منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 18 - 09 - 2014, 02:02 PM   رقم المشاركة : ( 6191 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,056

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

التواضع الحقيقي والتواضع المُزيف _ البابا كيرلس السادس

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

لو تأملنا يا أحبائي في قول السيد المسيح له المجد لتلاميذه:
"من أراد أن يكون أولاً فيكون آخر الكل وخادما للكل"،
لأدركنا في الحال أنه يطلب منا أن نتواضع.
لأن ليس محبوب عنده مثل الإنسان المتضع.
لأن التواضع أفضل من كل شيء.

ألم يقل السيد له المجد: "تعلموا مني فإني وديع ومتواضع .. فتجدوا راحة لنفوسكم". ولم يقل تعلموا مني الصوم والصلاة والرحمة، وأمثال هذه، لأن كل هذه الفضائل بدون التواضع لا تحسب شيئاً.

قال داود النبي: القلب المتخشع المتواضع لا يرذله الله.
وقال: اتضعت فخلصني.
وأبضاً: أنظر إلى تواضعي وخلصني.
فإذا كانت الكبرياء أشر الرذائل فيكون التواضع أعظم الفضائل.
الأسرار تنكشف للمتضعين.

فإذا كانت الكبرياء أسقطت طغمة من الملائكة مع رئيسهم من السماء، فالتواضع وحده قادر أن يرفع بني البشر إلى السماء.

وأمامنا صورة واضحة تبين لنا التواضع الحقيقي وهو بولس الرسول الذي نال من المواهب ما يعجز اللسان عن وصفه، الذي يذكر عنه الكتاب أنه لم يحسب نفسه مستحقاً أن يكون تلميذاً. ويعتبر نفسه كالسقط الذي لا يرى الحياة. يقول عن نفسه أنه أصغر جميع الرسل. "وأنا ما أنا ولكن نعمته التي تعمل فيَّ"، وقول الرب له:"إن نعمتي في الضعف تكمل". هذا هو التواضع الحقيقي.

وأيضاً داود الذي كان ملكاً عظيماً محبوباً من الله، اختاره الرب، وقال: وجدت داود عبدي حسب قلبي. كان يقول عن نفسه إنه "كلب ميت"، و"برغوث"، هذا الذي لما شُتِم، وقُذِف بالحجارة وذري بالتراب، وأراد أحد رجاله أن يفتك بذلك الشخص منعه داود وقال: "دعوه يشتم لعل الله ينظر إلى تواضعي ويرحمني". هذه صورة حقيقية للتواضع.

أما التواضع المُزيف فإن صاحبه يتظاهر به، ولكن إذا حصل له أي إهانة أو احتقره أحد فإنه يغضب ويصير كأسد زائر. هذا التواضع المُزيف الذي كان يتظاهر ينقلب في الحال، ويغضب، ويتفوه بكلام لا يليق مثال أبشالوم بن داود الذي أراد أن يأخذ الملك من أبيه. كان يتظاهر بالتواضع، وعندما كان أحد يأتي للسلام عليه، كان يقوم ويقبله كأنه يقول للشعب: لو كنت مكان أبي لعملت لكم كل الخير. وأنصفت المظلوم، وغير هذه الكلمات. فكانت آخرته شر، حمانا الله.
 
قديم 18 - 09 - 2014, 02:04 PM   رقم المشاركة : ( 6192 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,056

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

كيف أحيا طاهرا ؟؟
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
هذا السؤال الذي يطرح نفسه بشدة... كيف يمكن للشاب المسيحي أن يحفظ عفته وطهارة جسده ونقاوة فكرة وقلبه، والجو العام المحيط به ملوث بكل ما هو مثير للنجاسة ومشجع للسقوط؟

الإجابة هي:

بدوني لا تقدروا أن تفعلوا شيئًا...

أسألوا تعطوا. أطلبوا تجدوا. أقرعوا يفتح لكم...

أرسل لكم الروح القدس المعزي... وهذا

يأخذ مما لي ويخبركم...

فبادئ ذي بدء إن حياة المؤمن معجزة، وبدون المعجزة لا يمكن تفسير الحياة المسيحية الطاهرة الحقة... الله وحده هو القادر أن يصنع المعجزة، ولكن للذين
يطلبونه من كل قلوبهم.

والروح القدس وحده هو الذي يمنح القوة، ويعطي الإلهام، ويهّون المعاناة، ويسند في الضيق، ويحمي وقت التجربة، ويقيم ويعزي ساعة السقوط.

من هذا المنطلق تبدو أهمية الحياة الروحية... إن يوحنا الدرجي يقول "العفة هي مقابلة عشق بعشق" أعني مواجهة العشق الجسدي بالحب الإلهي، فأولئك الذين يشبعون، ويتعزون بعمل النعمة هم وحدهم الذين يجدون للعزلة والفراغ حلًا وللشهوة سموًا وعلوًا.


الأنبا بيمن
 
قديم 18 - 09 - 2014, 02:06 PM   رقم المشاركة : ( 6193 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,056

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

طاقات وطباع وغرائز
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
لقداسه البابا شنودة الثالث

من طاقات الإنسان: العقل والروح والنَّفس والضمير والإرادة والحواس. وهى تختلف من شخص إلى آخر. بالإضافة إلى ما يمنحه اللَّه من مواهب لكل فرد على حدةٍ. وهذه الطاقات والمواهب قابلة للنمو. أو على الأقل نكتشف قدراتها بالزمن والاحتياج.


العقل مثلًا: نحن لم نكتشف بعد كل قدراته. هل كانت الأجيال السابقة تصدق أنه يمكن للعقل البشري أن يخترع سفن الفضاء التي توصل الإنسان إلى القمر فيمشي على سطحه؟! كما يخترع أقمارًا صناعية تجول حول العالم، تجمع أخبارًا وترسل صورًا!! ومَن كان يتصوَّر أنه كان يمكن للعقل أن يُقدِّم للبشرية كل الاختراعات الحالية في مجال الطب والهندسة وسائر العلوم؟! مثل الكومبيوتر والـ mobile phone، وإمكانية عمل جراحة للجنين في بطن أمه؟! وما زلنا نرى نموًا واضحًا لطاقات العقل تظهر عمليًا...


وروح الإنسان أيضًا لها طاقات عجيبة لم يدركها كل الناس. فهم لم يكتشفوها لأنهم لم يستخدموها، ولم يدخلوا في التداريب التي تنشط الروح وتفسح لها مجال انطلاقها الطبيعي. وإننا عندما نقرأ عن التداريب الروحية التي تجريها جماعات من الهندوس واليوجا، وما وصلوا إليه من نتائج، نرى عجبًا..! إنها ليست معجزات ولا قدرات غير طبيعية. بل هي الطاقة الطبيعية للروح، يكتشفها مَن يحيا بالروح، ومَن يستخدم الروح ويهتم بها...


هناك أيضًا طاقات للحواس لم نستخدمها كلها. وذلك لعدم شعورنا بالاحتياج إليها. فهي طاقات تظل كامنة إلى أن تظهر حينما تفقد حاسة مُعيَّنة، فنستعيض عنها بتنشيط حواس أخرى بديلة.

فإنسان مثلًا فقد بصره، ويحاول أن يستعيض عنه بالسمع وباللمس ورُبَّما بالشَّم أيضًا، فتقوى كل هذه الحواس، ويكتشف قدرات لها لم تكن متاحة له من قبل. ولكنها ظهرت لأنه أخذ يُدرِّب هذه الحواس تدريبًا دقيقًا لتكون له أبوابًا للمعرفة بدلًا من النظر الذي فقده. ولم تكن هكذا من قبل، بل كانت كامنة غير ظاهرة في حالة عدم استخدامها... كما نلاحظ أيضًا أن الذي فقد بصره، تقوى ذاكرته، لأنه يستخدمها أكثر من ذي قبل، إذ أن القراءة لم تعد متاحة له. وحتى هذه القراءة نراه يستعيض عنها بطريقة برايل، بتقوية حاسة اللمس.


إنَّ الإنسان الكامل: في كمال عقله، وكمال روحه، وكمال حواسه كلها، لم يُوجد بعد في أي إنسان عادي... وطاقات كل شخص كما تحتاج إلى تداريب لتنمية قدراتها، تحتاج إلى تداريب أخرى حتى لا تضعف بعدم الاستخدام.


علينا مثلًا أن نُنمِّي العقل والذاكرة وملكات التفكير التي لنا. وننمي قدراتنا على التفكير السليم والاستنتاج وحل المشاكل. فالمسائل الرياضية والتمارين الهندسية التي كنا ندرسها في المدارس، لم تكن لمُجرَّد العلم أو للتخصُّص في الرياضيات، إنما كانت لها فائدة أخرى في تدريب العقل على التفكير.

مَثَل آخر لهذا التدريب، هو اثنان يلعبان الشطرنج وكل منهما صامت يُفكِّر: ما هي الخطوة التي سيلعبها زميله، وكيف يرد عليها؟ وماذا سيكون رد زميله على رده؟ وكيف يتصرَّف وقتذاك؟ وكيف يمكنه أن يُعرقل خططه؟ وكيف تكون له هو خطط غير مكشوفة توصّله إلى النتيجة المطلوبة ولو بعد مراحل؟ إنه أيضًا تدريب على الذكاء، وليس مُجرَّد لعبة شطرنج للتسلية وقضاء الوقت...

وما أكثر تداريب الذكاء وتنمية التفكير: الألغاز أيضًا وحلّها والمسابقات، كلها تداريب على التفكير. كذلك يمكنك أن تُنمِّي موهبة التفكير في محيط أسرتك وسط أولادك. وعلّمهم أن يواجهوا أيَّة مشكلة بالتفكير وفي غير اضطراب. وفي الحياة العملية توجد تداريب على الحكمة وحُسن التَّصرُّف، أو تنمية الفكر عن طريق المشورة والانتفاع بخبرات الآخرين.

الضمير أيضًا يحتاج إلى تنمية. ذلك لأنه يوجد ثلاثة أنواع من الضمائر. منها الضمير الواسع الذي يتساهل مع كثير من الأخطاء، ويُسمِّيها الأخطاء الصغيرة أو البسيطة، فيُمرِّرها ويُبرِّرها!! وهناك الضمير الضيق الذي يظن الخطأ حيث لا يوجد خطأ، أو أنه يضخِّم من قيمة بعض الأخطاء. أمَّا أنت فليكن لك الضمير الصالح، الذي يتميَّز بالفهم السليم، ويعرف كيف يُميِّز بين الخير والشر، وبين ما يجوز وما يليق. ويزن الأمور بميزان دقيق، بلا إفراط ولا تفريط.

ويأتي هذا بالتعلم على ثقاة من المتعمقين في علوم الدين والاجتماع والأخلاق، وداوم التأمل بعمق في كلام اللَّه وفي سِيَر الناس الأبرار المشهود لهم، وكذلك بالتأثُّر بالقدوة الصالحة.


معارف الإنسان أيضًا تحتاج إلى تنمية، غير النمو الطبيعي في المعرفة خلال مراحل العمر. والذي يهتم بنموه في المعرفة يصير مُثقَّفًا ويستطيع أن يكون عضوًا نافعًا في المجتمع. والمعرفة تُغذِّي عقله، وتُغذِّي ضميره، وتقوِّم طباعه، وتدفعه إلى السلوك الصالح. كما أنَّ المعرفة تساعده في طريق الحكمة وحُسن التَّصرُّف، والنجاح في التعامل مع الناس. وإذ نما في المعرفة وفي الخبرة، قد يصل إلى القدرة على الإرشاد وقيادة الغير...

إنَّ حياة الإنسان بكل طاقاتها وزنة سلَّمه اللَّه إيَّاها لكي يعتني بها. لذلك يلزمه أن يُنمِّي شخصيته بصفة عامة لتتحوَّل إلى شخصية قوية سوية، سواء في العقل أو الضمير أو المعرفة أو السلوك، أو النفسية السوية، والحكمة في الحكم على سائر الأمور.

فلا تترك شخصيتك إذن، دون ضابط ودون اهتمام ودون نمو...

الجسد أيضًا طاقة وهبها اللَّه للإنسان، فهو الجهاز التنفيذي لكل القرارات التي تصدر عن العقل أو الروح أو الإرادة أو الضمير...

وما أسهل أن تؤثِّر أمراض الجسد على النَّفس، فتجلب لها ألوانًا من الألم أو الحزن أو الضيق أو التَّذمُّر. . وبعض الناس قد يصلون إلى درجات من الانهيار النفسي بسبب أمراض أجسادهم، أو يصابون بالكآبة والقلق والحيرة بسبب ما تتعرَّض له صحة الجسد من اضطرابات...

كذلك شهوات الجسد تؤثِّر على الضمير وعلى الإرادة، وتحاول أن تستخدم طاقات العقل لتحقيق أغراضها. كما أنَّ شهوة الجسد قد تستأثر الفكر تمامًا، فلا يدور إلاَّ في فلكها. وإذا سيطرت فإنها تضعف الروح وتبطل صلتها باللَّه.

لهذا كله ينبغي حفظ التوازن بين طاقات الإنسان فتتعاون معًا وتتكامل. ولا يصح أن يوجد تناقض أو تنافس بين الطاقات يؤدِّي إلى صراع داخلي وانقسام في الشخصية. كما قال أحدهم: "كنت أصارع نفسي وأجاهد، وكأنني اثنان في واحد. هذا يدفعني، وذاك يمنعني"!! نعم ما أسهل أن تتصارع الطاقات: فالجسد يشتهي ضد الروح. والروح ضد الجسد. أو النفس ضد الضمير. أو العقل ضد الإرادة..!

بينما الإنسان السليم السَّوي لا يوجد فيه مثل هذا الصراع. ولا تحاول إحدى طاقاته أن تُسيطر على باقي الطاقات أو بعضها.

أخيرًا: ألا ترى معي يا قارئي العزيز أن موضوعنا هذا يحتاج إلى تكملة، لنتحدَّث عن الطباع والغرائز والمواهب. فإلى لقاء
 
قديم 18 - 09 - 2014, 02:13 PM   رقم المشاركة : ( 6194 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,056

