منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 26 - 06 - 2014, 01:57 PM   رقم المشاركة : ( 61 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,300,316

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

نصائح لسرّ التوبة والاعتراف

فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئَلَّا يُدْرِكَكُمُ الظّلاَمُ
يو 12: 35
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
  • سرّ التوبة والاعتراف ليس لتبرير الذات والتماس الأعذار للأخطاء
  • سرّ التوبة والاعتراف ليس لتفريغ شحنة عاطفيّة لتخدير الضمير الذي يعذّب الإنسان
  • سرّ التوبة والاعتراف ليس لسرد أحداث تفصيليّة لرسم صورة تبرّر النفس أمام أب الاعتراف
  • الإقرار بالخطايا يكون للمسيح وكأنه قائم أمامك يسمع منك، فلا ترى أو تشعر بوجود آخر غير المسيح
  • سرد الخطايا لا يستلزم وقتًا طويلاً بل انسكابًا قلبيًّا في شعور بمحضر الله ورفّ روح الله ليهب الغفران
  • الإقرار بالخطايا دونما توبة يصلّي فيها الإنسان لطلب عون / رحمة الله يكون بلا معنى
  • الإقرار الأوّل بالخطايا يكون في المخدع أمام الله بصوت علني، مع الاعتراف بالخطيئة وطلب النعمة في المقابل
  • دور الأب الكاهن هو أن يكون شاهدًا على توبتك، أي يعلن أن تلك توبة حقيقيّة بحسب معيار الإنجيل والوصيّة، فهو ينقل لك بشرى قبول توبتك إن كانت متناغمة مع مطلب الإنجيل، كما يرشدك إلى طريق التوبة الحقيقيّة التي يطلبها منّك الربّ إن كانت توبتك ليست سوى محاولة تخلُّص نفسي من وطأة الضمير
  • دور الأب الكاهن أيضًا أن يشهد أمام المسيح أنّك قدّمت توبة حقيقيّة ومن ثمّ تتجدّد عضويتك في جسد المسيح الذي فصلت نفسك عنه بالخطيئة ومن ثمّ يمكن التقدُّم للتناول فيما بعد لتشارك الجسد الواحد نعمة التمتّع بيسوع الإفخارستي.
  • لا يجب أن تخجل من الأب الكاهن لأنه يتوقّع اعترافًا بالخطايا لا حديثًا عن الانجازات الروحيّة، وبقدر ما يجترأ الإنسان أن يعترف بخطيئته هادمًا أسوار الخجل ناظرًا على النعمة التي يحملها المسيح له، بقدر ما يتهلَّل الكاهن لأنه يرى أن حصون الشرّ تتهدّم لأن النور يدخل إلى مخدع القلب ويطهّره. فكشف الأفكار يعرضها للنور، ومن ثمّ ينحسر تأثيرها على الإنسان.
  • حينما تعترف لا تبحث عن الخطايا الضخمة من وجهة نظرك، بل كلّ ما يعوِّق سكنى الله في حياتك، وإن كانت أشباه الشرور، فقد تكون تلك هي الثعالب الصغيرة التي تفسد كرم المسيح الذي قد زرعه الروح في قلبك. لا توجد خطايا كبيرة وأخرى صغيرة، فالخطايا كلّها فاصلة وعازلة لنور الله عن بصيرة الإنسان.
  • يجب أن تفرّق بين الاعتراف وطلب الإرشاد؛ فالاعتراف هو السرّ حتى تنال صكّ المغفرة بشهادة الكنيسة فتثق أمام شكايات الشيطان أن خطاياك في بحر النسيان ولا تعود تُذكر فيما بعد، أمّا الإرشاد فيبحث في كيفيّة النهوض وكيفيّة الثبات وكيفيّة التحرُّك والتقدُّم في معرفة الله والاستنارة برؤيا المخلِّص يملأ الوجود حياة وضياء.
  • الإرشاد يمكن أن يعينك فيه أب كاهن أو خادم أو كتاب أو اجتماع أو عظة أو كلّ تلك الأمور معًا، أمّا سرّ التوبة والاعتراف يتطلّب كاهنًا، فلا تثقّل على الكاهن بطلب الإرشاد في الوقت الذي يجب عليك أن تقدِّم إقرارا بالخطايا لتنال صكّ المغفرة.
  • أن تتوب وتعترف بخطاياك وإن سقطت فيها مجدّدًا، أفضل من ألاّ تتوب ولا تعترف لأنك تكرِّر الخطيئة؛ فنزع جذور الخطيئة من أروحنا ونفوسنا بل وأجسادنا أحيانًا تستلزم وقتًا طويلاً وصبرًا.
  • لذا فإنّ زمن الاعتراف لا يجب أن يتعدّى خمسة إلى عشرة دقائق على أقصى تقدير لأن تلك هي الفترة التي تقرّ فيها بخطيئتك دون أن تسترسل في سردّ أحداث ووقائع وتفاصيل بعيدة عن روح الإقرار بالخطيئة.
  رد مع اقتباس
قديم 26 - 06 - 2014, 01:58 PM   رقم المشاركة : ( 62 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,300,316

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

أيها القدوس رب الجنود
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

أيها القدوس رب الجنود
يا من تطلّ علينا بأعين الرحمة والحب والعناية
حتى وإن شردنا وملنا كل واحدٍ في طريقه
يا من تجتذبنا في ابنك لتحتضن مخاوفنا وتظلل بجناحي لطفك على قلوبنا الهشّة
يا من تلمس الجرح الغائر في نفوسنا من وطأة الظلم وقساوة البشر وانتصاب قوات الظلمة
دعنا نتلمّس في تلك اللحظات أبوتك التي لا تعود حتى ترجع بالبنين من وادي الخوف والألم إلى مراعي الراحة والطمأنينة بقرب قلبك..
نطمئن حينما نستمع لدقّات قلبك الصارخة بالحبّ من نحونا
ازرع في قلوبنا سر النصرة الحق التي لا تعتمد على أزرعتنا البشريّة الضعيفة تلك التي لا تقدر أن تخلِّص
سوف نرفع أعيننا نحوك لنستنزل عونك إلى ضعفنا نحن الذين لا نملك الآن سوى أعين تترجى رؤية النور
لن نطلب سحقًا للأعداء بل تغييرًا لقلوبهم
إشراقة نور على القلوب تطمئننا أنك حاضر معنا ولنا
إشراقة نور على القلوب تطمئننا أنك حاضر معنا ولنا
إشراقة نور على القلوب تطمئننا أنك حاضر معنا ولنا
وإن تقسّت قلوب الأعداء كفرعون القديم، دع المياه تنفتح أمامنا، لنعبر بالإيمان فيعلم الجميع أننا في كنف القدير نبيت
وقتها نترنّم ونترنّم من بعد صمتٍ
اشتقنا للترنُّم فلا تحرمنا من تسابيح النصرة
لن نمرض في العراء ولن نجوع في البريّة
ولن يتسلّط علينا عدوٌ لأنك أنت لنا عونًا وجدت شديدًا وقت الضيق
والآن سنصمت..
الآن تتحجّر الكلمات فلا نملك إلاّ أنّات القلب تصرخ وتصرخ وتصرخ
اعبر إلينا وأعنّا يا ربّ القوّات
ربّ الصاباؤت
العلي على كلّ بشرٍ...
  رد مع اقتباس
قديم 26 - 06 - 2014, 02:02 PM   رقم المشاركة : ( 63 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,300,316

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

لماذا نصوم ونصلِّي في تلك الضيقة؟؟؟
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

في البداية دعني أذكّرك بأنّ يوحنا ويعقوب طالبا الربّ أن يسمح لهما بطلب نار تنزل من السماء لتهلك تلك القريّة السامريّة التي رفضت ضيافة يسوع؛
“وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ.
فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهاً نَحْوَ أُورُشَلِيمَ.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا قَالاَ:
يَا رَبُّ أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضاً؟.”
فما كان منه إلاّ أن احتدّ وقال “لستما تعلمان من أي روح أنتما”، أي أن تلك الروح ليست من تلاميذي ولكنّها من المهلك!! وأضاف أنّ ابن الإنسان لم يأت إلاّ ليخلِّص البشر..
“لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ بَلْ لِيُخَلِّصَ”
(لو9: 53-56)
من هذا المنطلق نصلي ونصوم ونتضرّع، لا لينتقم لنا الله بنارٍ تنزل من السماء تروِّع الذين ظلمونا وقسوا علينا، بل لكي يجدّد الربّ العقول والقلوب لتراه كسيّد الخليقة وضابط الكلّ، وأنّ البشر لا يستطيعوا أن يجرحوا جسده؛ الكنيسة، دون أن يعادوه هو رأسًا..
أنت تصلّي وتصوم أولاً لتكتشف إلهك، في قلبك، في أعماقك في عالمك الذي غاب عنه النور زمانًا طويلاً.. وحينما يبدأ النور يحطّ على قلبك تبدأ ترى ذاتك الحقيقيّة وكيف شردت وابتعدت عن النبع الصافي، فتبدأ أولى لحظات توبتك بالتوجُّه لله لكي يعيد ترميم ما قد تهدَّم على مرّ السنين من يوم الميلاد الجديد، المعموديّة، وحتى تلك اللّحظة..
وحينما يدخل الله إلى عالمك أول ما يفعله يجدِّد مفاهيمك التي طالما كوّنتها بعيدًا عن الحقّ، وإن ظننت أنك في الحقّ وتتبع الحقّ، فما نعتنقه من مبادئ لم تكتبها أنامل الروح على القلب، لن تستطيع أن تريح الإنسان الممزق من فرط التناقضات التي تحيط به، بل ويصرخ من اللاّمعقوليّة التي تضغطه من كلّ صوبٍ وحدب..
تجديد المفاهيم يبدأ من خلال رسم صورة جديدة له في قلبك، عوضًا عن الصور التي طالما استعرتها من آخرين!! نعم فالله الذي نسمع عنه ونتخيّله يختلف عن الله الذي نختبره في أعماقنا في كياننا الداخلي. تجديد المفاهيم سيرسم الله كإله محبّ يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحقّ يقبلون، وهذا يعني أنّه لا يشاء موت وهلاك وفناء الخاطئ بل عودته للحياة..
تلك الحقيقة حينما تترسّخ في قلبك تبدأ في إدراك مشيئة الله من أجل من يعادونك ويضطهدونك بل ويتآمرون لموتك.. الله يريد أن يغيّرهم ويحوّل قلوبهم رجوعًا إليه؛ فالانتقام الأعظم من الشرّ هو تَحَوُّله إلى الخير ليتعمّد في النور ويصير نورًا.. وقتها تخسر الظلمة بقعة فناء..
نحن نصلّي ونصوم ونتضرّع إذًا في تلك الأيام لا ليتصرّف الله وفق أهوائنا التي تريد أن تنتقم يد القدير بشكلٍ له صورة حربيّة وقتاليّة بل لكي يستعلن مجده في الكنيسة من داخل بالرجوع إلى الله وما يستتبعه من قوّة صمود إيمانيّة تواجه الموت والألم بقوّة الخلود في المسيح. وأيضًا لكي تبصر الأمم من هو الله الذي نتبعه؛ فإلهنا هو الملجأ الذي يتمنّع فيه الصديق من سهام إبليس المتّقدة نارًا والمطلقة بأيدي البشر..
هذا لا يعني أبدًا أنّ الله لا يعاقب الأشرار ولا ينتقم لأولاده من الظلم وسفك الدماء. كلّ قطرة دم محسوبة عنده وسيطالب بها سكّان الأرض ممّن سفكوا تلك الدماء البريئة.
ولكن طلبتنا نحن شيء، وآلية الله في التدخُّل شيء آخر، فقد يرى الله أن إعلان مجده يتأتي من خلال ضرباتٍ عشر تردع قوى الظلمة المعاندة، أو كضربة كالتي نالها هيرودس فمات ميتة قاسيّة. وقد يعلن مجده من خلال حركة انفتاح في البصائر لإدراك النور الحقّ..
وفي كلّ هذا يريدنا الكنيسة الأمينة الخاضعة له على الدوام المطبّقة كلمته، الرافعة أيادٍ إلى العُلا دونما توقُّف.. فنحن الأيدي التي يستخدمها الله لتغيير العالم...
أمين
يا إله الحبّ الذي قدّم لنا مثالاً، بالموت الذبائحي، عن لامحدوديّة الحبّ
دعنا نذوب فيك لنخرج بك إلى العالم حاملين قبس حبٍّ لم يتذوّق العالم له مثيلاً
دع أيادينا ترتفع إلى أعلى.. إلى أعلى.. لتصر قناة نتقبّل منها مشيئتك
فيحلّ على قلوبنا السلام
ونعلنك للعالم مسرّة
نثق في قدرتك الإلهيّة يا إلهنا
جدّد مفاهيمنا أولاً
وأطلقنا لنعلنك نبعًا للراحة، لكلّ من فَقَدَ صلحه مع ذاته
ففقد صلحه مع الآخر وصار سهمًا جارحًا لقلوب آخرين..
أَنَا أَنَا هُوَ مُعَزِّيكُمْ.
مَنْ أَنْتِ حَتَّى تَخَافِي مِنْ إِنْسَانٍ يَمُوتُ
وَمِنِ ابْنِ الإِنْسَانِ الَّذِي يُجْعَلُ كَالْعُشْبِ؟
(إش 51: 12)
  رد مع اقتباس
قديم 26 - 06 - 2014, 02:03 PM   رقم المشاركة : ( 64 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,300,316

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

سماؤنا
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

أنت مدعو لتتغنّى بأنشودة جديدة لم تنشدها بعد..
أوتار قلبك وطبول وجدانك ودفوف مشاعرك وأفكارك كلّها تتهيّأ لها هنا في الحياة.. تتدرّب عليها..
كلّ يومٍ تميل إلى الخير الدفين في أعماقك وكأنّك تداعب أوتار الوجود
لعلّك تستطيع أن تتحصّل على أهازيج العُلا..
تصحو كلّ صباح وتجدّد أشواق الأماني المحتضرة،
بالرجاء في يوم النشيد العظيم والهتاف الأبدي..
تلك هي السماء التي نترقّبها
ترقُّب الفجر لمن ظلّل عليهم اللّيل ببرقه ورعده المدوّي..
ترقٌّب الظلّ الحاني لمَنْ تلظّت رؤوسهم تحت أشعة شمس الصحراء الملتهبة..
سماؤنا أنشودة تهليل من بعد وجوم الحياة وبُكْمِها..
هل فكّرت من قبل أنّ كلّ جمال الموسيقى البديعة ههنا،
كلّ أغاريد الطيور،
ما هي إلاّ قبسٍ من نغمٍ فائق السرور يرتله ذاك الجمع الحامل قيثارات النور،
في شكر البنين وسُبْح المحبّين..
السجود هناك طربٌ على وقع النغمات الملائكيّة..
الشدو هناك دندنة بكلمات لم تدخل قاموس البشر من قبل..
كلمات الحبّ الصافي النوراني والذوبان في المطلق البديع الجمال والفائض الحضور..
عيدُ الأبد هذا هو الاحتفال الذي نتهيّأ له..
نرتدي ثياب الاحتفال..
نحرص عليها حتى وقوفنا على أعتاب القصر الإلهي..
نفرّ من أعاصير العالم الترابيّة لئلا تتشبث بثيابنا البيض
فتطبع عليها رائحة التراب ولونه الباهت..
عيدنا هو انتظار تملُّك الحبّ ملكًا مُظفّرًا وسط أكاليل الغار والزيتون النورانيّة..
نصرة الحبّ في عالمنا ما بين كرّ وفرّ..
ما بين يقين وشك..
ما بين ألمٍ وارتياح..
ما بين هجوع ويقظة..
الحبّ لم يزل مصارعًا في ساحة الوغي مع أرباب الظلمة..
يسطّر ملاحمه كلّ يوم بأيدي بني النور..
وكلّما تتلاحم أيادِ النور كلّما تهرول الظلمة إلى مخابئ التراب
لتستتر في مغائر اللّيل خوفًا من الفضيحة الكبرى..
حينما ترتخي أيادِ النور يرسل اللّيل ملاءته السوداء على الوجود..
ويصرخ مزمجرًا بصوتٍ مدوٍ:
أنا اللّيل سيّد الدهور.. أنا اللّيل سيد الدهور..
وتتبعه ملايين الكيانات الشاحبة التي لم ترى يومًا، فجرًا متلألئ يسطع بتهليلٍ..
وتبقى النجوم البارقة في اللّيل، شهادةً بزيف دعاوى اللّيل ومُلكه..
وإذ تتلاحم النجوم من جديد تطلّ بقوّة شمسٍ باهرة،
وتمزّق عباءة اللّيل وتدعو البشر، جلوس الظلمة وظلّ اللّيل الرطب،
إلى دفء الحياة..
فتتحوّل صرخات الليل المدوّية إلى هسسٍ خافت يرتعش من مصير الفناء..
وتدعو الشمس الإنسان إلى صحوٍ من بعد رقاد الموت..
إنّ رعشات النور المذهّبة تصدح كلّ يومٍ:
النور جاء إلى العالم وهو في العالم وللعالم.. والعالم محبٌّ لمخابئ الظلمة!!!
جاء شمسًا للبرّ فدجّج البشر مخادعهم بستائر الهوى لئلا يخترقها ولو شعاع نورٍ..
جاء النور ليعيّد الإنسان بإنسانيّته البهيّة المُجدّدة، عيد الوجود الأكمل..
ليقيم مائدة الحبّ على مذبح التهليل
فتوشّحه يدُّ العلي بوشاح النور الذي لا يخبو..
  رد مع اقتباس
قديم 26 - 06 - 2014, 02:05 PM   رقم المشاركة : ( 65 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,300,316

