23 - 01 - 2014, 05:38 PM | رقم المشاركة : ( 51 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 49 - تفسير سفر المزامير قصور الغنىمزمور حكمي: مزمور الحكمة هذا هو آخر مزامير أبناء قورح. في أغلب المزامير نجد الكاتب يصلي أو يسبح الله، أما هنا فنجده يبشر[928]، فالمزمور أشبه بعظة تعلمنا الاتكال على الله لا على ذراع بشر ولا على الكرامة الزمنية ولا على المال إله هذا الدهر. مناسبته: سجله المرتل ربما حين رأى حوله أتقياء فقراء فارتبك وتعب بسبب غنى الأشرار. الإطار العام: 1. دعوة للاستماع [1-4]. 2. قصور الغنى والكرامة [5-13]. 3. بركات البرّ [14-15]. 4. نصيحة وتحذير [16-20]. أنت غناي! العنوان: "لإمام المغنين" لبني قورح؛ مزمور"، وبحسب الترجمة السبعينية: "إلى التمام؛ لبني قورح". وقد سبق لنا شرح مثل هذه العبارة: "إلى التمام": سبق فرأينا أن السيد المسيح هو تمام أو نهاية الناموس، بل هو غاية عبادتنا وجهادنا وحياتنا. هنا في هذا المزمور يكشف المرتل نهاية الاتكال على ذراع بشر أو على كرامة العالم وغناه ويقارنه بنهاية الملتصق ببرّ المسيح. * يخبر هذا المزمور عن نهاية أعمار البشر عامة، لهذا حرر في عنوانه "إلى التمام"، أعني أنه خبَّر عن انقضاء عمر كل إنسان، هذا الانقضاء ينبغي أن نفكر فيه على الدوام؛ لأن غاية قصدنا هو السعادة في الدهر الآتي. ومن أجل هذا حرر الرسول الفصل الخامس عشر من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، قائلًا: "وبعد ذلك النهاية متى سلم المُلك لله الآب متى أبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة" (1 كو 15: 24). الأب أنثيموس أسقف أورشليم 1. دعوة للاستماع: "اسمعوا هذه يا معشر الأمم، وانصتوا يا جميع قاطني الأرض" [1]. تُوجَّه دعوة جامعية للبشرية في كل مكان، للعظماء والعامة، للأغنياء والفقراء، لليهود والأمم، بكون الجميع عبيد الله مدعوين للاستماع لله وطاعته، كي يتمتعوا بكلمة الله وحكمته. يبدأ المزمور بكلمة "اسمعوا"، وهي ذات الكلمة التي بدأت بها الوصايا العشرة: "أسمع يا إسرائيل". هذه هي بداية الوصية الإلهية، هي أمر يحوي ضمنًا وعدًا إلهيًا، فإن الذي يُطالبنا بالاستماع هو الذي يهب آذاننا الختان لكي تكون لنا أذن روحية قادرة على الاستماع والفهم والطاعة بفرح وبهجة قلب. لهذا قيل: "من له أذنان للسمع فليسمع". يرى أنثيموس الأورشليمي الذي اعتمد على أقوال كثير من الآباء، خاصة العلامة أوريجانوس والقديس باسيليوس الكبير، أن المرتل هنا يصنف ثلاثة أنواع: [معشر الأمم، جميع قاطني الأرض، بنو البشر الأغنياء والفقراء]. 1. معشر الأمم، أي غير المؤمنين، فقد جاء السيد المسيح طبيبًا للسقماء، يشفي الأمم بدعوتهم للالتقاء مع الله. 2. قاطنو المسكونة، المستقيموا الرأي، فهم محتاجون أيضًا إلى النصيحة والحكمة الإلهية ماداموا على الأرض. 