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

+ مقومات الفطنة المسيحية +

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة



أولاً وقبل كل شيء، واعتماداً على أهمية الأمر وتعقيده، على الإنسان أن يفكر في الوسائل المختلفة لبلوغ غايته أو الطرق المختلفة للقيام بعمل. وفي هذه النقطة يحتاج الإنسان معرفة مبادئ ومعايير العمل وفي نفس الوقت المقدرة على ربط هذه المبادئ إلى القضية قيد البحث، بكل ظروفها الواقعية. وعندما يتروى في الأمر يصدر الحكم على طريقة العمل اللائقة في هذه القضية بالذات. وأخيراً تعطي الإرادة الأمر لتنفيذ القرار. لذا تقوم الفِطنة على:
1) التفكير الرصين أو التروي:
أي النظر إلى الأمور كما هي وتفهم ظروفها على ضوء المبادئ الأدبية. الإنسان المسيحي الفطن يفكر برصانة تفكيراً جدياً في أموره وطرقه وكيفية تطبيق تعاليم المسيح في حياته. فيستفيد أولاً من خبرة الأجيال السالفة ثم من خبرته الذاتية. فيحذر السقوط في أخطاء وأغلاط من سبقوه، ويتنبّه إلى ما استسلم هو أيضاً إليه من الشطط والزلل باندفاعه وتهوره. ثم ينظر بعين ثاقبة إلى المستقبل فيزن قوته ومؤهلاته بميزان التواضع والثقة بالله، ويأخذ الحيطة لنفسه من أهوائه الذائبة وأمياله المنحرفة، وإذا تمّ له ذلك يقرر خطته في أعماله وأشغاله ومختلف أطوار حياته. ويساعد على التفكير الرصين:
- الحيطة والحذر في ظروف المكان والزمان والإنسان.
- استشارة الرؤساء والمعلمين والأصدقاء والأهل ورجال الخير والصلاح.
- أما خير الوسائط الفعّالة التي تعيننا في حُسن تفكيرنا، قبل أن نقدم عل عمل من أعمالنا فهي الصلاة والابتهال إلى الروح القدس، روح المعرفة والفهم، روح الحكمة والتعزية. ثم النظر إلى يسوع وأمه الطاهرة...
2) التقرير القويم أو التحكيم
أي البحث عن الوسائل المناسبة لتحقيق قصدنا، والنظر ما الأنسب منها وما خطة العمل. يجب الاعتماد على رأي صائب لاتخاذ قرار فيما ينبغي أن نعمله. لكي ننجو من الغلط علينا أن نحذر الاستسلام إلى أهوائنا وعواطفنا ومطامعنا، بل النظر إلى المسيح وتذكر عواقبنا الأخيرة. علينا أن نسأل أنفسنا دائماً: إلى أين يقودنا هذا العمل أو ذاك، أإلى الله أم إلى خدمة ذواتنا وشهواتنا. وعلى هذا الأساس نقرر. فإذا فعلنا هذا لا نصل. وإن ضللنا لا نؤاخذ، لأننا نكون قد اعتمدنا في تفكيرنا وفي تقريرنا على أفضل الوسائط الإلهية والبشرية معاً. فلا لوم علينا أمام الله ولا أمام الناس ولا أمام أنفسنا.
3) التنفيذ الحازم أو البت
أي القرار بعمل ما يجب والجزم بتنفيذه بلا تردد فهو ثمرة التفكير والتقرير. فبعد التفكير الرصين والمشبّع بروح الإيمان، وبعد الاعتماد على خطة العمل، يلزم ألا نتردد في التنفيذ. ولكن برزانة وحكمة، بلا تهور ولا عنف. ولا تصلب ولا عناد. لأنه لابد من المرونة في تسيير الأمور البشرية، التي غالباً ما تكون عُرضة للمفاجآت غير المنتظرة، وللمصاعب غير المعهودة. ولكن حتى في مثل هذه الظروف الاستثنائية الحرجة، يبقى طريق النجاة من التهوّر مفتوحاً أمامنا، وذلك بوساطة الصلاة والاستشارة والصبر والثبات.
ونلخص كل ما سبق بما يلي: أن كل عمل فطن يفترض التروّي والتشاور ثم الحكم على الوضع الذي نحن فيه وأخيراً على القرار المناسب والتنفيذ. ولا يكون الفعل فطناً إلا إذا كان التشاور وبالأخص الحكم مصيباً. والحكم يكون مصيباً بقدر ما نوجّه تفكيرنا إلى الله والقيم الأدبية ونحوّلها إلى الخيرات الأرضية، وعما يدغدغ حواسنا وكبريائنا وأنانيتنا.
+ اكتساب الفِطنة وممارستها +
1) وسائل اكتساب الفطنة
أ- المعرفة والاختبار: أول أمر يتطلّبه اكتساب الفِطنة هو معرفة المبادئ الأخلاقية الضرورية (مثل تعليم المسيح وغيرها من المعلومات الأخلاقية والنظرية) فبالمعرفة والاختبار الشخصي نضمن إصابة الحُكم ودقته. لأن على كل منا أن يكون فطناً في الأمور المعرض إليها بنوع أخص والتي يعاني منها. ومع المعرفة والاختبار أن نجمع المشورة، فخبرة الآخرين مفيدة جداً وتضيف إلى عقلنا أنوار الآخرين.
ب- الضمير الحيّ: ولا ننسى أن الفِطنة تستند إلى ضمير حي ومستقيم. إن فضيلة الفِطنة تنبت وتنمو في ضمير نيّر، وفي شخصية منسجمة مع ذاتها ومع الله في حب مخلص وصافٍ، عندما يملأ حب الله الإنسان يسيطر على انحراف الأهواء الذي يعكّر حكم الفِطنة.
ج- الروح القدس: ويبقى استلهام الروح القدس من أنجح الوسائل لتقوية الفِطنة: "إن كل من سمع من الآب وقبل تعليمه يأتي إليّ" يقول السيد المسيح. فالمسيحي الذي ينقاد لاسيما للروح القدس معلمه الداخلي يكشف إرادة الله. المحبة، التي تقدّره في محافظة على الشريعة بوجه عام وفي كل ظرف وفي تلبية دعوة النعمة للقيام بواجب ما.
إن الروح القدس كثيراً ما يتكلم في داخل المؤمنين الذين تعوّدوا أن ينصتوا إلى كلامه وإلهاماته. ويهديهم إلى ما يجب أن يقولوه أو يفعلوه أو يحكموا فيه من مختلف مواقف حياتهم ووظائفهم، لاسيما إذا ما تعقدت الأمور واستعصى على الناس حلّها. وما أبدع ما جاء في سفر الحكمة في هذا المعنى: "حينئذ تمنيت فأوتيت الفِطنة ودعوت فحلّ عليّ روح الحكمة، ففضّلتها على الصوالجة والعروش، ولم أحسب الغِنى شيئاً بالقياس إليها، ولم أعدل بها الحجر الكريم...".
د- الصلاة: ازدياد المحبة الإلهية بوساطة الأسرار والأعمال الصالحة هي من الوسائل الأساسية. كما أن الصلاة هي وسيلة كبرى من شأنها أن تزيد فضيلة الفِطنة نمواً وكمالاً. وبها تتغذى الفضائل كلها وتزهو تزدهر. لأن كل عطية صالحة وكل موهبة كاملة تنحدر من لدن أبي الأنوار.
ومن الوسائل الأخرى التي تتقدّم الفِطنة وترتقيي هي حرصنا على ألا نقصد إلا وجه الله في كل من أعمالنا، وأن يكون حكمنا في هذه الأعمال، في حسنها وسوئها، وخيرها وشرها، على ضوء هذا النور الكبير، نور طلبنا وجه الله في مختلف أمور حياتنا.
هـ- المشورة الصالحة: ثم أنه يمكن ممارسة فضيلة الفِطنة بفعل "موهبة المشورة الصالحة" التي يمنحها الروح القدس، والتي تجعلنا فيما ينبغي لنا عمله أو تركه من الأمور، لاسيما الصعبة والخطرة، وذلك بنوع سريع وبصيرة نيّرة صادقة، كان الإلهام يوحي إلينا طريقة عملنا ويقودنا بيدنا.
هذا بخصوص الوسائل لاكتساب الفِطنة الفائقة الطبيعة. أما الوسائل لاكتساب الفِطنة الطبيعية، بالإضافة إلى ما سبق هي:
- محبة الغاية المقصودة، لأن المحبة تدفع الإنسان إلى اتخاذ الوسائل المناسبة مهما كلفته.
- تحكيم العقل في الأعمال لا العاطفة.
- توسع دائرة المعرفة بمطالعة الكتب القيمة والاحتكاك بالمجتمع المثقف والاستماع إلى مشورة الخبراء.
- ضبط الشهوات ولاسيما شهوة الجسد والأنانية.
2) ممارسة الفطنة
تتراوح ممارسة أية فضيلة بموجب حالة الكمال للفرد المسيحي. وهذا واضح فيما يخصّ فضيلة الفطنة، وهي فضيلة النضوج، ومن هنا فهي في العادة ناقصة في الشبّان، بسبب افتقارهم للخبرة وميلهم إلى أن تحفزهم العواطف أو المشاعر بدل أن يحكمهم العقل. إلا أن هناك، على كل حال، ممارسات أساسية معينة، يمكن استغلالها للحصول على الفطنة.
أ-الناشئون في الحياة الروحية: الذين يحرصون كل الحرص على البقاء في حالة النعمة وينمون في الفضيلة، هم في حاجة إلى تعزيز الخصائص الخاصة التي ذكرناها الآن، مركزين بشكل خاص على قوة المنطق وسهولة الانقياد، وتذكّر الماضي، والبصيرة، والحذر والحيطة. فيجب عليهم التفكير قبل العمل، بدون إرجاء القرارات إلى آخر دقيقة، أو أن يتأثروا بشكل غير لائق بالعاطفة والأنانية. ويجب أن ينظروا إلى المستقبل لكي يتنبأوا بالنتائج الممكنة لأعمالهم. ويجب أن يتفحصوا بدقة نتائج أعمالهم الممكنة الحدوث. ويجب أن يدققوا في الحالات جميعها التي تحيط بقرار أو عمل. ويجب أن يظلوا ثابتين في قراراتهم، متممين واجب تلك اللحظة بإخلاص. ويجب أن يتجنبوا جميع أنواع الخداع والمكر، وألا يتأثروا من إغراءات استعمال الأعذار أو التبرير، لكي يغدروا أنفسهم عن واجباتهم أو عن الخطيئة. ومما يساعد الصغار كثيراً أن يكون لهم مثل أعلى ولو كان مثالاً للمسيحيين الذين يعيشون عيشة صالحة. وأخيراً، فإنه من المفيد تقييم الأفعال جميعها للفرد بشروط الخلاص: ما الذي يفيدني هذا بخصوص الحياة الأبدية؟
ب- أما النفوس المتقدّمة فيجب أن تحرص على إكمال فضيلة الفطنة عن طريق المحبة، مجتهدة أن تقوم بالأفعال جميعها لمجد الله. ويجب أن ينسجموا أكثر وأكثر مع النموذج ألا وهو السيد المسيح، متسائلين عما كان سيفعله المسيح في موقف معين. وبما أنهم أكثر حرصاً في الحال في الاجتهاد لاستكمال المحبة، توجب عليهم الانسجام مع المعيار الأعلى للحياة المسيحية، التي تقول أنه ليست الأفعال جميعها قانونية وصالحة ولائقة للمسيحي المكرّس. وبالتالي، فيجب عليهم أن يكونوا أكثر حرصاً لتجنّب الخطيئة العرضية ومناسبات الخطيئة، ويجب أن يكونوا أكثر اهتماماً وانقياداً لحركات النعمة وحوافز الروح القدس. ويجب أن يدخلوا إلى أنفسهم المزيد من معايير الحياة المسيحية لكي يكون لديهم قلب المسيح ليرشدهم في كل ما يفعلونه.
ج- النفوس الأكثر اكتمالاً في المحبة يجب عليها أن تميل نفسها لممارسة فضيلة الفطنة بحافز من "موهبة المشورة".
+ الخطايا ضد الفِطنة +
1) حكمة العالم
يخطئ ضد الفِطنة مَن يفكر ويحكم ويعمل لا على ضوء الإيمان "وحكمة الله" بل حسب "حكمة العالم" (1كو14:2). إن العالم ينظر إلى الأمور والأحداث والقيم خلاف نظرة الله لها. ويحبّذ العالم الغِنى والعظمة والترف... والوقتي والبرّاق... ويفضلها على الفقر والتواضع الأبدي والفضيلة... (لو 8:16) فعلى الإنسان أن يقاوم فِطنة الجسد هذه التي تسمى "شهوة الجسد وشهوة العين وشهوة الحياة" ولا يتم ذلك إلا باستعمال المبادئ المسيحية الأوليّة، والرجوع إلى الإنجيل، وتعليم الكنيسة.
2) الإفراط بالتروّي
ويُخطئ ضد الفِطنة من يُفرط بالتروّي ويترك للوقت تدبير الأمور ويتهرّب من المسؤولية وأخذ القرار. إن الظروف المؤاتية لن تعود.
3) التهوّر
كما يُخطئ أيضاً المتهوّر، ولا يتوقف بكفاية عند درس الوسائط الكفيلة للبلوغ إلى الغاية المنشودة، وكثيراً ما يكون سبب التهوّر الجهل والإهمال والطيش وعدم التفكير. فعلى المسيحي أن يتحاشى الخفة والتسرّع والتهوّر في أقواله وأفعاله، وأن يتعوّد التأمل والتفكير قبل العمل، وأن يزن أسباب عمله ونتائجه بميزان الإيمان. فلا يقدم على أمر خطير إلا بعد أن يتثبّت من صلاحيته، ومن موافقته لمبادئ الإنجيل وللغاية القصوى السامية التي لأجلها خلقه الله تعالى. وإذا ما أشكل عليه الأمر فليسترشد برأي مرشد حكيم فطِن.وهكذا يعتاد أن يسلك دائماً بحسب المبادئ السماوية.
4) الاهتمام بالزمنيات
يُخطئ ضد الفطنة من يهتم اهتماماً بالزمنيات والماديات، ويستعمل للحصول عليها الطرق الملتوية من مهارة وكذب وخداع وغش ومكر ودهاء، وأحياناً من دسائس. إن هذه الأساليب تدل عن تحوّل في الغاية الحقيقية، وعلى تفكير بشري خاطئ، ينتج عنه حتماً إهمال حب الله والسعي إلى اكتساب السعادة في ملكوت الله (روم 6:8-15). إذاً على المسيحي أن يحاذر الطرق الملتوية، والميل والخداعة، والسياسة الكاذبة التي يظن الكثيرون في طيشهم أنها خير ما يعتمدون عليه للنجاح في مقاصدهم. فينسون أن الكذب ممقوت عند الله والناس. وأن عاقبته الدمار، وأن الغاية لا يمكن أن تشفع بالوساطة وتبررها، وأن مَن يُحسن سريرته يُحسن الله علانيته. ألا يقول لنا الإنجيل: "كونوا حكماء كالحيات وودعاء كالحمام" فعلى المسيحي الحقيقي أن يكون شهماً في أقواله وأفعاله، وأن يكون سليم الطوية في معاملاته مع قريبه.
5) الاستسلام للأوهام
والفطنة تقتضي بأن لا نستسلم لأوهامنا وأهوائنا. فالأوهام هي عداء الفطنة، ومن الموانع الكبرى التي تحول دون تقدمنا في الكمال المسيحي، لأنها تتسلّط على عقولنا، وتضيّق الخناق على إرادتنا، فنفقد حرية التفكير ومعها حرية العمل. لذلك فالأهواء، فهي أمراض نفسية تُظلم العقل، وتبعث فينا روح الكبرياء والعجب، فتبعدنا عن محبة الصواب، وتجعلنا نتيه في الضلال، ونندفع وراء الملذات الأرضية والمطامع البشرية، فننسى غايتنا وننبذ وصية الرب "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره" (لو 13:12).
 
قديم 18 - 09 - 2014, 02:37 PM   رقم المشاركة : ( 6195 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,056

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

التمييز و الافراز – القديس يوحنا كاسيان
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




1- مقدمة
إذ تمتعنا بنوم الصباح وأشرق النور علينا بدأنا نسأله أن يحدثنا بما وعدنا به. فبدأ الطوباوي موسى يقول: إذ أرى شوقكم الملتهب هذا، فإنني لست أظن بأن ما كنت أرغبه في أن أترككم فترة هدوء قصيرة جدًا بعد المناظرة الروحية، لأجل راحتكم الجسدية، يهبكم راحة لأجسادكم، إنما إذ أتطلع إلى غيرتكم أشعر بالضرورة تلح عليّ لكي ما أفي بما قد وعدتكم به بكل عناية وإخلاص…
إنني سأتكلم عن “التمييز الحسن وخصائصه”، الموضوع الذي تطرقنا إليه في مناقشتنا الليلة الماضية. وإني أحسب أنكم تريدون أن أكشف لكم عن بركات “التمييز” حسب فكر الآباء…

وأن أحدثكم عن هلاك بعض السابقين والمحدثين وسقوطهم في اليأس بسبب عدم اهتمامهم بالتمييز، ثم أتحدث عن بركات التمييز… هذا كله بعدما نناقش كيف يلزمنا أن نعرف جيدًا كيفية البحث عن التمييز وطريقة الانتفاع به عمليًا، آخذين في اعتبارنا أهميته وبركاته.
التمييز نعمة إلهية
لا توجد فضيلة واحدة يمكننا أن نحصل عليها بمجهودنا البشري ما لم تعيننا النعمة الإلهية. ونحن نرى في الكتاب المقدس أن التمييز حُسب ضمن مواهب الروح، إذ يقول الرسول: “فإنه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة ولآخر كلام بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد، ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد… ولآخر تمييز الأرواح”…
لقد رأيتم إذن كيف أن موهبة التمييز ليست موهبة أرضية، ولا هي بالأمر الهيّن ، إنما هي عطية عظمى تهبها النعمة الإلهية.
إن لم يسعى الإنسان[1] بكل حماس نحو التمييز… حتمًا يخطئ ويصير كمن هو في ظلمة الليل وحلكة الظلام، ولا يسقط فقط في الأشراك والأهواء بل ويخطئ حتى في الأمور السهلة.

2- أهميته
أذكر لما كنت في منطقة طيبة Thebaid حيث يقطن الطوباوي أنطونيوس وأنا صبي جاءه جماعة من الآباء يسألونه عن “الكمال”. واستمرت المناقشة من المساء حتى الصباح، وأخذ هذا السؤال النصيب الأكبر من الليل.
وقد نوقش: أيالفضائل أكمل وأقدر على حفظ الإنسان من مصائد الشيطان وحيله، وتحمله إلى الطريق الآمن الحقيقي، وترتفع به بدرجات ثابتة على قمم الكمال؟


تحدث كل واحد على حسب ميول عقله، فقال البعض بأن الجهاد في الصوم والسهر يقوّم الفكر وينقي القلب ويسهل للإنسان التقرب إلى الله. ومنهم من قال بأن المسكنة والزهد في الأمور الأرضية يُمكّنا العقل أن يكون هادئًا صافيًا خاليًا من هموم العالم، متجهًا بالكامل نحو الله، ولا تقتنصه أشراك العدو.
وظن البعض أنه بالضرورة الانسحاب من العالم، أيضًا الوحدة والانعزال في حياة التوحد، حتى يُمكن للإنسان بالأكثر أن يتحدث مع الله ويلتصق به. وذكر البعض أعمال المحبة أيضًا فعل الرحمة، لأن الرب يقول لفاعليها كما وعدهم في الإنجيل:

تعالوا إليّ يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم، لأني جُعتُ فأطعمتموني، عطشتُ فسقيتموني…” (مت34:25،35).
بهذا أعلنوا أنه خلال فضائل متنوعة يمكن الاقتراب إلى الله. وهكذا انقضى النصيب الأكبر من الليل في هذه المناقشة، وأخيرًا تكلم الطوباوي أنطونيوس قائلاً:
[حقًا إن كل هذه الأمور التي ذكرتموها نافعة وضرورية، وتعين المتعطشين إلى الله والراغبين في الاقتراب منه. لكن هناك حوادث لا حصر لها واختبارات للبعض تؤكد لنا بأن هذه في (ذاتها) لا تهبنا العطايا العظمى.
فالبعض مارسوا الصوم والسهر، وانسحبوا بشجاعة إلى الوحدة بقصد ترك كل شيء تركًا كاملاً، حتى أنهم لم يسمحوا لأنفسهم بأن يكون لديهم أكلة يوم واحد، أو يكون في جيبهم فِلْس واحد مكرسين حياتهم لأعمال الرحمة، ومع هذا وجدناهم يسقطون فجأة ولا يستطيعون القيام بما كانوا يصنعون من قبل... بل تتحول غيرتهم وأعمالهم المُطوّبة إلى نهاية مؤسفة.
ويمكننا إذا ما تتبعنا بدقة أسباب انهيارهم وسقوطهم نعرف الأمر الرئيسي الذي يقودنا إلى الله فإذ تتزايد فيهم أعمال الفضائل المذكورة ينقصهم "التمييز"، وهذا منعهم من الاستمرار في الجهاد.
وسبب سقوطهم الواضح هو عدم أخذهم بتعاليم آبائهم[2] الكافية التي بها يحصلون على الحكمة والتمييز، فتطرفوا في جانب من جوانب الفضيلة.]
يعلم التمييز أن يسير الإنسان في الطريق الملوكي، من غير أن يسمح له بالتطرف اليميني في الفضيلة، أي المغالاة وتجاوز حدود الاعتدال في جسارة ووقاحة، كما لا يسمح له بالكسل…


هذا هو التمييز الذي يعبر عنه الكتاب المقدس بـ “العين” أو “نور الجسد”، وذلك كقول المخلص: “سراج الجسد هو العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرًا. وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلمًا..” (مت 22:6، 23). لأنها هي التي تميز كل الأفكار والأعمال، وترى كل شيء وتراقب ما سيحدث.
فإذا كانت عين الإنسان “شريرة” أي غير محصنة بصوت الحكمة والمعرفة، مخدوعة ببعض الأخطاء والعجرفة (في العبادة)، فإنها تجعل جسدنا “كله يكون مظلمًا”. تظلم عقولنا وتصير أعمالنا في ظلام الرذيلة ودجى الاضطرابات، وإذ يقول: “فإن كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون؟!” (مت 23:6).
فلا يستطيع أحد أن يشك في أنه متى كان “الحكم في الأمور” في القلب خاطئًا، أي كان القلب مملوء جهلاً، تكون أفكارنا وأعمالنا، التي هي ثمرة التمييز والتأمل، في ظلام الخطية العظمى…

3- أمثلة من الكتاب المقدس
(أ) شاول الرجل الذي كان في نظر الله مستحقًا أن يكون ملكًا على شعبه سقط من ملكه بسبب افتقاره إلى “عين التمييز”، وبذلك صار الجسد كله مظلمًا… فظن أن تقدمته مقبولة أمام الله أكثر من طاعته لأوامر صموئيل، حاسبًا أنه بهذا يستعطف العظمة الإلهية… (أنظر 1صم15).
(ب) انقاد آخاب الملك لعدم التمييز بعد النصر الرائع الذي وُهب له بغيرة الله، إذ ظن أن عمل الرحمة من جانبه أفضل من تنفيذ وصية الله التي بدت أمرًا قاسيًا فلم ينفذها. بينما رغب في التلطيف من الانتصار الجسدي بصنع الرحمة…

4- التمييز كما جاء في الكتاب المقدس
هذا هو التمييز الذي لا يُدعى فقط “نور الجسد”، بل و”الشمس”، إذ يقول الرسول: “لا تغرب الشمس على غيظكم” (أف 26:4). وُيدعى أيضًا “سلطانًا”، إذ لا يسمح لنا الكتاب المقدس أن نصنع شيئًا بدونه “مدينة منهدمة بلا سور، الرجل الذي ليس له سلطان على روحه” (أم 28:25).
وبه تسكن الحكمة ويقطن الفهم والمعرفة، وبدونه لا يُبنى بيتنا الداخلي، ولا نستطيع أن نجمع الغنى الروحي الذي لنا، فقد قيل: “بالحكمة يُبنى البيت، وبالفهم يثبت. بالمعرفة تمتلئ المخادع من كل ثروة كريمة ونفيسة” (أم3:24، 4).
وهو “الغذاء الكامل” الذي يقتات به الكاملون في النمو والصحة، إذ قيل: “وأما الطعام القوي فللبالغين الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر” (عب 14:5).
وتظهر أهميته وضرورته بالنسبة لنا بمقدار ما لكلمة الله وقوتها من أهمية، إذ قيل: “لأن كلمة الله حيّة وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته” (عب 12:4).
من هذا يظهر بوضوح أنه لا يمكن أن تكون لفضيلة ما كمالها المطلوب، أو تدوم، بدون نعمة التمييز. وكما يقول الطوباوي أنطونيوس كغيره أيضًا من الآباء، بأن التمييز هو الذي يقود الإنسان الشجاع بخطوات ثابتة نحو الله، ويحفظ له دوام سلامة الفضائل المشار إليها بغير سأم، حتى تبلغ أقصى ذروة الكمال.

وبدونه لا يمكن الوصول إلى مرتفعات الكمال مهما كان الجهاد بكل رغبة. فالتمييز هو أهم كل الفضائل، وحارسها، ومنظمها.

5- أمثلة: (1) موت الشيخ هيرون Heron

إنني أُعضد ما قاله الطوباوي أنطونيوس وغيره من الآباء بمثال حديث… تذكروا ما قد حدث عن قريب أمام أعينكم، أقصد ما حدث مع الشيخ هيرون الذي منذ أيام قليلة سقط بخدعة شيطانية من العلو إلى الهاوية. ذلك الرجل الذي نذكر أنه عاش خمسين عامًا في هذه البرية محتفظًا بزهده بكل دقة، راغبًا في حياة التوحد الخفية بغيرة عجيبة تفوق كل الساكنين هنا. بعد كل هذا الجهاد انظروا كيف خدعه الماكر مسقطًا إياه سقطة محزنة مهلكة، جعلت كل الساكنين في هذه البرية يبكونه بمرارة!
أليس هذا بسبب عدم اقتنائه فضيلة التمييز كما ينبغي، مفضلاً أن يسير حسب حكمته الخاصة دون أن يطيع قوانين الاخوة وأقوال الآباء ونظمهم؟! لقد استمر في زهده، عنيفًا في صومه، مثابرًا في وحدته الخفيَّة وخلوته الرهبانية، حتى أنه لم يحضر مع الاخوة ليحتفل معهم عيد القيامة… خائفًا لئلا يأكل بعض البقول يدفع به إلى التكاسل عن هدفه شيئًا ما.
لقد خُدع بهذه الجسارة، إذ أستقبل ملاكًا بخدعة شيطانية بإكرام جزيل على أنه ملاك نوراني، وأطاع أمره في عبودية عمياء، ملقيًا بنفسه في بئر عميقة للغاية. وهو لم يشك في وعد الملاك له، الذي أكد أنه لا يمكن أن يلحق به أي ضرر، وفي منتصف الليل خُدع، فألقى بنفسه في البئر المذكورة ليتحقق عظمة استحقاقه وفضائله…
وفي اليوم الثالث مات، وكانت حالته رديئة، إذ كان ممسكًا بغروره العنيد حتى أن تجربة الموت لم تستطع أن تجذبه إلى معرفة أنه كان مخدوعًا بحيل شيطانية. فبالرغم من جهاده العظيم والسنوات الكثيرة التي قضاها في هذه البرية إلا أن الأب بفنوتيوس اعتبره ضمن المنتحرين الذين لا يستحقون أي ذكرى ولا تُقدم أية تقدمه لراحتهم.

6- (ب) هلاك أخوين

وماذا أقول عن هذين الأخوين اللذين كانا يعيشان في صحراء طيبة Thebaid التي كان يسكن فيها الطوباوي أنطونيوس، ولم يكن لهما روح التمييز الدقيق. فقد قررا ألا يأخذا معهما أي طعام عندما كانا يسيران في منطقة صحراوية بعيدة وواسعة، متكلان أن الله يمدهما بالقوت.

