منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 08 - 11 - 2013, 09:12 PM
 
the lion of christianity Male
سراج مضئ | الفرح المسيحى

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  the lion of christianity غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 1024
تـاريخ التسجيـل : Jan 2013
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : U.S.A
المشاركـــــــات : 753


أنيسيفورس

" بل لما كان فى رومية طلبنى بأوفر اجتهاد فوجدنى" 2تى 1: 17



مقدمة

من روائع الأدب القديم قصة الصديقين الحميمين دامون وبيثياس، والتى قيل فيها إن ديونسيوس حكم على دامون بالموت، وسمح له فى الوقت نفسه أن يرتب أموره، ويجهز نفسه للموت، عندما طلب مهلة بضمان صديقه الكريم الذى حل فى السجن محله لمدة معينة،.... وأسرع دامون إلى بيته، ورتب كافة أوضاعه، ثم عاد مسرعاً ليوفى بوعده، ولكن الريح المضادة كانت له بالمرصاد، فأخرت عودته، وهو يضرع إلى الآلهة أن تيسر أمره فلا يتأخر لئلا يموت بيثياس، وكان بيثياس فى الوقت عينه سعيداً بهذا التأخير، فهو راغب أشد الرغبة فى أن يذهب فداء صديقه،.. وفى الدقيقة المعينة أبصروا دامون يجرى بكل سرعته ليمثل أمام ديونسيوس، ولم يصدق الرجل أن حباً ووفاء وإخاء رائعاً يمكن أن يكون بين البشر على هذه الصورة، فما كان منه إلا أن عفا عن دامون، وسأل الرجلين أن يقبلاه صديقاً على هذا النحو الرائع من الصداقة الجميلة!!... قد تكون قصة دامون وبيثياس قصة صحيحة أو غير صحيحة، لا نعلم... ولكن الذى نعلمه بكل يقين أن أنيسيفورس شد رحاله من مدينة أفسس وعبر البحر إلى روما،.. وفى المدينة الواسعة أخد يفتش فى كل مكان، وهو ينتقل من سجن إلى سجن من سجونها الكثيرة، ويبحث بجد واجتهاد عن صديق يوسف فى أغلاله وقيوده حتى عثر عليه فى لقاء روائى يحمل قصة من أروع قصص الحنان والحب والشجاعة والوفاء بين الناس، وما أحوجنا إلى أن ندرج أنيسيفورس بين الشخصيات التى تظهر أمامنا على مسرح الحياة كنموذج مثالى عجيب لما تصنعه المسيحية فى حياة الإنسان، وتقدمه فى وفاء الخدمة للناس، ومن ثم يحسن أن نراها فيما يلى:

أنيسيفورس وبيته

من الواضح أن أنيسيفورس كان أسيوياً ومن مدينة أفسس، ولا يعلم على وجه التحقيق ماذا كان يعمل ذلك الرجل! أو من هم أهل بيته،.. يعتقد بعض الشراح أنه كان تاجراً، وأنه ربما ذهب إلى رومية من أجل التجار أو لمصالح أخرى له هناك، ويعتقد ألكسندر هوايت أنه كان شيخاً فى كنيسة أفسس، وهو على أية حال كان من أخلص أصدقاء بولس، ومن أفضل المؤمنين فى أفسس، بل من المعتقد أن بولس وهو يقول: « مراراً كثيرة أراحنى » كان يتحدث عن رجل وعن بيت من أفضل البيوت فى أفسس، البيت الذى ألف أن يجد فيه هدوءه وأمنه وسلامته وسلامه،... بل إنه من الطبيعى أن نتصور كم كان هذا البيت عزيزاً عليه، وهو القائل: « حاربت وحوشاً فى أفسس » حيث كانت حياته هناك حرباً متصلة، وحيث تحول الناس وحوشاً ضارية تريد الفتك به،... ولكنه فى المعارك القاسية، كان يعود فى المساء ليجد صديقاً مرحباً وبيتاً ودوداً، وشركة حبيبة عميقة صافية، تمسح جراحه، وتعطيه عزاءه، وترتب له السرير الهادئ الناعم، والوسادة اللينة المريحة التى يطرح عليها رأسه المتعب!! وكما كان سيده يأتى إلى بيت مرثا ومريم ولعازر أو بيت أم يوحنا مرقس أو إلى هذا البيت أو ذاك من البيوت المفتوحة أمامه، كان بولس فى أفسس يجد دائماً بيت أنيسيفورس المفتوح!!.

