رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
إن كان الله قد تدخل لتجديد العالم بمياه الطوفان، فعوض أن يستجيب الإنسان بالحب والاتكاء على صدر الله اتكأ على ذاته، وأراد أن يقيم لنفسه برجًا من صنع يديه يحتمي فيه من قرارات الله نحوه. وكأن هذا البرج يمثل الفلسفات المعاصرة – خاصة الوجودية – التي ترى في الله أنه يكتم أنفاس الإنسان ويحرمه من حريته، وكأن مجد الله يقوم على مذلة الإنسان، وقوة الله على حساب كرامة بني البشر، فحسبوا أنه لا مناص من التخلص من هذا الإله بتأليه الذات والهروب من الله للتمتع بكمال الحرية.
١. برج بابل ١-٩ ٢. مواليد سام ١٠-٢٦ ٣. أبرآم ولوط ٢٧-٣٣ "وكانت الأرض كلها لسانًا واحدًا ولغة واحدة" [١]. إذ تحدث في الأصحاح السابق عن مواليد نوح وظهور الأمم والشعوب، كل أمة لها لسانها، يستعرض هنا كيف كانت الأرض كلها لسانًا وحدًا ولغةً واحدة، وكيف حدثت بلبلة الألسنة بعد ذلك وصار لكل شعب لسانه ولغته. كان طبيعيًا أن ينطق الناس لغة واحدة، وقد ظن بعض العلماء أن هذه اللغة هي العبرية ويدللون على ذلك بأن الأسماء الأولى مثل آدم وحواء وعدن الخ عبرية. ونادى فريق آخر بأن اللغة الأولى للعالم هي الكلدانية (السريانية) ويعللون ذلك بأن اللغات الشرقية كلها مشتقة من مصدر واحد وأن العبرية ليست إلاّ فرعًا من فروع هذه اللغة، خاصة وأن الآباء الأولين سكنوا منطقة دجلة والفرات مقر الشعب الكلداني. على أي الأحوال يصعب تحديد لغة العالم الأولى، إنما ما نعرفه أن العالم كله كان يتحدث بلغة واحدة[221]. لا نعرف كيف بدأ الإنسان ينطق بلغة بشرية، لكن ما نعرفه أن الإنسان الأول كان ينطق بلغة الحب الذي لا يعرف الانقسام، وتفاهم آدم وحواء بروح الحب والوحدة خلال إتضاع الروح، فكان الإنسان معينًا لأخيه. خلال لغة الحب كان الإنسان الأول يعرف كيف يخاطب الله وملائكته وجميع السمائيين ويسمع أصواتهم السمائية؛ بل وخلال لغة الحب كان الإنسان منسجمًا حتى مع الخليقة غير الناطقة فينطق الكل معًا بروح الشكر لله والتسبيح له. أما وقد سقط الإنسان في العصيان خسر لغة الحب والوحدة، فانشق الإنسان حتى على نفسه فصار لجسده لغة غير لغة روحه، ودخل في صراع داخلي مرّ. لم يعد يستطيع الإنسان أن يتحدث مع الله بفرح وبهجة ولا أن يشترك مع السمائيين في ليتوچياتهم ولا أن ينسجم حتى مع الخليقة غير الناطقة. فقد الإنسان اللسان الواحد واللغة الداخلية الواحدة حتى وإن بقيت البشرية زمانًا تنطق بلسانها المادي لغة واحدة! لهذا كان لزامًا أن تنهار وحدة اللغة الظاهرة بعد أن انهارت وحدة لغة الداخل. وكأن ما حدث على أثر محاولة بناء برج بابل لم يكن إلاّ ثمرة طبيعية وكشفًا للأعماق الداخلية أن الإنسان فقد اللسان الواحد واللغة الواحدة. بمعنى آخر ما حدث من بلبلة للألسنة إنما جاء ليفضح البلبلة الداخلية، حتى متى ارتبك الإنسان بسبب البلبلة ينظر إلى الداخل أولًا طالبًا وحدة لغة القلب والروح قبل وحدة لغة اللسان الظاهر. "وحدث في ارتحالهم شرقًا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار وسكنوا هناك. وقال بعضهم لبعض هلم نصنع لبنًا ونشويه شيًا، فكان لهم اللبن مكان الحجارة، وكان لهم الحمر مكان الطين. وقالوا: هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجًا رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسمًا لئلا نتبدد على وجه كل الأرض" [٢-٤]. بعد