وإذ تاها في الصحراء صارا على وشك الإغماء بسبب الجوع. ولما وجدهما الـ mazices[3] قدموا لهما طعامًا، على خلاف طبيعتهم الوحشية، فأخذ أحدهما الخبز بفرح وشكر كما لو أنه مرسل من الله، إذ رأى أنه من قبل السماء أن يقدم لهما سافكو الدم خبزًا وهما في حالة إغماء وعلى وشك الموت. أما الثاني فرفض الطعام لأنه مقدم من بشر ، فمات جوعًا.
عرف الأول خطأه، وفهم ما كان قبلاً يفهمه فهمًا خاطئًا، أما الثاني فصمم على جهله بعنادٍ، جالبًا الموت لنفسه، وذلك بسبب نقص التمييز.

7- (ج) سقوط آخر

أتحدث عن آخر[4] تقبّل شيطانًا ظهر له في صورة ملاكٍ نوراني، فانخدع بإعلانات لا حصر لها، معتقدًا أنه رسول للبر. وإذ كان يتقبل هذه الإعلانات كانت قلايته تضيء بغير مصباح، وأخيرًا أمره الشيطان أن يقدم ابنه الذي يعيش معه في الدير ذبيحة لله، حتى يستحق ما استحقه إبراهيم. وقد انخدع حتى كاد أن يرتكب الجريمة،
إلا أن ابنه لما رأى والده ومعه السكينة يسنها بطريقة غير عادية ورأى السلاسل التي يعدها لتقييده، شعر بالجريمة المتوقعة وهرب مرتعبًا.

8- (د) سقوط راهب من دير الميصة Mesopotamia

يطول بنا الحديث إن تكلمنا عن ذلك الراهب الذي من دير الميصة (ما بين النهرين)، هذا الذي كان متنسكًا بصورة لا نجد لها مثيل إلا بين القليلين من أهل تلك المنطقة. لقد عمل سنوات طويلة مختبئًا في قلايته، وأخيرًا خُدع بإعلانات وأحلام شيطانية. فبعد عمل كثير وجهاد حسن متخطيًا الكثيرين في هذا الأمر… ارتدّ يائسًا إلى اليهودية وختان الجسد. إذ كان الشيطان الذي عوّده على الرؤى لكي ما يجذبه إلى الضلال والتيه يظهر له في النهاية لمدد طويلة في صورة رسول الحق, أخيرًا أظهر له منظرًا وهو أن جماعة المسيحيين مجتمعين معًا مع قادة ديننا وعقيدتنا مثل الرسل والشهداء في الظلمة والأوساخ والنجاسة والقبح في صراخ وعويل.
وفي الجانب الآخر أظهر له الشعب اليهودي مع موسى والآباء والأنبياء يرقصون طربًا منيرين بنور يُبهر العين، مقنعًا إياه بضرورة الاختتان، إن كان يرغب في أن يكون له نصيب في هذه الجعالة. وهكذا لو أنه سعى للحصول على قوة التمييز ما كان قد سقط في ذلك الخداع البائس. هذه المصائب والحيل التي سقط فيها الكثيرون، كشفت عن خطورة عدم وجود نعمة التمييز.

9- سؤال: كيف نقتني التمييز؟

جرمانيوس: لقد ظهر بوضوح وبطريقة قاطعة بالأمثلة الحديثة وأقوال الأولين كيف أن التمييز ينبوع للفهم وحارس لكل الفضائل. والآن نرغب في معرفة كيفية اقتنائه، وكيف نميز إن كان حقيقيًا من الله، أو كاذبًا من الشيطان؟! أو لو استخدمت التشبيه الوارد في الكتاب المقدس والذي ذكرته في مناقشاتك لنا في المرة الماضية وهو كيف نصير صرّافين حكماء نعرف إن كانت صورة الملك المختومة على العملة حقيقية أو مزيفة… لأنه ماذا ننتفع إن عرفنا قيمة هذه الفضيلة أو العطية ولا نعرف كيف نقتنيها؟!

10- موسى: التمييز الحقيقي لا يأتي إلا بالاتضاع الحقيقي. فالاتضاع هو البرهان الأول لصيانة كل شيء (ليس فقط كل ما تصنعه بل أيضًا كل ما تفكر فيه) ويكون ذلك بالاعتماد على الآباء. فلا تثق في حكمك على كل شيء، بل تذعن لقراراتهم في كل نقطة، وتتعرف على تمييز الصالح من الطالح بواسطة تقاليدهم. وهذه الطريقة تُعين الشاب لا لكي يسير في الجانب الأيمن من طريق التمييز الحقيقي فحسب، بل وتحفظه سالمًا من كل مكائد العدو وحيله. فإنه لا يمكن أن يُخدع من كان يسير لا حسب حكمه الخاص، بل مقتفيًا آثار الآباء.
ويحاول عدوّنا الماكر أن ينتصر علينا حين نكتم أفكار الخطية في داخلنا، وذلك بحسب تعاليم الآباء القويمة. فالفكر الخاطئ يَضعف بمجرد اكتشافه كالأفعوان الدنس الذي ينسحب من كهفه المظلم المخفي ويهرب مفتضحًا… فالأفكار الشيطانية يكون لها تسلط علينا بمقدار ما تختبئ في قلوبنا.
ولكي تدرك تأثير قوة هذا الحكم (بأن الاعتراف يكسر سلطان الفكر الشرير) أُخبرك بما حدث مع الأب سيرابيون Serapion، وما قد اعتاد أن يقوله للاخوة الحديثين لأجل بنيانهم وهو:
11- مثال: بينما كنت رفيقًا للأب ثيوناس Abbot Theonas كانت هذه العادة تلازمني بهجوم من العدو، وهي أنه بعدما كنت التحق بالشيخ في الساعة التاسعة، كنت أُخبئ يوميًا قطعة من الخبز الجاف في الخفاء حتى آكلها في وقت متأخر دون أن يعلم بها أحد. وعلى هذا كنت أُخطئ دائمًا بجريمة السرقة بإرادتي مع عجزي عن المقاومة. ولكنني كنت عندما أُشبع رغبتي غير المشروعة أعود إلى نفسي لائمًا إياها على السرقة التي ارتكبتها بطريقة تبدد اللذة التي أحصل عليها من الأكل.
وإذا كنت مجبرًا يومًا فيومًا، رغم حزني، أن أقوم بهذا العمل المضني كما لو كنت مأمورًا من فرعون أن أصنع الطوب دون القدرة على الهروب من استبداده القاسي، فإنني كنت أخجل من أن أكشف تلك السرقة الخفيّة للشيخ (أب اعترافه).


ولقد شاءت العناية الإلهية أن تسمح لي بالعتق من عبودية هذا الأسر الاختياري عندما بحث بعض الاخوة عن قلاية الشيخ ليسترشدوا به. وبعد العشاء بدأ الحديث الروحي ، فكان يجيب على أسئلتهم التي طرحوها قدامه، محدثًا إياهم عن شيطان النهم (الشراهة) وسلطان الأفكار الخبيثة، مُظهرًا لهم طبيعتها وقوة ضررها كلما كُتمت.
فغلبت من قوة المناظرة حتى تألم ضميري وارتجف وحسبت أن هذه الأمور أعلنها الشيخ لأن الرب قد كشف له أسرار صدري. فبدأت أتنهد في الخفاء ، لكن تأنيب القلب ازداد ،
فانفجرت بالدموع ثم أخرجت من ردائي قطعة الخبز التي حملتها كعادتي الرديئة حتى آكلها في الخفاء، وألقيتها في وسطهم ، ثم سقطت على الأرض متوسلاً العفو، معترفًا كيف كنت آكل كل يوم في الخفاء. وبدموع غزيرة طلبت منهم أن يطلبوا من الله حتى يحررني من هذه العبودية المميتة.


عند ذلك أجاب الشيخ: “ليكن لك إيمان بذلك يا ابني. فإنه بدون أي إرشاد (كلام) مني إليك، إنما بمجرد اعترافك قد تحرّرتَ من هذه العبودية. لقد انتصرتَ اليوم على عدوك. باعترافك أسقطته أكثر من غلبته لك بسكوتك السابق… ولذلك فإن بعد افتضاحه هذا لن يستطيع ذلك الروح الشيطاني أن يدركك، ولا يستطيع ذلك الأفعوان النجس أن يجد له فيك مكانًا مظلمًا، فباعترافك قد انتقلت من الظلمة إلى النور…
وقال أيضًا: “إذ كشفتُ للشيخ… زال عني الاستبداد الشيطاني بقوة هذا الاعتراف، وبقيت هكذا… حتى أنه لم يعد يحاول الشيطان أن يقاومني حتى ولا بتذكر هذه الرغبة، ولم أعد بعد أشعر بضغط سم تلك السرقة التي استعبدتني طويلاً.
ويعبِّر سفر الجامعة عن هذا المعنى تعبيرًا دقيقًا بمثال قائلاً: “إن لدغت الحيّة بلا رقية فلا منفعة للراقي” (جا11:10)، مظهرًا أن لدغة الحية بدون وجود راقٍ خطيرة، أي أن الخطورة في ألا يكشف أي اقتراح أو تفكير نابع عن الشيطان أمام الراقي بالاعتراف.
إنني أقصد بالراقي جماعة الروحانيين الذين يعرفون كيف يُعالجون الجراحات بتعويذة الكتاب المقدس، ويجذبون سم الأفعى المميت من القلب…
بهذه الطريقة يمكننا أن نتوصل بسهولة إلى معرفة التمييز الحقيقي، وذلك باقتفائنا آثار آبائنا، وعدم صنع أي شيء أو تقرير أي أمر من عندياتنا، بل كما تعلمنا به تقليدهم واستقامة حياتهم…
والإنسان الذي يتقوى بهذه النظم، لا يصل فقط إلى إدراك الوسيلة الكاملة للتمييز، بل يبقى دائمًا في أمان من مكائد العدو. فليس هناك وسيلة أخرى يسقط بها الشيطان الإنسان بتهور ويقوده إلى الموت إلا عن طريق الاستخفاف بأقوال الآباء واعتماده على أفكاره الخاصة وأحكامه.
إن كانت كل الفنون والاختراعات المكتشفة ببراعة الإنسان، التي نفعها يخص حياتنا الزمنية فقط، لا نستطيع فهمها ما لم يعلمنا إياهم معلم، فكم غباوة نكون عليها إذا تخيلنا أننا لسنا محتاجين إلى معلم في تلك الأمور التي لا تراها العين بل القلب النقي، والخطأ فيها لا يؤدي إلى خسارة وقتية يمكن إصلاحها بسهولة بل تدفع إلى انهيار الروح والموت الأبدي؟! هذه التي نخوض فيها معارك نهارية وليلية، ليس أمام أعداء منظورين بل غير مرئيين وقاسين، معارك روحية ليس أمام واحد أو اثنين، بل أمام صنوف بلا حصر!

وللفشل في هذه المعارك خطورته الكبرى، لسبب كثرة العدو (إبليس وجنوده) وسرية الحرب. لهذا يلزمنا أن نقتفي آثار آبائنا وننزع حجاب الخجل كاشفين لآبائنا كل ما يخطر لفكرنا.

12- سؤال: أما يحتقر أب الاعتراف من يكشف له خطاياه؟
جرمانيوس: أساس العفة الضارة التي فيها نسعى إلى إخفاء أفكارنا الشريرة، يرجع إلى ما سمعناه عن بعض الآباء الحديثين في سوريا إذ يسود الاعتقاد بأنه إذا كشف أخ أفكاره بوضوح إلى أبيه في اعتراف صريح، يسخط الأب عليه ويوبخه بصرامة. لذلك نحن نحفظ الأفكار في داخل نفوسنا ونخجل من الاعتراف بها ولا نتمكن من الحصول على الأدوية اللازمة لعلاج هذه الأفكار.

13- الأنبا موسى: كما أنه ليس كل الشباب متشابهين من جهة غيرتهم في الروح أو متساوين في تعلمهم التعاليم والآداب القويمة، كذلك أيضًا ليس كل الشيوخ متشابهين في الكمال والفضيلة.
فالغنى (الروحي) الحقيقي لا يقاس بشيبة الرأس بل بالجهاد منذ الصغر وحسب أكاليل أعمالهم السابقة… لأن الشيخوخة المكرمة ليست هي القديمة الأيام ولا هي تقدر بعدد السنين. “ولكن شيب الإنسان هو الفطنة وسن الشيخوخة هي الحياة المنزهة عن العيب” (حك 9:4)… وعلى ذلك فليس لنا أن نقتدي بأي شيخ غطى الشيب رأسه..
بل نتبع آثار أولئك الذين امتازوا منذ صباهم بالحياة اللائقة المستحقة كل ثناء، الذين تدرّبوا حسب تقاليد الآباء وليس حسب ذواتهم.
عبر البعض إلى الشيخوخة بالفتور والكسل، هؤلاء يوبخهم الله بالنبي قائلاً: “أكَلَ الغرباء ثروته وهو لا يعرف وقد رُشَّ على الشيب وهو لا يعرف” (هو 9:7)…

هؤلاء يستخدم الشيطان شيبتهم لخداع الشبان، عن طريق مظهر وقارهم الخاطئ، خادعًا من كان يلزم أن يجتهدوا في طريق الكمال بواسطة نصائحهم… مسقطًا إياهم (الشبان) في عدم الاكتراث أو اليأس المميت وذلك عن طريق تعاليم أمثال هؤلاء الشيوخ وأعمالهم.

مثال: إذ أود أن أضرب لكم مثالاً عن هذا أذكر لكم واقعة تمدّنا ببعض التعاليم من غير ذكر اسم الفاعل حتى لا أسقط في خطية التشهير بخطايا الآخرين.
هذا الشخص الذي لم يكن متكاسلاً في صباه ذهب إلى أحد الشيوخ المعروفين لنا جيدًا واعترف له بصراحة باضطرابه بشهوات جسدية وبروح الزنا. لقد ظن أنه سيجد في كلمات هذا الشيخ تعزيات تُعينه وشفاء جرحه، لكن الشيخ هاجمه بتعييرات مُرة ودعاه بائسًا وأنه لا يستحق أن يُدعى راهبًا، مع أن الشيخ نفسه يمكن أن يسقط في هذه الخطية والشهوة. وهكذا أضرّه بدلاً من مساعدته ، إذ طرده من قلايته وهو في حالة يأس وقنوط مميت.
وإذ كان متضايقًا كئيبًا، غارقًا في فكر عميق: كيف يعالج آلامه بل كيف يرضي شهوته، إذ بالأب أبولس – وهو من أكثر الآباء حنكة – يراه مضطربًا فأدرك ما يدور في قلبه واستفسر منه عن سبب ذلك. وإذ لم يستطع أن يجيبه أدرك الشيخ الوديع في هدوء أنه ليس بغير سبب يخفي حزنه فلم يقدر أن يصمت بل بدأ يستفسر منه بأكثر حذاقة عن سبب الحزن الخفي.

وإذ غلب على أمره اعترف بأنه في طريقه إلى العالم ليأخذ له زوجة تاركًا الدير، إذ كما قيل له أنه لا يستطيع أن يكون راهبًا ما دام يعجز عن التحكم في شهوات جسده وشفاء آلامه.
هدأه الأب بتعزيات رقيقة، مخبرًا إيّاه أنه هو أيضًا يجاهد يوميًا بسبب بعض أشواق الشهوة، وعليه ألا ييأس ولا يتعجب من قسوة الهجوم لأن هذا لخيره، معتمدًا بالأكثر على رحمة الله ونعمته كما على جهاده الغيور. ثم التمس منه أن يترك الاهتمام والقلق لمدة يوم ورجاه أن يرجع إلى قلايته.
ذهب الأب أبولس إلى الدير الذي به الشيخ المذكور، ثم بسط يديه مصليًا بدموع قائلاً:

“يا الله، أنت وحدك الديان البار والطبيب غير المنظور تعالج ضعف البشر. فلتحوّل الهجوم من هذا الشاب إلى الشيخ ليتعلم أن يترفق بضعاف المجاهدين، وفي شيخوخته يشفق من أجل ضعف إرادة الشباب”.
ولما انتهي من صلاته بدموع إذ به يرى عبدًا أسودًا واقفًا أمام قلاية الشيخ يصوّب رمحًا ناريًا أصابه للحال، فخرج الشيخ من قلايته وأخذ يجري من هنا وهناك كإنسان معتوه أو سكران يدخل ويخرج من القلاية بغير توقف، وأخيرًا بدأ يسير في الطريق الذي سار فيه الشاب.


وإذ رآه أبلس كرجل مجنون… أدرك أن السهم الناري الشيطاني قد انغرس في قلبه، وأنه بفعله هذا (عنفه في الحكم، ذاق من ذات الكأس) فانحرف عن الحق وتبلبل فهمه، فذهب إليه يسأله: إلى أين تسرع؟ وما الذي جعلك تنسى هيبة شيخوختك حتى تضطرب بهذه الصورة الطفولية وتتحرك بسرعة؟


وبسبب شعوره بالذنب وارتباكه… حسب أن شهوة قلبه قد انكشفت، وأن الأب أبولس قد عرف خبايا قلبه، لهذا لم يتردد في الإجابة على أسئلته.


أجابه الأب أبولس: “عُد إلى قلايتك واعرف أن الشيطان يتجاهلك ويزدري بك، ولا تنظر هكذا إلى أولئك الذين يستفزهم العدو يوميًا ويناضلهم بسبب جهادهم ومهارتهم. ها أنت لم تحتمل سهمًا واحدًا وجهه إليك بعدما قضيت أعوامًا طويلة في هذا العمل…
وقد سمح الله لك بالجرح حتى تعلم أنه يلزمك في شيخوختك أن تترفق بالضعفاء… ولكي تعرف وتختبر أن تشفق لضعف إرادة الحديثين. لأنه عندما لجأ إليك حدثًا مضطربًا بحرب شيطانية لم تشجعه بأية تعزية، بل دفعت به إلى اليأس المحزن المهلك، وألقيت به في أيدي العدو، وكنت كمن لا تبالي بالهلاك المحزن الذي يلحقه.
مع أن (الشيطان) لم يهاجمك بنفس القوة التي هاجمه بها، لأنه يزدري أن يحاربك… وقد ناضل ضده لعلّه يجرده من محاسن الفضيلة التي وجدها في طبيعته، وأراد أن يخربها بسهامه النارية، إذ يعلم بلا شك أن هذا (الشاب) أقوى منك ، لذلك جدّ في محاربته بلا هوادة، حاسبًا أن غلبته على هذا الشاب شرفًا عظيمًا.

يلزمك إذن أن تتعلم العطف على الذين هم في ضيقة، ولا تُرعب المعرضين لخطر اليأس المهلك، ولا تثقل عليهم بالكلام القاسي، إنما أصلحهم بكلمات التعزية الهادئة العميقة. فإن سليمان الحكيم يقول:

أنقذ المنقادين إلى الموت والممدودين للقتل. لا تمتنع” (أم 11:24). ولتكن على مثال مخلصنا: “قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ…” (مت 20:12).

والآن فإن ما قد حدث هو للخير، إذ تحرر الشاب من شهواته المهلكة وأعلمك الله شيئًا عن قوة تلك الحرب وعن ضرورة الترفق، لهذا فلنتوسل معًا إلى الله لكي ينزع عنك ذلك التأديب الذي سمح لك به لأجل نفعك، “لأنه هو يجرح ويعصب. يسحق ويداه تشفيان” (أي 18:5). “الرب يُميت ويُحيي. يهبط إلى الهاوية ويصعد” (1صم 6:2). وهو يبيد بندى روحه السهام النارية التي للشيطان التي سمح بها ليجرحك كطلبي.
وإذ سمح الله برفع هذه التجربة من أول صلاة للشيخ بنفس السرعة التي بها سمح بمجيئها، فقد أوضح الله ببرهان جلي أنه حين يكشف إنسان أخطاءه ويعرّيها يلزم (لأب اعترافه) ليس فقط ألا يزجره، بل ولا يستهين بحزنه (من أجلها).
لذلك يلزمك ألا تترك الطريق الذي تكلمنا عنه سابقًا أو ترتد عن تقاليد الآباء لمجرد غلاظة شيخ ما أو بعض الشيوخ وسطحيتهم، لأن العدو المحتال يستخدم شيبتهم استخدامًا شريرًا.
فيجب عليك بدون أي خجل أن تكشف كل شيء للآباء، وتتسلم منهم علاج الجراحات بإيمان وتقتدي بحياتهم وأقوالهم. فإذا ما حاولنا ألا نفعل شيئًا حسب حكمنا الخاص (بل نستشيرهم) فإننا سننال بحق عونًا مثلهم ونبلغ إلى ما وصلوا إليه.

14- مثال (أ) صموئيل
أخيرًا فإن هذا الأمر واضح بأنه مقبول عند الله، حتى أنه ليس باطلاُ وُجد له مكان في الكتاب المقدس. فالله لم يكلم صموئيل الصبي بالحديث المباشر ولا بالحوار الإلهي، بل سمح له بالذهاب مرة أخرى إلى الشيخ (عالي الكاهن). لقد شاء أن يتدرب ذاك الذي استحق سماع صوت الله على يديْ (عالي) رغم أنه أغضب الله في شيخوخته… حتى يختبر ذاك الذي دُعي لوظيفة إلهية حياة الإتضاع، ويكون قدوة للشباب في ذلك.