إن بولس يذكر أنيسيفورس مرتبطاً ببيته، ولا نستطيع أن نفصلهما عن بعضهما، لقد كان الأب مثالا للبيت وقدرة صالحة وكان أهل بيته على شاكلته ونمطه وأسلوبه فى الحياة،... وهذا يذكرنا بما قيل عن هو يتفيلد عندما سأله أحدهم عن شخص ما إذا كان مسيحياً أم لا فأجاب: لا أعرف لأنى لم أره وهو فى البيت. إن الحياة المستقيمة ليست سهلة فى البيت، قد تستطيع أن تتكلف الحياة فى الخارج. أما البيت فأنت تعيش فيه كما أنت... إن قصة سمعان العمودى الذى نال شهرته بلبس قميص من شعر، وإقامته على عمود عال مدة سنين طويلة أثرت فى ذهن الغلام الصغير: « أناتول فرانس » فأراد أن يقلده، وإذ لم يستطع أن يحصل على العمود عمل شيئاً يشبه العمود، بأن وضع كرسياً على طاولة المطبخ، ولكن من سوء حظه أن الطباخ وباقى أفراد العائلة لم يفهموا سمو غرضه العظيم، وبدأوا يعاكسونه حتى أصبحت حياته لا تطاق، فاضطر أن يترك المشروع، وفى ذلك يكتب: لقد رأيت أنه من أصعب الأمور أن يعيش الإنسان قديساً وهو يقيم بين أفراد عائلته، وقد لمست السبب الذى حدا بالقديس انطونيوس والقديس جيروم لأن يتركا بيوتهما ويقيما فى الصحراء!!

إن البيت هو أحد المعاهد التى يخرج منها اللّه قادة العالم، فمن البيت خرج إسحق ويوسف وموسى وصموئيل ويوحنا المعمدان وتيموثاوس وغيرهم كثيرون ويتحدث رجال الاجتماع حديثاً طويلا عن العائلة، وتراهم يسألون ألوف الأسئلة، عما يجب أن يتصف به الأب أو الابن أو الأخ، ومن الخطأ الظن بأن المسيحية لا تهتم بهذا الموضوع، ولكن البيت له مكانة كبيرة فى الإنجيل، ونحن نقرأ فى كلمة اللّه الأمثلة الكافية لما يجب أن يكون عليه المسيحى، أو من له روح المسيح فى وسط العائلة، والاسم الطيب لبيت، كأسرة أنيسيفورس، وليديا بياعة الأرجوان، وأكيلا وبريسكلا، والأسماء الكثيرة التى تعرضنا لها فى الشخصيات السابقة قد لا يوجد على الأرض ما هو أعظم منه... وإذا كان رجال العالم يبنون منازل هى صالات وغرف وأبهاء وسقوف وقباب، فإن أبناء اللّه يبنون حياة وحباً وقداسة ورحمة ونعمة ومجداً فى المسيح يسوع!!.. وقد حق لأحدهم أن يقول: مضت ألوف السنين والملوك يولدون فى قصور فخمة وعلى فرض وثيرة تحف بهم صور التيجان، ويقرأون فى كل المناظر التى تتعرض أمامهم أن الناس قسمان: ملوك يحكمون الشعب، وشعب يخدم الملوك، ولكن فى ليلة عظيمة جميلة ولد ملك الملوك، ولم ير فوق رأسه صورة تاج ولم تُفتح له قصور بدخلها، ولم يجد يداً ترحب به، أو تنيمه على فراش ناعم، ومع ذلك فقد كان مخلص العالم، المخلص الذى قضى تسعة أعشار عمره على الأرض فى منزله فى الناصرة، ليستعد لمهام العشر الآخر الباقى!!..