3. بنو البشر الأرضيون المولودون بمحبة الأرضيات، سواء كانوا أغنياء أو فقراء. بمعنى آخر كل البشرية تحتاج إلى النصيحة الإلهية لتتمتع بخلاصها، ولكي يعمل الكل معًا ويجاهدون بروح الوحدة والحب خلال الشعور المشترك بالحاجة إلى الخلاص والمخلص، سواء كانوا أممًا أو مؤمنين، أرضيين أو روحيين، أغنياء أو فقراء... بأية قوة يكون صوتنا حتى يسمعه كل الأمم؟ إذ يعلنه ربنا يسوع المسيح خلال الرسل، يعلنه بألسنة كثيرة قد أرسلها. وها نحن نرى هذا المزمور الذي كان يُردد في أمة واحدة فقط، في مجمع اليهود، الآن يُردد في العالم كله، في كل الكنائس، وقد تحقق ما قيل هنا: "اسمعوا هذه الكلمات يا كل الأمم". إنه يقول: "اسمعوا بآذان متأملة"، أي لا تسمعوا بحب استطلاع! ربما يُريدنا أن نفهم تعبير "قاطني (الأرض)" بمعنى أوسع، فيفهم "كل الأمم" بمعنى "كل الأشرار"، أما قاطنوا العالم" فكل الأبرار. فإنه من لا يتمسك (مجاهدًا) لا يقطن... لذلك ليت الأشرار أيضًا يسمعون: "اسمعوا هذا يا جميع الأمم". ليت الأبرار أيضًا يسمعون، الذين يسمعون بهدف، هؤلاء بالحري يحكمون العالم (روحيًا) لا أن يحكمهم العالم. مرة أخرى يقول: "يا جميع مولودي الأرض (الأرضيين، بني آدم) وبني البشر". بقوله: "مولودي الأرض: يشير إلى الخطاة، وتعبير "بنو البشر" يشير إلى المؤمنين والأبرار. ها أنت تلاحظ التمييز. من هم مولودو الأرض؟ هم بنو الأرض... الذين يشتهون الميراث الأرضي. من هم بنو البشر؟ الذين ينتمون إلى "ابن الإنسان"... الذين يلتصقون بآدم هم "بنو الأرض، والذين يلتصقون بالمسيح هو بنو البشر. القديس أغسطينوس الدعوة موجهة إلى الجميع: إلى الأمم واليهود؛ الأرضيين الذين وضعوا قلوبهم في التراب وبني البشر الذين التصق قلبهم بابن الإنسان، الأغنياء المتكلين على غناهم وسلطانهم وكرامتهم فصاروا فقراء في الإيمان، والفقراء الذين اقتنوا المخلص كنزًا لهم... إنه وقت فيه يتقبل الجميع كلمة الرب حتى يقبل غير المؤمنين الإيمان، والساقطون التوبة، والمجاهدون في بر المسيح استمرارية العمل الروحي... إنه وقت للتعليم يخضع له الكل: كهنة وشعبًا، فيسأتي وقت الدينونة الذي لا يجتمع فيه الأبرار مع الأشرار. "... الأرضيين وبني البشر، الغني والفقير جميعًا" [2]. الآن ليسمع الأغنياء والفقراء معًا، ليت الجداء والخراف يقتاتون من ذات المرعى حتى يأتي ويفصل الواحد عن يمينه والآخر عن يساره. ليسمعه الكل معًا بكونه المعلم، لئلا ينفصلا عن بعضهما البعض عندما يسمعان صوت كديان. القديس أغسطينوس "فمي ينطق بالحكمة وتلاوة (تأملات) قلبي فهمًا" [3]. يُقدم المرتل مثالًا حيًا للمعلمين، بل ولكل مسيحي، فبينما يتكلم فمه بالحكمة الإلهية التي ينالها كهبة من الله، وبجلوسه مع مريم أخت لعازر ومرثا عند قدميه يسمع له، إذ بقلبه يسبح في تأملات إلهية بفهم وإدراك ورحي. حكمته ليست خبرة إنسانية مجردة وإنما هبة الله الآب أب الأنوار (يع 1: 5) القادر أن يملأ العقل والقلب معًا بالحكمة والفهم، بل وتترجم الحكمية عمليًا في حيتهم اليومية، فلا ينطبق عليهم القول: "هذا الشعب قد اقترب