15- (ب) بولس الرسول
عندما نادى السيد المسيح بولس ودعاه فتح له طريق الكمال، لكنه استحسن أن يوجهه إلى حنانيا، طالبًا منه أن يتعلم الحق عن طريقه، قائلاً: “…قم وادخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل” (أع6:9).
لقد أرسله إلى رجل شيخ، معتبرًا أن ذلك أفضل من أن يتسلم تعاليمه منه مباشرة. لئلا يصير بولس مثلاً سيئًا في الاعتماد على ذاته في التعليم، إذ يقنع كل أحد نفسه أنه هو أيضًا يتعلم أحكام الله وتعاليمه بنفسه دون حاجة إلى طريق تعاليم الآباء.


بل ويعلمنا الرسول نفسه عن عدم الاكتفاء الذاتي في التعليم قدر المستطاع، وذلك ليس بالكلام بل بالعمل، فيقول أنه ذهب بمفرده إلى أورشليم لهذا الهدف، أي ذهب إلى مجمع غير رسمي يعرض فيه على زملائه الرسل والسابقين عنه الإنجيل الذي يبشر به بين الأمم،

ونعمة الروح القدس المصاحبة له بعلامات قوية وعجائب، إذ يقول “…وعرضت عليهم الإنجيل الذي اكرز به بين الأمم ولكن بالانفراد على المعتبرين لئلا أكون أسعى أو قد سعيت باطلاً” (غلا 2:2).
فمن هو هذا المكتفي بذاته، الأعمى الذي يتجاسر فيثق في أحكامه الخاصة وتمييزه الشخصي، بينما الإناء المختار يعترف باحتياجه للاجتماع والتشاور مع زملائه الرسل؟!
إذن رأينا أن الله لم يكشف لأحد طريق الكمال، طالما كانت له فرص للتعلم من الآباء واختباراتهم، غير مكترثين بمشورة الآباء لذلك يقول: “اسأل أباك فيخبرك وشيوخك فيقولوا لك” (تث7:32).

16- أهمية التمييز في اقتناء الفضائل
يلزمنا أن نطلب فضيلة “التمييز” بكل طاقاتنا عن طريق الإتضاع، هذا الذي يحفظنا بدون أي ضرر في أي جانب من الجانبين… فالمغالاة في الصوم والنهم كلاهما يؤديان إلى نهاية واحدة. والمغالاة في السهر في الفضائل يوازي التراخي في نوم عميق من جهة ضررهما للراهب. وحينما يضعف الراهب بسبب التقشف الزائد يعود إلى الحالة التي يكون فيها الراهب مهملا ومقصرًا.


لذلك نرى أن أولئك الذين لم ينخدعوا بالنهم كثيرًا ما يهلكوا بالصوم الزائد. وتؤدى الفضائل غير المعتدلة والسهر ليلاً الزائد إلى نفس الهلاك الذي يسببه النوم. وفي ذلك يقول الرسول “…بسلاح البر لليمين ولليسار” 2كو7:6.
فلنتقدم باعتدال سليم، ونسير في الطريق الوُسطى بروح التمييز.

17- التمييز والاعتدال
فإنني أتذكر إنني كنت أقاوم شهوة الطعام حتى كنت امتنع عن أخذ أي شيء لمدة يومين أو ثلاثة أيام، ولم يكن ذهني يضطرب حتى بتذكر أي طعام ما. وأما عن النوم فإنه بخداع شيطاني نزع النوم من عيني لمدة عدة أيام وليالي، حتى أنني توسلت إلى الله أن يمنحني قليلاً من النوم. لقد شعرت أنني في خطر عظيم بسبب نقص الطعام والنوم أكثر مما في الجهاد ضد الاسترخاء والنهم.


فيلزمنا أن نحذر لئلا نسقط في التدليل عن طريق التنعم الجسدي والتساهل مع أنفسنا بالأكل قبل الميعاد المناسب، أو الأكل بشراهة، وفي نفس الوقت يلزمنا أن نقتات بالطعام والنوم كما يتناسب معنا حتى ولو لم نحب ذلك… لأن الزهد المغالى فيه أكثر ضررًا من الشبع بغير حرص، لأن الأخير يتدخل فيه تأنيب الضمير فيفيدنا ويدفعنا إلى المستوى الحقيقي بدقة، أما المغالاة فلا يحدث فيه تأنيب ضمير…

18- سؤال
جرمانيوس: إذن ما هو القياس الذي نحتفظ به في الزهد حتى ننجح في حياتنا سالمين معتدلين بين الحدين؟

19- موسى:

بالنسبة لهذا الأمر نحن نعلم أن هناك أحاديث كثيرة لآبائنا بشأنه. من جهة التقشف فبالنسبة لبعض (الرهبان) الذين يعتمدون في حياتهم على البقول أو الخضر والفاكهة فقط، فإن القياس المعتدل هو خبزتين يزنان بالكاد رطلاً.

20- اعتراض
لقد تقبلنا حديثه بسرور، وأجَبْناه أنه يصعب علينا أن نعتبر هذا القياس تقشفًا كما أنه ليس من الصعب الوصول إليه بالمرة.

21- موسى:

إن كنت ترغب في تذوق قوة هذه الحكمة فلتحتفظ بهذا القياس باستمرار ولا تكسره…

22- بل هذا هو الحد الطبيعي للتقشف، وهو أن يسمح كل شخص لنفسه بالطعام قدر احتياجات قوته أو حجم جسده وعمره، فنسمح بالكمية التي يحتاجها الجسد دون أن يشعر بامتلاء…
فإنه إذا لم يتحدد للإنسان قانون، فإنه تارة يضيق على معدته بقلة الطعام وكثرة الأصوام، وأخرى يملأها بالأكل الزائد.
فالعقل الذي يتعب بسبب قلة الطعام يخسر نشاطه في الصلاة فينهك العقل بسبب الضعف الزائد للجسد ويرغم على التراخي، ثم يعود ليتضايق بكثرة الطعام، وبالتالي لا يقدر أن ينسكب في الصلوات بانطلاق ونقاوة أمام الله، ولا ينجح في حفظ نقاوة عفته على الدوام. فإنه وإن أبدى أنه يطهّر الجسد بتقشفه العنيف إلا أنه يغذي شهوات الجسد بوقود الطعام الذي يأخذه.

24- وهذا الأمر يصعب جدًا تنظيمه، حتى أن أولئك الذين لم يدركوا بعد “التمييز الكامل” يفضلون امتداد صومهم إلى يومين محتفظين بطعام اليوم الأول إلى الغد، حتى إذا ما فطروا يقدرون أن يتمتعوا بطعام كثير حسب طلب شهوتهم.


وأنتم تعلمون ما حدث مع صديقكم بنيامين، الذي تمسك بعناد بخصوص هذا الأمر. فإنه لم يكن يأخذ الخبزتين ولا كميات الأكل القليلة الخاصة به، بل كان يفضل أن يمد صومه إلى يومين حتى إذا ما فطر يملأ معدته الشرهة بضعف الكمية المخصصة. فكان يتلذذ بالأربع خبزات بشهوة. ولعلكم تتذكرون بلا شك أي نهاية كانت لذلك الرجل الذي اعتمد على اختباراته الذاتية بعناد أكثر من اتكاله على تقاليد الآباء. فقد ترك الدير وعاد إلى الفلسفة الباطلة والغرور الأرضي.
ها هو بسقوطه يؤكد ضرورة التمسك بتعاليم الآباء السابق ذكرها، وبهلاكه يعطينا درسًا من جهة أنه لا يستطيع أحد أن يتسلق مرتفعات الكمال، ولا أن يبيد خداع الشيطان الخطيرة ما دام يتكل على تعاليمه وخبرته الخاصة.

25- سؤال: أما نكسر قانون الطعام بسبب مجيء زائر؟
جرمانيوس: وكيف يمكننا أن نحفظ هذا القياس دون أن نخالفه؟ فقد يحدث أحيانًا بعد الساعة التاسعة[5] حيث تنتهي فترة الصوم حضور بعض الاخوة لرؤيتنا، وعندئذ يلزمنا أن نأكل معهم فنزيد كمية طعامنا المحددة التي اعتدنا عليها وإلا لا نقدم هذا الإكرام الواجب.

26- موسى: يلزمنا أن نراعى كل الواجبات بنفس العناية، فعلينا بتأنيب داخلي نحفظ الكمية المناسبة المسموح لنا بها… وبنفس الطريقة يلزمنا أن نقدم الإكرام ونهتم بالأخ الذي يصل إلينا من أجل المحبة.


فإذا قدمت طعامًا لأخٍ لك أو حتى للسيد المسيح، بالضرورة يكون موجبًا للسخرية إن لم تشترك معه فيه، ممتنعًا عن الأكل. ويمكننا أن نحفظ أنفسنا دون أن نخطئ في الأمرين، فنأخذ قطعة واحدة من الخبز المسموح لنا بهما في الساعة التاسعة، ونحتفظ بالأخرى إلى المساء، محتاطين لئلا يأتي أحد. فإذا افتقدنا أحد الأخوة يمكننا أن نشترك معه بأن نأكلها وبهذا لا نكون قد زدنا عما اعتدنا عليه. ويكون حضور الأخ مبهجًا لنا وليس مصدر قلق، مظهرين له الإكرام واللطف من غير أن نتهاون في نسكنا. وإذا لم يحضر أحد يمكننا أن نأكل “الخبزة” الثانية في المساء حسب ما يسمح به لنا قانوننا.
وبحسن التدبير هذا إذ تأكل “خبزة” واحدة في الساعة التاسعة لا تتضخم المعدة بالمساء. وهذا غالبًا ما يتبعه المدققين في التقشف، مفضلين ذلك عن تأجيل كل غذائهم إلى المساء. لأنه بالحقيقة من يأكل طعامه (كله) بالليل متأخرًا، يمنع فكره من الاستنارة ويضايقه في الصلوات المسائية.
وأيضًا فإن الساعة التاسعة مناسبة للأكل ومريحة، حيث يتقوّت فيها الراهب، فيساعده في أن تكون معدته غير مثقلة خلال السهر الليلي، بل يصير مستعدًا بالتمام للصلوات المسائية إذ يكون الأكل قد هُضم[6]…

ملخص المبادئ

 “التمييز” هو عين القلب التي تفرز الأفكار والأعمال مميزة إيّاها. هو عطية إلهية يلزمنا أن نثابر في طلبها بلجاجة من الله “الحكمة” ذاته.
 التمييز يحفظ الإنسان من الضربات اليمينية كالمغالاة في السهر أو الصوم أو الزهد مما يسقط الإنسان في الكبرياء، كما يحفظه من الانحراف اليساري فلا يقبل التراخي والكسل وأفكار الشر.
 أولاد الله المتضعون في تمييزهم:

1- لا يعتمدون على فكرهم الذاتي بل يتمسكون بفكر الآباء الأولين وروحهم مقتدين بهم في الرب.
2- لا يخفون شيئًا من أفكارهم وأعمالهم عن أب اعترافهم، لأن الفكر الشرير ينكسر سلطانه متى خرج إلى النور، وأيضًا يظهر خداعه ويفضحه.
3- الشيبة ليست هي كل مؤهلات الراعي (أب الاعتراف)، إنما يلزم أن يكون مُحنكًا في الشركة مع الرب سالكًا بلا عيب.
________________________________________
[1] الحديث في المناظرات عن الرهبان وقد استبدلت كلمة “راهب” بـ “إنسان”.
[2] الآباء الشيوخ Elders.
[3] قبائل متوحشة وسافكة للدم.
[4] لم يذكر اسمه لأنه كان لا يزال حيًا.
[5] أي الساعة 3 بعد الظهر.
[6] وصف كاسيان بعد ذلك كيف أن الآب موسى قد طبق هذا عمليًا إذ قدم المائدة مرتين في اليوم (الساعة التاسعة والمساء)…
 
قديم 18 - 09 - 2014, 02:41 PM   رقم المشاركة : ( 6196 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,056

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

العادلة الانتقامية والعدالة الالهية
(حول انجيل الابن الشاطر )

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

ايها الاحباء: هذا الاحد الثاني من فترة التريودي المهيئة للصوم الكبير ، احد التوبة.
هو على بعد تسعة اسابيع من الفصح . ايضا في هذا اليوم تقرأ الكنسية المثل الابن الشاطر او الأب الرحيم ، فقد اعطت الكنيسة اسماء كثيرة لهذا النص الانجيلي الذي سمعناه الآن .
يُعتبر هذا النص من روائع الادب العالمي من حيث قيمته الادبية والروحية ، التي لا يشبهها اي شي آخر او نص آخر على وجه الارض.
اذ يصور لنا انجيل اليوم، رحمة الله نحو الانسان الخاطئ ، وايضا يذكرنا بمراحل التوبة التي يجب ان يمر بها كل مؤمن لينال نعمة الغفران عن الخطايا .
لذلك فكل سنة يعود الينا هذا المثل ليعطينا رجاءً واملاً وبريقا من النور يمسح عنا كل بأس وكل ظلمة ، ويُنهض بنا من عتمات وظلمات نفوسنا .
ايضا لكي نفهم اكثر واكثر العلاقة بين الله والانسان ونميز بين العدالة الانسانية والعدالة الالهية التي هي الرحمة والغفران والمحبة ، والتي تأتي عن طريق التوبة .
اذ بدون التوبة والاعتراف لايستطيع احد ان يخلص ، وان كانت لديه فضائل كثيرة ، لانه لايمكن ان يوجد انسان ما خطئ ابدا . كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم .
الاعتراف المتواضع بخطايانا هو مرضي جدا لدى الرب ، لو كان آدم بعد سقوطه قد اعترف بخطأه تائبا لوجد سماحا وغفرانا من الله .
لذلك معظمنا يُهمل وينسى ممارسة سر التوبة والاعتراف ، وبمقدار تراجعنا عن ممارستنا لسر التوبة والاعتراف بمقدار ما نبتعد عن الله وعن محبة الانسان الاخر.
فما اجمل يا احبتي العودة الى الله فمهما كنا خطأة ملطخين بالاثام يجب ان نعود الى الله ، خير لنا من بقاء في مستنقع الخطيئة ، لنقول مع داود النبي : " ان يوما في ديارك يارب خيرٌ لي من الف ( يوما ) .
في مثل الابن الشاطر : موقفان اساسيان للأب ، موقفان يكشفان صورة الله الرحومة العادلة وهما ، موقف الابن الاصغر وموقف الابن الاكبر .
وهناك ماهو مركزي بينهما هو رحمة الله الممثلة (بموقف الأب) الواسعة للخلاص عبر الغفران والشفاء الداخلي .
من قراءتنا لهذا النص نراجع حياتنا ايَ نحن في هذا المثل ؟ من الذي يمثلنا ؟ هل الاخ الاكبر ام الاصغر ؟ .
هذا المثل يعطينا صورة عن محبة الله الفائقة للانسان والتي جعلت الله يتجسد بيسوع المسيح ويأتي على الارض ، ليبحث عن الخاطئ ويخلصه بشرط ان يقبل الخاطئ خلاص الله بان يتوب ويرجع الى الله .
ان الله يفرح فرحا عظيما عند رجوع الانسان اليه فيخصله ويتعامل معه بحرارة حب الله.
لماذا يفرح الله بخلاص الانسان الخاطئ؟ ذلك بالرغم من خطيئة شوهت الانسان وجعلت عداوة بين الله والانسان ، ولكن الانسان ظل محبوبا من الله ولا يريد له الهلاك .
الابن الاصغر اخطأ مرتين ،
الاولى: عندما اراد ان يبتعد عن ابيه ، فكان لا يعرف مقدار محبة الأب له ولا يدرك قيمة وجوده في بيت ابيه، وقيمة قربه منه . فاراد ان يبتعد وينعزل عن ابيه بان طلب الميراث .
الخطأ الثاني : اذاً هو طلب الميراث وهذا معناه الخروج عن سلطة الأب ، وعدم احترامه كرأس للعائلة ، حيث كان هذا جرح للأب ، لان الميراث يُقسم عادة بعد وفاة الأب او بموافقته في حياته ، وبهذا يعلن الابن الاصغر موت الأب وهو لا يزال على قيد الحياة .
بعبارة اخرى كأن يقول له : انت ميت بالنسبة لي فاعطيني نصيبي من الميراث.
فانقطعت العلاقة بين الابن الاصغر وابيه ، حيث ابتعد بعيدا عنه فضيَع الابن الميراث فاحسَ بالحاجة ، فذهب الى شخص في تلك البلاد وارسله لكي يرعى الخنازير .
وكان احقر عمل يقوم به الانسان هو رعاية الخنازير ، مَن يصدق فالابن قد سقط في الحضيض .
نتيجة خطيئة الابن الاصغر هي الانحدار من الشبع الى العوز ، ومن دسم في بيت ابيه الى خرنوب الخنازير .
خطيئة الابن الاصغر جعلته يحس بالمذلة والمرارة وبالحرمان فتذكر العبيد عند ابيه كم هم يتمتعون بالعيش الكريم اكثر منه .
احسَ بحب ابيه ومتذكرا حالة بيت ابيه ، فتحول راجعا الى ابيه ( فرجع الى نفسه ) وهذه هي التوبة . كان يتوقع من ابيه التوبيخ أو الغضب حين يلقاه بهذه الحالة. فقرر ان يقول له : اخطأت الى السماء واليك .
لكن تفاجأ بابيه وردة فعله ، يقول لنا الانجيل ، اذ كان اي ( الابن ) بعيدا رآه ابوه فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبله وقال ابني كان ضالا فوجد .
ان الأب شعر بالخسارة حينما تركه ابنه وغادر ، وعند اللقاء من الجديد ، لم يعط الأب بان يكمل الابن قوله بان يكون خادما يعيش مثل العبيد عند ابيه ، فقاطعه وقال للخدام ان يخرجوا له احلى الثياب.
ان مجرد اعتراف الابن الاصغر بخطأه نحو ابيه واخيه نال غفران ، لذلك وقع الاب على عنقه وقبله ، فقبلة الأب لا تدل فقط على محبته القلبية لابنه ، بل مبادرة للمصالحة .
فعندما يرى الله اصرار الخاطئ على ترك الماضي والذهاب اليه يتدخل فيغيره ويجدده ، وهذه هي الولادة الجديدة التي تسمى التوبة الحقيقية .
اذاً القرار الذي اتخذه الابن الاصغر بالعودة الى ابيه وضعه في موضع التنفيذ ( فقام ومضى) كما يقول الانجيل . ان فعل قام هو نفس الفعل الذي يرتبط بقيامة المسيح من بين الاموات .
اذا لقد تمم هذا الابن في حياته قيامة يسوع المسيح بطريقة شخصية وروحية ، تغلب على الشر وعلى خطيئة واختار الخلاص والعودة الى بيت ابيه .
ما هي نتائج العودة او الولادة الجديدة اي التوبة؟
غير قبلات حب بحضن الله الابدي .لبس افضل ثياب ، الثوب الاول . معنى الثوب هو رمز للكرامة الملوكية وايضا كلمة الثوب الاول تشير الى رغبة الأب باعادة الابن الى المقام الاول الذي كان يملكه اي اعادته الى مكانه الاول . صار ابنا من جديد ولم يعد متمردا او غريبا .
ثانيا: الباسه خاتم . والخاتم هو رمز للسلطة ، فهو اشارة لانتماء الابن الى العائلة والمشاركة في السلطة الابوية . فالخاتم هو الختم ، به كان يصار الى ختم كل الرسائل والمعاملات في العالم القديم . بهذا اشرك الأب ابنه بادارة بيته .
ثالثا : ارتداء الحذاء: الحذاء يرتديه المواطن الحر ، اما العبد فيسير حافي القدمين. وايضا يشير الى عودة الحرية الى الابن بعودته الى ابيه .
رابعا: امر الأب بذبح العجل المسمن . ما كان يذبح العجل الا في مناسبات بغاية الاهمية مثلا : عند ضرورة تقديم ذبيحة للرب ، او لتكريم ضيف بغاية الاهمية . ( ضيافة ابراهيم )
اذا ذُبح العجل للفرح وللاحتفال ، وهذه صورة للفرح الرب بقيامة الابن الميت وعودته الى الحياة ومشاركته من جديد فرح البيت الوالدي .
ايها الاحباء: لماذا لم يفرح الاخ الاكبر لاخيه الاصغربعودته؟
في النصي الانجيلي كُشف لنا عن الحاجة الضرورية للابن الاكبر للشفاء والتطهير الداخلي من كل مشاكله النفسية التي تجلت وظهرت في غضبه ورفضه ان يدخل الى البيت ويشارك الجميع بفرحة عودة اخيه الضال .
لام وعاتب ابيه فقال له : " خدمتك كل هذه السنين وماعصيت لك امرا فما اعطيتني جديا لافرح به مع اصحابي" .
هذا الابن الاكبر حول علاقته مع ابيه ، علاقة عبد بخالقه وبالاحرى علاقة مرؤوس برب عمله ، الذي طالما اطاعه وخدمه ، وفي المقابل يطالب باستحقاقاته.
ومن المظاهر المرضية عند الابن الاكبر هي الغيرة من اخيه وعدم المغفرة له وايضا ادانته لاخيه .
الأب احترم حرية ابنه الاكبر فلم يجيره على الدخول ، بل بادر هو كعادته فخرج الى ابنه الصاخب ممتصا لغضبه ، راجيا اياه الدخول معه الى بيتهم .
كان الأب متفهما لموقف ابنه الاكبر مسامحا اياه بسبب جهله ، ومظهر له الكثير من الحب والاحتضان : " يا بني انت معي في كل حين ، وكل ما هو لي فهو لك "
الأب الحكيم هذا، يوجه دعوة ثانية للابن الاكبر لمشاركته فرحه بعودة اخيه الى البيت الوالدي ، هنا ينقل الأب الابن من المفهوم العدالة الانتقامية الى المنطق الالهي للعدالة التي تعانق السلام والمحبة والغفران .
هنا يصبح الابن الاكبر مدعوا لا لقبول عودة اخيه فقط بل للفرح لقيامة اخيه من بين الاموات ، فيصبح الابن الاكبر مشاركا لابيه في خلاص اخيه الاصغر .
ايها الاحباء :
بالحقيقة لم تكن المشكلة الابنين الطمع بميراث ابيهم ، بل بالتمركز والتموضع على الذات اي الانانية والكبرياء.
الابن الاصغر كان يبحث عن حريته وتحقيق ذاته ، هو ليس خطأ لكن الخطأ انه ارادها بالاستغناء عن ابيه ، ولهذا فشل وسقط .
اما الابن الاكبر كان يبحث عن حب ابيه وعن مكانته عند ابيه ، وهذا ليس الخطأ لكن الخطأ انه ارادها بالاستغناء عن اخيه ، ولهذا لم ينظر الأب الى خطايا ولديه ليغفر لهما ، بل انه بدافع حبه النقي نظر الى حاجتهما وسدد هذا الاحتياج .
نظر لحاجة ابنه الاصغر للحب والاحتضان والقيمة عندما رجع اليه تائبا فاحتضنه, ونظر لحاجة الابن الاكبر في الشفاء الداخلي فرافقه .
اخيرا : ألا اعطانا الله ان نكون توَابين وتائبين وان نكون محبين وحاضنين اخينا الانسان الاخر ، وان نُشفى من خطايانا وامراضنا المتمثلة بكبريائنا و انانياتنا .
متذكرين اننا مهما ابتعدنا واخطانا انه هناك على باب القلب أبا رحوما شفوقا عادلا يقرع وينادي :
" تعالوا ايها المتعبين والمثقلين لكي انا اريحكم " .
لذلك لا تنسوا يا احبتي بعد صلاة الغروب يوم احد الغفران ان تقولوا من كل القلب لكل اخ سامحيني يا اخي لاجل المسيح ، وفي هذا تواضع يفترض ان نكون قد تعلمناه من العشار الاسبوع الماضي. امين
 