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

لأجل الخطاة جئت
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

في نظر الناس، يبدو البعض خطاة، إلاّ أن قلوب هؤلاء الذين نراهم خطاة هي أشبه بأرضٍ جافّة يابسة ترجو مطرًا،
ولكن مَنْ ذا الذي يُدْرِك ويرصد أشواق القلوب الخبيئة.
هم ينتظرون كلمة..
يلتمسون مَنْ يتبعون..
لهؤلاء، كان الربّ يسوع هو الكلمة التي طالما راودت أحلامهم؛
كلمةٌ، تُحرِّرهم من عبودية المّادة والبشر،
وقد يصير البشر أقسَى على الخطاة من الخطيئة،
حينما تمتدُّ أصابع أبصارهم وتصرُخ: نجسٌ نجسٌ!!
إنّ المُخلِّص كلمةٌ أمام بريقه ينحلّ قيد الخطيئة ويذوب،
وكأنّه قطعة جليد قد وُضِعَت بين أحضان الشمس المُشرقة.
والمسيح لم يأت ليُرقِّع ثوب البشريّة العتيق..
فما عتق وشاخ قارب على الاضمحلال،
وحينما تضمحل الظلمة لابدّ أن يكون هناك جدّة الحياة.
فالإنسان الجديد هو وعد المسيح لمن أنّوا من الإنسان العتيق..
ففي آدم الجديد سيحيا الجميع.
هل كانت نظرات المُخلِّص هي سرُّ التغيُّر الذي يحدث لكلِّ مَنْ وقف أمامه؟
أم هل هي سيرته الناصعة البياض التي لم تُدَانِهَا شوائب وتقربها خطايا البشر؟
أم هل كان ما يُقَال عن قدراته الهائلة على الحوار مع الأجساد والأرواح والطبيعة هو ما هيّأ القلوب للخضوع له؟ قد يكون.
إلاّ أن هناك حقيقة واحدة لا تقبل الجدل؛
وهي أنّه أحبّ الخطاة بالرغم من استيائه وألمه من الخطيئة.
ومَنْ يُحبّ، يُخْضِع كونْ مُحبّيه لمُلكِه وصولجانه.
مَنْ يُقلِّب صفحات الأناجيل، ويُقلِّب معها خبراته مع المُخلِّص،
يجد خيطًا واضحًا يُمثّل عمودًا فقريًّا لعمل المسيح؛
إنّه فتح باب الرجاء لمن حاصرهم العالم وأغلق عليهم في سراديبه الرطبة الضيّقة.
كان شُغْل المسيح الشاغل هو أشعّة الرجاء التي يبذرها أينما حلَّ؛
بالكلمة والصمت،
بالنظرة والإيماءة،
باللّمسة والصلاة..
كانت أشعّته تحلّ أينما كان لتحلّ معها ملائكة النور التي تُطارِد فلول الظلمة لتُنقِّي القلوب والعقول لقبول كلمة الخلاص،
ومن ثمّ قرار التخلُّص من ماضي الهوى والشهوات.
ما من إنسان جاء إلى الربّ يسوع حاملاً أكفان رجائه إلاّ ولمسها ليُعيد إليه الرجاء حيًّا نابضًا.
ولكن الرجاء لا يعمل فيمن يقاوم الروح
ويتحسَّس بأقدام قناعاته الخطوات التي سيخطو ويحسب ربحها وخسارتها ليُقرِّر وجهته.
أمام أولئك صمت الربّ،
وفي أحيانٍ أُخرى ألمح إلى الإيمان،
بينما في بعض المواقف كان التوبيخ هو مشرطه لاستئصال منطق العالم الذي ينتفخ يومًا بعد يوم
وينتشر ليملك كيان الإنسان ويطرحه قعيدًا في انتظار لحظات الموت بقلبٍ مرتعش.
كان المسيح يوبِّخ حبًّا وألمًا على مَنْ عاينوه ولم يقبلوه، فقبلهم دار الموت في ظلماته، أبدًا.
ومن حُبّ المُخلِّص وتوبيخه يتفجَّر الإيمان،
تلك هي معجزة إيماننا..
  رد مع اقتباس
قديم 26 - 06 - 2014, 02:08 PM   رقم المشاركة : ( 66 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,300,316

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

حوار الوجود الصامت
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

بينما كان “هيومس” جالسًا على أحد التلال المُطِلَّة على بحر ‘زوئي’، والسماء لا يُعكِّر صفوها سوى بعض السحُب المندفعة أمام نسيم الصباح، وأشعة الشمس تُرسِل أشعتها المذهَّبة الحانية، مترفقة بوجهه الرقيق، والأفق خالٍ سوى من بعض الطيور الُمعلَّقة في الفضاء، ويسود المكان صمت مَهيب لا يقطعه سوى صدى همهمات الموج على شاطئ البحر..
كان فكره سابحًا في الحياة والوجود والموت والخلود.. اقترب إليه من الخلف، شيخ هَرِم، يشرق وجهه بنضارة الحياة، وإنْ كانت الحياة قد تركت بصماتها على مُحيَّاه..
له هيبة في محضره، وإن كان من بعيد يبدو كأحد نُسَّاك الجبل البسطاء، شعره الأبيض الناصع كالثلج مسترسل على كتفيه، لا تستطيع أنْ تميزه من جلبابه الأبيض، عيناه الزرقاوان صافيتان كمياه البحر، تُبْحر فيهما فتنسى المكان والزمان، يوحي مظهره وكأنَّه قادم من عالمٍ آخر، مخترقًا عالمنا، حاملاً لنا رسالة من الفضاء الأعلى..
كان هذا الشيخ يُدعى ‘كيروس’، وإذ به يجلس بجانب ‘هيومس’ على صخرة ناعمة في مواجهة البحر، ويقول له، بينما يقاسمه نظرة الأفق؛
“لن تستطيع أن تحيا على أنقاض العدم!! “
وإذ بهيومس ينتفض فجأة، وكأنَّه بحيرة هادئة قد سقط عليها حجر من المجهول، وقال:
“عفوًا، كيف عرفت ما أفكر فيه؟ مَنْ أنت؟”
أجاب كيروس:
“إن وجوه البشر مرآة تعكس دواخلهم لِمنْ يستطيع قراءتها، أمَّا عن اسمي فهو ليس ضرورة لحوارنا، فالأسماء سِمَة الوجود على الأرض، بينما البشر لهم وجود أسمى، وتعارفهم يكون بامتزاج كيانتهم المتمردة في خِضَّمْ الحياة..”
وإذ بتلك الكلمات تدفع هيومس إلى التفكير العميق، وأجابه قائلاً:
“ولكنَّ الأسماء ضرورة طالما نحن نَقطُن نفس البقعة من هذا الكون ونتشارك نفس الحقبة الزمنية من مسيرة الأزل نحو الأبد..”
وإذ بيد كيروس تقبض على بعض ذرات التراب، التي تنساب قليلاً قليلاً، وكأنَّها تتحرر من قبضته، ويقول:
“إنَّها ضرورة التراب، فهي تلتصق بالنفس فتقيِّدها، كما أنَّها تُفتِّت الكيان البشري الواحد إلى أجزاء متناثرة.”
قال هيومس:
“ولكننا بالفعل منفصلون بحكم التنوع الإنساني!!”

ابتسم كيروس ابتسامة هادئة وهو يقول:
“لا، إنَّنا متمايزون في جسد واحد، ألسنا من أب واحد كلنا؟ ومن مادة واحدة تمت صياغتنا؟!”
اعتدل هيومس في جلسته ونظر إليه، وكأنَّه قد وجد ضالته المنشودة؛ فأفكاره المتعاركة على حلبة عقله، قد بدأ يستشعر أنَّ لها مخرجًا وجوابًا.. وإذ به يقول:
“إنْ كان حقًا ما تقول، فكيف تفسر الصراع الإنساني؟ كيف للجسد الواحد أنْ تتقاتل أعضاؤه؟؟”
أجابه كيروس، بنغمة هادئة تنم عن عمق الثقة:
“إنَّ الصراع الإنساني ناتج عن غياب وعينا بوحدة الأصل..”
لم تُشْبِع تلك الإجابة المقتضبة نهم هيومس للفهم، فقال له:
“ولكن، هل غياب الوعي يقدر أنْ يُفتِّت الجسد الواحد بهذا المقدار؟!”
أجاب كيروس:
“كلاَّ، ولكنَّه يُشوِّه معالمه، فلا تستطيع الأعضاء أنْ تُدرِك صلتها بعضها البعض، فتحيا وكأنَّها متصارعة متعادية، دون أنْ تُبصِر جذور الوحدة الضاربة بفتائلها في تربة التاريخ والزمن.”
قال هيومس:
“ولكننا أشبه بذرات منفصلة تحملها الرياح إلى شواطئ مختلفة، فتغربنا بعضنا عن البعض!!”
أجابه كيروس قائلاً:
“إنْ كنَّا نبدو وكأننا ذرات منفصلة، إلاَّ أننا من طينة واحدة عُجِنَت وشُكِّلَت بيد الخالق..”
بدأت الشمس رحلتها نحو المغيب، فبدت وكأنَّها تغرق في مياه البحر، وقد تلوَّن بلونها الذهبي الداكن، وكأنَّه قد ابتلعها، فصبغته بضيائها..

