موت المسيح ـ القديس يوحنا الدمشقي
إذاً فإنّ كلمة الله نفسه قد احتمل كل الآلام في جسده، بينما طبيعته الإلهية التي لا تتألم ظلّت وحدها عديمة التألّم. لأنّ المسيح الواحد المركَّب من لاهوت وناسوت، وهو في لاهوتٍ وناسوتٍ، قد تألّم. والذي فيه قابلُ التألُّم, لما كان طبعاً يتألّم, فقد تألّم. أما الذي فيه لا يتألّم فلم يشاركه الآلام. فإن النفس التي هي قابلةٌ الآلام عندما يُجرح الجسد، ولو كانت هي لا تُجرح، فهي تشارك الجسد أوجاعه وآلامه (1كو 12: 26) واعلم بأننا نقول إن الله يتألم في الجسد ولا نقول أبداً إن اللاهوت يتألّم في الجسد أو إنّ الإله يتألّم في الجسد.
لأنه إذا كانت الشمس تضيءُ شجرةً وقطعت الفأس الشجرة تبقى الشمس دون ما شقوق ولا تألم، فكم بالأحرى يبقى لاهوت الكلمة المتحد بالجسد في الأقنوم دون ما تألم إذا تألم الجسد؟ وعلى نحو ما إذا صبَّ أحدهم ماءً على حديد محميّ فإن الذي هو من طبعه أن يتأثر بالماء, أعنى النار, ينطفئُ ويبقى الحديد سالماً، لأنه ليس من طبع الحديد أن يتأثر بالماء، فكم بالأحرى عندما يتألّم الجسد، فإن اللاهوت وحده الذي لا ينفعل ولا يبلغ إليه الألم، رغم بقائه مع الجسد بلا انفصال؟ وليس من ضرورة أن تكون الأمثال مطابقة للواقع حتى النهاية، لأنه من الضرورة أن نجد في الأمثال ما هو مطابق للواقع وما هو مخالفٌ له، وإلا فليس المثلُ مثلاً، لأن المساوي في كل شيء يكون هو هو نفسه، وليس مثلاً، لا سيّما في الإلهيّات. فلا يمكن إيجاد مثل يكون مساوياً في كل شيء، إنْ في علم اللاهوت وإنْ في التدبير.
لمّا كان ربنا يسوع المسيح منزّهاً عن الخطأ, لأن “الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ” (يو1: 29) لم يفعل الخطيئة و“وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ” (اش53: 9) فهو لم يكن خاضعاً للموت، إذ إنّ الموت قد دخل العالم بالخطيئة (رو5: 12) إذاً، فإنّ الذي ارتضى بالموت لأجلنا يموت ويُقرّب ذاته للآب ذبيحة من أجلنا (اف 5: 2) ، فإننا قد أخطأنا نحوه وأصبح هو بحاجة إلى أن يقدّم ذاته فدية عنا (مر 10: 45) ، وبذلك يحلّنا من الحكم علينا. ولكن حاشا أن يكون دم الربّ قد تقرّب للطاغية! فإنّ هذا لمّا أسرع لابتلاع طعم الجسد جُرح بصنّارة اللاهوت إذ ذاق الجسد المنزّه عن الخطأ والمحيي. وحينذاك قد تعطّل وردَّ جميع الذين قد ابتلعهم قديماً. وكما أنّ الظلام يتبدّد بإشراقة النور كذلك يضمحلُّ الفساد بهجوم الحياة. لأنّ الحياة تعمُّ الجميع والفساد يعود إلى المفسِد.
أقنوم المسيح واحدٌ، وليس بحد ذاته ورغم تجزئته, إذاً فإنّ المسيح، ولو كان قد مات بصفته إنساناً وكانت نفسه المقدّسة قد انفصلت عن جسده الأطهر، لكنَّ اللاهوت ظلَّ بلا انفصال عن كليهما، لا عن النفس ولا عن الجسد. وأقنومه الواحد لم ينقسم بذلك إلى أقنومين. لأن الجسد والنفس, منذ ابتدائهما, قد نالا الوجود في أقنوم الكلمة بالطريقة نفسها، وفي انفصال أحدهما عن الآخر بالموت، ظلَّ كل منهما حاصلاً على أقنوم الكلمة الواحد، حتى إن أقنوم الكلمة الواحد ظلّ أقنوم الكلمة والنفس والجسد. فإن النفس والجسد لم يحظيا قط بأقنوم خاص لكل منهما خارجاً عن أقنوم الكلمة، وإن أقنوم الكلمة ظلّ دائماً واحداً ولم يكن قط اثنين، حتى إن أقنوم المسيح هو دائماً واحد. وإذا كانت النفس قد انفصلت عن الجسد انفصالاًَ مكانياً، فقد ظلّت متحدة به اتحاداً أقنومياً بواسطة الكلمة.
لكلمة بلى معنيان, إنها تعني هذه الانفعالات البشرية كلها, الجوع والعطش والتعب وثقب المسامير والموت أو انفصال النفس عن الجسد وما شاكلها. وبهذا المعنى نقول بأنّ جسد الربّ قابلٌ للبلى، لأنّ المسيح ارتضى أن يتقبّلها كلها. ويعني البلى أيضاً انحلال الجسد بكامله إلى العناصر المركّب هو منها وزواله وهذا هو بالأحرى ما يدعوه الكثيرون فساداً, أما جسد الرب فلم تُصبه هذه المحنة، على ما يقوله النبيّ داود: “لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَادا” (مز16: 10)