قديم 18 - 09 - 2014, 02:44 PM   رقم المشاركة : ( 6197 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,056

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

الـصـلاة
بقلم القمص ميخائيل جرجس صليب
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
لو أردنا أن نعّرف الصلاة تعريف بسيط نقول أنها صلة بين الإنسان والله .. وعندما طلب التلاميذ من الرب يسوع أن يعلمهم الصلاة قال لهم
"إذا صليتم فقولوا أبانا الذى فى السموات ليتقدس أسمك.
ليأت ملكوتك لتكن مشيئتك كما فى السماء
كذلك على الأرض. خبزنا كفافنا أعطنا اليوم.
وإغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا.
ولا تدخلنا فى تجربة لكن نجـنا من الشـرير
لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد آمين"(1).ـ

وتنقسم هذه الصلاة إلى جزئين رئيسين
الأول : خاص بالله
والثانى خاص بالناس وهـذه تشـبه الوصايا العشر .. فاللوح الأول خاص بالله، واللوح الثانى خاص بالناس.ـ

واشترط فى الصلاة أن لا تكون برياء
"ومتى صليت فلا تكن كالمرائين فإنهم يحبون أن يصلوا قائمين فى المجامع
وفى زوايا الشوارع لكى يظهـروا للناس الحق أقـول لكم إنهم قد اسـتوفوا أجـرهم.
وأما أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك واغلق بابك
وصل إلى أبيك الذى فى الخفاء فأبوك الذى يرى فى الخفاء يجازيك علانية"(2).ـ

وأن لا نكرر الكلام الباطل فيها
"وحينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلاً كالأمم فإنهم
يظنون أنه بكثرة كلامهم يستجاب لهم فلا تتشبهوا بهم"(3).ـ
وأن نكون تائبين حيث يقول الرب
"حين تبسطون أيديكم أستر عينى عنكم
وإن كثرتم الصلاة لا أسمع أيديكم ملأنة دماً
اغتسلوا تنقوا اعزلوا شر أفعالكم من أمام عينى
كفوا عن فعل الشر"(4).ـ

وأن نغفر للمسيئين إلينا
"ومتى وقفتم تصلون فاغفروا إن كان لكم على أحد شئ لكى يغفر لكم أيضاً
أبوكم الذى فى السموات زلاتكم وإن لم تغفروا أنتم لا
(1)- (مت6: 9). (2)- (مت6: 5).
(3)- (مت6: 7). (4)- (أش1: 15).
يغفر أبوكم الذى فى السموات أيضاً زلاتكم"(1).

وقال سليمان الحكيم
"من يحول أذنه عن سماع الشريعة فصلاته أيضاً مكرهة"(2).ـ

ويقول الله على لسان أرميا
"لأنه بعدد مدنك صارت آلهتك يا يهوذا وبعدد شوارع أورشليم وضعتم مذابح للخزى. مذابح للتبخير للبعل وأنت فلا تصل لأجل هذا الشعب ولا ترفع لأجلهم دعاء ولا صلاة لأنى لا أسمع فى وقت صراخهم إلىّ من قِبل بليتهم"(3).ـ
وإذا أردت أن تصلى صلاة مقبولة فحاول أن تطبق التدريبات الآتية :
ـ1- يقول سـفر الأمثال
"صلاة المستقيمين مرضاته"(4).. "ويسمع صلاة الصديقين"(5). ـ
وداود رجل الصلاة كان يقول "أما أنا فصلاة"(6).ـ
ـ والسيد المسيح قال لتلاميذه "ينبغى أن يصلى كل حين ولا يمل"(7)
وضرب لهم مثلاً عن قاضى الظلم الذى أنصفها لأجل لجاجتها فى الطلب
لذلك قال السيد المسيح
فلا ينصف الله مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً
وهو متمهل عليهم أقول لكم إنه بنصفهم سريعاً"(8).ـ

وعندما كان بطرس فى السجن يقول سفر الأعمال
"وأما الكنيسة فكانت تصير منها صلاة بلجاجة إلى الله من أجله"(9).ـ
ويذكر لنا سفر الأعمال عن قوة الصلاة فيقول
"ولما صلوا تزعزع المكان الذى كانوا مجتمعين فيه"(10).ـ

ويقول القديس يعقوب الرسول أن قوة الصلاة تشفى
"وصلاة الإيمان تشفى المريض والرب يقيمه وإن كان قد فعل خطية تغفر له"(11).ـ
ـ (1)- (مر11: 25). (2)- (أم28: 9). (3)- (أر11: 13).ـ
ـ(4)- (أم15: 8). (5)- (أم5: 29). (6)- (مز109: 4).
ـ (7)- (لو18: 1). (8)- (لو18: 7، 8). (9)- (أع12: 5).ـ
ـ (10)- (أع4: 31). (11)- (يع5: 15).ـ
بطرس الرسول يخرج من السجن بقوة صلاة التلاميذ
لذلك يقول بولـس الرسول إلى أهل كولوسى
"واظبوا على الصلاة ساهرين فيها بالشكر"(1). ـ
والمسيح علم تلاميذه الصلاة، وكان يخرج إلى الجبل ليصلى
"وقضى الليل كله فى الصلاة"(2).ـ

ـ2- هناك صلة قوية وثيقة بين الصلاة والصوم
فالمسيح له المجد قال لتلاميذه
"هذا الجنس (أى الشياطين) فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم"(3).ـ

ـ3- وهناك أيضاً صلة وثيقة بين الصلاة والصدقـة فالملاك الذى ظهر لكرنيليوس قائد المئة من الكتيبة الإيطالية قال له
"صلواتك وصدقاتك صعدت تذكاراً أمام الله"(4)
أى أنها قُبلت أمام الله.

ـ4- إن الصلوت فى الكنيسة تُقترن دائماً بكلمة الله لذلك كان الشعب يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات(5)
وبالتالى تركوا لنا كلمات التقديس التى نستخدمها الآن فى القداس الإلهى.
ـ5- أصلى من أجل الآخرين المحتاجين للصلاة كالمرضى والمسجونين وذوى المشاكل حتى الذين يسيئون إلينا .. كما يذكر الإنجيل ويقول
"صلوا لأجـل الذين يسـيئون إليكم ويطردونكم لكى تكونـوا أبناء أبيكم الذى فى السموات"(6).ـ
ـ ويعقوب الرسول يقول
"صلوا بعضكم لأجل بعض لكى تشفوا طلبة البار تقتدر كثيرا فى فعلها. كان إيليا إنساناً تحت الآلام مثلنا وصلى صلاة أن لا تمطر فلم تمطر على الأرض ثلاث سنين وستة أشهر. ثم صلى أيضاً فأعطـت السماء مطراً وأخرجت الأرض ثمرها"(7).ـ

والكتاب المقدس تكلم عن الشفاعة التوسلية بالصلاة، فلما ذهب إبراهيم إلى جرار قال عن سارة أنها أخته فأراد ملك جرار أن يتزوجها فمنعه الله وقال له
(1)- (كو4: 2). (2)- (لو6: 12). (3)- (مت17: 21).
(4)- (أع10: 4). (5)- (أع2: 42). (6)- (مت5: 44).
(7)- (يع5: 16- 18).
السيد المسيح يصلى قدوة لنا
"فى الحلم أنا أيضاً علمت أنك بسلامة قلبك فعلت هذا وأنا أيضاً أمسكتك عن أن تخطئ إلىّ لذلك لم أدعك تمسها فالآن رد امرأة الرجل فإنه نبى فيصلى لأجلك فتحيا"(1).ـ
وصلى موسى من أجل الشعب
"فأتى الشعب إلى موسى وقالوا قد أخطأنا إذ تكلمنا على الرب وعليك فصلى إلى الرب ليرفع عنا الحيات فصلى موسى لأجل الشعب. فقال الرب لموسى إصنع لك حية محرقة وضعها على راية فكـل من لدغ ونظر إليها يحيا"(2).ـ

ـ6- يجب أن تواظب على الصلوات والطلبات كما يقول الرسول عن الأرملة
"التى تواظب الطلبات والصلوات ليلاً ونهاراً"(3).ـ
وقد ذكر القديس لوقا عن حَنَّة النبية
"وهى أرملة نحو 84 سنة لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلاً ونهاراً"(4).ـ
وقد أخذت كنيستنا القبطية نظام الصلوات اليومية بالمزامير من داود النبى الذى يقول "سبع مرات فى النهار سبحتك على أحكام عدلك"(5).ـ
والآباء الرسـل صلوا بالمزامير، فالقديس بطرس الرسول ذكر عنه سفر الأعمال أنه صعد إلى السطح ليصلى وقت الساعة السادسة(6). وأيضاً "صعد بطرس ويوحنا معاً إلى الهيكل فى ساعة الصلاة التاسعة"(7).ـ
كما أن الرسل كانوا مجتمعين للصلاة فى العلية وقت الساعة الثالثة ساعة حلول الروح القدس(8).ـ
وفى صلاة باكر يقول المزمور "ياالله إلهى أنت إليك أبكر. عطشت نفسى إليك"(9).ـ
وصلاة المساء يقول المزمور " فلتستقم صلاتى كالبخور قدامك. ليكن رفـع
ـ(1)- (تك20: 6، 7). (2)- (عدد21: 7، 8). (3)- (ـ1تى5: 5). (4) (لو2: 27). (5)- (مز119: 164) (6)- (أع10: 9).ـ
(7)- (أع3: 1). (8)- (أع2: 15). (9)- (مز63: 1).
يدى ذبيحة مسائية"(1). ـ
وفى صلاة النوم يقول المزمور "لا أدخل إلى مسكن بيتى ولا أصعد على سرير فراشى ولا أعطى لعينى نوماً ولا لأجفانى نعاساً إلى أن أجد موضعاً للرب ومسكناً لإله يعقوب"(2).. أى مسكناً فى قلبى.
وأيضاً يقول المزمور "فى الليالى أرفعوا أيديكم أيها القديسون وباركوا الرب"(3).ـ
وصلاة نصف الليل يقول المرتل "فى نصف الليل نهضت لأشكرك فى أحكام عدلك"(4).ـ
وأيضاً يذكر الصلوات الثلاثة لنصف الليل "طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين، وإن جاء فى الهزيع الثانى أو فى الهزيع الثالث ووجدهم هكذا، فطوبى لأولئك العبيد"(5).ـ
ـ7- حاذر أن تكون صلواتك كالروتين كقول الكتاب "حينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلاً كالأمم فإنهم يظنون أن بكثرة كلامهم يستجاب لهم فلا تتشبهوا بهم"(6).ـ
بل تكون الصلاة بتمهل وبفهم كما يقول الرسول "أصلى بالروح وأصلى بالذهن أيضاً"(7)
لكى يتابع ذهنى الصلاة فانفعل بها.
وأيضاً أن تكون بخشوع واتضاع كما فعل العشار الذى قال "اللهم أرحمنى أنا الخاطئ"(8).. ويقول الكتاب عنه "إن هذا نزل إلى بيته مبرراً دون ذاك (الفريسى)"(9).ـ
يجب أن نتعلم من المسيح الصلاة بخشوع، ففى بستان جسثيمانى يقول الكتاب عن المسيح أنه "خر على وجهه وكان يصلى"(10).ـ
ـ(1)- (مز141: 2). (2)- (مز132: 3- 5). (3)- (مز134: 1ـ، 2).ـ
ـ(4)- (مز119: 62). (5)- (لو12: 37، 38). (5)- (مت6: 7).ـ
ـ(6)- (1كو14: 15). (7)،(8)- (لو18: 13). (9)- (مت26: ـ39)ـ.
ـ (10)- (لو22: 41).ـ
وفى إنجيل لوقا يقول "وجثا على ركبيته وصلى .. وإذ كان فى جهاد كان يصلى بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض"(1).ـ
ـ8- اختر الوقت المناسب للصلاة فلا تصلى أخر الليل وأنت متعب ومجهد نتيجة العمل طول النهار، أو قد تكون محتاجاً للنوم .. بل اختر مثلاً وقت الغروب لتصلى فيه صلاة الغروب والنوم معاً .. أو اختر الوقت الذى يناسب أحوالك لكى تستفيد من الصلاة.
ـ9- احرص على الصلاة بالمزامير ثم بعد ذلك صلى صلواتك الخاصة، ولكنك لو اكتفيت بالصلاة الخاصة فقط يكون علاقتك بالله علاقة مصالح فقط.. ولكن صلاة المزامير تشمل عنصر العبادة بما فيها من أجزاء تمجد الله وتشكر وتذكر عظمته .. كما أنها تحوى تأملات فى حياة المسيح بالجسد.ففى صلاة باكر تذكر أزلية الرب وتجسده، وقيامته، وإشراقه لأنه النور الحقيقى.
وفى صلاة الساعة الثالثة نتذكر حلول الروح القدس على التلاميذ ونطلب عمل الروح فينا.
وفى صلاة الساعة السادسة نتذكر صلب المسيح عنا، ونطلب مغفرة خطايانا.
وفى صلاة الساعة التاسعة نتذكر اعتراف اللص على الصليب، ونطلب أن نكون معه فى الفردوس وموت الرب عنا.
وفى صلاة الساعة الحادية عشر (الغروب) نتذكر الذين أتوا إلى الرب فى أخر النهار.
وفى صلاة النوم نتذكر الموت وفناء العالم والدينونة ووجوب الاستعداد لها.
وفى صلاة نصف الليل نذكر المجئ الثانى للرب، والاستعداد كما فعلت العذارى الحكيمات(2).ـ
ـ10- أخيراً أقول لك إن الصلاة هى علاقة حب بين الإنسان والله .. وكلما إزدادت علاقة الحب إزداد اشتياق الإنسان للحديث مع الله، وهذا يفسر لنا قصة
ـ (1)- (لو22: 44). (2)-(مت25: 1).ـ
الأنبا بيشوى الذى ربط شعر لحيته بحبل فى السقف حتى لا يغلبه النعاس لكى يصلى طول الليل ويكون فى معية الله ..
والأنبا أرسانيوس معلم أولاد الملوك الذى كان يصلى بعدما تغرب الشمس ويظل طول الليل مصلياً إلى شروق الشمس .. متشبهاً برب المجد الذى كان يصلى طول الليل كما يقول الكتاب "وفى تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلى وقضى الليل كله فى الصلاة لله"(1).ـ
ليتنا نتمتع ببركات الصلاة وفوائدها الكثيرة، لكى نتذوق حلاوتها ونقول مع داود النبى
"محبوب هو اسمك يارب فهو طول النهار تلاوتى"(2).ـ
السيد المسيح يصلى فى بستان جسثيمانى

(1)- (لو6: 12). (2)- (مز119: 97).
 
قديم 18 - 09 - 2014, 02:54 PM   رقم المشاركة : ( 6198 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,056

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

نقاوة القلب
القديس يوحنا كاسيان


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




المناظرة الأولى
نقاوة القلب طريق الملكوت للأب موسى

1- إقامتنا بالإسقيط

في صحراء الإسقيط حيث يوجد أعاظم الآباء الرهبان، ويترعرع الكمال، كنت مصطحبًا الأب جرمانيوس هذا الذي كان ملازمًا لي منذ الأيام الأولي، ومنذ بداية الخدمة الروحية، سواء ونحن في نظام الشركة أو في البرية. وتستطيع أن تلتمس مقدار وفاق صداقتنا ووحدة هدفنا مما يقوله الكل عنا إننا قلب واحد وروح واحد في جسدين.
وإذ كنا في البرية بحثنا عن الأب موسى الذي يعتبر من أسمى تلك الزهور الرائعة في البرية، متفوقًا لا في حياة العمل فحسب بل وفي حياة التأمل أيضًا.
لقد كنت شغوفًا لسماع تعاليمه، فطلبنا إليه سويًا بدموع أن يحدثنا لأجل بنياننا وذلك لمعرفتنا عنه جيدًا أنه لا يفتح باب الحديث عن الكمال إلا مع الذين يبحثون عنه بإيمان بقلوب تائبة. فهو يخشى الحديث عن تلك الأمور الهامة، ولا يكشفها إلا للساعين نحو الكمال،
غير متحدثٍ بها لغير المبالين أو الذين يتقبلون الكلام بغير إيمان كامل مستخفين بها وهم غير مستحقين لها، وذلك لكي لا يكون في حديثه عرضة للزهو الباطل أو بهذا يكون خائنًا لما قد أؤتمن عليه. أخيرًا غُلب بطلبتنا فبدأ يتحدث.

2- سؤال عن هدف المؤمن وغايته؟

قال: لكل العلوم والفنون أهداف وغايات يتطلع إليها المجاهدون في كل فن صابرين، محتملين كل أنواع المتاعب والأخطار والخسائر بفرح ورباطة جأش.
فالفلاح لا يعبأ بحرارة الشمس أو بالصقيع وبرودة الجو… فيقوم بتقسيم الأرض وحراثتها مرة فأخرى، متطلعًا إلى هدفه بلا ضجر. إنه يجاهد لتفتيت الأرض حتى تصير كالرمل الناعم منقيًا إيّاها من العليق والأعشاب، مؤمنًا بأنه ليس هناك طريق آخر يبلغ به هدفه اللامحدود إلا بحصوله على أفضل إنتاج وأكبر محصول،

بهذا يمكنه أن يعيش وتتزايد ممتلكاته. فإذ يمتلئ مخزنه يستعد ليفرغه ويلقي البذار في الأرض المحروثة مرة أخرى… هذا كله من أجل المحصول المنتظر!
كذلك المنشغلون بالتجارة لا يبالون بعدم ضمان تحقيق الربح أو بمخاطر المحيطات، إنما تحفزهم أمانيهم نحو تحقيق الربح.

والطامحون في الحياة العسكرية يتطلعون إلى هدفهم، أي نحو الشرف أو القوة، غير مبالين بالأخطار والهلاك الذي يلاحقهم خلال عملهم… من أجل رغبتهم في نوال الشرف.
ونحن أيضًا لعملنا هدف أو غاية بسببه نحتمل كل صنوف الجهاد ليس بدون ضجر فحسب بل وبفرح. فحرماننا من الطعام أثناء الصوم لا نعتبره ضيقًا، وأتعاب السهر تتحول إلى بهجة، والقراءة والتأمل في الكتاب المقدس ليس فرضًا ثقيلاً. فلا يخيفنا الجهاد المتواصل وإنكار الذات والحرمان من أمور العالم ومتاعب هذه البرية القاحلة.


وأنتما أيضًا إذ تستخفا بمحبة الأقرباء، أي بالعاطفة تجاههم بتركهم سالكين طريق الرهبنة، تاركين مسقط رأسيكما ومباهج العالم، عابرين كل هذه المناطق لكي تأتيان إلينا نحن البسطاء العائشين في حالة مضنية في البرية، ما هو هدفكما من هذا؟ وما هي غايتكما التي دفعتكما لتتحملا كل هذه الأمور بفرح؟

3- وإذ أصر على كشف الفكرة من إجابتنا على سؤاله، أجبناه قائلين: لقد تحملنا هذا كله من أجل ملكوت السموات.