بدا هيومس سابحًا بفكره في تلك الكلمات، وقال لكيروس:
“هل لي أنْ أسألكَ شيئًا؟”
أجاب كيروس، بابتسامته المعتادة:
“التساؤل يفترض علمًا وجهلاً!!”
فقال له هيومس:
“نعم، فخبرتك التي طبعتها يد الحياة على جبينك هي عِلمَك الذي فجَّر فيك بئرًا من الحكمة والمعرفة..”
أجابه كيروس، وكأنَّه يجتر خبرة السنين، قائلاً:
“الحكمة والمعرفة هما جناحا القلب النقي المفكر، الذي لا يرضى بظواهر الأشياء، ولكنَّه يخترق الجدار الذي يفصل بين الحق الباطن والهشاشة المعلنة!!”
هنا سأله هيومس:
“وماهو الحق في نظرك؟”
أجابه كيروس وكأنَّ السؤال قد حرَّك في وجدانه بعضًا من ذكريات أليمة، وقال:
“إنْ كان قلبك مغمورًا في وادي الألم والصَّلاة، ستجد الحق.”
وتسائل هيومس بنبرة نابتة من بحار الشجن، قد روتها عينا كيروس المرتحلتان في الذكريات، وقال:
“ولكنَّ الصَّلاة قد تزيف إرضاءً للضمير، والحق يمكن أن يتقنع خوفًا من الألم..”
أجابه كيروس:
“إنَّ ما يُزيَّف هو الكلمات وليس الصَّلاة، فالصَّلاة هي علاقة، والعلاقة لا تُزيَّف..”
قال هيومس:
“ولكنَّ الصَّلاة هي علاقة منطوقة في كلمات ومصوغة في حركات..”
أجاب كيروس وقد عَلَتْ نبرته:
“لا، لم تكنْ الصَّلاة أبدًا كلمات -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- ولم تكن أبدًا نغمات تُرتَّل في معبد استرضاءً لإله.. ولكنَّها نبضات حُب ودفقات إيمان تسري في شريان الوجود الذي يمر بقلب البشرية الواعية..”
سأله هيومس بحسٍ هادئٍ، وقال:
“ولكن، أليست كلماتنا هي صدىً لما في قلوبنا؟!”
أجاب كيروس، وقد استعاد زمام انفعاله:
“نعم، ولكنَّ الصَّلاة أسبق من الكلمة؛ فالله خلق الإنسان، وقبل أنْ يصوغ الإنسان من مفرداته، صَّلاةً، كان هناك جسر من الحُب بين قلب الله وقلب الإنسان، وكان هذا الحُب هو أول صَّلاة عرفها الإنسان، وأصدق صَّلاة يسعى إليها الإنسان..”
قال هيومس:
“إِنْ كانت الصَّلاة هي الكأس الحاملة خمر الحُب، التي يرتشف منها البشر نشوة البقاء، فما هو الحُب في جوهره إذًا؟!”
أجاب كيروس، وقد تنهَّد بأشواقٍ، تردد صداها مع أنفاسه التي ابتلعها نسيم الليل الشارد:
“إنه سر بقاء البشرية، وديمومة شبابها النضر الذي يتجدد كل يوم مع اشراقة شمس الوجود”
اعتدل هيومس في جلسته وهو يقول:
“لقد تعلمنا من خبرات التاريخ أنَّ الذي أبقى على البشرية هو القوة، فالطبيعة منذ البدء، أعلنت أنَّ شريعة الوجود هي شريعة البقاء للأقوى”
أجاب كيروس، وقد ثبَّت عيناه على ضوء النجمة التي خرجت من مخدعها بعد رحيل الشمس، وقال:
“إنَّ قوة البشر هي الحُب، فالحُب هو الذي يميز الإنسان عمّا عداه من المخلوقات، وهو الذي يدافع عن الإنسانية في وجه اللاإنسانية. إنه الذي يُبقى على رداء البشر نظيفًا وسط أوحال الطبيعة.. ولا يمكننا القول بأنَّ الإنسان هو أقوى المخلوقات لذا استطاع أنْ يتفوق عليها.. ولكنَّ عقل الإنسان المغمور بحُب الحياة وحُب الآخرين هو دافعه للبقاء رغم ضعفه البدني والجسماني..”
هنا وتسأل هيومس بصوت خافت وكأنَّه منبثق من جراح قديمة، وقال:
“ولكنَّ الحُب ضعف.. لأنَّه مشاعر تسيطر على عقل الإنسان وتوقف عمله، فتجعله أسير الآخر، فيفقد تفرده ويفقد حريته..”
أجاب كيروس:
“إنَّ تلك هي صورة شبه الحُب الزائفة، وظله العقيم الذي اغتصب العرش من الحُب الصادق في وعى إنسان اليوم!! فالحُب هو قوة الوجود المُتجدِّدة والمُجدِّدة قلب الإنسان والتي تدفعه لمواصلة الحياة؛ فهو ليس مشاعر رقيقة ولكنَّه موقف وجودي ووجداني عاقل..”
تساءل هيومس في حيرة:
“أليست المشاعر هي العلامة على تحرك مياه الحُب في جداول القلب؟”
أجاب كيروس:
“إنَّ المشاعر هي العلامة الظاهرة المرئية على ما يحدث بعيدًا، في كيان الإنسان الداخلي، حينما تتساقط أنوار من العالم العلوي فوق قلبٍ أسير وحدته، فتنيره في مسيرة المعرفة، فيصبح أكثر وعيًا وإدراكا لما حوله ولمنْ حوله، فيتحرك بعيدًا عن قشرة ذاته الصلبة نحو كل ما هو آخر. فما يحدث في أعماق الكيان من تحوُّل، هو الحُب، وتبقى المشاعر علامات مبهمة لأعماق سحيقة.
إنَّ الحُب هو حالة إنسانية تتعدى المشاعر وتتخطى حدودها المتقلبة كموج البحر الذي أمامنا.”
قال هيومس، وقد حدَّق في حركة الأمواج المستمرة، بحثًا عن إجابة:
“كيف تقصر الحُب على الإنسان الواعي وتحصره في إطار عاقل بعيدًا عن المشاعر ونحن نجد أنَّ الكائنات الأخرى تحمل مشاعر الحُب أيضًا، وأبرز مظاهر الحُب في الكائنات غير العاقلة هو دفاع الأمومة عن أبنائها؛ فكيف يكون الحُب هو تميُّز البشر عن الخليقة غير العاقلة؟”
أجاب كيروس:
“عزيزي هيومس، أنا لم أفصل الحُب عن المشاعر ولكنَّني أرفض تعريف الحُب على أنَّه مشاعر؛ فالمشاعر هي العلامة المؤقتة التي تُشير إلى بدء ذلك التحول الكياني في أعماق الإنسان. وحينما نتحدث عن الحُب عند الكائنات غير العاقلة، نراه مجرد غريزة ميكانيكية تتوارثها الكائنات دون تَدَخُّل للعقل الواعي الحر فيها، وذلك لأنَّه غائب؛ فمشاعر أمومة الحيوان ليست إلاَّ مرحلة مؤقتة، تتوقف حينما ينمو الصغير، بل وأحيانًا تتحول إلى صراع بين الأم وأولادها في معركة حُب البقاء!!”
هنا وقال هيومس:
“إذًا، فإنَّ الحُب الإنساني يتميز بالتعقل.”
أجابه كيروس قائلاً:
“نعم، وهذا التعقل هو الذي يجعل الإنسان يختار رفقة الحُب في قطار الحياة، وهوالذي يميز بين الغريزة الرابضة في الأعضاء، والحُب المستقر في القلب الخفاق.
إنه دائم الوجود ولكنَّه يتوجه في كل مرحلة في اتجاه ما، وهو أشبه بدائرة مركزها الذات، ينطلق منها تجاه الوالدين، ثم يمتد ليشمل الأصدقاء والمعارف والجيران، ثم يمتد ليشمل الجنس الآخر ليختار شريك الحياة، ثم يتجه نحو الأولاد ثم الأحفاد.. ولكنَّه لا يتوقف عند هذه الأُطر، فهو يلامس البشرية كلها طالما كان القلب منفتحًا نحو العلاء.”
تساءل هيومس قائلاً:
“وهل يشارك الإنسان، الكائنات الأخرى، في الغريزة؟؟”
أجابه كيروس:
“نعم، ولكنَّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي له القدرة الذاتية على توجيه غريزته والتحكُّم فيها.”
بدا الكلام وكأنُّه يَنسِج إجابات في ذهن هيومس، الذي سأله قائلاً:
“وكيف ذلك؟”
أجاب كيروس:
“الغريزة هي محصلة موروث وخبرة؛ فإنْ تعرَّض الإنسان للخوف، تتزايد قواه الغريزية ليصارع من أجل حياته أمام الخطر المُرتَقبْ؛ فغريزة حُب البقاء هنا هي محصلة موقف قد مرَّ به الإنسان تحول إلى خبرة، من جهة، وهو في نفس الوقت آلية بشرية للدفاع عن النفس ضد الأخطار المحتملة، من جهة أخرى.
لذا فإنَّ الإنسان قادر بالعقل أنْ يحلِّل الخبرة التي يحياها؛ هل تحتاج لتدخل الغريزة؟ أم أنها مجرد مخاوف عابرة؟ فيتحكم في عمل الغريزة بالعقل الواعي.
كذلك في الغريزة الجنسية، نجد أنَّ الإنسان يتوقف أمام الغريزة ليتساءل؛ هل تَحرُّك الغريزة هو في إطار وصية الله وحركة الطبيعة؟ أم أنها جموح ينطلق من فوق خرائب النفس البعيدة عن الله؟؟”
قال هيومس:
“يبقى السؤال الذي يَلِحّ علىَّ كثيرًا، ألاَّ وهو؛ كيف نحُب؟؟”
ابتسم كيروس ابتسامة هادئة، تحرَّكت معها تجاعيد وجهه وكأنَّها تُشارِكه نشوة ذكرياتٍ قديمةٍ، وقال:
“الإنسان يُحِب،
إنْ أنصت إلى أناشيد الملائكة في سكون الكون،
وإنْ اقتفى آثار الأبرار في طريق الأبد،
وإنْ اتَّصل قلبه بقلب الله بجسر من نور،
هو الثقة بالأبدية في عالم نسبى وزائل..
إن الحُب ليس مهنة نحترفها بالتعلُّم،
ولكنَّه نعمة نتقبلها بخضوع في سكينة..”
قال هيومس وقد شاركه ابتسامته الصافية:
“أراك تؤمن بأنَّ الإنسان لا يستطيع أن يحُِب من ذاته، ولكنَّه رهن لإشارة السماء بسقوط أمطار الحُبِ على أرض الإنسانية!!”
أجابه كيروس قائلاً:
“ولِمَ تتعجب من هذا؟ ألسنا مخلوقين على صورة الإله المحُِب؛ فأفعالنا إذًا، هي خليط مما نستقبله من السماء، وما نربحه من تجارة الفضيلة بين بني آدم..”
هنا وتساؤل هيومس في حيرة، قائلاً:
“فلماذا إذًا، يعجز الإنسان عن الحُب إنْ كانت السماء تشاركه برأس المال في تجارته الروحية تلك؟”
أجابه كيروس:
“إنَّ سر ضعف البشر هو تمركزهم حول ذواتهم، حتى أنَّهم لا يرون في الأشياء إلاَّ ظلال لأنفسهم، ولا يتخيلون الوجود بعيدًا عن وجودهم، ولا يتصورون البشر إلاَّ خُدَّامًا لرغباتهم في الحياة.. هذه الذاتية المميتة تُقيِّد القلب وتسلبه حريته في التطلع إلى السماء..”
قال هيومس:
“ولكنَّ الإنسان من حقه أنْ يبحث عن وجوده الخاص!!”
أجابه كيروس:
“إنَّ وجود الإنسان الحقيقي هو في قلب الله، وهو الذي يُقِيم ذلك الجسر المُضيء بين قلب المخلوق وقلب الخالق، فيتحقق وجود الإنسان الصادق، ويصير منارة مضيئة، وترنيمة عذبة يترنم بها الوجود كله في وجه الوافدين الجُدد إلى الحياة البشرية.”
قال هيومس:
“وماذا إنْ تخلَّى الإنسان عن الحُب كأساس لوجوده على الأرض؟”
أجاب كيروس وقد انطفأت شعلة ابتسامته، وحلَّ مكانها غيمة شجن وألم، وقال:
“يتحوَّل إلى منارة خربة مظلمة، وأغنية باهتة حزينة يغلب عليها طابع الموت والفناء..”
قال هيومس:
“إنَّ هذا هو ما يحياه إنسان اليوم!!”
أجابه كيروس بنغمة تتطاير من فوقها طيور الحزن والأسى، وقال:
“نعم، وهذا هو الجرح الغائر في قلب الإنسان، الذي يؤلمه دومًا، بينما هو مشغول عن مصدر الألم، ويعالج الأعراض، بينما النزف مستمر لا يتوقف..”
مرَّت غيمة رمادية من أمام القمر المُرصِّع صدر السماء،
فبدا وكأنَّه أشلاء ضياء منثور في الفضاء الأعلى..
قال هيومس متسائلاً:
“ألعلَّك تقصد أنْ كل آلام البشرية هي نتيجة لغياب الحُب؟”
أجاب كيروس:
“إن آلام البشر نوعان؛ آلام معنوية داخلية مختبئة في كيان الإنسان، وآلام ظاهرة مرئية تُعلِن عن ذاتها في الجسد. آلام الجسد يمكن التغلُّب عليها إنْ كانت النفس حرَّة من الآلام الداخلية؛ فالقلب الحُّر يُنشِئ قدرة مذهلة على احتمال آلام الجسد.”
وفي تلك اللحظة غطَّت الغيمة علي القمر بأكمله، فساد صمت من ظلمة،
ولفَّ الكون كله في وعائه المُعتِم..
تساءل هيومس وهو يحاول البحث عن بقعة ضياء وسط السماء الغرقى في الظلمة، قائلاً:
“وكيف ترى الموت كألم يسربل الوجود بعباءته السوداء؟”
أجابه كيروس:
“إنَّ الموت سيظل مقلقًا للبشر طالما كان مجهولاً؛ فالبشر لا يأمنون إلاَّ حينما يختبروا الأشياء ويجتازونها ويدوِّنون خبراتهم على رقوق التاريخ، ولكنَّ الموت سيظل للأبد هو خبرة الآخر التي أراها من بعيد، دون أن أستطيع أنْ أجتازها معه وأعود مُحمَّلاً بخبراتي الذاتية، لذا سيظل قلقًا.. ولكنَّ المنفذ الوحيد الذي يُهدِئ قلق الإنسان هذا، هو الارتباط بمَنْ هو غير مائت، بمَنْ له الحياة في ذاته إلى أبد الآباد.. الارتباط بقوة تحمل سر الخلود في نسيج وجودها الذاتي، لتعبر بالإنسان فوق مخاوف التلاشي والعدم.. الارتباط بالله ذاته..”
قال هيومس:
“ولكنَّي أرى أنَّ الموت سيظل ألمًا يُدمي أرجل البشرية السائرة في طريق المغيب..”
أجاب كيروس وهو يهز رأسه إلى أسفل وإلى أعلى، مُصدِّقًا على كلام هيومس، وقال:
“هذا حق، فارتباطنا بالله ينحل في الضعف والخطية والذاتية والجهل، ليسري في عروقنا هذا القلق من جديد حتى نُجدِّد عهدنا مع الله، وبالتالي نُجدِّد عهودنا مع الخلود ومع استمرارية الحياة وديمومتها.. يتبقى على الإنسان أنْ يُدرِك أنَّ الموت هو حقيقة عظمى في الوجود الإنساني تنفتح عيوننا عليه مع انفتاح وعينا على الأشياء، ويصير قبول تلك الحقيقة الغامضة المؤلمة، هو قبول بند رئيسي من بنود تواجدنا على الأرض، كبشر مائتين.”
تساءل هيومس في حيرة واضحة:
“لكنَّ، ولماذا الموت في نسيج الحياة؟”
أجابه كيروس متسائلاً:
“ولماذا الخطيئة في قلب الإنسان؟”
قال هيومس وقد استوعب مغزى تساؤل كيروس:
“أفترى إذًا، الموت والخطيئة متلازمان؟”
أجابه كيروس قائلاً:
“إنَّ الخطيئة التي دخلت إلى العالم بأيدي آدم وحواء، كانت تحمل في داخلها لعنة الموت، لأنَّ خلود الخطيئة في العالم أمر مستحيل، لأنَّ أصل الحياة في البر والنقاوة، لذا فكان يجب أنْ يموت من تلوثت يداه بالخطيئة، لكي يعبر البشر إلى عالمٍ آخر، حيث لا توجد خطيئة ولا خاطئ، وتعود الحياة إلى أصلها النقي البريء.”
قال هيومس:
“اسمح لي أنْ أسألك سؤالاً يبدو ساذجًا؛ ما هي الخطيئة؟”
أجابه كيروس:
“إنَّ هذا التساؤل بقدر بساطته بقدر صعوبة الإجابة عليه، وذلك لأنَّ تعريف الخطيئة يختلف باختلاف قلوب البشر ونواياهم، ولكنَّها في جوهرها هي الخروج من دائرة الله، والانحسار في الذات بل وتأليهها!!”
قال هيومس:
“ولكنَّي أعلم أنَّ ما أسقط الإنسان هو الشهوة، التي حبلت بالخطيئة وأثمرث سقوطًا”
أجابه كيروس قائلاً:
“هذا حق، فالشهوة هي أول تحرك واعٍ للإنسان بعيدًا عن الله، ولكنَّ الشهوة المُقنَّعة التي تدفع كل شهوة وتحرِّكها هي تأليه الذات؛ فالإنسان حينما أراد أنْ يكون مثل الله، كما نصحته الحية، أراد أنْ يكون ذاتي الوجود، وذاتي الحياة، وذاتي المعرفة، وذاتي العمل، لأنَّ ما يميز الخالق عن المخلوق هو الذاتية، وهذه كانت تجربة الإنسان العظمى، والتي يُجَّرب بها حتى الآن، فكل خطيئة لها وجه غير منظور في أودية النفس السحيقة، تتمثل في رغبة دفينة داخل قلب الإنسان أنْ يصير كالله!!”
قال هيومس:
“إذًا، فالهدف من كل خطيئة هو تأليه الذات بمعزل عن الله”، واستطرد متسائلاً:
“ولكنَّ، هل ينطبق هذا على كل الخطايا؟”
أجاب كيروس:
“لنأخذ مثلاً، خطيئة مثل السرقة، إنَّها ليست حاجة إلى الطعام أو الشراب أو الغنى، ولكنَّها حاجة إلى تأمين الحياة بمعزل عن قانون العمل الذي وضعه الله من أجل تسيير مركبة الحياة الإنسانية.
والحاجة إلى الأمان غريزة إنسانية، ولكنَّها غريزة موجَّهة نحو الله، كمصدر الأمان الأوحد في وسط عالمٍ مضطرب، ولكن إنْ حاول الإنسان أنْ يُؤمِّن حياته بذاته، سيحاول بهذا أنْ يكسر ناموس الله في الكون، ويخلق لنفسه عالمًا وهميًا من الأمان المستند على المال، ويتحول المال عنده إلى أداة أساسية في جوهر وجوده، لأنَّه أصبح مصدر الأمان بدلاً من الله، ويعتقد أنَّه نتيجة الغنى قد أصبح إلهًا على ذاته، لأنَّه لا يتقبل الحياة من يد الله، حسب خطته البديعة لخلاص الإنسان، ويصبح أسير الأرض التي ينسج من مادتها رداء وجوده، دون أنْ يُدرِك أنَّ رداء الأرض متجه حتمًا نحو البلاء والتشقق.”
قال هيومس:
“وماذا عن الزنا؟”
أجاب كيروس قائلاً:
“الزنا هو محاولة إنسانية لتأليه الذات أيضًا، فهو تحويل الآخر إلى أداة لذة تُستهلَك، دون النظر إليه كإنسان متكامل، وهذه هي الخطورة العظمى، فالإنسان حينما يفشل في الشركة مع الله، يحاول أنْ يصير إلهًا مستقلاً، فيُحوِّل الناس إلى أدوات أو دُمى يتلهى بها، ليمارس سيادته على الآخر في إطار من إشباع اللذة في ممارسة السلطة، وهذه السيادة الخادعة، هي انعكاس لصورة مغلوطة عن الله، كسيد يتلهَّى بخلائقه. وتُصبِح الوسيلة الوحيدة للانفلات من سطوة مثل هذا الإله الوهمي، هي التسيُّد على الآخرين واستعبادهم لتحقيق ذاتيته البغيضة، من هنا كان الزنى احتياجًا مريضًا في الإنسان؛ أن يصير إلهًا على حساب حرية وإنسانية الآخر.”

قال هيومس بنبرة لا تخلو من انفعال واضح:
“إنَّي أتعجب، كيف يخطئ الإنسان في التعرُّف على الله الحقيقي، ويتوهَّم آلهة هي من نسج خياله؟!”
أجابه كيروس:
“إنَّ الله غير مرئي، وهذا هو العامل الأساسي الذي دفع بالإنسان أنْ يتوهَّم إلهه حسب تربيته وطباعه وبيئته وثقافته ومشاكله ومعاناته وآماله، بل وخبراته مع إلهه..”
قال هيومس:
“ولكنَّ الكتب المقدَّسة تحدثت عن الله، فكيف يضل الإنسان بعد إعلان الله عن ذاته من خلال الكلمة؟”
أجاب كيروس قائلاً:
“إن الكتب المقدَّسة تحدثت عن بعض جوانب العلاقة بين الله والبشر، ورسمت الخطوط العريضة لتلك العلاقة، ولكنَّها لا تستطيع أنْ تحتوى الله أو تَحدَّه في لغة قاصرة، تعجز عن التعبير عن كمال الله الذي لا يُستقصَى.”
هنا وتساءل هيومس:
“ولكنْ، ألمْ يَستَطِعْ الله أنْ يوحِّد القلوب والعقول حول معرفته الصادقة؟”
أجاب كيروس:
“الأمر لا يتعلق باستطاعة الله، إنما يتعلق بحرية الإنسان، فلقد وَهَب الله للإنسان الحرية الكاملة، حتى أنه وَهَب الإنسان الحرية في رفض الله أو قبوله، هذا هو الحُب الصادق الذي أحب به الله الإنسان، حتى أنه غامر بإمكانية رفضه وإهانته!! من قِبَلْ الإنسان، في مقابل منحه القدرة أنْ يُقرِّر بذاته، هل سيتبع الله من ملء إرادته الحرة أم لا.”
قال هيومس:
“ولكنْ مثل تلك الحرية مُضِّرة للبشرية، وقد أثمرت شرًا مستشريًا في الحياة الإنسانية!!”

