كيف قبلت الأسفار القانونية؟
أختار الرب يسوع المسيح من تلاميذه الذين آمنوا به وتبعوه مجموعة لتحمل الإنجيل وتكرز باسمه في كل مكان في العالم، يقول الكتاب: "ولما كان النهار دعا تلاميذه واختار منهم اثني عشر الذين سماهم أيضا رسلا" (لو6:13)، "وبعد ذلك عيّن الرب سبعين آخرين أيضا وأرسلهم اثنين اثنين أمام وجهه إلى كل مدينة وموضع حيث كان هو مزمعا أن يأتي" (لو10:1). وكانوا شهوده في كل المسكونة "لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لي شهودا في أُورشليم وفي كل اليهودية والسامرة والى أقصى الأرض" (أع1:8). وقد سلموا الإنجيل للمؤمنين أولا شفويًا وحفظه المؤمنون الأول في قلوبهم وأن كان البعض قد دون أجزاء كثيرة مما تسلموه على أوراق بردي أو رقوق وجلود ولكن ومع امتداد ملكوت الله وانتشار المسيحية في دول عديدة ومدن كثيرة وقرى لا حصر لها سواء بواسطة الرسل أو بواسطة تلاميذهم مع انتشار اجتماعات العبادة الأسبوعية والليتورجية والتي وجدت حيثما وجد المسيحيون، وذلك فضلًا عن رحيل بعض الرسل، شهود العيان، من هذا العالم إلى العالم الآخر، ظهرت الحاجة للإنجيل المكتوب ليكون المرجع الحي والباقي والدائم والثابت للمؤمنين في كل مكان وزمان إلى المجيء الثاني، أي أن ضرورة تدوين الإنجيل كانت حتمية. ومن هنا طلب المؤمنون من الرسل أن يدونوا لهم ما نادى لهم به معلموهم وما حفظوه شفويًا:
يقول أكليمندس الإسكندري: "لما كرز بطرس بالكلمة جهارًا في روما. وأعلن الإنجيل بالروح طلب كثيرون من الحاضرين إلى مرقس أن يدون أقواله لأنه لازمه وقتًا طويلًا وكان يتذكرها. وبعد أن دون الإنجيل سلمه لمن طلبوه".
ويقول القديس أكليمندس الأسكندرى مدير مدرسة الإسكندرية اللاهوتية: "حينما أكمل بطرس كرازته في روما جهارًا وأعلن الإنجيل بالروح، فالحاضرون وكانوا كثيرين ترجوا مرقس كونه كان مرافقًا لبطرس مدة طويلة ويذكر كل ما قاله أن يسجِّل لهم كلماته. ومرقس عمل هذا وسلم إنجيله إلى الذين ترجوه (طلبوه). وحينما علم بطرس بذلك لم يتحمَّس في ممانعة ذلك ولا هو شجَّع العمل" (3).
ثم يضيف: "إن بطرس حينما سمع ما قد عمل (مرقس) كما أعلن له الروح سُرَّ بغيرة الأشخاص الذين طلبوا منه ذلك وصادق على الكتابة لقراءتها في الكنائس" (4).
ويقول القديس جيروم: (حوالي 350م ): "أن مرقس- تلميذ بطرس ومترجمه - كتب بناء على طلب الإخوة في رومية إنجيلًا مختصرًا طبقا لما كان قد سمع بطرس يرويه. وعندما بلغ بطرس ذلك، وافق عليه وأمر أن يُقرأ في الكنائس" (5).
وتقول الوثيقة الموراتورية التي ترجع لسنة 170م: "الإنجيل الرابع هو بواسطة يوحنا أحد التلاميذ, إذ عندما توسل إليه زملاؤه (التلاميذ) والأساقفة في ذلك قال: صوموا معي ثلاثة أيام ونحن نتفاوض مع بعضنا بكل ما يوحي الله به إلينا. ففي هذه الليلة عينها أعلن لأندراوس أحد الرسل أن يوحنا عليه أن يكتب كل شيء تحت اسمه والكل يصدق على ذلك".
أي أن المؤمنين الذين حفظوا الإنجيل وتسلموه، في البداية، شفويًا، هم أنفسهم، المؤمنون، الذي طلبوا من الرسل أن يدونوه لهم في أسفار مكتوبة وهم أنفسهم الذين تسلموا هذه الأسفار، الأناجيل، من الرسل الذين سبق أن سلموها لهم شفويًا. ولم يكن هناك أي وقت أو مساحة زمنية للاختيار، بل تسلموا الإنجيل المكتوب والذي كانوا يحفظونه جيدا، وقد دونوا بعض أجزائه على أوراق ورقوق، من نفس الرسل الذين سلموه لهم شفويا وحفّظوه لهم، ونشر هذا الإنجيل المكتوب في جميع الكنائس. أي أن الرسل أنفسهم هم الذين سلموا الكنيسة في كل مكان الإنجيل الشفوي ثم الإنجيل المكتوب، وذلك بنسخ نسخ من الأصل وإرسالها إلى جميع الكنائس.
