " إذا قال قائل : أستحلفك بالله القادر على كل شىء ، أو بالصباؤوت ، أو بالعظيم الرحيم ، الطويل الأناة ، الكثير الرحمة ، أو بأى لقب من الألقاب الإلهية ، فإنه كان لزاما على المسئول أن يجيب " . وكان السؤال الذى وجهه قيافا رئيس الكهنة إلى المسيح مباشرا صريحا ، مجردا عن المصطلحات العبرانية الخاصة : " أأنت المسيح ؟ أتدعى أنك أنت هو الآتى ؟ " ولم يكن المتهم بأقل صراحة من سائله ، وهذه هى النصوص الثلاثة لاجابته : " أنا هــــو " ( مرقس 14 : 62 ) . " أنت قلـــت " ( متى 26 : 64 ) . " أنتم تقولون إنى أنا هـــو " ( لوقا 22 : 70 ) . لقد نطق يسوع بإجابته فى شىء كثير من التصميم والحزم . ونرى قيافا قد سر بعد أن حصل من المتهم نفسه على هذا الإقرار الهائل الخطير . ويكاد المرء يسمع رنة الفوز والظفر فى صوته وهو يلتفت إلى الأحبار وشيوخ الشريعة قائلا : " ما حاجتنا بعد إلى شهود ؟ قد سمعتم التجاديف ! أبصروا أنتم " والقارىء اليقظ المتنبه لما يسمى بالحقائق الخفية الدفينة فى القصة ، يرى لذة ومتاعا فى تطور القضية هذا التطور الفجائى وبلوغها هذه الذروة المفجعة . وقد يتغاضى قيصر عن أقوال داعية يسند لنفسه حقا دينيا يهتم به أبناء البلد المحتل ، ولكن لن يقدر أن يتغاضى عن شخص يطالب لنفسه بالعرش !! ... وبسرعة اقتحم قيافا فكر بيلاطس : " إن أطلقت هذا فلست محبا لقيصر ! " . يالرياء ونفاق اليهود ، فى السابق أرادوا أن يوقعوا السيد المسيح فى مشكلة الجزية ، وهل يجوز أن تعطى لقيصر أم تمنع عنه ، محاولين استغلال أى إجابة بالموافقة أو النفى ، فإذا وافق السيد على الجزية اعتبروه غير وطنى ، وإن رفض أوشوا به لقيصر ... السيد المسيح بجانب حبه لرسالته إلى المنتهى ، فهو محب لبلده إلى أقصى درجة ، ولكنها ليست هى القضية التى جاء من أجلها ، إن قضيته الأساسية هى خلاص العالم ، وبعد ذلك كل شىء يمكن أن يجىء بشخصيات سياسية أو عالمية ، .... . ++ كان السيد المسيح قادراً بقدرته الإلهية أن يبيد الأشرار بنفخة فيه، ولكنه تركهم يفعلون به كما يشاءون. كان يمكن أن لا يتعب من السفر ساعات طويلة فيسير على الماء أو حتى في الهواء، ولكنه لم يفعل. كان باستطاعته أن يُفجِّر من الأرض ينابيع ماء لا تنضب، ولا يطلب من السامرية ماءً ليشرب. كان يمكن أن لا يجوع، ذاك الذي أطعم الآلاف، ولكن إذ به يطلب من تلاميذه أن يبتاعوا له خبزاً. في كل هذا، حجز قدرته الإلهية، لتمنعه من العوز والضيق ومن الحزن والألم، من الجوع والعطش. كل الآلام السابقة كانت شركة مع البشرية، آلام دخلت عليه دخولاً طبيعياً. يقول سفر العبرانيين عن المسيح إنه كان مُجرَّباً مثلنا في كل شيء ما خلا الخطية طبعاً. ولكننا نقول إن هذه الآلام ليست هي الآلام التي فدت البشرية، فالفداء تم بالصليب والموت. وهنا نأتي إلى النوع الثاني من الآلام التي جازها المسيح، وهي الآلام الخلاصية، آلام الفداء، الآلام التي انتهت بالموت. فبالموت وحده أكمل المسيح الفدية. "نفسٌ بنفسٍ". هذه الآلام دخل إليها المسيح دخولاً متعمَّداً مقصوداً وحتمها على نفسه ، وقَبل حتميتها من يد أبيه الحانية، بل هو أتى إلى هذه الساعة، وارتضى أن يشرب كأس الصليب التي أعطاها له الآب. فالصليب، يا أحبائي، محسوب حسابه من قبل الزمن: «عالمين إنكم اُفتديتم لا بأشياء تفنى..بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح، معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم، ولكن قد أُظهِرَ في الأزمنة الأخيرة من أجلكم». من هنا جاءت حتمية الآلام وحتمية الفداء، فداء الموت. بل إننا نستطيع أن نقول أن صليب المسيح كان مرسوماً ومكتملاً في التدبير الإلهي كفعل كامل تم في المشورة الإلهية ولا يُنتظر إلا استعلانه بحسب الواقع البشري الزمني فقط. يقول في سفر الرؤيا: «الذين ليست أسماؤهم مكتوبة منذ تأسيس العالم في سفر حياة الخروف الذي ذبح». فالمسيح مذبوح بالفعل في المشورة منذ الأزل، وهو إلى الآن قائم كأنه مذبوح. فى يوم الجمعة العظيمة .. يوم الحب الفريد .. نطق يسوع بعبارته الخالدة : يا أبتاه فى يديك أستودع روحى .. وما هى روح السيد المسيح إلا كنيسته الخالدة .. فقد سلمها أمانة فى يدى الآب ليحفظها على مر الدهور .. ونحن نثق فى مواعيد الله .. وبأن كنيسته خالدة ومنتصرة على الدوام .. بقوة لاهوته ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد آمين + + +