أجاب كيروس:
“إننا تحدثنا أنْ جوهر حياة الإنسان يكمن في إمكانيته أن يحُِب، وهذا الحُب لا ينبت إلاَّ من أغصان الحرية النضرة، فحُب بلا حرية، هو تبعية عمياء..”
نظر كلاً من هيومس وكيروس إلى السماء، وإذ القمر قد استعاد نضارته وضياءه الكامل، وكأنَّه خارج للتو من نهر الأنوار العلوي، موجِّهًا سهام ضيائه نحو قلب الليل المظلم..
قال هيومس هامسًا:
“وما هي الحرية في نظرك؟”
أجاب كيروس وهو يملأ رئتيه من نسيم البحر المتراقص مع ثيابه الفضفاضة وشعره المسترسل، وقال:
“إنها ذلك النسيم العلوي
الذي يستنشقه الإنسان فيحيا،
إنها قلوب مُحلِّقة في الفضاء ترفرف حول عرش الله،
إنها ثورة ضد سطوة الأرض والمادة والعالم،
إنَّها انكسار لمملكة الشر التي تتسيد على الأرض،
إنها سُحب من الفكر الجريء معلَّقة في السماء،
تصير مطرًا يروي الأراضي المقفرة،
إنها سمة الإنسان الغارق في لُجَّة الحُب العلوية،
هي المدخل الحقيقي إلى الله الذي خلقنا أحرارًا،
كما أنها المسؤولية العظمى التي وضعتها يد الله على أكتافنا لنُغيِّر وجه الأرض، ونصيِّرها واحة خضراء تنبعث منها أناشيد التهليل لله الآب..”
وتساؤل هيومس وقد داعبت نغمات الحديث عن الحرية، وجدانه الرقيق، فانعكست ابتسامة مشعة على وجهه الغارق في نسمات الليل، وقال:
“وكيف ترى الحرية في عالمنا؟؟”
أجابه كيروس قائلاً:
“أراها في وجوه مشرقة تعلوها ابتسامة من الفرح
رغم وقوعها تحت سطوة مارد الفقر،
أراها في ركب منحنية مغمورة في صَّلاة عميقة
ترفعها عن عالمنا الأرضي إلى ملكوت الله القلبي،
أراها في أيادي تناضل من أجل الحق ضد عنكبوت الظلم والفساد الذي نشر خيوطه على عالمنا فأظلم سماءه،
أراها في انطلاق الطفولة ومرحها
الذي لا يرى في الحياة سوى باقة ورد عطرة
يتأمل جمالها ويستنشق عبيرها،
أراها في دفئ الأمومة الذي يحتضن وليد الحياة
يرضعه ويسهر على راحته
ليصدِّره للحياة، إنسانًا يحيا بالروح والحق،
أراها في لحظات التوبة الغرقى في دموع الندم والرجاء
والمنسكبة تحت يمين الله الحانية
التي تُنهِض التائب من سقطة الموت إلى قيامة الحياة،
أراها في صمت العارفين الذي يُضئ وسط ثرثرة الجهَّال،
أراها في جمال الطبيعة التي نقشتها يد فنان الكون الأعظم
كما أراها في نغم الخليقة المتهللة مع إشراقة كل صباح..”
قال هيومس:
“إنْ كانت الحرية بهذا الجمال، وضرورية إلى هذا الحد، فلماذا يبيع الإنسان حريته بأبخس الأثمان؟”
أجابه كيروس قائلاً:
“الحرية بالرغم من عِظَمها، إلاَّ أنَّها مقترنة بالألم، لأنَّ ضريبة الحرية هي السير في غابة الأشواك البرَّية، ولكنَّها مسيرة بأحاسيس النصرة والنشوة، والكثيرون أمام ضريبة الألم يفرُّون مذعورين، ويمضون على صَكْ عبوديتهم في الحياة ويقبضون الثمن، سلامًا زائفًا!!”
قال هيومس، بينما لمْ يَستطِع أن يُخفي دهشته:
“ولكنَّ الأحرار يُخلَّدهم العالم، ويسطِّر سِيَرهم بأحرفٍ من نور على رقوق التاريخ!!”
أجابه كيروس:
“نعم، ولكنَّ هذا المجد يأتي بعد رحيلهم عن دنيا الوجود، تاركين جلبابهم الأرضي، عليه آثار المعركة الدامية من أجل الحرية، كشاهدٍ لألمٍ تمخَّض فأخرج مجدًا وخلودًا.”

هنا وتساؤل هيومس متأثرًا:
“ألهذا الحد يتألم الأحرار!!”
أجاب كيروس وقد ترقرقت دمعة بلورية في مقلتيه، وقال:
“إنَّ ألم الأحرار هو وصمة عار الوجود الأرضي على جبين الشعوب، فقوة جذب الأرض والشهوة والسلطة تخلق من الناس أشواكًا في مسيرة البشرية نحو تحررها الكامل في الله، فما من إنسان ثبَّت قلبه نحو الحرية، إلاَّ ورشقه العالم بسهامه، ليصرعه، قبل أنْ يُجسِّد حلم الحرية في واقع البشر وقلوبهم.”
هنا وتساؤل هيومس:
“ولِمَ هذا الصراع، ألا يحلم البشر جميعًا بالحرية؟؟”
أجابه كيروس قائلاً:
“إنَّ الصراع هو نتيجة وجود زوان الشر وسط حِنطة الإنسانية، هذا الزوان الذي يريد أنْ ينمو على حساب خبز الغد المرتقب، فقوى الشر غير المرئية هي التي تنسج خيوط الصراع بين الحرية الطليقة وقيود الأرض الزاحفة على أشلاء البشر، ويتسلَّم الإنسان هذا النسيج الشيطاني ليزيِّنه ويرتديه، ولا يدرك أنه إنما يرتدي كفنه المزركش الذي سيتعرى منه يومًا على أعتاب بوابة الموت.”
قال هيومس:
“وكيف يحيا الإنسان الأمين وسط عواصف هذا الصراع المُحتَدِم؟؟”
أجاب كيروس:
“إنَّ الأعين المحدِّقة نحو العلاء
في رجاء الشمس الآتية بعد المغيب الحزين،
والقلوب الخافقة بالحُب
والتي ارتعشت من جديد بأنامل الحرية،
والأيدي العاملة في صخور الحياة
لتحوِّلها إلى حديقة غنَّاء
تَحُط عليها الطيور المهاجرة من قفار الأرض
إلى جنائن السماء
هي طريق الإنسان الأوحد لكي ما يصير إنسانًا”
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
بدأ النور يرسل خيوطه الأولى وكأنه يستكشف بها استعدادات الطبيعة لمقْدِمَه،
ونهض كلاهما وسارا باتجاه البحر المتماوج
في ترقُب موكب الشمس اليومي،
وفي لحظة نهوض الشمس من مخدعها،
تلاشى كلاهما في دائرة النور،
وساد صمت في الطبيعة
وكأنها تبحث في دهشة عن هيومس وكيروس،
تلاشى كلاهما،
ولم يبق سوى آثار على رمال الحياة،
تشهد على ذلك الحوار الصامت
الذي دار في أروقة الحياة
وفي قلبها النابض..
  رد مع اقتباس
قديم 26 - 06 - 2014, 02:09 PM   رقم المشاركة : ( 67 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,300,316

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

كيف تتعرف على مشيئة الله في حياتك؟
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

الراهب سارافيم البرموسي

الأساسات العشر للوقوف على مشيئة الله لحياتك:

1- تعرَّف على الله كما أعلنه الإنجيل بوضوح في المسيح.

2- تعرَّف على ذاتك والنزاع الدائر دائمًا بين مشيئة تريد أن تسيِّد عنصر التراب داخلك بتحويل الغريزة الطبيعيّة إلى حركة شهوة، وبين مشيئة تريد أن تسيّد الروح فيك بقبول الله ملكًا على عرش القلب وحاكم لمقاليد الأمور ليقود النفس إلى ميناء الأبديّة بسلام.

3- حدّد نقاط ارتكازك في الحياة هل هي في الحاضر من خلال طموحات تتمركز في الحياة الحاضرة فقط أم في الأبديّة من خلال رجاء متجدّد بمعيّة الله كهدف أسمى للحياة

4- أنصت للروح القدس الساكن فيك من خلال الطاعة لنداءاته المستمرة لك في كل المواقف والظروف، فالطاعة المستمرة تجعل صوت الروح واضحًا في قلبك حينما تعزم على اتخاذ قرارات كبيرة

5- اختزن خبرات حيّة في علاقتك بالله حتى تسندك وقت الحيرة والفتور والجفاف

6- تفهّم دور الصلاة كمخدع تلاقي فيه الله الذي تحبّه وتسير وراءه مهما حدث لا كمنصّة إطلاق طلبات واجبة النفاذ

7- تعلّم ماذا تطلب وهذا لن يحدث إن لم يعلمك الروح القدس ما هي الطلبات التي بحسب مشيئة الله

8- تعلّم معنى الخضوع للمشيئة الإلهيّة أي الخضوع الإيجابي والواعي

9- تسلّح بالصبر فالتسرُّع لا يقود إلى النتائج السليمة

10- تفهّم معنى الألم كحالة إيجابيّة إن قبلتها بالشكر لا كحالة سلبيّة تطلب التخلُّص منها كما لو كانت شرًّا.



إن استطعت ضبط تلك المفاهيم في حياتك، يمكنك أن تستمع آنذاك إلى صوت الإنجيل، ومرشدك الروحي / أب اعترافك، والأصدقاء الأمناء، والكتب الروحيّة، والعظات.. إلخ والتي سوف تكون عضد حقيقي لك في اتخاذ القرارات. ولكن إن اكتفيت بتلك الأمور دون أن تضبط المفاهيم السابق ذكرها قد تدخل في حيرة وتشوش وقلق بل وتشكك بعد اتخاذ القرارات.

  رد مع اقتباس
قديم 26 - 06 - 2014, 02:11 PM   رقم المشاركة : ( 68 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,300,316