لسنا نعلم حظ بيت أنيسيفورس من الثروة أو الجاه أو النفوذ، ولكننا نعلم بكل يقين أن البيت الذى حياه بولس بكل حرارة كان له أعظم الحظوظ من الشركة مع اللّه، ومن سمو الحياة المرتفعة العالية،... وأن رب البيت ترك طابعه وحياته ومسيحيته السامية، على كل فرد فى بيته، إذا صح أن روبرت انجرسول الملحد الأمريكى الكبير، أرسل ذات مرة إلى عمته سارة، وكانت مشهورة بجمال حياتها المسيحية ليقول لها مع أحد كتبه التى كان ينشرها ضد الدين: إن هذا الكتاب ما كان له أن يظهر لو أن المسيحيين كانوا مثلها فى حياتهم وحلاوة سيرتهم!!.. وإذا صح أن برسى انيسورس الواعظ المشهور، رؤى ذات يوم يحمل فى يده فرشاة ودهاناً، وأخذ يدهن بكل نشاط جداراً أبصره فى الطريق وإذ اندهشوا لعمله واستفسروا منه ماذا يفعل!!.. أجاب لقد رأيت كتابة قبيحة على الجدار، وذهبت إلى بيتى، وعادت إلى ذهنى هذه الكتابة بتشويشها الشرير، وأدركت أن غيرى سيقرأها، وأنها ستفسد أذهان الكثيرين، وعلى الأخص من الشباب، فآليت على نفسى أن أمحوها، وأنظف الجدار منها،... وفى بيوتنا كم يجب على الأباء أن يمحوا من تأثيرات العالم على أهل البيت، وأن يكتبوا بحياتهم كل ما هو طيب ومجيد ونافع وعظيم ومبارك!!..

انيسيفورس ووفاؤه

لست أعلم من وضع المثل العربى القديم، عن الغول والعنقاء والخل الوفى،... وعد الصديق الصحيح الوفى خرافة من الخرافات فى عالم الناس، مثل الغول أو العنقاء، مع أن رحمة اللّه ونعمته وإحسانه أعطت التاريخ البشرى فى كل جيل وعصر أمثلة نادرة من الوفاء الذى يعلو كثيراً على الفكر والتصور والخيال،... كان أنيسيفورس بالتحقيق تكذيباً خالداً لهذا المثل القديم.. والرجل ينهض فى كل العصور صورة مثلى للخل الوفى!!.. وبولس يستعرض هذا الوفاء فيجده رائعاً وعجيباً من كل جانب، فهو أولاً وفاء الخدمة، وما أجمل الكلمة « أراحنى »... ولم تكن الراحة هنا وقتية أو محدودة بل « مراراً كثيرة » أو فى لغة أخرى إن الرسول وهو يستعرض شريط الذكريات، يتوقف عند محطات كثيرة للراحة، وجد فيها أنيسيفورس ينتظره هناك، دون أن يتخلف قط عن تزويده بكل أسباب الراحة المادية والأدبية والروحية بسخاء وكرم،... هل عاد جائعاً ذات يوم بعد جهاد طويل فى الخدمة المضنية، ليرى المائدة الحافلة مجهزة له بكرم كثير، ليس صنفاً واحداً من الطعام بل أصنافاً متعددة، فى وليمة المحبة السخية، التى هتف إزاءها بولس إن لفظاً أو حساً: « أراحنى »... هل دخل الرسول البيت منهكاً متعباً لا يكاد يقوى على الحركة بعد رحلة طويلة أو سفرة متعبة، ليجد العلية المجهزة والسرير المريح، ليضطجع عليه، وهو يتمتم، وقد ألقى بجسده فوقه: « أراحنى ».. وهل عاد ذات مساء بعد ضربات قاسية موجعة، وجراح بالغة، ليأوى إلى المكان الذى يجد فيه من ينحنى على جراحه يغسلها ويضمدها ويفعل كل ما فى وسعه لإزالة أوجاعها وآلامها!!؟... بل هل عاد أكثر من ذلك بالجراح النفسية العميقة، وهو يحارب الوحوش فى أفسس، ويواجه الغدر، والخيانة، والمؤمرات، وما أشبه، فوجد الابتسامة المريحة والتشجيع الكامل، والشركة الودودة، والعطف البالغ الذى يغطى كل متاعبه وضيقاته وآلامه، وسكن بولس إلى هذه كلها وهو يتمتم: « أراحنى »... والسؤال هل يمكن أن يوجد « أنيسيفورس » فى كنائسنا فى كل مكان فى هذه الأيام، وهل يمكن أن نراه فى الشيخ المحب أو الشماس المساعد أو العضو الذى يريد أن يرفع عن كاهل الراعى الكثير من الآلام والمتاعب،... آمل ذلك كثيراً لأن هذه هى الرسالة المسيحية الصحيحة الموضوعة على كل مؤمن فى خدمة يسوع المسيح، وأود أن نراه دائماً وكثيراً جداً، وليس كاحسان الندى المتقطع، أو كمن يبدأ حسناً ليتحول إلى النقيض،... أو كما تقول الأقصوصة التى تخيلها أحدهم وهو يصور الكنيسة على شكل عربة يقودها الراعى والشيوخ من الخلف يدفعونها فتسير بيسر وسهولة والجميع يرنمون ويغنون،... على أن الراعى بعد فترة من الزمن لاحظ صعوبة الحركة فى العربة، وتعجب، والتفت إلى الوراء ليرى الشيوخ وقد ركبوا ليصبحوا عبئاً بعد أن كانوا معينين،... أشكر اللّه لأننى، طوال خدمتى الرعوية، لم أعرف هذا الصنف من الناس، بل على العكس رأيت الكثيرين من الأحباء الأوفياء من شيوخ وكل واحد منهم أنيسيفورس فى الخدمة المشتركة ليسوع المسيح!!..