4- أجاب حسنًا! لقد تحدثتما عن الهدف غير المحدود. لكن ما هو الهدف القريب، الذي إذا ما عرفناه ووضعناه دائمًا نصب أعيننا نقدر أن نبلغ غايتنا؟
وإذ اعترفنا بجهلنا بصراحة أكمل حديثه قائلاً:
كما قلت أولاً أن لكل فن أو علم هدف يوضع أمام الذهن… فإذا لم يتمسك الإنسان به بجهاد ثابت لا يصل إلى الغاية النهائية.
فكما قلت أن الفلاح يهدف إلى الحياة السعيدة والرخاء وتحقيق محصول وفير، وأما هدفه الحالي فهو حفظ الحقل نظيفًا من الأحجار والأعشاب…
ونحن أيضًا نهاية طريقنا في الحياة هو بلوغ ملكوت الله، ولكن ما هو الهدف الحالي الذي يلزم أن نتساءل عنه؟ فإننا إن لم نعرفه نتعب أنفسنا دون جدوى، لأن من يسافر في اتجاه خاطئ تضيع أتعابه سدى ولا ينتفع شيئًا من سفره.
وإذ دهشنا من هذا الحديث أكمل الشيخ قائلاً: إن هدف عملنا كما قلت هو “ملكوت الله” أو “ملكوت السموات”. وأما الهدف الحالي فهو “نقاوة القلب”، الذي بدونه لا نقدر أن نحقق الهدف النهائي.
لنوجه أنظارنا بثبات نحو هذا الهدف كعلامة ثابتة. ولنوجه سلوكنا نحوه مباشرة حتى إذا ما انحرفت أفكارنا بعيدًا عنه نعيدها إليه ونضبطها نحوه بإتقان كما لو كان مقياسًا دقيقًا. وبهذا تتحول جهودنا إليه، وبالتالي نستطيع أن نكتشف عما إذا كان عقلنا قد انحرف ولو قليلاً عن الاتجاه المحدد له.

5- هدفنا الحالي: نقاوة القلب

قبل الحرب يختبر الجنود مهارتهم بإطلاقهم السهام والرماح تجاه أهداف صغيرة محددة… وهم يعلمون أنه بغير هذه الوسيلة لا يمكنهم نوال الجعالة التي يترجونها… وبغير هذا لا يوجد ما يكشف لهم عن قدرة مهارتهم أو ضعفها…
وبهذا فإن الهدف النهائي الموضوع أمامنا هو “الحياة الأبدية”، إذ يقول الرسول: “فلكم ثمركم للقداسة والنهاية حياة أبديَّة” رو22:6. وأما الهدف الحالي فهو “نقاوة القلب” التي يعبر عنها الرسول بقوله: “ثمركم للقداسة” والتي بدونها لا يتحقق الهدف النهائي (والنهاية حياة أبدية)…
ويعلمنا الرسول عن نفس الهدف قائلاً: “أنسى ما هو وراء وأمتدُّ إلى ما هو قدُّام، أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا…” (في13:3،14). بمعنى أنه بهذا الهدف الذي به ينسى ما هو وراء، أي خطايا الحياة الأولي (عدم نقاوة القلب)، يجتهد لبلوغ جعالة السماء.

إذن فلنهتم بالكشف عن هذه الفضيلة أي “نقاوة القلب” متجنبين كل معوقاتها، لأنها خطيرة وضارة. فمن أجل نقاوة القلب ينبغي أن نفعل كل شيء، ونصبر على كل شيء، ولا نتعلق بأقربائنا وأرضنا (ممتلكاتنا) وكرامتنا (الأرضية) وجاهنا ومباهج العالم وكل أنواع الملذات…

6- زهد بغير نقاوة قلب
إننا نرى بعضًا ممن زهدوا أمور هذا العالم، ليس فقط الذهب والفضة، بل والممتلكات الضخمة، يتضايقون ويضطربون من أجل سكِّينة أو قلم أو دبوس أو ريشة، بينما لو وجهوا أنظارهم نحو نقاوة القلب بلا شك ما كانوا يضطربون من أجل الأمور التافهة، فكما لا يبالون بالغنى العظيم يتركون أيضًا كل شيء.


ويخاف البعض على كتبهم حتى أنهم لا يسمحون لأحد أن يحركها أو يلمسها… وهذا يكشف عن حاجتهم إلى الصبر والحب العميق. فإذ تركوا كل غناهم من أجل محبتهم للسيد المسيح إلا أنهم يحتفظون بطبيعتهم الأولي بالنسبة للأمور التافهة، فسرعان ما ينشغلون بها. وبهذا يصيرون عقيمين بلا ثمر كمن هم بلا حب.

هؤلاء يتحدث عنهم الرسول الطوباوي متنبئًا بالروح قائلاً: “وإن أطعمت كلَّ أموالي وإن سلَّمت جسدي حتى احترق، ولكن ليس لي محبة، فلا أنتفع شيئًا” 1(كو3:13).


من هذا يظهر بوضوح أن الكمال لا يتأتى لمجرد إنكار الذات أو ترك كل شيء أو الهروب من الكرامة ما لم يصحبها المحبة التي وصفها الرسول بالتفصيل مظهرًا أنها ليست إلا “نقاوة القلب” وحدها.
لأنه إذ المحبَّة “لا تحسد”، “لا تتفاخر”، “لا تُقبِح (تغضب)”، “لا تطلب ما لنفسها”، “لا تحتدُّ”، “لا تظنُّ السوءَ” 1(كو4:13،5)، هذا كله ماذا يعني سوى أن نقدم قلبًا نقيًا كاملاً محفوظًا من كل اضطراب؟!

7- أعمال صالحة بغير نقاوة قلب

ينبغي أن نصنع كل شيء أو نبحث عن أي شيء من أجل نقاوة القلب. فمن أجلها نطلب التوحد… ومن أجلها نصوم ونسهر ونحتمل الأتعاب والعري والدراسة ونقتني كل الفضائل الأخرى، لكي ما نهيئ قلوبنا ونحفظها من كل السموم الشريرة، وبهذا نصعد إلى كمال المحبة…
فالأمور التي تأتي في المرتبة الثانية في أهميتها كالصوم والسهر والزهد في العالم والتأمل في الكتاب المقدس، هذه يلزمنا أن نفعلها ناظرين إلى الهدف الرئيسي وهو “نقاوة القلب” التي هي “المحبة”. فعلينا ألا نفقد هذه الفضيلة الرئيسية بسبب تحقيق فضيلة أخرى.
فإذا لم ننفذ إحدى هذه الفضائل الأخرى لسبب قهري لا يصيبنا أذى، طالما وجدت الفضيلة الرئيسية. فلا يسوغ لنا أن ننفذ عملاً يكون من شأنه أن نفقد هذا الهدف موضوع حديثنا، بل نجاهد من أجله مهما كلفنا الأمر.
يشغف الإنسان بالحصول على أدوات العمل، لا لأجل امتلاكها بلا غاية لأن هذا في ذاته لا يحقق نفعًا… إنما باستخدامها يستطيع أن يضمن المعرفة العملية ويحقق هدفه المحدد، أي نوال الغنى الذي يرغبه. هكذا الصوم والسهر والتأمل في الكتاب المقدس وإنكار الذات وترك الممتلكات، هذه جميعها ليست كمالاً في ذاتها إنما تقود إلى الكمال. لأن هدف العلم (الروحاني) لا ينحصر في اقتناء هذه الأمور، إنما بها نبلغ إلى الغاية.
فمن يكتفي بهذه الأمور على أنها الخير الأعظم يتممها بغير هدف، جاعلاً أُمنية قلبه تحقيق هذه الأمور، دون أن تمتد جهوده لبلوغ الهدف الذي لأجله يمارس هذه الفضائل. وهذا يكون مثله مثل من يمتلك أدوات ويجهل هدف فنه الذي يستخدمها فيه…

8- مثال من الكتاب المقدس

نقاوة القلب هي موضوع جهادنا الرئيسي وغاية قلبنا الدائم، وهي تعني التصاق الروح بالله وبالأمور السماوية. أما ما خلاف هذا، فإنه مهما بلغت قيمته يحتل المرتبة الثانية، بل ويصير بلا قيمة وأحيانًا يكون ضارًا. وقد أوضح الإنجيل تفسيرًا رائعًا لهذا الأمر في حالة مريم ومرثا. لقد كانت مرثا تخدم مقدمة عملاً مقدسًا بلا شك، وفيما هي تخدم الرب وتلاميذه كانت مريم تهتم بتعاليمه الروحية فقط، جالسة عند قدمَي السيد المسيح اللتين قبَّلتهما ودهنتهما بطيب الاعتراف الحسن.
لقد التصقت بالرب الذي شهد لها أنها اختارت النصيب الصالح الذي لا يُنزع منها. لأنه بينما كانت مرثا تعمل مجتهدة وقد ارتبكت في الخدمة حتى شعرت بعجزها عن القيام بالخدمة بمفردها طلبت من السيد المسيح أن تساعدها أختها قائلة: “يا ربّ أَما تبالي بأن اختي قد تركتني أخدم وحدي. فقُلْ لها أن تعينني” (لو40:10).
لقد استدعت أختها لتعمل عملاً ليس تافهًا بل يستحق الثناء، ومع هذا بماذا أجابها الرب؟ “مرثا مرثا أنتِ تهتّمِين وتضطربين لاجل أمورٍ كثيرة. ولكن الحاجة إلى واحدٍ. فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن يُنزَع منها” (لو41:10،42).
لقد رأيت كيف جعل الرب الخير الرئيسي ينصب في التأمل الإلهي…!
لقد رأيت كيف احتلت جميع الفضائل الأخرى المركز الثاني رغم تسليمنا بأهميتها وفائدتها وسموّها، لأن هذه جميعها إنما تُصنع لأجل هدف واحد. فعندما قال الرب: “أنتِ تهتّمِين وتضطربين لأجل أمورٍ كثيرة. ولكن الحاجة إلى واحدٍ” جعل الخير الرئيسي لا يكون في الأعمال في ذاتها مهما بلغ شأنها، بل في التأمل في الرب، الذي هو بالحقيقة الأمر الأول.


هذا القول يجب أن يكون موضع اهتمامنا جدًا، فقد قال لمريم إنها اختارت النصيب الصالح من غير أن يلُم مرثا. فإن مدح الواحدة أظهر أن الأخرى أقل منها فحسب. وقوله “الذي لن يُنزَع منها” كشف أن نصيب الأخرى يمكن أن ينزع منها، لأن الخدمات الجسدية لا يمكن أن تبقى مع الإنسان إلى الأبد، أما اشتياق مريم فلن يكون له نهاية.

9- سؤال: كيف تزول الأعمال الصالحة؟

… ما هذا ؟ هل الاجتهاد في الصوم والمثابرة في القراءة وأعمال الرحمة والبر والشفقة والسخاء تنزع منا ولا تبقى مع فاعليها؟ مع أن الرب نفسه وعد بملكوت السموات لأجل هذه الأعمال، إذ يقول: “تعالوا يا مباركي أبي رِثُوا الملكوت المعَدَّ لكم منذ تأسيس العالم. لاني جُعْتُ فأطعمتموني، عطشتُ فسقيتموني…” (مت34:25،35). فكيف تُنزع الأعمال التي بها ينال صانعوها ملكوت السموات؟!

10- موسى: إنني لم أقل بأن جزاء العمل الصالح يزول، فالرب نفسه يقول: “من سقى أحد هؤلاءِ الصغار كأس ماءٍ بارد فقط باسم تلميذٍ، فالحق أقول لكم انه لا يُضِيع اجرَهُ” (مت42:10)، بل أؤكد أن فعل أي عمل سواء كان من ضروريات الجسد أو لضبطه… كل هذه الأعمال رغم ضروريتها والالتزام بها لكنها ستنتهي.


فالمثابرة على القراءة والزهد في الصوم لهما أهميتهما في تنقية القلب وقمع الجسد في هذه الحياة وحدها، طالما أن الجسد يشتهي ضد الروح (غل17:5)، بل وأحيانًا تنتهي في هذه الحياة وذلك كما في حالة إنهاك القوة بسبب التعب الشديد أو المرض الجسدي أو كبر السن حيث لا يقدر الإنسان على تنفيذها، وبالأكثر تنتهي هذه الأعمال عندما يلبس هذا الفاسد عدم فساد (1كو53:15)، ويُقام الجسد الحيواني جسدًا روحيًا (1كو 44:15)، ولا يعود الجسد يشتهي ضد الروح.
ويوضح الرسول بولس ذلك بجلاء بقوله “لأن الرياضة الجسديَّة نافعة لقليل، ولكن التقوى (وبالتأكيد يقصد بها المحبة) نافعة لكل شيءٍ، إذ لها موعد الحياة الحاضرة والعتيدة” (1تى8:4). فما قيل عنه إنه نافع لقليل هو ما لا نفعله كل حين والذي لا يمكن به في ذاته الوصول إلى الكمال الأسمى، ففي قوله لقليل يقصد به أحد معنيين:
الأول: من جهة قصر الوقت، فالرياضة الجسدية لا يمكن القيام بها في هذه الحياة الأرضية والحياة العتيدة.
الثاني: قد يكون ذلك إشارة إلى أن الفائدة أقل من الثانية، فالرياضة الجسدية تؤدى بنوع ما إلى بداية التقدم، ولكنها ليست مثل كمال المحبة التي وعد بها في هذه الحياة والحياة العتيدة.

إذن الأعمال السابق ذكرها هامة، إذ بها نصعد إلى مرتفعات المحبة. فتكون الأعمال التي ندعوها أعمال عبادة ورحمة ضرورية في هذه الحياة، حيث يوجد الظلم والجور بين البشر… لكن لا وجود لها في الحياة العتيدة حيث يسود العدل، فيتحول البشر عن الأعمال الصالحة إلى حب الله، والتأمل في السماويات في نقاء قلب دائم.

وهذا الأمر اختاره الذين كرسوا حياتهم للمعرفة ونقاوة القلب، باذلين كل جهدهم لكي يخضعوا له وهم بعد في الجسد، وتكمل نقاوة قلبهم حينما ينزع عنهم الفساد وينالون وعد الرب المخلص القائل: “طوبى للأَنْقِياء القلب، لأنهم يعاينون الله”.

11- خلود المحبة أو نقاوة القلب
لماذا نندهش من أن هذه الأعمال السابق ذكرها ستبطل بينما يخبرنا الرسول الطوباوي أنه حتى عطايا الروح القدس العظمى ستنتهي، مشيرًا إلى أن المحبة وحدها هي التي تبقى إلى الأبد، إذ يقول “..وأمَّا النبوَّات فستبطل والأَلسِنَة فستنتهي والعلم فسيُبطَل” (1كو8:13). أما عن المحبة فيقول “المحبَّة لا تسقط أبدًا..”.


فالعطايا توهَب إلى حين من أجل الحاجة إليها لاستخدامها، فإذا ما انتهى عملها زالت، أما المحبة فلا تسقط أبدًا، لأن المحبة لا يتوقف نفعها عند هذه الحياة بل يتعداها إلى الحياة العتيدة، فإذ تزول أثقال احتياجات الجسد تستمر المحبة في نشاط أعظم وسعادة أوفر، فلا تعود بعد تضعف بتأثيرٍ ما، بل بعدم فسادها الدائم تلتصق بالله بأكثر نشاط وغيرة.

12- أسئلة حول التأمل الدائم في الله
جرمانيوس: ومن يستطيع أن يبقى على الدوام في هذا التأمل وهو مثقل بالجسد الضعيف، دون أن يفكر قط في وصول أخ أو زيارة مريض أو في عمل يدوي، على الأقل يهتم بالغرباء والزائرين؟! ومن الذي لا يتعطل بإعالته جسده واعتنائه به؟ وبأي وسيلة يمكن للعقل أن يلتصق بالله غير المنظور وغير المدرك؟ هذا ما نود أن نتعلمه.

13- يستحيل على الإنسان وهو مازال في هذا الجسد الضعيف أن يلتصق بالله تمامًا ويلازم التأمل فيه على الدوام (بلا انقطاع). لكن يلزمنا أن نعرف الهدف الماثل أمام أعيننا والغرض الذي تسعى إليه نفوسنا، فنفرح قدر ما يتحقق، ونحزن ونتنهد عندما ننحرف عنه.
فإذا ما اكتشفت النفس فشلها في التأمل في الله، تكون بذلك قد سقطت عن الخير الأعظم، آخذة في اعتبارها أن ابتعادها عن التأمل في الرب يسوع ولو إلى حين يعتبر زنا، فإذا ما انحرف نظرنا عنه ولو قليلاً نعيد إليه أنظار أرواحنا ثانية، متذكرين موضوع تأملنا وشغلنا الشاغل.
كل شيء يتوقف على عقلنا الداخلي، فإذا ما طُرد منه الشيطان لا يصير للخطية سلطان علينا ويكون ملكوت السماوات فينا، إذ يقول الإنجيلي: “..لا يأْتي ملكوت الله بمراقبةٍ. ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك لان ها ملكوت الله داخلكم” (لو 20:17، 21).
ففي “داخلكم” إما معرفة الحق أو جهله، الابتهاج بالفضيلة أو الرذيلة، وبهذا نُعد قلوبنا لملكوت المسيح أو ملكوت الشيطان.
ويصف الرسول الملكوت قائلاً: “لان ليس ملكوت الله أكلاً وشربًا. بل هو برّ وسلام وفرح في الروح القدس” (رو17:14)، فإن كان ملكوت الله داخلنا وهو بر وسلام وفرح، فإن من يتمم هذه يكون في ملكوت الله. وعلى العكس من يعيش في الشر والنزاع والحزن الذي للموت يكون في ملكوت الشيطان وفي الجحيم والموت، بهذا يتميز ملكوت الله عن ملكوت الشيطان.
فإذا ارتفعنا بعقولنا إلى فوق لنتأمل القوات السمائية التي هي بالحقيقة في ملكوت السماوات، ماذا نتصورهم سوى انهم في فرح دائم أبدي؟! فأي شيء يليق بالسعادة الحقيقية مثل الهدوء الدائم والفرح الأبدي؟!
ينبغي علينا أن نؤكد أن ما قلته ليس من ذاتي، بل حسب حكم الله الذي كشف بوضوح عن ذلك بالقول: “لاني هانذا خالق سموات جديدة وأرضًا جديدة فلا تُذكَر الاولى ولا تخطر على بالٍ. بل افرحوا وابتهجوا إلى الابد في ما أنا خالق..” (إش17:65،18).

مرة أخرى يقول: “..الفرح والابتهاج يوجدان فيها. الحمد وصوت الترنم” (إش3:51). ويقول: “..ابتهاج وفرح يدركانهم . ويهرب الحزن والتنهُّد” (إش10:35).
وإن أردت أن تعرف بأكثر وضوح عن الحياة التي في مدينة القديسين، أنصت إلى ما يعلنه صوت الله عن أورشليم السمائية قائلاً:

“..واجعل وكلاءَكِ سلامًا وولاتكِ برًّا. لا يُسمَع بعد ظلم في أرضك ولا خراب أو سحق في تخومكِ بل تسمّين أسوارك خلاصًا وأبوابكِ تسبيحًا. لا تكون لك بعد الشمس نورًا في النهار ولا القمر ينير لك مضيئًا بل الرب يكون لك نورًا أبديًا وإلهك زينتك” (إش17:60-19).
ولا يتحدث الرسول عن الفرح بغير تمييز… بل يوضح مؤكدًا نوعه أنه “..في الروح القدس” (رو17:14)، إذ يعرف تمامًا الفرح الممقوت الذي نسمع عنه “..العالم يفرح..” يو20:16، “..ويل لكم أيها الضاحكون الآن لانكم ستحزنون وتبكون” (لو25:6).
يلزمنا بالحق أن ننظر إلى ملكوت السموات من جوانب ثلاث:
ا – إما أنه سيملكه القديسون حيث تخضع لهم الأمور، وذلك كالقول: “..فليكن لك سلطان على عشر مدن… وكُنْ انت على خمس مدن” (لو17:19،19)، وما قيل للتلاميذ “..تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر كُرسيًّا تدينون اسباط اسرائيل الاثنى عشر” (مت28:19).
ب – أو أن السموات تُملك بالسيد المسيح حيث كل الأشياء تخضع له “..يكون الله الكل في الكل” (1كو28:15).
ج – أو أن القديسين سيملكون مع الله في السموات.

14- أبناء الملكوت أحياء يتأملون ويسبحون الله حتى وإن ماتوا

من ثم ليأخذ كل إنسان في اعتباره أنه سيكون له نصيب في ذلك، فلا يشك في أنه سيشارك في الحياة الأبدية (الرب) الذي يخدمه… إذ يقول: “إن كان أحد يخدمني فليتبعني. وحيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي..” (يو26:12).
وكما أن ملكوت الشيطان يكون بقبول الخطية، فإن ملكوت الله يُنال بعمل الفضيلة في نقاوة قلب وبمعرفة روحية, وأينما وجد ملكوت السماوات فبالتأكيد تكون الحياة الأبدية بفرح، وحيثما وجد ملكوت الشيطان فبلا شك يوجد الموت والقبر.