وقد دونت كل أسفار العهد الجديد، عدا ما كتبه القديس يوحنا الرسول، قبل سنة 70 ميلادية عندما كان معظم تلاميذ المسيح ورسله أحياء وقبلت الكنيسة هذه الأسفار فور تدوينها واستخدمها الرسل في كرازتهم كالإنجيل المكتوب، فقد كتبت بناء على طلب المؤمنين الذين تسلموها من الرسل، الذين سبق أن سلموها لهم شفويًا، كتبت بناء على طلبهم وتحت سمعهم وبصرهم وكانوا من قبل يحفظونها شفويًا، فقد دونت بالروح القدس لهم وأمامهم وبمعرفتهم ومن ثم قبلوها بكل قداسة ووقار ككلمة الله الموحى بها من الروح القدس. وكان الرسل أنفسهم يقبلون ما يكتبه أحدهم بالروح القدس، واثقين بالروح القدس الذي فيهم، أنها كلمة الله التي سبق أن تسلموها من الرب يسوع المسيح وتكلموا بها مسوقين من الروح القدس كما وعدهم، ودونوها أيضًا بالروح القدس. وعلى سبيل المثال فقد أقتبس القديس بولس من الإنجيل للقديس لوقا، كسفر مقدس وموحى به، ومن سفر التثنية بصيغة واحدة هي: لأن الكتاب يقول "لأن الكتاب يقول لا تكم ثورًا دارسًا (تث4:25) والفاعل مستحق أجرته" (لو7:10)" (1تى18:5). كما أشار القديس بطرس لوحي وانتشار كل رسائل القديس بولس فقال: "واحسبوا أناة ربنا خلاصا كما كتب إليكم أخونا الحبيب بولس أيضا بحسب الحكمة المعطاة له كما في الرسائل كلها أيضا متكلما فيها عن هذه الأمور التي فيها أشياء عسرة الفهم يحرفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب أيضا لهلاك أنفسهم" (2بط15:3،16). وأقتبس القديس يهوذا أخو يعقوب في رسالته من رسالة القديس بطرس الثانية (2بط2:3-3) بقوله "وأما انتم أيها الأحباء فاذكروا الأقوال التي قالها سابقا رسل ربنا يسوع المسيح. فإنهم قالوا لكم انه في الزمان الأخير سيكون قوم مستهزئون سالكين بحسب شهوات فجورهم" (يه18،19).
وكانت رسائل الرسل: مثل القديس بولس والقديس بطرس والقديس يوحنا يمليها الرسل وتكتب بواسطة أشخاص معروفين للكنيسة، وهم تلاميذ الرسل ومساعديهم وخلفاؤهم، وترسل لكنائس محددة بعينها عن طريق نفس مساعدي الرسل وخلفائهم، كما كان هدفها معلنا وواضحًا. بل وكان القديس بولس يضع ختمه (توقيعه) على كل رسالة يرسلها إلى الكنائس التي كرز فيها. يقول القديس يوحنا: "وإما هذه (الإنجيل للقديس يوحنا) فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه" (يو20:31). ويختم الإنجيل بقوله بالروح: "وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع أن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة آمين" (يو21:25). ويقول في رسائله:
… "كتبت إليكم أيها الآباء لأنكم قد عرفتم الذي من البدء. كتبت إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم وقد غلبتم الشرير" (1يو2:14).
… "كتبت إليكم هذا عن الذين يضلونكم" (1يو2:26).
… "كتبت هذا إليكم انتم المؤمنين باسم ابن الله لكي تعلموا أن لكم حياة أبدية ولكي تؤمنوا باسم ابن الله" (1يو5:13).
… "كتبت إلى الكنيسة" (3يو1:9).
ويؤكد القديس بطرس أنه كتب رسالته الأولى على يد سلوانس التلميذ الذي كان معروفا جيدًا في الكنيسة الأولى: "بيد سلوانس الأخ الأمين كما أظن كتبت إليكم بكلمات قليلة واعظا وشاهدا" (1بط5:12).