على أن وفاء أنيسيفورس كان أكثر من ذلك كان وفاء الحركة الباحثة المجدة،.. إن الوفاء الصحيح يتحول شعلة فى القلب، وناراً تتلظى بين الجوانح فى الحضور أو الغيبة على حد سواء،... لم يتتغير إحساس أنيسيفورس تجاه بولس لمجرد أنه رحل من أفسس إلى رومة، على مبدأ القائلين إن « البعيد عن العين بعيد عن القلب »،.. ولم يحاول الرجل أن يعتذر بأن العناية سمحت بأن يبعد بولس عنه ما يقرب من ألف ميل، وهو ليس مسئولا عن القريب البعيد فى حظه أو بؤسه، مادام بعيداً عنه فيما وراء البحر الكبير الذى يفصل بين أسيا وأوربا،... إن بعض الناس وربما من بين المحبين الأتقياء، من ينفض عن كاهله وضميره كل إحساس بالالتزام للذين تغربوا وبعدوا، ولم يعد الاتصال بهم أو الاقتراب منهم، سهلاً ميسوراً،.. كلا إن أنيسيفورس كان يحمل حباً لبولس سواء كان فى أفسس أو روما أو فى أى مكان على ظهر الأرض،.. وهو لابد يتغلب على كافة المتاعب والمشقات بحثاً عن صديقه الحبيب وأخيه العظيم فى المسيح يسوع!!.. وهو يطلب بولس بأوفر اجتهاد. والسؤال هنا كيف حدث هذا الاجتهاد، لقد اختلف الشراح والمفسرون، فمنهم من اعتقد أن أنيسيفورس ذهب إلى روما لغرض من أغراض التجارة، وإذ وجد فى المدينة الكبيرة أخذ يفتش عن بولس هناك،.. غير أن ألكسندر هوايت لا يقبل هذا الرأى أو يؤمن به، إذ يعتقد أن أنيسيفورس أخذ رحلته من أفسس إلى روما سعياً وراء بولس وهو يطلبه بأوفر اجتهاد!!.. وأياً كان التفسير الصحيح فان هذا لا يقلل البتة من المشقات المضنية التى لاقاها الرجل حتى وصل إلى بولس، وقد كان السفر فى ذلك الوقت من أشق الأمور وأصعبها،.. والسؤال لماذا لم يتعرف أنيسيفورس على بولس بسهولة؟ لقد كان بولس فى ذلك الوقت فى سجنه الأخير، وربما كان الرعب قد وقع على الجميع ممن يعرفون بولس، وكانوا يلتقون فى الخفاء فى أماكن متغيرة حتى لا يقبض عليهم فى عهد الطاغية نيرون، كما أن السجون كانت كثيرة فى روما، والتزم أنيسيفورس أن ينتقل من سجن إلى سجن باحثاً عن صديقه المحبوب، ولم يهدأ أو يسترح حتى عثر عليه فى واحد منها!!..