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

وجهٌ من نور

مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي




بينما كان الليل يلفّ الكون، والظلمة تُحلِّق على القلوب والعقول، وصدَى الموت يتردَّد على مسامع الخليقة.. صدَى لا يحمل همهمات لرجاءٍ يبدو أنّه قادمٌ. منازل البشر وأحلامهم مُطفأة السُرُج. ظلّ الموت يرخي سدوله على الجميع وكأنّه جبارٌ يُخيِّم على المسكونة بأجنحته السوداء لئلا يصلها شعاعٌ من ضياء.. حتّى وُلِدَ الربّ يسوع.. أشرق نورٌ انسكبت أشعّته على قبور الحياة الإنسانيّة. لقد جاء النور إلى العالم، ليُعْلِن أنّه النورُ للعالم.
أنا هو نور العالم
يو 8: 12
نوره صار لنا هتاف تسبيح وأنشودة حمد نُردّدها في سهرنا اللّيلي (ثيوطوكيّة الإثنين) معلنين أن فجر الضياء لنا هو المسيح، وليس إشراقة شمسٍ مخلوقة:
الله هو نور
وساكن في النور
تُسبّحه ملائكة النور
« أنا هو نور العالم »؛ كلماتٌ لم يقلها الربّ على جبل التجلِّي بينما كان وهج الضياء يتلألأ منه، ولكنها كلمات قالها بعدما أطلق المرأة التي أُمسِكَت في الفعل المُخجِل، وكأنّه كان يعلن عن سرِّ انهزام الظلمة أمام حنوُّه على الخاطئة. أعادت كلماته اللَّهب لمجامر القلوب المُنطفئة بالخطيئة، فبدأ ينسلّ شعاعٌ من بخورٍ عطرٍ، يتصاعد كبرقعٍ حريري عن وجهٍ قيّده خمار العالم.
« أنا هو نور العالم »، كلماتٌ قالها في خزانة الهيكل، في رواق النساء، المكان العّام الذي يستوعب كلّ أطياف الشّعب؛ هناك كانت توجد أربع منارات ضخمة ترتفع كلٌّ منها 75 قدمًا، بها أربع قوارير ذهبيّة للزيت، يملأها أحد الشباب المنحدر من النسل الكهنوتي، وكانت تُوقَد في الليلة الأولى من عيد المظال أو عيد سوكوت Sukkot بحسب الاصطلاح العبري، بعد الذبيحة المسائيّة. كانت المنارات تُلقي بضيائها على المدينة كلّها، وكان الجميع يحتفل حولها بفرحٍ عظيمٍ إذ كان يرقُص الأتقياء حول المنارات الأربع وهم حاملون في أيديهم مشاعلَ، بينما يعزف اللاّويون على القيثارات والدفوف.
كانت المنارات منيرة بالليل، وكأنّها عمود النّار الذي كان يصحب الشعب التائه قديمًا. كان هذا هو المثال والرمز للمسيّا.
عند الرابيين؛ “النور هو اسم المسيّا”، فقد أنار المسيح الحياة والخلود، وأشرق للشعب الجالس في الظلمة وظلّ الموت.
كانت الخاطئة مُلقاة على الأرض وقد رشقها الحاضرون بوابلٍ من الاتّهامات، بينما كانت خيوط الظلمة تزحف لتخنق شعلة ضوء النّهار، حتّى جاءت كلمة المُخلِّص لها، لتُطلِق المرأة المُدانة، بالغفران. وقتها أُشعِلَت شمعدانات الخزانة بضيائها الصدّاح، فكانت كلمات المُخلِّص: « أنا هو نور العالم ». مشهدٌ يعجز اللّسان عن وصفه ويقشعر أمامه البدن؛ مشهد تحرُّر الإنسان الساقط (المرأة) من الدينونة والخطيئة والموت، وتحرُّر الكون من الظلمة بضياءٍ ليس مصدره مشاعل زيتيّة، ولكن شخص المخلِّص.. الإله الكلمة.
منذ ذاك الحين وطلبة البشريّة ورجاء صلاتها يناجيه قائلاً: “تعالى إلينا اليوم يا سيّدنا المسيح وأضِئ علينا بلاهوتك العالي..” إنها تسبحتنا فجر كلّ ثلاثاء.
كانت كلمات الشاعر الألماني الشهير جُيته على فراشه أثناء ملاقاته الموت: “المزيد من الضياء! المزيد من الضياء!”.. بينما طلب أحد القديسين في لحظاته الأخيرة ممّن حوله أن يطفئوا الأنوار قائلاً: “لقد أشرقت الشمس”. مَنْ يخنقه الظلام يبحث عن الضياء كغريقٍ يبحث عن خشبة النّجاة، ومَنْ يُدْرِك النور الحقيقي لا يعبأ بظلمةٍ زائفةٍ مؤقّتةٍ تحيطه من خارج.
هناك مَنْ يتوصَّل إلى معرفة الله بخبرةٍ ألميّةٍ من فقر وقسوة الظلام، وهناك مَنْ يتوصَّل إلى معرفة الله بإشراقة النور البَهِج. لكلٍّ منا مدخل، ولكن تبقَى ردود أفعالنا هي التعبير عن وعينا واختيارنا.. إن اخترنا النور علينا أن نتيقّن من صدق منبع النور.. فقد يتشكّل الشيطان في شبه ملاكٍ من نور!!
حينما نبحث عن ماهيّة النور نبحث عن معنَى الحياة نفسها. فالحياة لا تُعاش إلاّ تحت شعلة النور، والإنسان لا يستطيع أن يسير إلاّ على أرضٍ قد سبق وافترشها النور. كان النور أوّل خليقة الله؛ كلمةٌ قالها فأغرق الكون، المُزمَع أن يتخلّق من العدمِ، بالضياء. لقد بدأ بالنور لأنّه ما من حركة ولا حياة دونما ضياء.
النور هو غذاءٌ للنبات.. ضرورة حياة.. بدونه تبقَى البذرة في كفنِ الأرضِ.. تموت وحدها. ونحن إن لم نَرَ أنّ النور ضرورة سلوك وغاية أبديّة، لن نكون أبناء النور، ولن نستطيع أن نسلك كأنوارٍ في العالم، كما لن نُعاين بهاء ومجد النور الأبدي. إنّ المُخلِّص يحمل في ذاته سِرَّ الحياة الجديدة القائمة المُنْتشلة من بين أظافر الموت، وما الحياة الجديدة إلاّ نور للعالم..
فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس
يو 1: 4
إنّ نور المُخلِّص ليس لمحة عابرة لخلاصٍ مؤقّت من الظلمة ولكنّه نور ينبع من الحياة ويصبّ في الحياة، فتجديد الحياة هو محور عمل النور بل وغايته أيضًا.
ينشد القديس غريغوريوس اللاّهوتي عن الاستنارة / المعموديّة، فيقول:
الاستنارة هي ضياء النفوس وبهاؤها وتغيير الحياة.
هي قضيّتنا مع الله.
المعموديّة هي مساعدة ضعفنا،
دفع بهيميتنا إلى الخارج،
اتّباع الروح القدس،
شركتنا مع الابن.
هي قيام الخليقة المُنْطرِحة،
وإغراق الخطيئة،
وانحلال الظلمة والشركة مع النور.
الاستنارة هي عربةٌ تنقلنا إلى الله،
هي تغرُّبٌ مع المسيح،
وسند للإيمان،
وكمال العقل،
ومفتاح ملكوت السماوات،
وانتقالٌ إلى الحياة،
وفك القيود،
وإلغاء العبوديّة..
إنّ ضياء الربّ هو نعمته التي تُرافِق من قبلوها ظِلاًّ ملاصقًا لحياتهم. لقد سمَّى الآباء المعموديّة استنارة، لأنّ فيها ننتقل من ظلمة الموت إلى نور الحياة ونور القيامة، وحينما ينعكس ضياء النعمة علينا نستنير، وكأنّنا صرنا مصابيح مُتحرِّكة لهداية عالمٍ يستمرِئ الظلام.
المصابيح توضَع على المنارة لتنير لتائهي العالم العابرين بين لُججه المتلاطمة. من استنارة المعموديّة تبدأ استنارة الحياة وخوض رحلة معرفة الله بالعمل والنعمة. ليست الاستنارة أنّ ندرك الله في ذاته.. في جوهره.. ولكن أن نستشعره يملأ عالمنا ويُجدِّد أذهاننا بلمسات نعمته التي تُعلِّمنا السير على هدي الحقِّ الأبدي.
إنّ النور يتخلَّق من النار المشتعلة، وحينما يخبو اللَّهب يخبو الضياء. ونحن حينما نشتعل شوقًا وغيرةً بروح الله الساكن فينا، يتأجَّج داخلنا لهب الحضرة الإلهيّة التي تُلقي بضيائها على مسكن القلب، فيستنير، ويبدأ في التعرُّف إلى ما هو من النور وما هو من الظلمة.
الله ساكنٌ في نورٍ لا يُدنَى منه، ولكن في الربّ يسوع صارت لنا الإمكانيّة لأن ندنو من النور لننظره؛ أو بالأحرى أن يدنو هو منّا ليتيح لنا أن ننظره؛ « كثيرون يقولون: ‘مَنْ يُرينا خيرًا؟’. ارفع علينا نور وجهك يا ربُّ » (مز4: 6).
النور الإلهي أصبح نارًا مُطهِّرة لآثامنا.. لم يعد نور الله مُرهبًا لضعفنا كما في القديم؛ إذ قد ارتاع الشعب الإسرائيلي قديمًا حينما رأوا النار العظيمة وألسنة اللّهب تصل للسماء من وسط الظلام، والجبل يموج بجلبةٍ.. يحوطه سحابٌ وضبابٌ.. سمعوا الصوت ولكنّهم ارتاعوا من رؤية مجد الله الحيّ، فأرسلوا عنهم موسَى ليعاين وينظر ويسمع وحده لأنّهم خافوا أن تبتلعهم النّار الإلهيّة؛ « وأمَّا الآن فلماذا نموت؟ لأنّ هذه النّار العظيمة تأكُلنا. إنْ عدنا نسْمعُ صوت الرّب إلهِنا أيضًا نموت » (تث 5: 25)
مَنْ يخشى من نار المجد يخشَى من قبح أعماله وأسراره التي تتجسّد فيها الظلمة. مَنْ يقترب من نور المسيح لن يموت ولكن سيشرق عليه شمس البرّ لتطهيره من الخطايا السالفة. إلاّ أن التطهُّر هو عملٌ دائم لم يحدث مرّة واحدة وانتهَى الأمر؛ نحن نحتاج إشراقة النور كلّ صباح، لأنّ موت العالم يحاصرنا ويخترقنا في كلّ مساء.. إن سكنّا في دائرة النور واللّهب الإلهي نقبل الحياة ونستنير ونُعاين، بل ونلمس بجسدنا الجديد، الحياة الأبديّة..
إنّ مناجاتنا لله كلّ صباح هي: “ليُشرِق لنا نور وجهك، وليُضِئ علينا نور علمك الإلهي”، وذلك لأنّ المُخلِّص هو “النور الحقيقي الذي يُضيء لكلّ إنسانٍ آتٍ إلى العالم”، هكذا ندعوه في صلاتنا. بل وهو “الذي أظهر لنا نور الآب” حسبما كتب القديس غريغوريوس اللاّهوتي في ليتورجيّته.
إنّه اللّهب الذي تجسَّد لكي نستطيع أن نبصره ونرى في وجهه مجد الآب. في المسيح، أصبح نور الله يعني دفئ الحضور الذي يُلطِّف من قساوة القلب ويذيب كلّ ثلوجه المترسبِّة عبر عشرات السنين. إنّه حالة نختبرها في الصلاة حينما نلمح شعاعًا من الاستنارة يُجدِّد مفاهيمنا الحياتيّة ويعيد ترتيب أولوياتنا ويملأنا بسلامٍ نترجَّى ديمومته. نور المُخلِّص المُشرِق في الصلاةِ هو نورُ الثالوث عينه الذي يُحفِّز الإيمان الرّاكد في قلوبنا ويهبنا شجاعة المُجاهرة به، بل ويعطينا كلمات الصلاة والشهادة.
عند المُخلِّص سننظر نورًا لا يأتي مثله من مصابيح العالم ولا شموسه. نور الحقِّ هو ما سنراه عند الربّ وفيه وبه..
إنّ هذا النور هو الإله، هو القدير،
هو أيضًا فائق الرقّة والدعة.
آه! كيف يراعي الإنسان في معاملته له!..
إنّه لا يثقِّل على الروح المُهمّشة بالخطيئة،
لكنّه يشفي القلب المسحوق باليأس..
هو يوحي للروح بالرجاء وبغلبتها.
هذه هي المعاينة والخبرة التي يرصدها لنا الأرشمندريت صفروني سخاروف.
قد يرى البعض أنّ له من المعارف والعلاقات ما يكفي لتأمين ضياءً للمسير والنجاح في العالم، ولكنّه لا يعلم أنّه قد قرَّر السير على ضياء شمعة خافتة وسط عالم يموج برياحٍ عاصفة ستذبح اللَّهب في مهده. ولكن ما الذي يجعلنا نُفضّل شموعنا الذاتيّة عن شمس البرّ؟ كانت إجابة المسيح: الأعمال الشريرة.
إنّ الرؤية هي شركة بين العين والنور؛ فالعين لا تملك القدرة على الرؤية وحدها. فارقٌ كبير بين الرؤية والقدرة على الرؤية. أن نجاهد فتلك هي القدرة ولكن أن نعاين فتلك نعمة وشركة يهبها الله لنا بإشراقة مجده. إنْ تواجد شخصٌ بصير في غرفةٍ مظلمة لن يرى شيئًا، وإنْ تواجد أعمَى تحت وهج النور لن يرى شيئًا!! النور والعين هما العمل الإنساني والنعمة الإلهيّة، بدونهما لن تتحقّق معاينتنا القلبيّة لله.
ولكنّ هل يمكن للنفوس التي لم تَتَلَقَّ تطهيرًا من الروح أن يكون لها شركة مع النور؟ يجيب القديس مكاريوس الكبير في رسالته الثانية فيقول: “النفس التي لم تتعرّف بعد على الروح فإنه يستحيل عليها أن تقترب إليه ولا أن تشخص في ضيائه الإلهي أو تعيش في نوره البرّاق”. ومعرفة الروح تبدأ حينما نولد من فوق..
  رد مع اقتباس
قديم 26 - 06 - 2014, 02:14 PM   رقم المشاركة : ( 69 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,300,316

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

إنجيل الرخاء.. وهم الإيمان
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

يكتب القديس باسيليوس الكبير فيقول:
“في بعض الأحيان يصبح رخاء الحياة نفسها نوعًا من الإغراء!!”
يكرز البعض بإنجيل الرفاهة والرخاء وببركاتٍ تؤمن رغد العيش!! وكأنّ إنجيلاً جديدًا يرتسم بأقلامٍ معاصرة تريد أن تحصر المسيح في الغنَى. يرون أنّ البركة هي شفاءٌ للأجساد وتطيٌّبٍ لها، وأنّها تفتح خزائن العالم لأبناء الله ليغرفون قدر حاجتهم!!!
مازال العالم يقدِّم مُسحَاء جدُد يتمسّحون في مسيح الناصرة يخطبون باسمه ليتنكروا، فيعلّموا بما لم يبح به يسوع بيت لحم لا في المخادع ولا على السطوح..
مازال الأنبياء الكذبة ينشرون أعشاب العقائد الغريبة عن ملكوت الله بين ربوع العالم يتسلّحون بآيات مبتسرة ومفاهيم مشوّهة وإعلام مغرض ودعايات مبهرة وخُطب لامعة.. لازالوا يريدون أن ينزعوا عن يسوع جماله الطبيعي.. جمال الألوهة.. يريدون أن يضعوا مساحيق معاصرة ليبيعوه في سوق النخاسة الجديد ليربحوا أتباعًا وأموالاً وصيتًا وشهرة.. يتكلمون كبطرس في لحظة ضعفه ويقولون حاشاك يا ربّ أن تتألم / تفتقر وينظر إليهم الربّ حزينًا معلنًا أن هذا صوت شيطانٍ رابض..
مازال البعض يقف عند ناصية العهد القديم رافضين أن يتقدّموا ليعاينوا ملكوتًا ليس من هذا العالم.. يرفضون أن يقبلوا بأنّ السلام والفرح في الروح هو المُلك الحقّ.. يتطلُّعون إلى ثيابٍ برّاقة كما لهيرودس ولا يعلمون أنّ خلفها يترصّد الموت لينفجر دودًا يأكل الجسد قبل أن يرفل في الرفاهة..
يحلمون ببركة إبراهيميّة ونسل كبير ودولة عظيمة ولا يعلمون أنّ كلّ هذا كان من أجل النسل الذي ستتبارك فيه جميع الأمم.. لقد جاء الابن إلى العالم والعالم رفض أن يتوقف أمامه لأنه محب للظلمة ويخشَى النور الحقيقي..
تناسوا كلمات المسيح باستحالة عبادة الله والمال وكلاهما سيّد؛ سيادة الله هي ملكوت أبدي، وسيادة المال هي عظمة وقتيّة.. فقاعة خادعة.. بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل..
جاء المسيح وتعلّق على خشبة بلا منظر ولا جمال لنشتهيه إن نظرناه بأعين العالم، ولكن إن كانت لنا بصائر مجدّدة ومعمّدة بالنور رأينا مجدًا هائل الإشراق لا نملك أمامه إلاّ أن ننطرح كما التلاميذ على جبل التجلّي.. نطالب مع بطرس بالمكوث حيث الربّ المضيء بمجد الألوهة.. ولكن من يرفض الروح لن يرى بهاء المسيح ولن يعاين الآب؛ فالآب بالابن يُرى...
أوصانا المسيح قبل انطلاقه المظفّر إلى الآب بأخوته الصغار، وحينما سئل من هم؟؟ أجاب أنهم المتألمين والمرضى والمسجونين والجوعى والحزانى.. فيهم يعلن عن ذاته ويتقبّل بسرور عطايا محبّتنا..
طوّب الربّ الحزانى لأنّ في حزنهم يستعلن الاتكال على الله والالتجاء إليه كنبع للفرح الحقّ الذي لا يمكن لعالم متغيّر مادي أن يهبه أو يؤمّنه..
جاء المسيح ومازال العالم لم يتعرّف عليه.. متعثّر في صليبه.. يريد أن ينزع عنه الأسمال الباليّة ليلبسه ثوبًا إمبراطوريًّا.. ولكن كما كان في القديم هكذا يحدث: يمضى المسيح من وسطهم هكذا..
أيّها المسيح.. الابن الحي أبد الدهور
افتح بصائرنا المعتمة
التي تريد أن تنفتح على لآلئ العالم وتنسبها لملكوتك
لحظة إشراقة من مجد الحياة الجديدة على القلب
تبطل كلّ تساؤل ليس من إنجيلك
وتحطّم كلّ صخرة إن وضعت أمام قبرك لتمنع قيامتك
أمجدك أيّها الربّ يسوع
الحال في كلّ فقير ومتألم وحزين ومظلوم
إن قبل بالشكر ألمه وعانق صليبه
هبنا أن نراك..
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
أصل الحركة