أما القديس بولس فيؤكد أنه كتب بنفسه، بيده عدة رسائل: "أنا بولس كتبت بيدي" (فل1:19)، وكان سلامة أو توقيعه يكتب بحروف كبيرة: "انظروا ما اكبر الأحرف التي كتبتها إليكم بيدي" (غل6:11). وكان يضع توقيعه على كل رسالة يرسلها: "السلام بيدي أنا بولس الذي هو علامة في كل رسالة. هكذا أنا اكتب" (1كو16:21). أو أنه كان يكتب عن طريق إملاء أحد تلاميذه ومساعديه الذين كانوا معروفين للجميع مثل فيبي وتخيكس وأنسيمس وتيموثاوس: "السلام بيدي أنا بولس. اذكروا وثقي. النعمة معكم. آمين. كتبت إلى أهل كولوسي من رومية بيد تيخيكس وأنسيمس" (كو4:18). وفي كل هذه الرسائل كان يضع توقيعه على جميع رسائله:
… "كتبت إلى أهل رومية من كورنثوس على يد فيبي خادمة كنيسة كنخريا" (رو16:17).
… "كتبت إلى أهل كولوسي من رومية بيد تيخيكس وأنسيمس" (كو4:18).
… "كتبت إلى أهل أفسس من رومية على يد تيخيكس" (أف6:24).
… "كتبت إلى أهل فيلبي من رومية على يد ابفرودتس" (في4:23).
… "إلى فليمون كتبت من رومية على يد أنسيمس الخادم" (فل1:25).
… "إلى العبرانيين كتبت من ايطاليا على يد تيموثاوس" (عب13:25).
وكانت تقرأ كل رسالة من هذه الرسائل في هذه الكنائس المرسلة إليها ثم ينسخ منها نسخ وترسل للكنائس المجاورة وتستمر عملية النسخ من كنيسة إلى أخرى أو إلى مجموعة من الكنائس. وبنفس الطريقة كانت تنسخ نسخ الأناجيل وبقية أسفار العهد الجديدوترسل للكنائس القريبة والمجاورة، وكانت كل كنيسة تحتفظ بالسفر الذي كتب لها أصلًا، سواء كان هذا السفر إنجيلًا من الأناجيل الأربعة أو رسالة من رسائل الرسل أو سفر الأعمال أو سفر الرؤيا، وتحتفظ بنسخ من الأسفار التي كتبت أو أرسلت للكنائس الأخرى. يقول القديس بولس في رسالته إلى كولوسى: "ومتى قرئت عندكم هذه الرسالة فاجعلوها تقرا أيضا في كنيسة اللاودكيين والتي من لاودكية تقراونها انتم أيضا" (كو16:4).
وكان هذا موقف الآباء الرسوليين، تلاميذ الرسل وخلفائهم الذين تسلموها منهم ككلمة الله واقتبسوا منها واستشهدوا بها ككلمة الله. فقد اقتبس القديس أكليمندس الروماني (حوالي 100م) من الأناجيل الثلاثة الأولى ومن خمس من رسائل القديس بولس والرسالة إلى يعقوب واستخدم مضمون الإنجيل للقديس يوحنا وقال عن رسالة القديس بولس الرسول إلى رومية: "انظروا إلى رسالة بولس الطوباوي. ماذا كتب لكم في بداية الكرازة بالإنجيل؟ في الواقع فقد كتب لكم بوحي من الروح القدس رسالة تتعلق به وبكيفا (أي بطرس) وأبولوس".
وكانت تقرأ في اجتماعات العبادة الأسبوعية في الكنائس، خاصة في أيام الأحد، ويؤكد سفر الرؤيا على ترتيب الكنيسة وطقسها في قراءة الأسفار المقدسة في الاجتماعات والقداسات، وعلى حقيقة وحي السفر، فيقول "طوبى للذي يقرا وللذين يسمعون أقوال النبوة ويحفظون ما هو مكتوب فيها لان الوقت قريب" (رؤ3:1)، وتتكرر في السفر عبارة "من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس" سبع مرات (رؤ7:2،11،17،29؛6:3،13،22)، و"من له أذن فليسمع" (رؤ9:13). ويقول القديس يوستينوس الشهيد في بداية القرن الثاني: "وفى يوم الأحد يجتمع كل الذين يعيشون في المدن أو في الريف معًا في مكان واحد وتقرأ مذكرات الرسل (الأناجيل) أو كتابات الأنبياء بحسب ما يسمح الوقت" (6).