الطوفان حيث استقر الفلك على جبل أراراط ارتحلوا شرقًا حيث سهل شنعار، أي سهل دجلة والفرات الذي يقع جنوب شرقي الجبل. في السهل وجدوا المناخ مناسبًا لعمل اللبن الأحمر، بحرق اللبن بعد تجفيفه في الشمس كما يحدث حاليًا في مصر. أما الحمر الذي استخدموه فهو نوع من القار المعدني متى جمد يدعى بالزفت، وهو يكثر في منطقة الفرات. كانت خطتهم البشرية هو تدبير إقامة مدينة وبرج مرتفع حتى إذا ما حلّ الطوفان مرة أخرى، يجدون لأنفسهم ملجأ من تأديبات الله القاسية، وكما قيل عن مدن الكنعانيون: "مدن عظيمة محصنة إلى السماء" (تث ١: ٢٨). لم يكن الشر في إقامة المدينة ذاتها أو الرغبة في بناء برج شاهق، وإنما غاية هذا العمل هو: "نصنع لأنفسنا اسمًا لئلا نتبدد على وجه كل الأرض"، وكأنهم لم يثقوا في ميثاق الله مع أبيهم نوح وحسبوا الله غير أمين في مواعيده. هذا ومن جانب آخر كان يليق بهم عوض هذا الفكر أن يرجعوا إلى الله بالحب فيجدوا فيه مدينتهم السماوية، وحصنًا حقيقيًا، وبه ينالون اسمًا لا على وجه الأرض فحسب وإنما حتى في السماء! برغبتهم في بناء مدينة أرضية تحميهم من غضب الله رفضوا المدينة السماوية، التي في جوهرها هي ارتماء في حضن أبيهم السماوي. ويرى القديس أغسطينوس أن نمرود هو الذي أسس هذه المدينة التي دعيت بابل (تك ١٠: ٩، ١٠)، قائلًا: ["بابل" تعني "بلبلة وارتباك"، التي تخلص نمرود الجبار كان مؤسسها كما سبق فألمح إلى ذلك؛ فحينما تحدث الكتاب المقدس عنه قال أن بداية مملكته كانت بابل (تك ١٠: ١٠)، وأنه كان لبابل السلطة على بقية المدن بكونها عاصمة أو مقرًا ملوكيًا بالرغم من أنها لم تبلغ المقياس الموضوع لها بكبرياء مؤسسها وشره. كانت الخطة أن ترتفع مبانيها لتبلغ السماء، سواء كان المقصود بذلك بناء برج عال أكثر من المباني الأخرى، أو إقامة كل الأبراج هكذا، وذلك كما نتحدث بصيغة الفرد عن "جندي" فنقصد الجيش كله... (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). ولكن ماذا قصد هؤلاء المختالين بأنفسهم المتجاسرين؟ كيف ظن هؤلاء أن يقيموا عملًا مرتفعًا ضد الله، عندما يشيدوه فوق كل الجبال والسحاب المنتشر في الجو؟ أي تشامخ روحي أو مادي يقدر أن يؤذي الله؟ الطريق الآمن الحقيقي للسماء يشيد بالاتضاع الذي يرفع القلب لله وليس ضد الله كما قيل عن هذا الجبار: "كان جبار صيد أمام الرب" (١٠: ٩). لقد أساء البعض فهم هذا التعبير بسبب غموض الكلمة اليونانية والتي لم تترجم "ضد الرب" بل أمامه، مع أن الكلمة تحمل المعنيين "ضد" و "أمام". استخدمت في المزمور بمعنى "أمام" "هل نبكي أمام الرب خالقنا" (مز ٩٥: ٦)، وفي أيوب بمعنى "ضد" "حتى ترد على الله" (أي ١٥: ١٣). لذلك يفهم هنا أن الصياد كان "ضد الرب". ماذا يعني بالقول "الصياد" إلاّ المخادع والمقاوم ومهلك حيوانات الأرض؟ فإنه هو وشعبه أقاموا هذا البرج ضد الرب، معبرين عن كبريائهم الشرير، وبعدل عوقب شرهم بواسطة الله حتى وإن كانت خطتهم لم تنجح. ولكن ما هي طبيعة العقوبة (التي سقطوا تحتها)؟ إن كان اللسان هو آلة السيادة، لذلك حلت العقوبة عليه، حتى أن الإنسان الذي لم يرد أن يفهم الله مقدمًا الوصايا، يصير هو نفسه غير مفهوم عندما يصدر الأوامر[222]]. بسبب الكبرياء فقد الإنسان الوحدة الجامعة، كما يقول القديس أغسطينوس: [خلال المتكبرين انقسمت الألسنة، وخلال الرسل المتواضعين اتحدت الألسنة[223]]. وبسبب الكبرياء أيضًا فقد الإنسان وحدته الداخلية، فإن كان في كبريائه لم يفهم لغة الله المملوءة حبًا، فثمر هذا لا يفهم الجسد لغة الروح ويكون للروح لغة تضاد لغة الجسد، وكما يقول الرسول بولس عن الإنسان خارج دائرة الروح القدس واهب الوحدة: "لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون" (غلا ٥: ١٧). أما قول الكتاب: "فنزل الرب لينظر المدينة والبرج الذين كان بنو آدم (البشر) يبنوها" [٥]، فيعلق القديس أغسطينوس قائلًا بأن الذين يبنون هم بنو البشر: [لم يكونوا أبناء الله، إنما كانت هذه الجماعة تعيش بطريقة بشرية، والتي ندعوها "مدينة أرضية"[224]]. أما عن القول "نزل الرب لينظر"، فلا يعني المفهوم الحرفي للعبارة، [فإن الله بكامله في كل موضع ولا يتحرك من مكان إلى آخر، إنما يُقال هكذا ينزل عندما يفعل شيئا غير عادي على الأرض، وكأنه بهذا تصير حضرته ملموسة. بنفس الطريقة، بالقول "لينظر" لا يعني أنه يتعلم شيئًا جديدًا، إذ لا يمكن أن يجهل الله شيئًا، إنما يُقال ينظر ويعرف بالمعنى الذي به يجعل الآخرين ينظرون ويعرفون[225]]. وكما سبق فقلنا أن الله من قبيل محبته يتحدث معنا بلغتنا البشرية لكي نستطيع أن نفهم تدابيره وأسراره قدر ما نحتمل. إنه يتنازل فيتفاهم معنا باللغة التي نستطيع نحن إدراكها. يرى القديس أغسطينوس[226] أن الله ينزل خلال نزول الملائكة إلينا بكونهم مسكنًا له، وعاملين مع الله (١ كو ٣: ٩). يقدم لنا القديس أغسطينوس تفسيرًا لذكر نسل سام بعد الحديث عن الطوفان وإنشاء مدينة بابل مباشرة إذ يقول، فكما جاء من نسل حام من يقيم بابل رمز المدينة الأرضية هكذا جاء من نسل سام من يقيم مدينة الله: [كان من الضروري أن تحفظ سلسلة الأجيال النازلة من سام لأجل الكشف عن مدينة الله بعد الطوفان، إذ سبق عرض الأجيال النازل من سام قبل الطوفان. والآن بعد أن كشف الكتاب المقدس عن المدينة الأرضية أي بابل أو البلبلة (الارتباك) يعود إلى الأب سام ليخلص الأجيال النازلة منه حتى إبراهيم، محددًا سن كل أب عند إنجابه الابن المذكور في السلسلة وسني حياته كلها[227]]. يرى القديس أغسطينوس[228]أن العالمكله كانيتحدثبلغة واحدة هذه التي دعيت فيما بعد بالعبرية، وإنه في أيام فالج انقسمت الأرض (١: ٢٥) فظهرت لغات أخرى بجانب العبرية، لكن بقى الخط الذي يصل بين سام وإبراهيم يتكلم العبرية بينما الفروع الأخرى اتجهت إلى لغات أخرى هؤلاء الذين يُقال عنهم: "وولد... بنين وبنات" [١٧، ١٩، ٢١، ٢٣، ٢٥]، فكان كل أب ينجب ابنًا يتسلم الميراث والرجاء في وعد الله واللغة بينما كان بقية البنين والبنات يسلكون بروح آخر وبلغة تغاير لغة أبيهم. بعدما عرض مواليد سام بلغ إلى إبراهيم وابن أخيه لوط اللذين وُجدا في أور الكلدانيين... وبظهور إبراهيم يظهر أب الآباء لينال وعدًا وميثاقًا من الله، بنسله تتبارك الأمم... الأمر الذي يتحدث عنه في الأصحاحات التالية. ظهر إبراهيم في أور الكلدانيين ويبدو أن عائلته أيضًا كانت تعبد آلهة غريبة، ولم يكن في العالم كله من يعبد الله الحيّ غير إبراهيم، إذ قيل: "آباؤكم سكنوا في عبر النهر منذ الدهر، تارح أبو إبراهيم وأبو ناحور وعبدوا آلهة أخرى، فأخذت إبراهيم أباكم من عبر النهر وسرت به في كل أرض كنعان وأكثرت نسله وأعطيته إسحق" (يش ٢٤: ٢، ٣). أما موضوع هجرة إبراهيم وسارة ولوط مع ناحور إلى حاران [٣١] فنتركه للحديث عنه في الأصحاح التالي إن شاء الرب |
|