كتب روبرت تيلتون أحد معلّمي حركة إنجيل الرخاء قائلاً:
“أؤمن أنّ مشيئة الله من جهتكم جميعًا هي الرخاء، إذ أراها في كلمة [الله]، لا لأني وجدتها فاعلة في حياة البعض. أنا لا أضع عيناي على البشر بل على الله الذي يهبني القدرة على أن أصبح غنيًّا”(1)
تسمّى تلك الحركة بـ“إنجيل / لاهوت الرخاء / الثروة / الصحّة”، وأيضًا تسمّى بحركة “كلمة الإيمان” وكذلك “إنجيل النجاح”. وتنادي أنّ المؤمن لا يمكن أن ينال منه المرض ولا الفقر ولا الضيق، فكلّ تلك الأمور قد أبطلها المسيح ومن ثمّ فإنّ كلّ من يطلب أموال، عربات، حسابات في البنوك، سلطة، صحة.. إلخ بالضرورة سينالها إن كان مؤمنًا حقًّا!!!
ويرى كينيت كوبلاند أنّ الحصول على الرخاء محكوم بعدّة قوانين وهو يتحقّق من خلال نسق روحي معيّن. ويعلّم كرفلو دولار بأنّ الرخاء هو بمثابة عقد قد تمّ إبرامه بين الله والإنسان ينتج عن حصول الإنسان على الغنى والثروة. ويأتي التعليم العام لذاك اللاّهوت بأنّ المسحة ما هي إلاّ نزع لعنصر المرض والاحتياج المادّي، جنبًا إلى جنب مع انتزاع دنس الروح.
والقارئ لتاريخ حركة إنجيل الرخاء يرصد في البداية إحدى الشخصيّات المؤثّرة في تلك الحركة وهو كنيون E. W. Kenyon (بداية القرن العشرين) وقد ارتبط في وقت لاحقٍ من حياته بالحركات الخمسينيّة ومن ثمّ كتب عن قوّة الإعلان الخاص (الإعلان فوق الطبيعي supernatural revelation) وكانت لكتاباته وخاصة فيما يتعلَّق بأهميّة الإفصاح الإيجابي positive confession عمّا يعتري النفس وما تأمل فيه، تأثيرًا في حركات الشفاء والتي بدأت تشقّ لها مكانًا بعد الحربّ العالمية الثانية، وخاصة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
وبدأ أورل روبرتس Oral Roberts في المناداة بلاهوت الرخاء في العام 1947. وفي مطلع الخمسينيّات كان يبحث عن دعم لحركته فطالب جماعته بالتبرُّع مؤكِّدًا لهم أن ما سوف يضعونه سوف يستردونه وأكثر من مصدرٍ غير معلوم. وفي نفس الوقت علّم أ. أ. ألن A. A. Allen بأنّ الله سوف يحلّ بطرق معجزيّة كلّ المشاكل الماليّة التي يتعرّض لها أتباعه، وذلك من خلال الإيمان.
في ستينيات القرن المنصرم، بدأت تتداخل حملات الشفاء مع التعليم بإنجيل الرخاء. وفي السبعينيات بدأ أورل روبرتس Oral Roberts بالمناداة بما يسمّى بـ“بذار الإيمان” وهي بعض الأموال التي يهبها المؤمن للراعي والكنيسة ومن ثمّ يحصل عليها لاحقًا أكثر بكثير من الأوّل، وكان هذا الأمر بالطبع لسدّ نفقات الخدمة والدعاية لها. وفي نفس الوقت تقريبًا ظهر على المسرح ت. إل. أوزبورنT. L. Osborn والذي كان يتباهي بالثراء الشخصي كأحد معالم البركة من الله.
اتّسع نطاق تلك الحركة بانضمام كينيث هيجين Kenneth Hagin لها والذي امتدّ تأثيره من خلال البث الإذاعي والكتابات المتعدّدة، فضلاً عن تأسيسه لما أطلق عليه RHEMA كمركز للتدريب الكتابي في عام 1974، والذي خرّج ما يربو عن العشرة آلاف شخص متتلمذين على هذا المنهاج اللاّهوتي.
جيمي سواجرت Jimmy Swaggart وجيم باكر Jim Bakker اجتذبا الاهتمام إلى تلك التعاليم في الولايات المتّحدة في الثمانينّات، إلاّ أنّ الفضائح التي طالتهما كانت سببًا في تراجع تأثيرهما على الجموع، فقد أودع باكر السجن لاتهامه بعمليات نصبٍ واحتيالٍ..
وجد هذا التعليم مكانًا في حركات الخمسينيّة المحدثة Neo-Pentecostal والتي وجدت لها مكانًا لاحقًا في ركب الحركات الكاريزماتيّة، وخاصة في التسعينيّات. وتمّ تصدير حركة إنجيل الرخاء إلى أوروبا الغربيّة في بدايات الألفيّة الجديدة.
ونظرًا لتضحُّم ثروات الحركات المعنيّة بنشر إنجيل الرخاء، فتح شاك جراسلي Chuck Grassley بمجلس الشيوخ الأمريكي تحقيقًا حول هذا الأمر، تضمّن المؤسسات الخدميّة لـ: كينيث كوبلاند Kenneth Copeland Ministries، كريفلو دولار Creflo Dollar Ministries، بيني هن Benny Hinn Ministries، إدي لونج Bishop Eddie Long Ministries، جويس ماير Joyce Meyer Ministries، باولا وايت Paula White Ministries.
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
السند الكتابي المزعوم

يستخدم وعّاظ تلك الحركة بعض الآيات أملاً في البحث لهم عن مكانٍ في الكتاب المُقدَّس يستطيعون من خلاله الترويح لفكرتهم، من تلك الآيات:
(1)

هَاتُوا جَمِيعَ الْعُشُورِ إِلَى الْخَزْنَةِ لِيَكُونَ فِي بَيْتِي طَعَامٌ وَجَرِّبُونِي بِهَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ
إِنْ كُنْتُ لاَ أَفْتَحُ لَكُمْ كُوى السَّمَاوَاتِ وَأُفِيضُ عَلَيْكُمْ بَرَكَةً حَتَّى لاَ تُوسَعَ. (ملاخي 3: 10)
في البداية علينا أن ندرك الفارق بين العهديْن من جهة الإعلان؛ فالعهد القديم كان يرتكز على حقيقتين مترابطتين وهما الأرض والمسيّا، ومن ثمّ لم يكن هناك حديث في العهد القديم عن أسخاطولوجيا من أي نوعٍ اللّهم إلاّ الهاوية التي كانت ماثلة في أذهان الأنبياء والتي تحدّث عنها سفر المزامير في غير موضعٍ. لذا فإنّ الإسخاطولوجيا المسيحيّة كانت في العهد القديم مدينة الله أي أورشليم وجبل صهيون والأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً. إذًا فالإعلان الأوّلي في العهد القديم كان مكانيًّا للتعبير عن تآلف شعب الله معًا بحضرة يهوه كملك عليهم..
أمّا في العهد الجديد انتقل مركز ثقل الوعي المسيحي مع المسيح الذي جلس عن يمين العظمة في السماويات إلى ملكوت الله.. أورشليم الجديدة التي ليس فيها زواج ولا ميراث ولا ألم ولا شرّ.. إلخ فانتقلت معها الوصيّة من الارتكاز الزمني إلى الارتكاز الأبدي.
إن تناولنا الآية السابقة على هذا القياس نجد أنّ تلك الآية تتناغم مع إعلان العهد القديم قبل مجيء الابن؛ فأرض كنعان هي الحلم إذًا بركة الغنى والنسل هي الحلم المقابل. أمّا في العهد الجديد فإنّ البركة انتقلت ممّا هو مادي ووقتي وزائل إلى الكنز الذي لا يفنى فلا يفسده سوس ولا ينقبه سارق لأنّه كنز في الوجود الأسمى.. في الله.
إذًا انتقل المسيح بنا في العهد الجديد من أورشليم الفلسطينيّة إلى أورشليم العليا وهو ما شرحه القديس بولس باستفاضة. لذا فإن دعوى العودة من البركات العليا الكامنة والكائنة في الابن إلى مدار البركة الزمنيّة الزائلة هو حالة تهوُّد صريح وانتكاسة إيمانيّة وكأنّ الابن لم يتجسَّد ولم ينقل البصيرة البشرية من الأرض إلى السماء.
(2)

وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ (يوحنا 10: 10)
يأتي شرح الآية في سياق الغنى مُحيِّرًا للغاية؛ فالنصّ إن ترجمناه بشكلٍّ أدق، يقول: “لقد أتيت لتكون لهم الحياة، ولتكون لهم بوفرة ἐγὼ ἦλθον ἵνα ζωὴν ἔχωσιν, καὶ περισσὸν ἔχωσιν.” وحينما يُقدِّم المسيح الحياة فإنّه لا يقدمها كعطيّة منفصلة عن ذاته، ولا تفهم تلك الآية بعيدًا عن كلماته القائلة: “أنا هو الطريق والحقّ والحياة”. فالحياة التي يقدمها بوفرة هي الحياة الجديدة المتحرِّكة في القلب حينما تبذر فيه بذار الملكوت.
إذًا إشكاليّة هذا النصّ لديهم أنّهم ينحصرون في فهم الحياة ببعدها الزمني فقط غير مدركين الإعلان الإلهي بأنه هو الحياة. وفي المقابل يأتي النصّ الذي يصف مشهد الميلاد بالتعقيب على حالة البشريّة أنّها كالجلوس في الظلمة وظلّ الموت، ليوضّح أن الموت لم يكن يعني الموت البيولوجي ومن ثمّ الحياة ليست هي الحياة البيولوجيّة؛ فالموت هو الانفصال عن الله والحياة هي الاتحاد بالله من جديد وإعادة الصلّة بجسد الابن الممدّد على الصليب ليصالح السمائيين مع الأرضيين. فمن يؤمن بالابن ولو مات فسيحيا؛ وهذا إشارة إلى انعدام سلطان الموت على المرتبطين بالابن كجسد للرأس المتحرّك نحو الآب. أمّا الحديث عن الحياة الأفضل في مدار الزمن فقط فليس له سند كتابي في العهد الجديد أو لاهوتي أو آبائي من أي نوعٍ كان.
(3)

فَيَمْلأُ إِلَهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. (فيلبي 4: 19)
لا يمكن أن تفهم تلك الآية إلاّ بالرجوع إلى العدد الرابع عشر من نفس الأصحاح إذ يقول القديس بولس: “غَيْرَ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ حَسَناً إِذِ اشْتَرَكْتُمْ فِي ضِيقَتِي”.
فالقديس بولس إذًا يعاني من ضيقةٍ ماديّة وقد شاركته الكنيسة بالعطاء حتى يتحقَّق مفهوم الجسد الواحد. فلو كان الله يُسدّد احتياجات الجميع كبركةٍ لكلّ مؤمن تكون ضيقة بولس نفسها محيّرة بل ومناقضة لهذا المفهوم، فكيف يسد الله الاحتياج في الوقت الذي يترك القديس بولس يعاني من ضيقةٍ ما؟!!!
هنا القديس بولس يصلّي من أجل كنيسة شاركته في حساب العطاء وقدّمت بسخاء فلا يملك إلاّ أن يطلب من الله أن يسدد الاحتياجات لهم لأنّهم ينفقون أحيانًا فوق الطاقة لئلا تعاق الخدمة. ولا حديث هنا عن ثروة أو رخاء، فقط عن تسديد احتياج..
الأمر الآخر الجدير بالذكر أنّه يقول:” بحسب غناه في المجد” فالغنى الإلهي هو المجد، فمَنْ يُقدِّم فلسيه، سوف ينال أجرًا عظيمًا في ملكوت السماوات، تلك هي المعادلة الجديدة، مقايضة الأرضي بقلبٍ محبٍّ وشاكرٍ، بالسمائي بفيض ووفرةٍ إلهيّة. وكما يبتهل الكاهن في خدمة القدّاس الإلهي وفي الطلبة الخاصة بالعطايا والقرابين: “أعطهم [يقصد من يقدّم من حاجته لشركة الكنيسة] ما لا يفسد عوضًا عمّا يفسد. السمائيّات عوض الأرضيّات. الأبديّات عوض الزمانيّات”. فالله لا يمكن أن يتمركز فيما يفسد ويقوقع عطيته في هذا الإطار المحدود. الله روح وعطاياه الفاخرة هي للروح.. أما الباقي يزاد بحسب التدبير الإلهي لشعبه المرتحل في خضمّ الحياة المتلاطمة.
(4)

أَيُّهَا الْحَبِيبُ، فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرُومُ أَنْ تَكُونَ نَاجِحاً وَصَحِيحاً، كَمَا أَنَّ نَفْسَكَ نَاجِحَةٌ. (3يوحنا 2)
من جديد نجد اقتطاع النصّ من سياق الحديث يفسد المعنى بل ويقذف به بعيدًا عن هدف الكاتب وقصد الكتاب ولحمته المترابطة؛ فالقديس يوحنّا حينما كان يضرع من أجل نجاح غايس، يرى أنّ النجاح هو السلوك في الحقّ، إذ يكتب في العددين الثالث والرابع من نفس الأصحاح:” لأَنِّي فَرِحْتُ جِدّاً إِذْ حَضَرَ إِخْوَةٌ وَشَهِدُوا بِالْحَقِّ الَّذِي فِيكَ، كَمَا أَنَّكَ تَسْلُكُ بِالْحَقِّ. لَيْسَ لِي فَرَحٌ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا: أَنْ أَسْمَعَ عَنْ أَوْلاَدِي أَنَّهُمْ يَسْلُكُونَ بِالْحَقِّ.” فالنجاح عند القديس يوحنّا هو إتباع الحقّ والسلوك فيه. وإن أخذنا تلك الطلبة من أجل النجاح الإنساني فهي تصلح أيضًا ولكن على الهامش التأملي للمعنى الأصلي للكاتب، ولكننا لا نجد أثرًا للثراء الإنسان والرخاء الإنساني؛ فالنجاح في المسيحيّة لا يعني تكديس المال وارتقاء سلّم السلطة بل الشهادة للمسيح وتبعيّة الحقّ وتمليك الحبّ من القلب والخضوع للروح بوعي مستنير بالوصيّة.
فمن أين الحديث عن الغنى الزمني والرفاهة الماديّة.. اجتزاء مخلِّ يضرب رسالة الإنجيل في الصميم ويحوِّل إنجيل ربّنا يسوع المسيح إلى آلية غنى مادّي وكأنّ المسيح جاء من أجل مجتمع إنساني مُذهَّب؟!!
وهكذا سنجد أنّ كلّ الآيات التي يستندون إليها هي محاولة للعودة مرّة أخرى لإطار البركة الزمنيّة؛ بركة العهد القديم، ويبقى مجيء المسيح عبثًا!!!!
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
جذور تلك الحركة

ولكن الجذور تبدو واضحة جليّة، فبعض القادة الروحيين يريدون أن يصالحوا مجتمعاتٍ علمانيّة التوجُّه، وليس من مصالحة أفضل من الحديث عن إنجيل يجلب الرخاء والمال والسلطة..
تلك المصالحة هي محاولة لإعادة الجسور مع مجتمعات قد تعتّمت قديمًا بممارسات ليست من الإنجيل في شيء، في العصور الوسطى، ولكنّها كانت محاولة لتأمين السلطة من خلال النصّ ليصبح الضمير هو مخضع الجموع لصولجان الرئاسة جنبًا إلى جنب مع قوّة الجند وبأس العسكر.
وكانت النتيجة المقابلة ثورة على الكنيسة الكاثوليكيّة والتي توارت طويلاً خلف اللباس الإمبراطوري والصولجان الدنيوي. فكانت حركات الإصلاح ردًّا قاسيًا على فساد مستمر، ولكن ما بين الأقطاب يكمن الحقّ يتلمس بصائر الإيمان بعيدًا عن رغبات السيادة من جهة والانتقام من جهة أخرى.
وتحرّك الإصلاح قدمًا ليلازم الثورة الفرنسيّة في تحرّرها من الإقطاع والملكيّة والطبقيّة فكان متماهيًا مع حركة المجتمع، وفي المقابل كان الانهيار والانكسار شديد الوطأة على قيادات مسيحيّة تحالفت مع السلطة في بعض البلدان الأوربيّة لتكون لها ذراعًا روحيًّا ولتصر السلطة لها ذراعًا زمنيًّا فيما عرف بنظريّة السيفين كما أوردها بوضوح برناردوس (1090-1153)، إذ كتب: “تعلّمنا الكلمات الإنجيليّة أنّ السيفين الروحي والزمني هما تحت إمرة بطرس.. إلاّ أن السيف الروحي تستخدمه الكنيسة، بينما السيف الزمني يستخدم لحساب الكنيسة، الأوّل تستخدمه يد الكاهن، أمّا الثاني تستخدمه يد الملوك والفرسان تحت إمرة الكاهن وبموافقته. فمن الضروري أن يخضع الثاني للأوّل وأن تكون السلطة الزمنيّة تحت سيادة السلطة الروحيّة”
لا أعلم أي إنجيلٍ علّم بهذا!!! ولكن كان تلك روحًا سائدة في بعض الأقطار والمدن. والعجيب أنّ ترتليان نفسه، أحد أقطاب التقليد الغربي، يكتب: “الراية الإلهيّة والراية البشريّة لا تتفقان معًا، كذلك قياس المسيح وقياس الشرير. فقط المسيحي يستطيع أن يشن حربًا بدون سيف لأنّ الربّ أباد السيف”.
فمن أين جاء هذا التحالف البغيض؛ بالتأكيد ليس من الإنجيل والآباء، ولكن بانتقائيّة واقتطاع نصوص من سياقاتها وأهدافها كما هي العادّة.
وأطلّت الحداثة برأسها لتحطِّم ثوابت المسلّمات وتنفض تراب الخرافة عن العقل، ولكنها فيما تحرِّر العقل أصابت منه موطن الإيمان فشلُّت حركة الإيمان بينما قفز العقل في مضمار العلم والمعرفة التجريبيّة قفزات هائلة. وحينما استفاقت الكنيسة في الغرب على هول الإخفاق ونتائجة حاولت أن توجد بديلاً مناسبًا يعيد المجتمع الباحث عن الرخاء إلى حضن الإيمان، ولكنها فيما تسعى خطّت إنجيلاً ليس من يسوع في شيء، ولا من مكانٍ له في الكنيسة؛ هو إنجيل منحول الفكرة من جذورها.
قد يكون إنجيل الرخاء هو الوجه المقابل لإنجيل الإماتة المانيّة (نسبة إلى ماني الذي رأى أن الجسد شرّ وصنيعة إله الشرّ يجب إماتته على الدوام) أو السلطة، الذي كان سائدًا في العصور الوسطى والذي كان يحمل شبهة مانيّة وغنوسيّة باعتبار الجسد عدوًّا يجب أن يسحق بالجلد والقهر والذل حتى تتحرّر الروح.
هل نحن بصدد رواقية وأبيقوريّة يتصارعان ولكن تحت لواء يسوع؟!!! يبدو هذا. فالأبيقوريّة الملتحفة باللّذة والرواقية المصارعة للجسد هما وجهي العملة القديم لصراع إنجيل الرخاء وإنجيل الإماتة (المانيّة) في عصرنا الحديث.
ومن الأمور التي يجب أن تسترعي انتباهنا أنّ فكرة إنجيل الرخاء بدأت في خمسينيّات القرن المنصرم، مع بداية انتشار الإعلام المرئي، وهو ما يفسّر لنا أن مثل هذا الخطاب اللاّهوتي يحتل مكانًا أساسيّا على شاشات التلفاز عبر الكثير من المحطّات في مختلف البلدان. والإعلام معني بالربح والانتشار؛ فالانتشار والقبول من المشاهد يساوي ربحًا كما أنّ الربح يحقِّق انتشارًا. ولا يمكن تحقيق تلك المعادلة الربح / الانتشار حينما يرتكز الخطاب على حمل صليبٍ وقبول ألمٍ، بل إن المسيح المصلوب عينه يجب أن يختبئ ويتوارى لأن مشهد الألم غير جاذبٍ لإنسان العالم. والبديل الكرازة بمسيح مقبول من الجميع وإن كان آخر غير مسيح الناصرة.
الهرطقة دائمًا هي محاولة توفيقيّة وتجميليّة لبيع الفكرة المتناغمة مع روح العصر، ولكن كلمات المسيح حادّة كالسيف فالباب الضيِّق لا يمكن أن يتّسع يومًا والطريق المتهالك لن تبنى على جانبيه ناطحات سحاب الرخاء والرّاحة.
لا يفهم من هذا أن المسيحيّة كارزة بألمٍ مجرّد، كلاّ، بل بالحري بنعمة وإن عبر أشواكٍ من ألم، فمن يحب يتحمّل من أجل محبوبه وعورة الطريق. كذلك المسيحيّة ليست هي ديانة الصليب، كلاّ، فهي ديانة الصليب / القيامة.. القبر / النور.. الموت / الحياة. الكرازة بالألم المجرّد يُسْقِط في فخ إنجيل الإماتة المانيّة، والكرازة بالراحة المطلقة دونما صليب يدفع بالعقل نحو إنجيل الرخاء.
كما إنّ المسيح مصلوب / قائم.. مائت / حي.. هكذا المسيحي مصلوب / قائم , مائت / حي ولكن بذاك الذي عبّد الطريق بذبيحة نفسه ليكرّس لنا مكانًا وموطنًا عند الله الآب.
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
لاهوت الرخاء وَلَيِّ الحقائق والمبادئ الكتابيّة