فإذا أضفنا إلى ذلك أن وفاء أنيسيفورس لم يتأثر بالآخرين، والوفاء الصحيح لا يتغير بذبذبة الناس أو تقلبهم أو تغير عواطفهم،.. بدأ أنيسيفورس رحلته، وهو لا يعبأ بأن جميع الأسيويين ارتدوا عن بولس، ومهما كانت دوافع ارتدادهم، فإن قلب الرجل لم يتأثر بالجميع، بل لعله ازداد حباً وعطفاً على صديقه المنكوب فى الآخرين!!.. إن الوفاء الصحيح لن يقويه أو يشدده كثرة الأوفياء الآخرين أو شخصياتهم أو حيثياتهم،... لقد وقف أنيسيفورس إلى جانب بولس لأنه كان يؤمن أن بولس يقف بجلال وبهاء إلى جانب قضية المسيح العظيمة!!..

على أن عظمة هذا الوفاء تظهر فى أنه الوفاء فى المحنة، وقد تخيل ألكسندر هوايت صورة اللقاء بين بولس وأنيسيفورس، ولم يكن بولس فى سجنه الأخير عند معذبيه وسجانيه أكثر من سجين، وربما لا يعرف باسمه بل بمجرد رقم يعطى له كما يعطى لغيره من المساجين، فإذا كان الرجل عند أنيسيفورس أعظم رجل فى عالم الأحياء، فإنه عند الرومان ليس أكثر من رقم قد لا يكون معروفاً على الإطلاق،.. وأنيسيفورس يسأل هنا وهناك، ويكد نهاراً وليلا، حتى يعثر عليه آخر الأمر فى زنزانته الضيقة، والسلسلة فى يديه، وذهل الجندى الحارس عندما رأى أنيسيفورس يطوق بولس بالحب والحنان والقبل والدموع، والجندى يتعجب لهذا المنظر المثير العجيب بين الرجلين على نحو غير مألوف أو معروف بين الناس!!.. إن السلسلة التى كان يخجل منها الكثيرون ممن كانوا أصدقاء الأمس، واليوم هم متباعدون، هذه السلسلة تحولت ذهباً صافياً فى فكر أنيسيفورس يزين معصم الرسول، ومجداً خالداً وليس عاراً كما يراها الخونة الهاربون،.. « لم يخجل بسلسلتى ».. أى أنيسيفورس!! إننا نحنى رؤوسنا خجلا أمام نبلك العظيم أيها الشريف بين الناس وبين المؤمنين على حد سواء!!؟ وكم يتوارى الكثيرون عن الوقوف إلى جانب أبطال الصليب، الذين يسيرون وراء سيدهم حاملين عاره!!..