إليّ بفمه وأكرمني بشفتيه وأما قلبه فأبعده عني" (إش 29: 13). يقول النبي: إن قصدي ليس المفاوضة بأمور دنيوية بل بالتكلم بالحكمة. ليس بكلام مرتجل خاص برأيي، ومُستنبط من قريحتي، وإنما هو كلام قد دبرته في قلبي بفهم حسب ما سمعت بإلهام الروح القدس وذلك لما أملت أذني الروحية ليه، فأستعرض أمثالي بالمزمار ليسهل على السامعين تذكرها... يقول الرسول الإلهي في الفصل العاشر من الرسالة إلى أهل رومية: "لأن القلب يُؤمَن به للبر، والفم يُعترف به للخلاص" (رو 10: 10), فاذا فعل الأمرين (الشهادة بالقلب واللسان) يصنع كمال الصلاح. فإن لم يكن الصلاح مُذخرًا في القلب مُسبقًا كيف ينطق الفم بما هو مُذخر؟! وإن كان الإنسان جادًا في قلبه ولا يبرزه بفمه فأي نفع بما هو مذخر وخفي؟! فمن اللازم أن يهذّ القلب بالفهم نفعًا لمن يهذّ به، وبالفم لنفع الغير، لهذا يقول النبي يلهج بالقلب ويتكلم بالفم. الأب أنثيموس أسقف أورشليم إذ يفتح المرتل فكره وقلبه ليتقبل حكمة الله، تميل أذنه الروحية إلى أمثال الرب، وتتهلل أعماقه بها فينشدها بفرح كما بمزمار. هذه صورة جميلة للتلاميذ الذين كانوا يَختلون بالسيد المسيح ليشرح لهم الأمثال ويلهب قلبهم بحب ملكوته. "أميل إلى الأمثال أذني وأفتح بالمزمار فاتحة كلامي" [4]. لماذا "إلى الأمثال"؟ أنه كما يقول الرسول: "فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز" (1 كو 13: 12) وذلك متى كنا مستوطنين في الجسد متغربين عن الرب (2 كو 5: 6). فإن رؤيتنا لم تصر بعد وجهًا لوجه حيث لا تكون حينئذ أمثال ولا ألغاز ولا مقارنات. القديس أغسطينوس أما قوله: "أميل إلى الأمثال أذني" فهو نبوة عن الرسل القديسين الذين كان ربنا يسوع المسيح يفسر لهم على إنفراد أقواله التي يقولها للآخرين بأمثال. الأب أنثيموس أسقف أورشليم 2. قصور الغنى والكرامة: يبدأ هذا القسم بسؤال يقدمه الأبرار الذين يعانون الآلام من الأشرار الأغنياء ظلمًا: "لماذا أتخوف في اليوم الشرير؟! إثم عقبي يحيط بي" [5]. لماذا أُعطي لنفسي مجالًا للتخوف والدخول في حالة من الإحباط عندما تحل كارثة، عندما يحاصر شرير غني صاحب سلطان ليطرحني أرضًا؟! نُجيب على هذا القول بإنه لا يوجد يوم شرير، لأن الأيام قد خلقها الله، وكل ما خلقه هو حسن جدًا وليس شريرًا... يقول النبي إني إن سُئلت: لماذا تخاف؟ أجيب: لا أخاف شيئًا مما يُظن به أنه مخوف، لست أخاف من مرض أو فقر أو شدة أو أذية الناس، لكنني أخاف من الخطية فقط، هذه التي تحوّل اليوم الصالح إلى يوم شرير، إلى يوم عقوبة وعذاب. وذلك كما كتب السائح في الفصل الثاني من رسالته إلى أهل رومية: "ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا..." (رو 2: 5). أما أوريجانوس فيقول: [إنه "إثم العقب" هو معصية آدم التي بسبب مخالفته أخذت الحية سلطانًا أن تسحق عقبه]. وأيضًا إثم العقب الذي يُخاف منه هو يوم الجزاء، وهي الخطية التي تُمارس في عقب عمر الإنسان (أي في نهاية حياته دون