تبدأ الفكرة كما اضطلعت على بعض ملامحها في كتابات بعضهم في ربط البركة الإلهيّة بالحالة الزمنيّة للمؤمن المسيحي، مدعية أنه لا يمكن أن يكون المسيحي مؤمنًا حقًا ويحيا في ألمٍ ومرضٍ وحاجة وفاقة!!!
إلاّ أنّ ميلاد المخلِّص يطلعنا على أوّل بذرة يزرعها في رحم إيماننا؛ فلقد وُلد السيّد ملك الكون والخليقة وربّها العلي في مزودٍ من خشبٍ متهرّأ يشاركه الرقاد حيوانات عجماء. لماذا؟؟؟ لأن المذود مبدأ إلهي؛ فالمسيح جاء ليلاشي الطبقيّة وليعلن أن شركته في فقر البشر إن هو إلا شركته فقر كلّ بشريٍّ آمن به وسار وراءه ليهبه سلامًا وفرحًا قلبيًّا وإن استمر الفقر ينشب مخالبه في وجدانه الإنساني.
حينما تقدّمت مريم ويوسف إلى الهيكل لتقدّم عن تطهيرها كانت تقدمتها كتلك التي للفقراء؛ زوجي حمام / فرخي حمام، فمبدأ المزود الفقير مازال مستمرًا في بيت الربّ..
هرب إلى مصر من بطش ملكٍ عاتٍ باحث عن الصولجان وإن على جثث الأطفال الصغار.. عاش في مصر كاللاجئين مرتحلاً من مكان إلى مكان دون سكنٍ دائم أو راحة للعائلة المقدّسة..
عاش نجارًا حرفيًّا يحيا كفاف العيش، لم يسكن يومًا قصرًا منيفًا ولا امتطى جوادًا ملكيًّا ولا ارتدى ثيابًا مذهبّة ولا تطيّب برياحين الولاة. ظلّ يحيا الكفاف لم يتخطّاه يومًا قط. علّم أنه ليس له أين يسند رأسه، فإن كان له نصيبٌ من المال لأمّن مكانًا مناسبًا أينما حلّ، له ولأتباعه ليرتاحوا من عناء الطرقات الوعرة ما بين أقاصي اليهوديّة والجليل والسامرة. طالب أحدهم أن يترك ماله ليتبعه!! ألم يكن ممكنًا له أن يؤكِّد على نفع المال إن وضع في مكانه الصحيح، ولكنه يحرّر أتباعه أولاً من عبوديّة المادّة حتى يستطيعوا أن يتعاملوا مع المادّة إن ملأت خزائنهم.
لم يشترى طعامًا للجموع ولكنّه تضرّع من أجلهم حتى يأكلوا من يد الله، ليشير إلى العناية الإلهية وقت الحاجة لا ليؤصِّل لغنى ينسكب على المُصلِّي. كان يعلم أنّ الطعام قادر أن يجتذب جموع لذا كان حريصًا أن يكون مشبعًا لقلوب البشر أولاً لا بطونهم حتى يكون أتباعه بني الملكوت لا حفنة من الجياع إلى خبز ومأوى.
وكما جاء في مذود ليرسِّخ مبدأ مشاركة الفقير في فقره، مات على صليبٍ ليعلن أنّ المسيحي مصلوب إلى نهاية أيامه؛ والمسيحيّة بجملتها بتعبير المطران جورج خضر “مصلوبيّة”، تحمل الصليب وإن كان وجهه مرضًا أو جوعًا أو عريًا أو فقرًا...
فالمسيح المولود فقيرًا والهارب كلاجئٍ والعامل كحرفيٍّ بسيط والمائت كمصلوبٍ ملعونٍ بحكم الشريعة يدّعون أنّه دعا إلى الغنى ورفاهة العيش؟!!!
بعد قيامته أطلق الكنيسة والتي كانت ترزح تحت سيف الاضطهاد ولازالت لا لأنها لم تنل بركة من الآب بل بالحري لأنه متجهة نحو الله الآب في يسوع المسيح.
لم يكن لبطرس ويوحنّا مالاً ولا فضّة ولا ذهب بل اسم الخلاص المحيي؛ هذا ما قدّماه للمفلوج. ولم يكن الشفاء سوى العلامة الإلهيّة على حضور يسوع كربٍّ فيه ملء قوّة الله؛ فالمعجزة في العهد الجديد كانت تأكيدًا على لاهوت أو إشارة إلى لاهوت. فالأجساد التي مآلها الفناء لن تكون مركز كرازة الإنجيل ولكن الكرازة ستجعل من بعض آيات الشفاء علامة لغير المؤمن حتى يصرخ أنّ المسيح ربٌّ لمجد الله الآب.
كان بولس نفسه يحمل شوكة في جسده طوال حيّاته تضرّع من أجلها ولكن طلبته لم تقبل فقد كانت النعمة هي العطيّة الإلهيّة والتي تنسكب بوفرة على قلبٍ قابل للألم كذبيحة طاعة لمشيئة الله.
لم يتورّع القديس بولس أن يؤكّد أنّه فقير بالجسد ولكنه يغني كثيرين، أفلم يكن أهلاً للبركة التي تغنيه بالجسد هو شخصيًّا؟!!! ولكن الغنى موطنه الروح التي تسحب الجسد والنفس إلى بلدة الله وهناك تستعلن المشيئة الإلهيّة لأحداث العالم وخطوبه التي تحيّر النفس وتجعلها تدور في دائرة الـ“لماذا؟؟” عوضًا عن الـ“أمين”.
ومن يطالع تاريخ الكنيسة الأولى يجد أنّ الاضطهاد كان سمت واضح لها. أفلم تكن خاضعة لمخلِّصها فكان الألم عقوبته لها؟!!
جناح الهيكل الملطّخ بدماء يعقوب أخي الربّ، وطرقات أورشليم الملطّخة بدماء إستفانوس، وكذلك أرضيّة مجمع اليهود الملطّخة بدماء الرسل المجلودين، كلّها تصرخ أنّهم كانوا يقدمون ذبائح حبٍّ وشكر لم يحسبوا أنفسوا مؤهّلين لها؛ فالألم لا يصير ألمًا لتابعي يسوع بل أملاً في عناق حار طوال الأبد.
ألم يلتقي تلاميذ يسوع مسيحهم ملطّخين بالدماء ما عدا يوحنّا؛ أكانوا تحت وطأة انتقام إلهي؟!!
إنّ الحبّ إن لم يصر ذبائحي فلا يستحق أن يُدعى حبًّا.
وماذا عن سراديب روما التي استوطنها مسيحيو روما في جوعٍ وعطش وعري وملاحقة من قبل السلطات طوال عقود، أكانت غضبًا يحجب البركة أم بركة تحمل النعمة؟!!
ألم يعلن المسيح صراحة: “اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ سَتَبْكُونَ وَتَنُوحُونَ وَالْعَالَمُ يَفْرَحُ. أَنْتُمْ سَتَحْزَنُونَ وَلَكِنَّ حُزْنَكُمْ يَتَحَوَّلُ إِلَى فَرَحٍ” (يو 16: 20)
هذا التصريح يقوض دعاوى الرخاء المزعوم فنحن لسنا في تناغم مع قيم العالم؛ لأن أفراح العالم ليست أفراحنا، وأفراحنا ليست سوى شوكة لمنطق العالم العقيم. سنحزن ولكن هذا الحزن سيتحوّل إلى فرح وقيامة وسكنى دائمة.. على هذا الرجاء يحيا المسيحي..
ويطالعنا القديس يعقوب بتصريحٍ لا يحمل مواربة، إذ يكتب “اسْمَعُوا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، أَمَا اخْتَارَ اللَّهُ فُقَرَاءَ هَذَا الْعَالَمِ أَغْنِيَاءَ فِي الإِيمَانِ، وَوَرَثَةَ الْمَلَكُوتِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ؟” (يع 2: 5). من تلك الكلمات تتضّح المقاربة ما بين غنىً وفقر؛ فالفقر فيما للعالم من متع وقنيةٍ بينما الغنى هنا في الإيمان. إذًا فإن إمكانيّة تحقُّق معادلة الفقير فيما للعالم / الغني فيما لله تقوِّض الدعوى أيضًا بربط البركة ببحبوحة العيش.
جاءت كلمة الفقراء في اليونانيّة: πτωχός (بحسب Friberg Lexicon) وهي تعني من يعتمد على آخرين من أجل الدعم one dependent on others for support. هذا الفقير فيما للعالم لم يختاره الله ليصبح غنيًّا فيما للعالم، لم يقل الرسول هذا، ولكن ليصير غنيًّا πλουσίους في الإيمان ἐν πίστει ؛ فحيثما يكون الكنز هناك القلب يكون كما تحدّث المسيح من قبل. كنز المسيحي مرتكز في الأبديّة وإليها يتطلّع قلب المسيحي ويتحرّك. وحينما يغتني المسيحي بإيمانٍ حيٍّ يتأهل ليرث ملكًا معدًّا في المسيح عن يمين الآب.
لهذا نصلي مسبحين الله قائلين (تسبحة نصف الليل / أبصالية الأربعاء):
إن كنا معوزين من أمول هذا العالم
وليس لنا شيء لكي نعطيه صدقة.
فلنا الجوهرة اللؤلؤة الكثيرة الثمن
الاسم الحلو المملوء مجدًا الذي لربنا يسوع المسيح.
إذا ما لازمناه في إنساننا الداخلي
فهو يجعلنا أغنياء حتى نعطي آخرين
ويكتب القديس كليمندس السكندري في كتابه المربّي (2. 3. 38)، فيقول: “إنّ الثراء غير المنضبط هو معقل للشرّ، والذين تتعلّق أعينهم به ويشتهونه لن يدخلوا أبدًا ملكوت السماوات لأنّهم يسمحون لأنفسهم بأن تلوَّث بما للعالم إذ يحيون بافتخارٍ وترفٍ.. الغنى الحقيقي هو الفقر في الرغبات، والنُبل الحقيقي ليس في الثراء ولكن ما يأتي من ازدرائه..”
ويقدّم لنا القديس بولس نفس المقاربة ما بين الفقر والغنى حينما يقول: “كَحَزَانَى وَنَحْنُ دَائِماً فَرِحُونَ. كَفُقَرَاءَ وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ. كَأَنْ لاَ شَيْءَ لَنَا وَنَحْنُ نَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ” (2كو 6: 10). هنا يضع لنا فقرًا في مقابل الغنَى، عدم ملكية وفي نفس الوقت امتلاك كلّ شيْ πάντα κατέχοντες!!! (امتلاك الكلّ)..
ويبدو من الكلمات أنه كيف يكون فقيرًا ويغني كثيرين إن كان يتحدّث عن فقر مادي وغنى مادي في نفس الوقت؟؟؟ هل حُرم القديس بولس من البركة، وفي نفس الوقت أُعطي القدرة لكي يهبها لآخرين؟!! فلو كان الأمر هكذا تكون هناك إمكانيّة لنوال البركة وأنت فقير تمامًا كبولس، الأمر الذي يجتث دعاوى ضرورة ارتباط البركة بالغنى. ولكن الكلمات لها مفهوم آخر غير تلك الرؤى السطحيّة التلفيقيّة لخدمة أغراض دعائيّة ماديّة لا تؤهِّل لملكوت ابن الله.
ولو كانت الكلمات هنا عن غنى مادي وملكية مادّية فإن كلمة نملك كلّ شيء تبدو محيّرة للغاية!! فهل نحن مدعوون كمسيحيين لنملك كلّ شيء مادي في العالم، أين ومتى تحقّق ذلك مع أي مسيحي في أي عصرٍ؟!!
الكلمات تقول لنا إن المسيح جاء ليدعو من يراهم الناس بلا إمكانيات ليهبهم إمكانيات فائقة حتى يكون المجد النهائي مقدّمًا لله. ألم يحارب مع جدعون بثلاثمائة رجل فقط وانتصر جدعون فكان المجد ليهوه العليّ؛ فَقَالَ الرَّبُّ لِجِدْعُونَ: «بِالثَّلاَثِ مِئَةِ الرَّجُلِ الَّذِينَ وَلَغُوا أُخَلِّصُكُمْ وَأَدْفَعُ الْمِدْيَانِيِّينَ لِيَدِكَ. وَأَمَّا سَائِرُ الشَّعْبِ فَلْيَذْهَبُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَكَانِهِ» (قض 7: 7)
هذا ما يريده الله أن يدرك الإنسان أنه غناه ومعارفه وملكاته لن تؤهِّله لنوال الروح واتّباع السيّد إلى مائدته المعدّة، بل بالحري طرح كلّ معرفة وغنى وقدرات خاصّة ومواهب تحت أقدامه والاعتراف بالفقر أمام عظم الدعوة، وقتها يهب الروح لعون الإنسان ولدفعه لإتمام أعمال بحسب مشيئة الله دونما افتخار العمل ودونما خمول استنادًا على نعمة فوقيّة.
عند القديس أغسطينوس “كلّ شي” تعني: “الحياة الدائمة في العالم الآتي” (الرسالة 157 إلى هيلاريوس Hilarius).
مع المسيح نحن نملك كلّ شيء؛ فالروح يفحص كلّ شيء حتى أعمق الله.. والروحي يحكم في كل شيء ولا يحكم فيه من أحد كما كتب القديس بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس وفي الإصحاح الثاني.
أين إنجيل الرخاء والرّاحة من كلمات القديس بولس: “إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ نَجُوعُ وَنَعْطَشُ وَنَعْرَى وَنُلْكَمُ وَلَيْسَ لَنَا إِقَامَةٌ. وَنَتْعَبُ عَامِلِينَ بِأَيْدِينَا. نُشْتَمُ فَنُبَارِكُ. نُضْطَهَدُ فَنَحْتَمِلُ. يُفْتَرَى عَلَيْنَا فَنَعِظُ. صِرْنَا كَأَقْذَارِ الْعَالَمِ وَوَسَخِ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى الآنَ.” (1كو4: 11-13). إنّ الكلمة المحوريّة في هذا الحديث هي: “إلى هذه الساعة Αχρι τῆς ἄρτι ὥρας” فهل كان القديس بولس مرفوضًا من الله لذا كان يجوع ويعطش ويلكم ويعرى بل ويصير كأقذار العالم ووسخ كلّ شيءٍ!!!
ليس هذا فقط بل في رسالته الثانية إلى الكورنثيين يضع حجر زاوية لرسوليّته وتكريسه بحسب مشيئة الله مستندًا على ما ناله من الألم بل وما يحيا يوميًّا من آلامات من أجل نشر كلمة الله عبر البلدان المختلفة، إذ يكتب: “أَهُمْ خُدَّامُ الْمَسِيحِ؟ أَقُولُ كَمُخْتَلِّ الْعَقْلِ: فَأَنَا أَفْضَلُ. فِي الأَتْعَابِ أَكْثَرُ. فِي الضَّرَبَاتِ أَوْفَرُ. فِي السُّجُونِ أَكْثَرُ. فِي الْمِيتَاتِ مِرَاراً كَثِيرَةً. مِنَ الْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِالْعِصِيِّ. مَرَّةً رُجِمْتُ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفِينَةُ. لَيْلاً وَنَهَار اًقَضَيْتُ فِي الْعُمْقِ. بِأَسْفَارٍ مِرَاراً كَثِيرَةً. بِأَخْطَارِ سُيُولٍ. بِأَخْطَارِ لُصُوصٍ. بِأَخْطَارٍ مِنْ جِنْسِي. بِأَخْطَارٍ مِنَ الأُمَمِ. بِأَخْطَارٍ فِي الْمَدِينَةِ. بِأَخْطَارٍ فِي الْبَرِّيَّةِ. بِأَخْطَارٍ فِي الْبَحْرِ. بِأَخْطَارٍ مِنْ إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ. فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ. فِي أَسْهَارٍ مِرَاراً كَثِيرَةً. فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ. فِي أَصْوَامٍ مِرَاراً كَثِيرَةً. فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ.” (2كو 11: 23-27).
كيف يستقيم التعب والأخطار والجوع والعطش والصوم والبرد والعري والضرب والرجم والجلد وانكسار السفينة، على مفهوم إنجيل الرخاء المنحول؟!!!
ويعلّق القديس مكاريوس الكبير على تلك الأتعاب الرسوليّة فيقول: “لقد كُتِب هذا في الحقيقة لكي نتشبّه بهم نحن أيضًا، لذلك فعندما تُهانون ويُفتَرى عليكم أو تُضرَبون فعليكم أن تضعوا في قلوبكم أنكم قد اكتسبتم فوائد عظيمة، وأنكم صرتم شركاء ورفقاء للرسل والشهداء القديسين وأنه عليكم أن تنتظروا ما هو أردأ لكي تربحوا أكثر. وهذا هو الذي لأجله ينبغي على المسيحيين أن يُثابروا لكي يُعتَرَف بهم كتلاميذ لأولئك الذين اشتهروا بذلك”.
وفي نفس السياق يؤكِّد القديس بطرس غير مرّةٍ على الألم الذي يقود للمجد فيقول:” لأَنَّ هَذَا فَضْلٌ إِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَجْلِ ضَمِيرٍ نَحْوَ اللهِ يَحْتَمِلُ أَحْزَاناً مُتَأَلِّماً بِالظُّلْمِ. لأَنَّهُ أَيُّ مَجْدٍ هُوَ إِنْ كُنْتُمْ تُلْطَمُونَ مُخْطِئِينَ فَتَصْبِرُونَ؟ بَلْ إِنْ كُنْتُمْ تَتَأَلَّمُونَ عَامِلِينَ الْخَيْرَ فَتَصْبِرُونَ، فَهَذَا فَضْلٌ عِنْدَ اللهِ.” (1بط2: 19 - 20).
ويؤكِّد القديس بطرس على مبدأ الشركة في آلام المسيح كأنه بديهة مسيحيّة، لذا يدعو الكنيسة ألاّ تتعجّب إن طالتها نيران الاضطهاد وكأنّه أمرٌ غريب عن المشيئة الإلهيّة. فالألم إن كان من أجل الخير ومختومًا بختم الخضوع للمسيح كسيّد أوحد ونبع أوحد للمسيرة الإنسانيّة نحو الله، يكون ألم المجد ويتحوّل إلى بهجة فائقة وإشراقة مجد فائق الحسن يوم استعلان يسوع المسيح؛” أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لاَ تَسْتَغْرِبُوا الْبَلْوَى (التجربة) الْمُحْرِقَةَ الَّتِي بَيْنَكُمْ حَادِثَةٌ، لأَجْلِ امْتِحَانِكُمْ، كَأَنَّهُ أَصَابَكُمْ أَمْرٌ غَرِيبٌ، بَلْ كَمَا اشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ الْمَسِيحِ افْرَحُوا لِكَيْ تَفْرَحُوا فِي اسْتِعْلاَنِ مَجْدِهِ أَيْضاً مُبْتَهِجِينَ. إِنْ عُيِّرْتُمْ بِاسْمِ الْمَسِيحِ فَطُوبَى لَكُمْ، لأَنَّ رُوحَ الْمَجْدِ وَاللهِ يَحِلُّ عَلَيْكُمْ. أَمَّا مِنْ جِهَتِهِمْ فَيُجَدَّفُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَتِكُمْ فَيُمَجَّدُ. فَلاَ يَتَأَلَّمْ أَحَدُكُمْ كَقَاتِلٍ، أَوْ سَارِقٍ، أَوْ فَاعِلِ شَرٍّ، أَوْ مُتَدَاخِلٍ فِي أُمُورِ غَيْرِهِ. وَلَكِنْ إِنْ كَانَ كَمَسِيحِيٍّ فَلاَ يَخْجَلْ، بَلْ يُمَجِّدُ اللهَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.” (1بط4: 12-16)
وفي سفر الرؤيا نجد يوحنّا يرسم بقلمه المشهد السمائي الذي رآه، فيقول:
“هَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ أَتُوا مِنَ الضِّيقَةِ الْعَظِيمَةِ، وَقَدْ غَسَّلُوا ثِيَابَهُمْ وَبَيَّضُوهَا فِي دَمِ الْحَمَلِ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ هُمْ أَمَامَ عَرْشِ اللهِ وَيَخْدِمُونَهُ نَهَاراً وَلَيْلاً فِي هَيْكَلِهِ، وَالْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ يَحِلُّ فَوْقَهُمْ. لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ وَلاَ تَقَعُ عَلَيْهِمِ الشَّمْسُ وَلاَ شَيْءٌ مِنَ الْحَرِّ. لأَنَّ الْحَمَلَ الَّذِي فِي وَسَطِ الْعَرْشِ يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إِلَى يَنَابِيعِ مَاءٍ حَيَّةٍ، وَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ” (رؤ7: 14-17).
ما هي الضيقة العظيمةτῆς θλίψεως τῆς μεγάλης (الضيقة هنا بحسب الكلمة اليوناني تشير إلى الانضغاط والمعاناة والألم بل وأحيانًا الإحباط distress) إن كانت حياة أبناء الله رخاءً ورغدًا في العيش؟؟ وكيف نفهم” لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ” إن كانوا شباعى في العالم؟!!! لماذا هذا الإعلان بعدم وجود الجوع والعطش في الأبديّة إن لم تكن تلك إشكاليّة لأولاد الله في العالم؟؟!! كثير من علامات الاستفهام والتعجُّب تظهر أن من يقرون تلك المفاهيم لم يكلّفوا أنفسهم عناء قراءة الإنجيل بخضوع لمنطق الثالوث، لا منطق العالم الموضوع في الشرير.
وأخيرًا يناجينا القديس يوحنّا الذهبي الفم، قائلاً:
فلنتخل عن محبّة الثروة
بل ولنخمد رغبتنا فيها
حتى نستطيع أن نضرم بداخلنا الرغبة فيما هو أبدي
إنها الغلبة التي دعانا المسيح لها..
قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سلاَمٌ.
فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ
وَلَكِنْ ثِقُوا:
أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ
(يو 16: 33)
_____
الحواشي والمراجع :