لم يكن الأمر عند أنيسيفورس مجرد الوقوف بدون خجل إلى جانب بولس، بل كان أكثر من ذلك الوفاء الشجاع فى وقت الخطر الرهيب المفزع الذى سلط فيه نيرون أبشع اضطهاد على المسيحيين فى روما،... ومع ذلك فإن أنيسيفورس لا يبالى بالخطر أو الموت، وهو يبحث عن صديقه المحبوب،... ولعل السر فى ذلك ليس مجرد الحب القوى العميق الذى يربط بين قلب وقلب، بل بالأحرى الإيمان المسيحى، الذى يسمو بهذا الحب، ويطبعه بطابعه السماوى القدسى، وأنيسيفورس يؤمن بأن الوفاء لا يجوز أن يتراجع البتة مهما كان الخطر أمام الخدمة المسيحية، بل بالأحرى إن المسيحيين فى حاجة إلى الإقدام الشجاع والتضامن فى قلب الكوارث والمحن، وهنا يلمع الوفاء على أجمل صورة معروفة بين الناس. كتب ريموند فوسدك مقالا رائعاً عن الإيمان فى وقت الخطر، وهو يؤكد أن أعظم الأعمال التى حققها الإنسان تمت فى أوقات كان العالم خلالها يجتاز أقسى المحن ويقول: « كان القديس جيروم قد انتهى لتوه من ترجمته اللاتينية للكتاب المقدس وهو قابع فى صومعته فى بيت لحم عام 140 ميلادية، وقد بدأ فى إعداد تعليقاته عندما سمع أن روما المدينة الخالدة، ورمز الخلود عنده للمسيحية قد نهبها ألريك القوطى وجيشه من البرابرة، وبدا لجيروم أن عمله أصبح لا جدوى منه فكتب يقول فى يأس. «ماذا بقى لنا إذا هلكت روما»... لقد خيمت على العالم العصور المظلمة لمدة سبعمائة عام مليئة بالمحن،.. ولكن بقى شئ آخر هو الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس الباقية إلى اليوم،. فمن صفحاتها برزت أمجاد المسيحية بعد ذلك: « كاتدرائية شارتريه » « الكوميديا الإلهية لدانتى» ولوحات ميخائيل أنجلو، وموسيقى آلام القديس متى لباخ،.. وهكذا استمدت العصور التالية ازدهارها من دير عاش فيه منذ قرون رجل حطمته كوارث عصره، ولكنه مضى فى أداء عمل يؤمن به.. لقد خلق عمل القديس جيروم على مر القرون أكثر مما دمره ألريك وخلفاؤه بكثير.. تلك هى النقطة التى يجب أن تظل ماثلة فى أذهاننا، بعد أن بدا أن القوى الهمجية قد اقتحمت حدود عصرنا فى القرن العشرين، كما فعلت فى القرن الخامس... إن الأعمال الفذة التى حققها الإنسان كانت أكثر حدوثاً فى سنوات القلق، ففى خلال أعمال العنف التى اجتاحت القرنين الثانى عشر والثالث عشر ارتفعت كاتدرائية شارتريه وأبراج كاتدرائية ساليسبورى التى كانت مجد عصرها فى ذلك الحين!!.. وانجز ملتون أعظم أعماله خلال فوضى الحرب الأهلية، وألف بيتهوفن وجوته أعمالها الخالدة بينما كانت جيوش نابليون تشق طريقها عبر أوربا... إننا نعلم أن أجدادنا الأولين كانوا محاطين بالخوف دائماً، غير أن فيضاً من الجرأة والشجاعة الفائقة كان يتدفق دائماً عبر التاريخ فى وجه الظروف المعاكسة، كانت هناك مرونة ورفض لقبول الهزيمة، وإنكار عنيد لفكرة أن الحياة الإنسانية لن تنهض فوق الكارثة!!.. الخ.. فى الحقيقة عندما نتأمل لقاء بولس وأنيسيفورس، والرسول فى زنزانته مقيد بالأغلال والسلاسل، وعلى مقربة من الموت، لا نستطيع البتة أن نفصل بين وفاء الرجل الأسيوى القديم وبين الإيمان المسيحى الكامن وراء قصة هذا الحب النادر بين الناس!!..