واقتبس القديس أغناطيوس الإنطاكي تلميذ القديس بطرس والرسل من الإنجيل للقديس متى والإنجيل للقديس لوقا وسفر أعمال الرسل وخمس من رسائل القديس بولس الرسول، وكذلك من مضمون الإنجيل للقديس يوحنا وأشار لوحي كل رسائل القديس بولس الرسول وإيمان الكنيسة في عصره أنها كلمة الله فقال: "وقد اشتركتم في الأسرار مع القديس بولس الطاهر الشهيد المستحق كل بركة.. الذي يذكركم في كل رسائله بالمسيح يسوع" (7).
كما اقتبس القديس بوليكاربوس، تلميذ القديس يوحنا، 100 مرة من 17 سفرًا من أسفار العهد الجديد؛ منها الأناجيل الثلاثة الأولى وسفر أعمال الرسل وتسع من رسائل القديس بولس ورسالة بطرس الأولى ورسالة يوحنا الأولى. كما أكد على وحي رسائل القديس بولس ككلمة الله الموحى بها فقال: "فلا أنا ولا أي إنسان آخر قادر على أن يصل إلى حكمة المبارك والممجد بولس الذي كان قائمًا يعلم بين الذين عاشوا في تلك الأيام، وعلم الحق بدقة وثبات، وبعد رحيله ترك لكم رسائل إذا درستموها صرتم قادرين على أن تبنوا إيمانكم الذي تسلمتموه" (8).
مما سبق يتضح لنا أن الكنيسة الأولى في القرن الأول، وفي حياة الرسل، لم تتسلم سوى أسفار العهد الجديد الـ27 فقط: فقد كانت أسفار العهد الجديد السبعة وعشرين هي وحدها التي سلمها الرسل للكنيسة وقبلتها الكنيسة، التي تسلمتها من يد الرسل أنفسهم بعد أن كتبت أما بناء على طلب المؤمنين أو أرسلت إليهم كرسائل مختومة وممهورة بتوقيع الرسل أنفسهم وكان يحملها ويوصلها إليهم تلاميذ الرسل ومساعدوهم الذين كانوا معروفين للجميع، ككلمة الله المكتوبة بالروح القدس، ولم يكن هناك أي كتاب منسوب للرسل غيرها، ولم يظهر أي كتاب من الكتب الأبوكريفية في حياة الرسل وحتى منتصف القرن الثاني، فيما بين سنة 150 و450م، وذلك بشهادة جميع العلماء والنقاد بكل مدارسهم واتجاهاتهم الفكرية والنقدية. أي بعد انتقال الرسل وخلفائهم، الآباء الرسوليين من العالم بعشرات ومئات السنين. وفي منتصف النصف الثاني من القرن الثاني وفي أوج وذروة وجود الهرطقة الغنوسية كان هناك القديس إيريناؤس (120 - 202م)، أسقف ليون، بفرنسا حاليا، وأحد الذين تتلمذوا على أيدي تلاميذ الرسل، خاصة القديس بوليكاربوس، وكما يقول القديس جيروم "من المؤكد أنه كان تلميذًا لبوليكاربوس" (9)، والذي كان حلقة الوصل بين الآباء الرسوليين تلاميذ الرسل ومن جاءوا بعده، وقد كتب مجموعة من الكتب بعنوان "ضد الهراطقة" دافع فيها عن المسيحية وأسفارها المقدسة وأقتبس منها حوالي 1064 اقتباسا منها 626 من الأناجيل الأربعة وحدها و325 من رسائل القديس بولس الرسول الأربع عشرة و112 من بقية أسفار العهد الجديد، منها 29 من سفر الرؤيا. وأكد على حقيقة انتشار الأناجيل الأربعة ككلمة الله والإنجيل الوحيد، بأوجهه الأربعة، في كل مكان بقوله "لقد تعلمنا خطة خلاصنا من أولئك الذين سلموا لنا الإنجيل الذي سبق أن نادوا به للبشرية عامة، ثم سلموه لنا بعد ذلك، حسب إرادة الله، في أسفار مقدسة ليكون أساس وعامود إيماننا.. فقد كانوا يمتلكون إنجيل الله، كل بمفرده، فقد نشر متى إنجيلًا مكتوبًا بين العبرانيين بلهجتهم عندما كان بطرس وبولس يكرزان ويؤسسان الكنائس في روما. وبعد رحيلهما سلم لنا مرقس تلميذ بطرس ومترجمه، كتابة ما بشر به بطرس. ودون لوقا، رفيق بولس في سفر الإنجيل الذي بشر به (بولس)، وبعد ذلك نشر يوحنا نفسه، تلميذ الرب والذي اتكأ على صدره إنجيلا أثناء أقامته في أفسس في آسيا الصغرى" (10).