ومن يكون في ملكوت الشيطان لن يقدر أن يحمد الله، إذ يخبرنا النبي قائلاً:

“ليس الأموات يسبّحون الرب ولا مَن ينحدر إلى أرض السكوت. أما نحن (الأحياء الذين نعيش للَّه وليس للخطية أو للعالم) فنبارك الرب من الآن وإلى الدهر، هللويا” (مز 17:115، 18). “لأنهُ ليس في الموت ذكرك. في الهاوية (الخطية) مَنْ يحمدك” (مز 5:6). فالإنسان ليس كيفما كان، بل ولو دعي نفسه مسيحيًا آلاف المرات أو راهبًا لا يقدر أن يعترف بالله إن كان يخطئ متمسكًا بخطيته.
من يسمح لنفسه أن يصنع ما يكرهه الله لا يقدر أن يعترف بالله، أو يدعي نفسه أنه خادم الله. لأن من يحتقر وصايا الله بحماقةٍ وطياشة يسقط في الموت الذي تسقط فيه الأرملة المتنعمة الذي يقول عنها الرسول: “وأما المتنعمة فقد ماتت وهي حية” (1تي6:5).
على هذا يوجد كثيرون أحياء بالجسد لكنهم أموات ولا يقدرون على التسبيح لله… وهناك كثيرون قد ماتوا بالجسد لكنهم يسبحون الله بأرواحهم. إذ يقال:
باركوا الرب يا أرواح ونفوس الصديقين..” (راجع دا 86:3 – الأسفار القانونية الثانية)، “كل نسمةٍ فلتسبح الرب” (مز 6:150)، وفي سفر الرؤيا نجد نفوس الذين قُتلوا ليس فقط تسبح الله بل وتطلب منه (رؤ 9:6، 10). وفي الإنجيل يقول الرب للصدوقيين في وضوح تام:

“..أَفما قرأْتم ما قيل لكم من قِبَل الله القائل أنا إلهُ إبراهيم وإلهُ اسحق وإلهُ يعقوب، ليس الله إله أموات بل إله أحياءٍ (لأن الكل يحيا فيه)” (مت 31:22-32). وعمن يتحدث الرسول قائلاً:

“..لذلك لا يستحي بهم الله ان يُدعَى إلههم لأنه اعدَّ لهم مدينةً” (عب 16:11)؟! فانفصالهم عن الجسد لا يجعلهم بلا عمل ولا يفقدهم الإحساس والشعور…
وإذا تفهمنا بدقة الكلمات التي قيلت للص: “..اليوم تكون معي في الفردوس” (لو43:23)، لظهر بوضوح أن صفات النفس لا تلازمها فحسب بل ويصير للنفس في حالتها الجديدة (بعد انفصالها عن الجسد) صفات تتناسب مع عملها واستحقاقها. فما كان الرب يَعِد اللص بذلك لو أنه يعلم بأن نفسه تفقد تمييزها وإدراكها أو تتحلل بسبب انفصالها عن الجسد. فالداخل إلى الفردوس نفسه وليس جسده.
لذا يلزمنا على الأقل أن نتجنب الأقوال التي توقف تمتع النفس بالميراث… ولقد كشف السيد المسيح أن النفوس المنفصلة عن الجسد ليس فقط تزول عنها متاعب الجسد، بل تشعر بالأمل والفرح ولا يصير بعد حزن أو خوف.
إنها للحال تبتدئ تتذوق مما قد حفظ لها في يوم الدينونة العظيم، إنها لا تتحلل إلى العدم عند انفصالها من الجسد كما يظن غير المؤمنين، بل تحيَ الحياة الحقيقية ويزداد شغفها نحو التسبيح للَّه.
لنترك البراهين الكتابية قليلاً ولننظر بقدر المستطاع إلى طبيعة النفس ذاتها. فإننا لا نكون جهلاء بل متهورين ومملوءين حماقة إن كان لدينا شك في أن ذلك الجزء النبيل في الإنسان، والذي يقول عنه الرسول الطوباوي، أنه على صورة الله ومثاله[1] يصير عديمًا للحس عندما يُلقى عنه الجسد ويترك هذا العالم.
النفس التي تهب الجسد العديم الحس أن يكون عاقلاً بمشاركته لها، خاصة إن اتبعها. والأمر عينه من جهة العقل، الذي متى تأثر بثقل الجسد يهبط عملِه، لكن النفس تُعيد إليه قُواه أحسن مما كان عليه…
وقد نادى الرسول الطوباوي بذلك معلنًا صدق قولنا مشتاقًا إلى الانفصال عن الجسد حتى يتمكن من أن يفرح بالله بأكثر غيرة، قائلاً: “..لي اشتهاء أن انطلق وأكون مع المسيح، ذاك افضل جدًّا” (في23:1). “..ونحن مستوطنون في الجسد فنحن متغرّبون عن الرب… فنثق ونسرُّ بالأَولى أن نتغرَّب عن الجسد ونستوطن عند الربّ. لذلك نحترس أيضًا مستوطنين كنا أو متغرّبين أن نكون مَرضيِيّن عندهُ” (2كو6:5-9). إنه يعلن أن بقاء النفس في الجسد هو تغرب عن الله وابتعاد عن المسيح، ويؤمن إيمانًا كاملاً أن الابتعاد والانفصال عن الجسد فيه وجود في حضرة المسيح (وجهًا لوجه).
مرة أخرى يكشف الرسول بوضوح أن هذه الأرواح أكثر حيوية بقوله:

“بل قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحيّ أورشليم السماوَّية والى ربواتٍ هم محفل ملائكةٍ وكنيسة أبكارٍ مكتوبين في السموات… وإلى أرواح أبرار مكمَّلين” (عب22:12،23).
ويقول أيضًا عن هذه الأرواح: “ثم قد كان لنا آباءُ أجسادنا مؤَدّبين وكُنَّا نهابهم، أَفلا نخضع بالأَولَى جدًّا لأَبي الأرواح فنحيا” (عب9:12).

15- كيف نتأمل في الله؟

يمكننا التأمل في الله بطرق عدة. فلا نعرف الله فقط عن طريق اندهاشنا من جوهره المخفي غير المدرك… لكن يمكننا أن نراه أيضًا في عظمة أعماله في الخليقة، وفي التطلع إلى عدالته، والتأمل في معونة نعمته اليومية، وعندما نتأمل بعقل نقي في أعمال الله في قديسيه عبر كل الأجيال، ونتأمل بقلوب مرتجفة لقوته التي بها يحكم كل الأشياء ويوجهها وينظمها، أو نعجب من علو معرفته وعلمه لكل خفايا القلب.
إن أخذنا في اعتبارنا معرفته لعدد رمال البحر وموجات البحر، وقطرات الأمطار، وأيام أعمارنا وساعاتها، وكل الأمور الماضية والمستقبلة هي حاضرة قدامه.
إننا نتطلع في دهش أمام محبته التي بلا حدود ولا يُنطق بها، وطول أناته اللانهائية، وغفرانه في كل لحظة لخطايانا التي نعترف له بها بلا حساب، ودعوته لنا رغم عدم استحقاقنا السالف بل بنعمته ورحمته.
كذلك فرص الخلاص التي يقدمها لنا بغير حدود، واهبًا لنا التبني، متعهدًا إيانا منذ الطفولة بالنعمة ومعرفة نواميسه. ووهب لنا أن نغلب به العدو (الشيطان) خلال إرادته الصالحة فينا، مقدمًا لنا السعادة الأبدية والأكاليل الدائمة. كذلك تعهده بتدبير التجسد من أجل خلاصنا واتساع عجائب أسراره التي يقدمها للأمم جميعًا.
وهكذا تكون رؤيتنا للأمور العلوية بحسب صلاح حياتنا ونقاوة قلبنا، إذ يصير هذا القلب الذي كعينين نقيتين نعاين به الله ونحتضنه.

هذه الرؤيا بالتأكيد لا يمكن لأحد أن يحتفظ بها ما دامت ميوله الجسدية قائمة، إذ يقول الرب: “..لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش” (خر20:33)، أي من له ميول زمنية او أرضية يفقد البصيرة الداخلية.

16- سؤال: هل يمكن للإنسان أن يمنع الأفكار التي تشوش نقاء ذهنه، لينعم بالتأملات الإلهية؟

جرمانيوس: كيف تتسلل إلينا أفكار الكسل خفية رغم إرادتنا وعدم معرفتنا، حتى يصعب جدًا ليس فقط طردها بل أيضًا مجرد معرفتها؟ هل يستطيع العقل أن يتحرر منها ولا يحارب قط بمثل هذه الخداعات؟

17- موسى:يستحيل على العقل أن يمنع اقتراب الأفكار إليه، لكن في استطاعة الإنسان المجتهد أن يقبلها أو يرفضها. فظهور الفكر لا يعتمد على إرادتنا، لكن قبوله او رفضه في مقدورنا.
إن كنا قد قلنا بأننا لا نستطيع منع الأفكار من الاقتراب نحو العقل، فإنه ينبغي علينا ألا نحتج بهجومها… متجاهلين حرية إرادتنا، وإلا لا يكون إصلاحنا في أيدينا. لكنني أقول إلى حد كبير أنه في قدرتنا تمييز الأفكار التي تطرح علينا، هل هي أفكار مقدسة روحية أو أفكار أرضية، هل نقبلها لتنمو في داخل قلوبنا أم ننزعها سريعًا لئلا تفسدنا.
لهذا الغرض نستخدم القراءة المستمرة، والتأمل الدائم في الكتاب المقدس كفرصة لتهيئة القلب وانشغاله بالروحيات. وأيضًا التسبيح بالمزامير يقودنا للشعور بالندامة باستمرار. كما أنه بحياة السهر والصوم والصلاة باجتهاد نسمو بالعقل عن الأمور الأرضية متأملين في الأمور السماوية.
فإذا ما أُهملت هذه الأمور وتُركت، بالتأكيد ينحرف العقل نحو الميول الجسدية، ويسقط في دنس الخطية…

18- تشبيه العقل بطاحونة الهواء

يليق بنا مقارنة حركة القلب بعجلة طاحونة الهواء. فالمياه تندفع بسرعة… ولا يمكن إيقافها مادامت العجلة تعمل… لكن في استطاعة الإنسان أن يوجه المياه في زراعة الحنطة أو الشعير أو الزوان، وهذا يتوقف على اختيار الإنسان الموكل إليه العمل.
بالرغم من قوة تأثير تيارات الإغراءات في هذا العالم، التي تضغط على العقل من كل جانب، حتى أنه لا يقدر أن يكون متحررًا من تدفق الأفكار، إلا أن نوع الأفكار التي تتسلل إليه وتأتيه تتوقف على جهاده. فمتى كنا دائمي التأمل في الكتب المقدسة، موجهين أذهاننا إلى الأمور الروحية، راغبين في بلوغ الكمال، مترجين السعادة العتيدة، ترتفع أفكارنا الروحية، ويحي عقلنا فيما نتأمل فيه.
لكننا إن غُلبنا بالكسل والإهمال وأضعنا وقتنا في فلسفة الكلام أو عاقتنا اهتمامات هذا العالم ومباهجه الزائلة وغير النافعة، تظهر بعض أنواع الزوان وتضرّ قلوبنا، وكما يقول إلهنا ومخلصنا بأنه حيث يوجد كنز أعمالنا أو هدفنا هناك بالتأكيد تكون قلوبنا (مت21:6).

19- مصادر الفكر

يلزمنا قبل كل شيء أن نعرف على الأقل أن هناك ثلاثة مصادر للفكر: الله، والشيطان، وذواتنا.
يأتي الفكر من الله عندما يهبنا الله أن يفتقدنا بإنارة الروح القدس، رافعًا إيانا إلى تقدم عظيم… ويقوم الله بتأديبنا تأديبًا نافعًا متى تباطأنا في النمو أو غُلبنا بالكسل. إنه يكشف لنا أسرار السماوات، ويحوِّل أهدافنا إلى الأعمال الفضلى،
وذلك كما فعل بأحشويرش الذي أدبه الله، والذي حثه أن يسترجع ما قد كتب في الأخبار بخصوص أعمال مردخاي العظيمة… كذلك يقول النبي: “أني اسمع ما يتكلم بهِ الله الرب..” (مز 8:85). ويخبرنا آخر: “فقال لي الملاك الذي كلمني..” (زك 14:1).

ويقول الرب: “لان لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم” (مت20:10). ويقول الإناء المختار: “إذ انتم تطلبون برهان المسيح المتكلّم فيَّ..” (2 كو 3:13).
كذلك تنبع سلسلة أفكار من الشيطان وذلك بسبب حسده لنا، راغبًا تدميرنا إما بمباهج الخطية او بهجماته السرية فهو يخدعنا بحِيَله الخبيثة، مظهرًا الشر كما لو كان خيرًا، ومعلنًا ذاته في صورة ملاك نوراني (كو 14:11).
ويخبرنا الإنجيلي: “فحين كان العشاءُ وقد أَلقَى الشيطان في قلب يهوذا سمعان الإسخريوطي أن يسلّمهُ” (يو2:13). ويقول بطرس لحنانيا: “..لماذا ملأَ الشيطان قلبك لتكذب على الروح القدس..” (أع 3:5). وجاء في سفر الجامعة “إن صعدَتْ عليك روح المتسلط فلا تترك مكانك..” (جا 4:10).

وهذا أيضًا ما قيل ضد آخاب في الكتاب الثالث للملوك عن الروح غير المنظور “..اخرج وأكون روح كذبٍ في أفواه جميع أنبيائهِ..” (1 مل 22:22).
وتصدر الأفكار من ذواتنا إذ بطبيعتنا نتذكر ما نفعله أو فعلناه أو سمعناه. ويقول عن ذلك الطوباوي داود: “تفكرت في أيام القدم السنين الدهرية. اذكرُ ترنميْ في الليل. مع قلبي أناجى وروحي تبحث” (مز 5:77، 6).

مرة أخرى يقول: “الرب يعرف أفكار الإنسان أنها باطلة” (مز 11:94)، “أفكار الصدّيقين عدل..” (أم 5:12). وفي الإنجيل يقول الرب للفريسيين: “لماذا تفكرون بالشرّ في قلوبكم؟!” (مت 4:9).

20- تمييز الأفكار

يلزمنا أن نراعى بكل حرص هذا الأمر المثلث الجوانب، فلنختبر الأفكار التي تهاجمنا ببصيرة وحكمة، لندرك ما هو مصدر الفكر وأسبابه منذ بدايته. وبهذا يمكننا أن نأخذ في اعتبارنا هل نخضع له وذلك حسب نوع مقترحه، فنكون كالصيارفة الحكماء كما يعلمنا بذلك الرب. إذ هم بمهارتهم وخبرتهم يميزون الذهب النقي الخالص الذي تنقى بالنار كما ينبغي، وبمهارتهم لا ينخدعون بقِطع النحاس المغشاة بطبقة خفيفة من الذهب والتي تبدو ذات قيمة عظيمة… إنهم بذكائهم ومهارتهم يدركون تمامًا العملات المزيفة التي يصكها كبار المخادعون…
هكذا يلزمنا أولاً أن نختبر بكل حرص كل فكر يدخل إلى قلوبنا وكل تعليم نتلقنه لنرى ما إذا كان قد تنقى بنار الروح القدس الإلهي السماوي، أو ينتمي إلى ضلال الهراطقة، أو هو ثمرة كبرياء الفلسفة البشرية التي ليس لها إلا سطحيات التديّن.
نستطيع أن نعمل هذا إن سلكنا بنصيحة الرسول القائل “أيها الأحباءُ لا تصدّقوا كلَّ روحٍ بل امتحنوا الارواح هل هي من الله…” (1 يو1:4).

ينخدع البعض بهذا النوع، فيغويهم حُسن التنسيق، والتعاليم الفلسفية التي تخدع لأول وهلة بما فيها من بعض المعاني الورعة التي تتفق مع الدين، وذلك كما يخدع بريق الذهب ناظريه. هؤلاء تجذبهم المظاهر، لكن سرعان ما يشعرون أنهم في الواقع قد خرجوا فارغي اليد، ويسقطون في اليأس ويكونون كمن قد انخدعوا بالنقود النحاسية المغشوشة.
هذه الأفكار أو التعاليم، إما أن تجذبهم إلى الانهماك في العالم، أو تسقطهم في أخطاء الهراطقة، وتنحدر بهم إلى الكبرياء الباطل…
ومن جهة أخرى يلزمنا أن نحرص لئلا يوضع أمامنا تفسير خاطئ للذهب النقي الذي هو الكتاب المقدس فننخدع… وقد استخدم الشيطان هذه الوسيلة لكي يخدع بها سيدنا ومخلصنا الذي بدا ربنا كأنه إنسان عادي، إذ بتفسيره (الشيطان) المضلل حاول أن يفسد ما يفهمه الصالحون (مت4).

لقد حاول أن يثبت تفسيره… فلفت أنظارنا إلى الأقوال القيِّمة التي للكتاب المقدس محرفًا تفسيرها لنفهمها فهمًا خاطئًا يختلف كليةً عن المعنى الحقيقي…
كذلك يحاول أن يخدعنا بالتزييف، كأن يحثنا على الانشغال ببعض أعمال الرحمة (بطريقة غير سليمة). وهو بهذا يظهر كأنه يتكلم بفكر الآباء الحقيقي، فيقودنا إلى الرذيلة في شكل الفضيلة، فيخدعنا بالأصوام أو الأسهار الطويلة، أو الصلوات الزائدة عن الحد، أو القراءات الغير مناسبة، وبهذا يجذبنا إلى نهاية سيئة.
وأيضًا يغوينا بأن نسلم أنفسنا إلى الاعتناء بالآخرين والافتقاد الروحي، وهو بهذا ينتزعنا عن وجودنا الروحي في الدير، ولينزع عنا سر الهدوء الملازم لنا، ويقترح علينا أن نأخذ على عاتقنا الاهتمام بضيقات النساء المتدينات اللواتي في عوز وإشباع احتياجهن. فإذا ما ارتبك الراهب وسقط في أمر كهذا يجعله قلقًا بهذه الأعمال والاهتمامات الضارة.
كذلك عندما يحرص الراهب أن يشتاق إلى وظيفة كهنوتية مقدسة، بحجة تعليم الناس وحبه لربح النفوس، وهو بهذا يجذبنا بعيدًا عن التواضع والتدقيق في حياتنا.
هكذا يقدم لنا كل الأمور التي تعترض خلاصنا ولا تتناسب مع عملنا، غير أنه يخفيها بغطاء، أو يحجبها بحجاب من الشفقة والدين، لكي يخدع بسهولة من تنقصهم المهارة والحرص.
إنهم يقلدون عُملة الملك الحقيقي، إذ يظهرون هذه الأعمال مملوءة شفقة، لكن لم يصكها الذين لهم هذا الحق، أي لا تتفق مع فكر آباء الكنيسة الجامعة، ولا يحصلون عليها من المكتب العام المخصص بتسليمها، إنما تصك خلسة بخداع شيطاني ويدسونها لغير الماهرين والجهلاء…
وإذ تبدو في البداية نافعة ولازمة، إلا أنه بعد ذلك تبدأ تتغلغل داخل سلامة عملنا وتضعف كل كيان هدفنا بعدة أساليب. لذلك حسنٌ أن تقطع هذه الأفكار وتبعد عنا، وذلك كما لو كانت عضوًا فاسدًا، الذي وإن بدا لازمًا لكنه مضر لنا. فإنه من الأفضل أن نكون بدون هذا العضو من وصية ما، أي أننا لا ننفذها ونبقى في سلام وأمان وندخل ملكوت السماوات هكذا عن أن نخطئ في كل الوصايا عن طريق خداع الشيطان الذي يقدم لنا أن ننفذ وصية ما،
وبواسطتها يحرمنا من نظامنا الدقيق وترتيبنا، وهكذا تصير لنا خسارة تفوق في أهميتها أي ضرر لاحق، وتدفع بكل جهادنا السابق وكل جسد أعمالنا إلى الحرق في نار جهنم (مت 8:18).
قيل عن هذه الأنواع من الخداع “تُوجَد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت” (أم 25:16). وأيضًا “ضررًا يُضَرُّ من يضمن غريبًا..” (أم 15:11). فالشيطان يخدعنا بأخذه مظهر القداسة…

21- مثال: انخداع الأب يوحنا

لقد سمعنا عن الأب يوحنا الذي كان يقطن في[2]Lycon، وقد انخدع منذ فترة قصيرة. فقد أنهك جسده وأعياه، وإذ صام يومين وفي اليوم الثالث بينما كان ذاهبًا ليأخذ بعض القوت ظهر له الشيطان في صورة سوداء قذرة وسقط تحت قدميه قائلاً: “عفوًا. فإني سأقوم لك بهذا العمل”.
فانخدع الرجل العظيم بمكر الشيطان وحسب أن هذا العمل لا يتناسب معه بسبب زهده. فازداد في الصوم متظاهرًا بإنهاك قوى جسده وصار في حالة ملل كان في غنى عنها، وهكذا أضر الرجل روحه وانخدع بالعملة المزيفة…
كما سبق أن أشرنا أنه يلزم على الصراف الحكيم أن يختبر وزن العملة فيتحقق الفكر الذي يخطر علينا، ويضعه على ميزان قلبه ويزنه بميزان دقيق. فقد يكون العمل (الذي يبثه الفكر) مملوء بالخير للجميع أو مثقلاً بمخافة الله ونقيًا وكاملاً في ظاهره، لكن في باطنه تفاخر وزهو بشري أو غرور…
يلزم وزن الفكر بالميزان العام أي اختباره بأعمال وبراهين الرسل الأنبياء النقية كاملة الوزن، نابذين بكل تدقيق وجهاد الأعمال غير الكاملة المزيفة ناقصة الوزن.