توبة). وأيضًا عقب ربنا يسوع المسيح هو يهوذا مسلمه، لأنه كان دائمًا يرصد خطواته (عقبه). فيقول ربنا إنني لا أخاف يوم الصلب الذي أعده لي الأسرار باغتيال ومكر. الأب أنثيموس أسقف أورشليم لنخف لا من الناس ولا من الأحداث بل من السقوط في الخطية أو من إثم العقب أي الانحراف عن السير في طريق وصايا الرب، هذا ما يرعبنا، إذ يحوّل زماننا إلى أيامٍ شريرة، ويحول يوم الرب العظيم من يوم عُرس أبدي إلى يوم دينونة رهيبة. إذا ما تخلص من "إثم عقبه" وسار في طرق الرب لا يأتي إلى اليوم الشرير... ولا يكون اليوم الأخير بالنسبة له يومًا شريرًا... الآن إذ هم يعيشون ليحذّروا لأنفسهم، لينتزعوا الإثم عن عقبهم... وليسيروا في ذلك "الطريق" الذي قال عنه نفسه: "أنا هو الطريق والحق والحياة"، وعندئذ لا يخافون اليوم الشرير، لأن ذاك الذي صار "الطريق" يهبهم أمانًا. ولهذا يلزمهم أن يتجنبوا إثم عقبهم. القديس أغسطينوس ولعل أخطر الآثام التي يجب أن نتجنبها هي محبة المال التي هي أصل كل الشرور (1 تي 6: 10)، فإن من يحب المال يقيم منه إلهًا يتعبد له. ليس المال في ذاته بل محبته أو الاتكال عليه يحكم حياتنا، لهذا يكمل المرتل حديثه هكذا: "المتكلون على قوَّتهم، وبكثرة غناهم يفتخرون" [6]. مهما بلغ الغنى قد يتركنا يومًا ما كما حدث مع أيوب البار، فلا ينفعنا في وقت الضيق. فمن الأفضل لك أن تكون فقيرًا وتتكل على الله، وتقبله نصيبًا وميراثًا لك، عن أن تكون غنيًا وتعبد المال. فالإنسان الأول لن يسقط من السماء، والثاني لن يدخلها ما لم يتب. محبة المال قد تدفع الإنسان إلى الكبرياء والأنانية والظلم والعنف، وهكذا تسلمه من خطية إلى خطية ليصير ألعوبة الأفكار والتصرفات الشريرة. إن لم تصنعوا من مالكم رحمة في هذا العمر، فإن المال لن يذهب معكم إلى الآخرة، ولا ينفعكم في اليوم الشرير، أعني يوم الجزاء. الأب أنثيموس أسقف أورشليم ليتنا لا نتكل على فضائلنا (قوّتنا)؛ ليتنا لا نفتخر بوفرة ثروتنا، وإنما نفتخر بذاك الذي وعدنا، الذي باتضاعه ارتفع، مهددًا بإدانة المتكبرين؛ بهذا لا يُحاصرنا إثم عقبنا. القديس أغسطينوس أي شيء من كل هذه الأمور يبدو لك مرغوب فيه جدًا وتُحسد عليه؟ تقول بلا شك: السلطة والغنى والشهرة. ومع هذا أي شيء أكثر بؤسًا من هذه الأمور إن قورنت بحرية المسيحيين؟! فقد يخضع الوالي لغضب الرعاع ودوافع الجموع بغير تعقل والخوف ممن هم في مناصب أرقع، والقلق على من هم خاضعين له، ومن كان حاكمًا بالأمس يصير مواطنًا عاديًا اليوم. فإن الحياة الحاضرة لا تختلف في شيء عن خشبة مسرح، بل هي كذلك. إنسان يحتل مركز ملك، وآخر قائد وثالث جندي، ويأتي المساء فلا يكون الملك ملكًا، ولا الوالي واليًا، ولا القائد قائدًا. في ذلك اليوم ينال كل إنسان مكافأته التي يستحقها ليس حسب دوره الخارجي الذي قام به بل حسب أعماله. حسنًا! هل المجد هو أثمن شيء، هذا الذي يزول مثل العشب؟ أم الغنى الذي لا يهب مالكيه سعادة؟ إذ نقرأ: "ويل لكم أيها الأغنياء" (لو 6: 24)، وأيضًا: "ويل لكم يا من تتكلون على قوّتكم وتفتخرون بوفرة غناكم". القديس يوحنا الذهبي الفم يليق بنا ألا نضع رجاء خلاصنا في شيء آخر، وإنما فقط في أعمالنا البارة حسب نعمة الله... إن كان لنا ربوات الأسلاف المشهورين يلزمنا نحن أنفسنا أن نجاهد لكي نتفوق على سموهم، مدركين أننا لا ننتفع شيئًا من جهاد الآخرين كعون لنا في الدينونة العتيدة، بل بالحري يكون دينونة علينا أننا قد وُلدنا من أبوين بارين، وأمامنا أمثلة في البيت ولا نقتدي بمعلمينا[929]. القديس يوحنا الذهبي الفم إن كنا لا نتكل على مالنا وقوتنا في معالجة مشاكلنا الزمنية فبالأولى في خلاصنا الأبدي، فإنه لن يستطيع بشر ما ولا إمكانيات بشرية أن تفدينا من الموت أو تبررنا أمام الله القدوس، أو تدخل بنا إلى شركة الميراث الأبدي. يمكن للغنى أن يقتني بعض الممتلكات الزمنية أو ينال سلطانًا أو كرامة، لكنه لا يقدر أن يقتني الحياة الأبدية إلا بالإيمان الحيّ العامل بالمحبة. هذا ما يدفعنا إلى التطلع إلى المخلص الذي قدم حياته مبذولة عنا، مفتديًا إيانا لا بذهب أو فضة وإنما بدمه الثمين كحمل الله الذي بلا عيب. "الأخ لن يفتدي الإنسان فداءً، ولا يعطي الله استغفارًا عن ذاته، وثمن خلاص نفسه" [7-8]. بمعنى إنه إن لم يتب الإنسان عن الخطية ويصنع أعمالًا مرضية لله لن يقدر أن يفتديه أخ أو أحد أخِصَّائه أو أقربائه، ولو كان فاضلًا، لأن كل أحد يُكافأ منفردًا حسب أعماله... لا يوجد شيء من أمور العالم تساوي قيمة النفس لكي تفديها. إن قام "نوح ودانيال وأيوب فإنهم إنما يخلصون أنفسهم ببرهم يقول السيد الرب... إنهم لا يخلصون بنين ولا بنات" (حز 14: 14-16). ولكن إن قلت يا هذا: ألست شفاعات القديسين نافعة؟ نقول إن شفاعتهم نافعة لكنها تحتاج إلى توبة المذنب وإلى تعب في هذا العمر حتى يمكن اقتناء الحياة الأبدية. وأما إنسان مثلنا خاطئ فلن يقدر أن يفدينا، ولا أن يستغفر الله عنا، سوى دم ربنا يسوع المسيح الإله المخلص. الب أنثيموس الأورشليمي يوجد بعض الناس يتكلمون على أصدقائهم، وآخرون على فضائلهم (قوّنهم)، وآخرون على غناهم. هذه هي عجرفة البشرية التي لا تتكل على الله... "الأخ لن يفتدي، فهل يخلص إنسان؟". هل تتوقع إنسانًا يفتديك من الغضب القادم؟! القديس أغسطينوس لا تتطلع إلى أخ لخلاصك بل إلى الإله المتأنس يسوع المسيح، فهو وحده قادر أن يُقدم فدية لله عنا جميعًا... دم ربنا يسوع المسيح المقدس والثمين جدًان الذي سفكه لأجلنا جميعًا... ليس لأنه سكن بيننا "في شبه جسد الخطية" (رو 8: 3)، تظن أن ربنا إنسان مجرد؛ وتفشل في ملاحظة قوة لاهوته. إنه لا يحتاج أن يُقدم لله فدية عن نفسه،... فإنه "لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه غش" (1 بط 2: 21)[930]. القديس باسليوس الكبير الذي يُلقَى مرة هناك (في نهر النار) يبقى فيه إلى الأبد، ليس من يقدر أن ينقذه من عقوبته، سواء كان أبًا أو أمًا أو أخًا[931]. يعلن