(1) Robert Tilton, God’s Word about Prosperity (Dallas, TX: Word of Faith Publications, 1983
  رد مع اقتباس
قديم 26 - 06 - 2014, 02:21 PM   رقم المشاركة : ( 70 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,300,316

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

كلمة الكرازة والوعي الإفخارستي
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

إنّ كلمة الكرازة التي تصرخ بها الكنيسة ليل نهار من كلّ فم أمين ومخلص يطلق النور وسط عالم لفّه الظلمة هي فعل يسعى ويأمل ويتطلّع لتحرير القلوب والعقول من ربقة ظلمة الموت إلى سعة الحياة في النور. فالكلمة تبشّر بغنى المسيح الذي لا يستقصى (أف3: 8) وبخزائن حبٍّ مشرعة الأبواب وبأحضان أبوة لا تنغلق وبفرحٍ أبدي لا ينتهي. هذا الغنى يأتي فعله الأوّل في أنه يُشعِر الفقير بفقره والمريض بمرضه والمحتضر بموته والأعمى بظلمته.. فإن لم تدرك البشريّة نقصانها فستحيا في غيبوبة الغنى الزائف والفرح المصطنع والظلمة المقنّعة بأوشحة تبدو وكأنّها من نور.
يقول تولستوي (في اعترافاته) بلسان البشريّة التائهة، التي لا ترى لها مكانًا في أُفق الوجود:
في بحثي عن إجابات حول أسئلة الحياة،
اختبرت بالضبط ما يشعر به رجلٌ تائهٌ في غابةٍ،
يصل إلى قفرٍ، يتسلّق شجرة، ويرى بوضوح المسافة اللاّمحدودة،
ولكنه يرى أن بيته ليس هناك ولا يمكن أن يكون هناك،
ثم يدخل في الغابة المظلمة ويرى الظلام،
ولكن بيته ليس هناك أيضًا!!
البشريّة تائهة ولكنّها تكرز بتيهها وكأنّه الطريق!! لقد زيّنته وكأنّه الدار الختاميّة!!! تتحرّك نحو جرف الوجود الزائل وهي لا تدرك مصيرها المختوم بالفناء وتتغنّى بأمانها ومسيرتها المزعومة! تتبنّى الروح الساخرة التي لاقتها دعوة نوح المناديّة في أهل مدينته بالنجاة من المصير المحتوم والمياه المنهمرة لطمس معالم الإثم والشر في عالمٍ أحبّ الظملة كظلّه الظليل. لم ييأس نوح من المناداة فقد صمدت دعوته أمام السخريّة سنين طوال، فأمام هزأ وسخرية المحتضر علينا أن نصمد في الحبّ ولا ننفض غبار أرجلنا.. أمام الموت علينا ألاّ نعبأ بشيء حتى بكرامتنا إن كان من أجل حياة العالم.
لقد جاء المسيح من أجل أولئك الذين ضلُّوا الطريق إلى إنسانيّتهم واستوطنوا قفار الرغبات والملذّات والطموح الزمني. جاء إليهم لا ليرشدهم إلى منزلٍ مقرّه من تراب الأرض وحجارته ولكن إلى منزلٍ يؤسِّسه هو في قلوبهم من ذبائح الحبّ ومحرقات الخضوع وتقدمات الوداعة واللّطف.
يتعثّر الكثيرون في فهم عقائدنا الإيمانيّة التي تتحدّى العقل بحقٍّ، ولكن هل من فهم لله دونما حبٍّ أو إرهاصات حبٍّ أو أشواق حبٍّ أو حتى أنين من البغضة؟؟ لا كرازة مسيحيّة دونما قوّة حبّ فاعلة من أجل الآخرين وإن نالت كلّ علوم الجدل ومعارف الإقناع. العالم يريد أن يرى فينا قوّة يسوع وحبّه.
هنا السؤال لنا: كيف لنا أن نعكس إشراقته كنور باهر تغرق فيه تساؤلات العالم وتتساقط كما لحبّات الزيتون الناضجة من على أغصان الشجر.
قالها المسيح وأعلنها غير مرّةٍ (انظر يو14: 23) أنّ من يحفظ كلمته دلّل على محبّته وناداه بالحبّ مع أبيه ليصنع منزلاً وليرفع منزلته إلى مصاف الأبناء في بيت أبيهم. وقتها لا يصبح الثالوث عسر الفهم ولا غامضًا لأنّه أصبح مستعلن في علاقة ومختبر في سكنى.
حركة يسوع في عالمنا إن هي إلاّ تأكيدٍ للبشرية عن عِظم الكيان الإنساني الذي يحمل إمكانيّة التلامس مع الأبدية في القلب الذي يسكنه هو بالروح ليُكرِّس منه معبدًا لمجد الآب وحمده؛ إذ “صنع الكل حسنًا في وقته وأيضًا جعل الأبديّة في قلبهم” (جا 3: 11).
فحضور الأبديّة في العالم وكثافة فعلها له علاقة مباشرة بكمّ القلوب التي قبلت قرعات المخلِّص واستقبلته ليسكن ويُحضِّر مائدة العشاء الإلهي.. إنّ علينا مسؤوليّة كبيرة من نحو العالم، أنّ نكثّف من قوّة النور بقبوله فينا لنصير الكنيسة ليل نهار.
كلمة الكرازة هي إنارة للذهن البشري بالسر المكتوم منذ الدهور (أف 3: 9) والذي صار معلنًا لنا في وجه يسوع هذا السرُّ الذي وُضِع في قلب البشريّة بعد السقوط، كوعد، ليكون رجاءها المتجدِّد، ولكنه ظل حبيس الظلمات حتى جاء المسيح نور العالم ليكشف لنا عنه في ذاته. إنّ الوسيلة لنا لاستقبال / إعلان السر هي الدخول في شركة جسده الممتد عبر العصور والدهور حتى يحركنا كرأس قد انتصر على العالم مرّة واحدة وإلى الأبد. إحدى وسائلنا الأساسيّة بل والمحوريّة للثبات في الجسد الإلهي أن يكون لنا شركة في جسده القرباني ودمه الكرمي لننال قوّة وعون لقبول النور وإطلاقه.
ولكن علينا أن ندرك أنّ علاقتنا بمسيح الإفخارستيا، إن لم تطلق فينا قوّة إعلان السرّ كما استعلن لنا بالشركة في جسده ودمه الحقيقيين، تبقى علاقة منقوصة؛ فالمسيح أطلق كنيسته لتعلن اسمه بين الأمم وتريهم نوره، فإن كانت لنا شركة معه تصل إلى حد الاتحاد بجسده لنصِر بحق لحم من لحمه وعظم من عظامه فكيف لا نحقّق شهوة قلبه من جهة العالم.
نحن لا نتحد بالمسيح لأنفسنا، لننقطع عن الجسد المتحرّك في العالم بل لنجدد علاقتنا بالجسد وتأثيره في العالم. كلّ مرة نشترك فيها في جسد ودم المُخلِّص في خشوع الحضرة الإلهيّة الفائقة ونخرج من دون وعي متجدّد من نحو العالم وأحشاء متمخضة بالعالم وقلب منسكب من أجل العالم ندلّل على أننا لم نلقاه بالحقّ ولم نتّحد به بالحقّ، بل كان حضورنا وشركتنا كما لقوم عادة دون انسكاب قوة الابن على حياتنا.. الإفخارستيا قوّة إطلاق لا انحسار.. حينما نحصرها في ذواتنا نفقد القوّة لتوبتنا ومن ثمّ توبة العالم..
  رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
نحتفي بك،، أبونا الراهب سارافيم البرموسي
- قام لنقوم.. مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
العبث بالعقول ( أبونا الراهب سارافيم البرموسي )
اللاّوعي والإدانة (أبونا الراهب سارافيم البرموسي)
ميلاديات أبونا الراهب سارافيم البرموسي


الساعة الآن 02:34 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025