23- طرد الأفكار المزيفة

قوة التمييز هذه هامة لنا من جوانب أربعة من جهة موضوع حديثنا:
أولاً: أن ندرك إن كان معدنها ذهبًا نقيًا أم مجرد مغطاة بالذهب.
ثانيًا: يلزمنا أن نستبعد الأفكار التي تعهد إلينا بأعمال مزيفة خاصة بالدين، كما لو كانت عملة مزيفة، صكت بغير حق، وتحمل صورة مزيفة للملك.
ثالثًا: بنفس الطريقة يلزمنا أن تكون لدينا القدرة على تمييز تلك الأفكار التي تشرح ذهب الكتاب المقدس الخالص، شرحًا خاطئًا وهرطوقيًا، فتظهر صورة مخادعة لا صورة الملك الحقيقي.
رابعًا: يجب علينا أن نرفض أيضًا الأفكار التي استنفذت وزنها وفقدت قيمتها بسبب الغرور، فلم تعد بعد تصلح في ميزان الآباء بكونها عملات خفيفة جدًا وزائفة…
لذلك يلزمنا أن نتجنب ما قد حذرتنا منه الشريعة الإلهية بكل قوتنا حتى لا نخسر جزاء كل أعمالنا. “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون” (مت19:6). فإن قمنا بعمل ما ناظرين إلى المجد البشرى، فإننا نعلم أنه كما يقول الرب نكنز لأنفسنا كنزًا على الأرض،

وبالتالي نخفيه في الأرض وندفنه فيها، فيهلكه الشيطان، ويتلف بصدأ المجد الباطل أو يفسد بسوس الكبرياء فلا ننتفع منه بشيء.
يلزمنا أن نفتش باستمرار كل غُرفنا الداخلية في القلب، ونقتفي آثار كل ما يدخل فيها، وندقق في بحثها لئلا تدخل إحدى الحيوانات المفترسة. إنني أنطق بهذا خشية أن يدخل أسد أو تنين خلسة تاركًا آثارًا خطيرة وتكشف لغيرها طريق الدخول إلى مخابئ قلبنا، وذلك بسبب إهمالنا في تمييز أفكارنا.
لذا يجب أن نقلب أرض قلبنا بمحراث الإنجيل يوميًا، بل كل ساعة، أي أن نتذكر صليب المسيح على الدوام، فنحطم في قلوبنا كل عرين للحيوانات المفترسة المهلِكة ونزيل موضع اختباء الثعابين السامة.

23- وعده بأن يحدثنا عن “التمييز”

وإذ رأي الشيخ اندهاشنا والتهاب قلبنا بكلمات حديثه، وشوقنا المتزايد، توقف قليلاً عن الكلام… ثم أضاف قائلاً: “يا أولادي. أنه من أجل غيرتكم في سماع النقاش الطويل وبسبب شغفكم كانت تلك النار تمدكم باللذة والاشتياق نحو مناظرتنا. ومن هذا أتبين بوضوح تعطشكم نحو التعلم عن الكمال. إنني أود أن أحدثكم شيئًا عن عظمة “التمييز”، والنعمة التي تحكم الإنسان وتجعله يقتني كل الفضائل، غير مبرهن عليها بالأدلة اليومية إنما بتأملات الآباء وفكرهم.
وإنني أتذكر أنه عندما كان يسألني أحد بتنهد ودموع للحديث عن هذا الأمر، كنت أنا نفسي أجد شوقًا للحديث معه عن بعض التعاليم التي لم يكن في استطاعتي أن أنظمها… وبهذا رأينا بوضوح أن نعمة الله تلهم المتحدث بالكلام حسب احتياج السامعين وغيرتهم.
والآن لا أستطيع إلا أن أنهي حديثي لأن الليل كاد ينتهي، تاركًا الحديث من أجل أن تستريح أجسادكم… ولنترك تكملة ترتيب المناظرة إلى النهار أو الليل المقبل…

ملخص المبادئ

1 نقاوة القلب تعني ملكية القلب للَّه وحده، أي حبنا للَّه وانشغالنا به وتأملنا فيه على الدوام. وهو الترمومتر الدقيق لقياس مدى إخلاص العبادة وتزييفها.
2 العبادة من صوم وصلاة وصدقة ونسك… غايتها نقاء القلب الذي هو طريق الملكوت. وكل وسيلة من وسائل العبادة – مهما بلغ قدرها – تفقد كيانها بل وتضلل الإنسان وتخدعه إذا لم يكن هدفها نقاوة القلب.
3 الإنسان في هذا الجسد الضعيف يبغي كمال النقاوة، يفرح روحيًا قدر ما يقترب منها، ويلزمه أن يحذر لئلا ينحرف عنها، وذلك بفضل عمل الروح القدس الساكن فيه والذي يهبه روح الحكمة أو التمييز (الإفراز) مع الجهاد في خطوات عملية منها:

ا- الاهتمام بحياة التسبيح للَّه والشكر لأن هذا هو عمل أبناء الملكوت.
ب- التأمل في عظمة الخالق ومحبته وعنايته بنا.
ج- التأمل في الصليب كينبوع لا ينضب نرى فيه حب الله اللانهائي واهتمامه بنا.
د- القراءة المستمرة والتأمل الدائم في الكتاب المقدس.
ه- السهر والصوم والصلاة بقصد رفع العقل عن الأرضيات.
و- التمييز بين مصادر كل فكر، لأن أفكارًا كثيرة تبدو مقدسة وهي مضللة، مثال ذلك: أفكار تحث الراهب على الخدمة في العالم وخاصة أثناء الصلاة، وتشوق الكاهن المتزوج للرهبنة، انشغال الإنسان بخطيته بصورة تفقده سلامه الداخلي وتجعله قانطًا كئيبًا مدفوعًا نحو اليأس، والتفكير في مراحم الله وحنانه أثناء استهتارنا وجعل ذلك ستارًا لعدم التوبة…
 
قديم 18 - 09 - 2014, 02:56 PM   رقم المشاركة : ( 6199 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,056

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

ما هي الفضيلة؟ وكيف تُقتنى؟

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

قداسه البابا شنودة
جريدة الأهرام - مقال يوم الأحد 4-10-2009


ما هى الفضيلة؟ وما معنى عبارة إنسان فاضل؟

ربُّما عبارة إنسان فاضل تعنى إنه إنسان خيِّر، يحب الخير ويعمله، ويحب البر. والفضيلة قد تعنى النقاوة، نقاوة القلب، والسير في طريق اللَّه. وقد تعنى قوة في النفس تُمكنها من الإنتصار على كل نوازع الشر واغراءته، وتمارس الحياة البارة.

وربُّما الفضيلة تعنى الارتفاع فوق مستوى الذات. بحيث يخرج الإنسان من دائرة ذاته، ويعيش لغيره. يخرج من الاهتمام بنفسه، أو التركيز على نفسه، للاهتمام بالآخرين. يخرج من محبته لنفسه إلى محبته للَّه والناس.. نقول هذا لأن الخطيئة كثيرًا ما تكون انحصارًا حول الذات. كإنسان يُريد أن يرفع ذاته، ويُمتِّع ذاته، ويُشبع رغبات ذاته.

الفضيلة أيضًا هى ارتفاع فوق مستوى اللذة: لأنَّ غالبية الخطايا قد تكون مصحوبة بلذَّة حسية، أو لذَّة نفسية. فتدور حول ملاذ الجسد أو الفكر أو النَّفس. وتصبح لونًا من اشباع الذات، وبطريقة خاطئة. فالذى يُحب المال أو المُقتنيات، إنما يجد لذَّة في المال أو في المقتنيات. وكذلك مَن يحب الزينة، ومَن يحب الأطعمة، ومَن يحب المناصب أو الشهرة، إنما يجد لذَّة في كل هذا. ومَن يحب الجسد يجد لذته في الجسد. ومَن يحب الانتقام لنفسه يجد لذَّة في ذلك... الخطيئة إذن قد تكون سعيًا وراء اللذة. وحينئذ تكون الفضيلة هى ارتفاع فوق مستوى اللذة، إلى أن تجد إشباعًا لها في السعادة الروحية. والسعادة غير اللذَّة، والفرح غير اللذَّة. فاللذَّة غالبًا ما تكون مُرتبطة بالحواس، بالجسد والمادة. أمَّا السعادة والفرح فيرتبطان بالروح. ولذلك فالفضيلة إذن هى إرتفاع فوق مستوى المادة أيضًا.


بقى أن نُوضِّح كيف نقتنى الفضيلة؟ وما مصادرها؟

أول مصدر للفضيلة هو الحكمة والإفراز والمعرفة الحقيقية. أي المعرفة التي تُميِّز بين الخير والشر. ومن جهة الحكمة فالحكيم الحقيقي بالضرورة يسلُك في حياة الفضيلة. أمَّا الخاطئ فإننا نصفه بالجهل حتى ولو كان من العلماء! إنه جاهل بطبيعة الأمور، وجاهل بطبيعة الخير، وجاهل بمصيره الأبدي، وجاهل بما تجلبه الخطيئة من نتائج... فالخاطئ جاهل لا يعرف خيره من شره، ولا نفعه من ضره. ولا نقصد بكلمة جاهل المعنى السطحي للكلمة بما تعني أنه أن يتعلَّم في مدارس أو على أساتذة. إنما الحاجة إلى التوعية والإرشاد.

حتى الإلحاد: يقول المزمور: "قال الجاهل في قلبه ليس إله".. حتى ولو كان هذا المُلحِد من فلاسفة عصره. إنه جاهل!

أمَّا الإنسان الحكيم، فكُلَّما يتعب في الحكمة، فإنه يتعمَّق في فهم الأمور، ويعرف ما ينبغي أن يكون. على أن المعرفة والحكمة وحدها لا تكفي. فقد يعرف الإنسان الخيِّر، ولا يسلك فيه! وهنا نعرض المصدر الثاني للفضيلة.


المصدر الثاني للفضيلة هو قوة الإرادة والعزيمة. لأنَّ هناك أشخاصًا لا يسلكون في طريق الفضيلة، لأنهم مغلوبون من أنفسهم. فالصالح الذي يريده كل منهم لا يفعله... ويحتاج هؤلاء أن يسلكوا في تداريب روحية لتقوية الإرادة. لذلك أن ضعف الإرادة يُسبِّب الوقوع في الخطيئة. والوقوع في الخطيئة يؤدِّي إلى مزيد من الضعف. كل منهما يكون سببًا ونتيجة للآخر...

لذلك نقول عن الإنسان الفاضل إنه إنسان قوي: قوي في الوضوح وفي الفكر، وفي العزيمة وفي التنفيذ. قوي في الإنتصار على الحروب الخارجية، وفي الإنتصار على النزعات الداخلية. أمَّا الذي تستعبده عادة رديئة فهو إنسان ضعيف. والذي لا يستطيع التَّحكُّم في لسانه، ولا التَّحكُّم في أعصابه، ولا التَّحكُّم في فكره، فهو إنسان ضعيف. وبسبب هذا الضعف يبعد عن الفضيلة. حتى وإن تاب عن الخطيئة، يعود إليها مرة أخرى.


من مصارد الفضيلة أيضًا المبادئ والقِيَم: فالإنسان الروحي الذي له مبادئ وقيم يحرص عليها تحصنه، فلا يفعل خطيئة. مهما حُورِب بخطيئة مُعيَّنة، يقول لا أستطيع مُطلقًا أن أفعل هذا الأمر. ضميري يُتعبني. وهكذا كان يوسف الصديق حينما حورب بالخطيئة.

أمَّا الإنسان الخاطئ فلا قِيَم عنده. إنه يكذب لأن الصدق لا قيمة له في نظره. ويزني لأنَّ العفة لا قيمة لها في نظره... وهكذا يكون موقفه مع باقي الفضائل. وبسبب ضياع القِيَم عنده، يقع في الاستهتار واللامبالاة... ولهذا لا الوقت له قيمة، ولا المواعيد، ولا النظام العام، ولا القانون، ولا التقاليد، ولا شيء على الإطلاق!

من مصادر الفضيلة أيضًا مخافة اللَّه. فالذي توجد مخافة اللَّه في قلبه، لا يخطئ. فالإنسان الروحي يخاف أن يكسر وصايا اللَّه، ويخاف اليوم الذي يقف فيه أمام اللَّه ليُقدم حسابًا عن أعماله. وبالمخافة يسلك في طريق الفضيلة، وبممارسة الفضيلة يحبها.

من مصادر الفضيلة أيضًا الموهبة الإلهية: والفضيلة على نوعين: نوع يُولَد الإنسان به، بطبع هادئ طيب. ونوع آخر يُجاهد فيه الإنسان حتى يصل إلى نقاء القلب والفكر. وما أعجب المَثل العامى الذي يقول: "مالك متربي؟ قال من عند ربي". على أن كثيرين جاهدوا حتى يصلوا إلى الفضيلة. مثال القديس أغوسطينوس... حتى الذين وُلِدُوا بالفضيلة يحتاجون أيضًا إلى جهاد، حتى لا يفقدوا برّهم نتيجة لحروب الشياطين. وأيضًا يلزمهم الجهاد من أجل النمو في حياة الفضيلة.


أيضًا مِمَّا يُساعد على الوصول إلى الفضيلة والنمو فيها، النعمة. أي نعمة اللَّه التي تُقوِّي وتُشجِّع وتقود إلى الخير. إنما يجب على كل إنسان أن يتجاوب مع نعمة اللَّه العاملة فيه. كذلك طاعة الإنسان لوخذ الضمير الذي يوبِّخه كُلَّما أخطأ، ويدعوه إلى اليقظة الروحية باستمرار، وإلى التوبة كُلَّما بعد عن الفضيلة. فطاعة الضمير وسيلة هامة نقتنى بها الفضائل. وقد وضع اللَّه الضمير في كل إنسان قبل أن يُرسل الشريعة المكتوبة. والضمير الصالح هو مُرشد قوي...

 
قديم 18 - 09 - 2014, 02:58 PM   رقم المشاركة : ( 6200 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,056

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

البـسـاطـة
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
تكلم السيد المسيح عن أهمية البساطة فى حياتنا الروحية فقال
"سراج الجسد هو العين فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلماً"(1) ..ـ
"أنظر إذن لئلا يكون النور الذى فيك ظلمة فإن كان جسدك كله نيراً ليس فيه جزء مظلم يكون نيراً كله كما حينما يضئ لك السراج بلمعانه"(2).ـ
وقال أيضاً
"ليس أحد يوقد سراجاً ويضعه فى خفية ولا تحت مكيال بل على المنارة لكى ينظر الداخلون النور"(3).ـ
وفى مرة أخرى قال لتلاميذه
"ها أنا أرسلكم كغنم وسط ذئاب. فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام"(4).ـ
إذن هناك صلة وثيقة بين الحكمة والبساطة
فعندما يقول كونوا حكماء كالحيات، يقصد الحكمة التى استخدمتها الحية قديماً مع حواء
ولكن ليس بنفس المكر والخداع بل بالتفكير الخيّر والعقل المنضبط.
لذلك قال القديس بولس الرسول
" وأطلب إليكم أيها الاخوة أن تلاحظوا الذين يصنعون الشقاقات والعثرات خلافاً للتعليم الذى تعلمتموه واعرضوا عنهم.
لأن مثل هؤلاء لا يخدمون ربنا يسوع المسيح بل بطونهم وبالكلام الطيب والأقـوال الحسنة يخدعون قلوب السـلماء.
لأن طاعتكم ذاعت إلى الجميع فافرح أنا بكم وأريد أن تكونوا حكماء للخير وبسطاء للشر.
وإله السـلام سيسحق الشـيطان تحت أرجلكم سريعاً"(5).ـ
حذر الرسول بولس أهل كورنثوس قائلاً لهم
"ولكنى أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تُفسد أذهانكم عن البساطة التى فى المسيح"(6).ـ

(1)- (مت6: 22، 23). (2)- (لو11: 35).
(3)- (لو11: 33). (4)- (مت10: 16).
(5)- (رو16: 17- 20). (6)- (2كو11: 3).
الحية خدعت حواء لتأكل من الشجرة
لذلك إذا أردت أن تعيش حياة البساطة فحاول تطبيق التدريبات الآتية :ـ
ـ1- نـق كل المناظر التى تشاهدها
ولا تسمح بأى منظر شرير يدخل إلى قلبك بل إطرده بالصلوات القصيرة
[ يارب ارحم .. اللهم التفت إلى معونتى يارب أسرع وأعنى ..إلخ ].ـ
لأن "سراج الجسد هو العين"(1)
كما ذكرنا سابقاً فإن كانت عينك بسيطة فالجسد كله يكون نيّراً أى مضيئاً ونقياً.
ـ2- نق القلب أيضاً من كل الشوائب الموجودة داخله، وكل الشرور والظنون الرديئة
فرب المجد قال "الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح
والإنسان الشرير من كنز قلبه الشرير يخرج الشر فإنه من فضلة القلب يتكلم فمه"(2).ـ

ـ
3- نق الفكر أيضاً لأن الإنسان قد يفكر أفكاراً شريرة كما قال رب المجد
"لأن من القلب تخرج أفكار شريرة قتل، زنى، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف، هذه هى التى تنجس الإنسان"(3).ـ
وينصح بولس الرسول أهل أفسس قائلاً
"أيها العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة فى بساطة قلوبكم كما للمسيح خادمين بنية صالحة كما للرب"(4).ـ
ـ4- إجعل إرادتك تعمل بنية صالحة وليس بخبث
فبولس الرسول يقول لأهل كورنثوس
"إن من يزرع بالشح أيضاً يحصد .. ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضاً يحصد. كل واحد كما ينوى بقلبه ليس عن حزن أو اضطرار لأن المعطى المسرور يحبه الله"(5).ـ
ـ5- ضع أمامك دائماً كلمة الله فى معاملاتك لتصل إلى البساطة .. فإن الكتاب يقول
"لأن كلمة الله حية وفعالة وأمضى من سيف ذى حدين وفارقة إلى
(1)- (مت6: 22). (2)- (لو6: 45). (3)- (مت15: 19).
(4)- (أف6: 5). (5)- (2كو9: 6، 7).
مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته"(1). ـ
ـ 6- اجعل المسيح قدوة لك فى كل تصرفاتك
فإن المسيح له المجد تجسد لأجلنا وعاش بسيط بيننا .. ولد فى مزود بقر .
لم يكن له منزل يسند فيه رأسه .. لم يكن معه نقود يدفع بها الجزية ..إلخ.
لذلك يقول بولس الرسول
"افعلوا كل شئ بلا دمدمة ولا مجادلة لكى تكونوا بلا لوم وبسطاء أولاد الله بلا عيب فى وسط جيل معوج وملتو تضيئون بينهم كأنوار فى العالم"(2).ـ
ـ7- تمثل بآبائنا الرسل الذين كانوا يخدمون الرب ببساطة قلب كما يذكر لنا سفر الأعمال
"وكانوا كل يوم يواظبون فى الهيكل بنفس واحدة وإذ هم يكسرون الخبز فى البيوت كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب مسبحين الله ولهم نعمة لدى جميع الشعب"(3).ـ
ـ8- لنكن نيتك سليمة وكلامك صريحاً بدون إلتواء
ولا خبث ولا تظاهر ولا رياء أو خداع كقول الكتاب
"ليكن كلامكم نعم نعم. لا لا وما زاد على ذلك فهو من الشرير"(4).ـ
وقول السيد المسيح أيضاً
"إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حساب يوم الدين لأنك بكلامك تتبرر وبكلامك تدان"(5).ـ
ـ9- هناك صلة قوية بين التواضع والبساطة، فالإنسان المتواضع بسيط فى كل تصرفاته، ومن الملوك المتواضعين فى العهد القديم داود النبى،
الذى يكتب لنا مزاميره فى تواضع وبساطة قائلاً
"الرب حنان وصديق وإلهنا يرحم الرب. حافظ البسطاء. تذللت فخلصنى"(6).ـ
ـ10- هناك صلة وثيقة أيضاً بين الوداعة والبساطة فالإنسان الوديع بسيط فى معاملاته مع كل الناس
والرسول بولس يقول لأهل كورنثوس
"لأن فخرنا هو هذا شهادة ضميرنا أننا فى بساطة وإخلاص الله لا فى حكمة جسدية بل فى نعمة الله تصرفنا فى العالم ولا سيما من نحوكم"(7).ـ
(1)- (عب4: 12، 13). (2)-(فى2: 15). (3)- (أع2: 46).
(4)- (مت5: 37). (5)- (مت12: 36، 37). (6)- (مز116: 6).
(7)- (2كو1: 12).
 
موضوع مغلق


الانتقال السريع


الساعة الآن 03:55 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024