وقال عن وحدة الإنجيل "لا يمكن أن تكون الأناجيل أكثر أو أقل مما هي عليه الآن حيث يوجد أربعة أركان في العالم الذي نعيش فيه أو أربعة رياح جامعة حيث انتشرت الكنيسة في كل أنحاء العالم وأن "عامود الحق وقاعدة" الكنيسة هو الإنجيل روح الحياة، فمن اللائق أن يكون لها أربعة أعمدة تنفس الخلود وتحي البشر من جديد، وذلك يوضح أن الكلمة صانع الكل، الجالس على الشاروبيم والذي يحتوى كل شيء والذي ظهر للبشر أعطانا الإنجيل في أربعة أوجه ولكن مرتبطة بروح واحد.. ولأن الإنجيل بحسب يوحنا يقدم ميلاده الأزلي القدير والمجيد من الآب، يقول "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله" و"كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان.. ولكن الذي بحسب لوقا يركز على شخصيته (المسيح) الكهنوتية فقد بدأ بزكريا الكاهن وهو يقدم البخور لله. لأن العجل المسمن (أنظر لوقا 23:15)، الذي كان سيقدم ذبيحة بسبب الابن الأصغر الذي وُجد، كان يعُد حالًا.. ويركز متى على ميلاده الإنساني قائلًا "كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم" و"وكان ميلاد يسوع المسيح هكذا". فهو إذا إنجيل الإنسانية، ولذا يظهر [ المسيح ] خلال كل الإنجيل كإنسان وديع ومتواضع. ويبدأ مرقس من جهة أخرى بروح النبوة الآتي على الناس من الأعالي قائلًا "بدء إنجيل يسوع المسيح، كما هو مكتوب في إشعياء النبي "مشيرًا إلى المدخل المجنح للإنجيل. لذلك صارت رسالته وجيزة ومختصره لمثل هذه الشخصية النبوية" (11).
بل وأكد على وجود الإنجيل بأوجهه الأربعة وانتشاره في كل مكان حتى مع الهراطقة الذين كانوا يبدأون منها، بالرغم من أنهم دونوا كتبًا خاصة بهم وأسموها أناجيل وأعمال رسل ورؤى ونسبوها للرسل ولبعض قادتهم، فقال "الأرض التي تقف عليها هذه الأناجيل هي أرض صلبة حتى أن الهراطقة أنفسهم يشهدون لها ويبدأون من هذه الوثائق وكل منهم يسعى لتأييد عقيدته الخاصة منها" (12).
وكان في روما أيضا العلامة هيبوليتوس (170-235 م.)، الذي اقتبس واستشهد بأسفار العهد الجديد أكثر من 1300 مرة وأشار إلى قراءتها في الاجتماعات العبادية العامة(13) كما أشار إلى قداستها ووحيها وكونها كلمة الله (14). وقد كتب أيضا كتبا ضد الهراطقة فند فيها كل نظرياتهم وأفكارهم السرية الصوفية مؤكدًا أنها لا تمت بصلة لرسل المسيح أو خلفائهم ولا صلة لها بفكر المسيح. وفي القرن الخامس كان هناك القديس ابيفانيوس أسقف سلاميس بقبرص الذي كتب أيضًا ضد الهراطقة وفند أفكارهم مؤكدا على ما سبق أن كتبه عنهم كل من إيريناؤس وهيبوليتوس. ولم يعقد أي مجمع مسكوني لتحديد ما هي الأسفار القانونية الموحى بها ولا أي مجمع غيره لرفض الكتب الأبوكريفية، كما لم تكن، الكتب القانونية ولا الأبوكريفية، مدرجة على جدول مجمع نيقية أو غيره، ولم تكن مثار أي حوار أو جدال في أي مجمع فقد تسلمت الكنيسة من الرسل وخلفائهم أسفار العهد الجديد، أما الكتب الأبوكريفية والتي خرجت من دوائر الهراطقة فلم يقبلها أحد وصارت محصورة فقط داخل دوائرهم الخاصة، فقد اعتبروها هم أنفسهم، كتبًا سرية مكتوبة للخاصة فقط ولا يجوز للعامة قراءتها واندثرت باندثارهم. كما كانت الكنيسة تنظر إليها من بداية ظهورها على أنها كتبا هرطوقية كما جاء في الوثيقة الموراتورية وقانون البابا جلاسيوس والذي يشك أصلا في صحة نسبه إليه.