انيسيفورس وجزاؤه

وقصة هذا الجزاء ينبغى أن ننظر إليها بكل تأمل وعمق، وذلك لأنها أثارت نزاعاً دينياً حول تفسير الأقوال: « ليعط الرب رحمة لبيت أنيسيفورس لأنه مراراً كثيرة أراحنى ولم يخجل بسلسلتى بل لما كان فى رومية طلبنى بأوفر اجتهاد فوجدنى. ليعطه الرب أن يجد رحمة فى ذلك اليوم. وكل ما كان يخدم فى أفسس أنت تعرفه جيداً » (2 تى 1: 16 - 18) ويذهب الفكر التقليدى الكاثوليكى إلى أن هذه الآيات تنهض دليلاعلى الصلاة لأجل الموتى، ويعتقدون بأن أنيسيفورس كان قد مات بدليل أن بولس يقول فى آخر الرسالة: « سلم على فرسكا وأكيلا وبيت أنيسيفورس مما يشجع على الظن أنه مات بعد زيارته لبولس فى روما، وأن بولس لهذا السبب يطلب له الرحمة،... ويرفض الرأى البروتستانتى هذا التفسير رفضاً كاملا، ويقولون إنه لا دليل على موت أنيسيفورس البتة، وعلى الأخص لأن الفترة ما بين زيارته للرسول، وعودته على الأغلب إلى أفسس، وكتابة الرسالة الثانية لتيموثاوس كانت فترة قصيرة، إذ أن سجن بولس الأخير لم يطل كالأول، وهذه الفترة لا تحتمل عودة الرجل إلى أفسس وموته، وبلوغ خبر الموت إلى بولس، وليس هناك على الإطلاق دليل يقطع بموته،... ومع ذلك فلنفرض جدلاً أنه كان قد مات وأن الرسول كان قد عرف بموته، فإن أقوال بولس أو صلاته لا تصلح أن تكون دليلا على الصلاة من أجل الموتى، لأن بولس طلب أولا الرحمة لبيت أنيسيفورس وهم أحياء، وهو طلب جائز مشروع من رجل خدمه البيت ورب البيت خدمات عظيمة لا يستطيع أن ينساها طوال حياته إلى النسمة الأخيرة، وهو كإنسان مغلول اليدين وليس فى قدرته أن يصنع شيئاً يكافئ به البيت العظيم أو رب البيت، فكل ما يطلبه للبيت هو أن يتمتع برحمة اللّه الغنية الواسعة التى نحتاج إليها جميعاً كأحياء لا نستطيع أن نحيا يوماً واحداً دون رحمته،.. فإذا قيل إن هذه الرحمة تلحق أنيسيفورس بالذات: « ليعطه الرب أن يجد رحمة فى ذلك اليوم »... والمقصود بذلك اليوم هو اليوم الأبدى العظيم الذى سيقف فيه الجميع أمام كرسى المسيح ليعطى كل واحد حساباً عما فعل بالجسد خيراً كان أم شراً!! قلنا إنها رحمة ستتحقق فى اليوم الأخير، ولا يمكن أن تنصرف بحال ما لأية منفعة قبل ذلك اليوم، مما ينتفى معه فكرة المطهر بأية صورة من الصور، أو فائدة تلحق به قبل القيامة فى اليوم الأخير!!.. فإذا جاء النص يحمل الرحمة للبيت أو للرجل، فنحن إذاً أمام صورة عظيمة لرسول يذكر بيتاً ورجلا، لا يملك أن يكافئهما ويجازيهما، وهو يطلب لهم خير الجزاء فى الحياة الحاضرة والعتيدة، ولا يزيد الأمر عن صورة الجزاء الذى تحدث عنه السيد الملك سواء فى العهد القديم أو الجديد: « كنت فتى وقد شخت ولم أر صديقاً تخلى عنه ولا ذرية له تلتمس خبزاً » (مز 37: 25) أو القول: « تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم. لأنى جعت فأطعمتمونى. عطشت فسقيتمونى. كنت غريباً فآويتمونى. عرياناً فكسوتمونى. مريضاً فزرتمونى. محبوساً فأتيتم إلىّ» (مت 25: 34 - 36).. والجزاء فى كل الحالات، فى الحياة الحاضرة والعتيدة، هو رحمة من اللّه وليس استحقاقاً البتة، وهو رحمة نأخذها فى ظروفنا الحالية فى كل جانب من جوانب الحياة، وهى الرحمة الكاملة فى المجد عندما تكمل السعادة الأبدية بخلاص الروح والجسد معاً فى يوم القيامة الأخير،... ومن المستحيل لرجل مؤمن تمتع بالخلاص الأبدى فى المسيح يسوع، ويمتدحه الرسول على هذه الصورة النادرة العجيبة، فى المقارنة مع غيره من الناس، ثم تعلق أبديته حتى اليوم الأخير، دون أن تنال رحمة الخلاص المجانى فى الصليب،... إن فى هذا كل المجافاة، لا للتفسير الكتابى الصحيح، بل للمنطق السليم الواضح أيضاً!!..

إن السؤال الحقيقى الذى تطرحه قصة هذا الرجل القديم،... فى عصر فترت فيه محبة الكثيرين.. هل يمكن أن نجد نظيره الآن، وهل يمكن أن نعثر على «أنيسيفورس» متكرراً فى عصرنا!!؟.

رد مع اقتباس
 


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
ما أجملك يا أنيسيفورس
صورة القديس أنيسيفورس
القديس أنيسيفورس
أنيسيفورس
أنيسيفورس وبيته


الساعة الآن 05:55 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024