حزقيال ما هو أكثر من هذا: "وإن كان نوح ودانيال وأيوب في وسطها فإنهم لا يخلصون بنين وبنات" (راجع حز 14: 16). فإنه يوجد دفاع واحد، وهو الأعمال (في الرب)، من يتجرد منها لا يخلص بأية وسيلة أخرى. إذ ننشغل بهذه الأمور ونتأمل فيها باستمرار نطهّر حياتنا ونجعلها بهية، فنرى الرب بدالة، وننال الوعد بالخيرات بنعمة ورأفات ربنا يسوع المسيح، الذي به ومعه المجد إلى أبد الأبد مع الآب والروح القدس. آمين[932]. وكما قال أيضًا النبي معلنًا ذات الشيء: "الأخ لن يفتدي، فهل يُفتدى إنسان؟" كلى، حتى وإن كان موسى أو صموئيل أو إرميا. اسمع كمثال ما يقوله الله في هذا الأمر الأخير: "لا تُصلي لأجل هذا الشعب، فإنني لا أسمع لك". ولماذا تتعجب إنني لا أسمع لك، "وإن وقف موسى وصموئيل أمامي" (إر 15: 1) لا أقبل طلباتهم عن هؤلاء الناس. نعم، إن كان حزقيال يتوسل، يُقال له: "وإن وقف نوح ودنيال وأيوب فإنهم لا يخلّصون بنين وبنات". وإن توسل البطريرط إبراهيم لأجل المصابين بمرض مُستعصي شفائه ولا يمكن تغيرهم فإن الله يتركه ويذهب في طريقه (تك 18: 33)، حتى لا يقبل صرخته لأجلهم. مرة أخرى إن كان صموئيل يفعل ذلك، فيُقال له: "لا تنح على شاول" (راجع 1 صم 16: 1). وإن توسل أحد من أجل أخته وكان الأمر غير مناسب فسيسمع ذات الأجابة التي قيلت لموسى "ولو بصق أبوها بصقًا في وجهها" (عد 12: 14)[933]. دعى إبراهيم الإنسان الغنى "ابنًا" (لو 16: 25)، ومع ذلك لم يقدر أن يقوم بواجب أبٍ. ودعاه الغنى: "أبي"، ومع هذا لم يستطيع أن يستمتع بما ينتظره ابن من مشيئة أبيه الصالحة. حدث هذا ليُعلّمكم إنه لا يمكن للعلاقة الأسرية ولا للحب أو العاطفة أو لشيء آخر أن يُعين من خانته حياته هو[934]. وأوضحنا بإسهاب إننا بحسب رآفات الله ومحبته يلزمنا أن يكون لنا رجاء الخلاص في أعمالنا البارة (بنعمة الله) دون حسبان لآبائنا وأجدادنا وآباء أجدادنا، أو أقربائنا وأصدقائنا وعائلاتنا وجيرانا، لأن "الأخ لا يفتدي، فهل يُفتدى إنسان؟"... لقد استجدت الخمس عذارى زيتًا من رفيقاتهن ولم يحصلن على شيء. فالإنسان الذي دفن وزنته في الأرض يبدي أعذارًا لكنه يُدان[935]. القديس يوحنا الذهبي الفم "تعب إلى الدهر، ويحيا إلى الانقضاء، ولا يُعاين فسادًا، إذا رأى الحكماء يموتون، الجاهل والذي لا عقل له معًا يهلكون، ويخلفون غناهم للغرباء، وتصير قبورهم لهم مسكنًا إلى الأبد، ومحلًا لهم إلى جيل فجيل، دعوا بأسمائهم على الأرض" [8-10]. ابتدأ النبي يعظ الفقراء والمتعبين ويحثهم على الجهاد، قائلًا: إن تعبكم في هذا العمر القصير يسبب لكم حياة أبدية في الدهر الآتي، وكما يقول بولس الرسولك "أنا تعبت أكثر منكم" (1 كو 15: 10)، "في الأتعاب أكثر" (2 كو 11: 23). إن الذي فضَّل الحياة الشاقة المتعبة عن الواسعة الرغدة، واختار الطريق الضيق المحزن لأجل محبة المسيح فأنه لا يُبتلى بالعقوبات المعدَّة للمدَّعين حكمة هذا العالم هذه التي يدعوها الرسول حماقة. وأيضًا إذا ما رأى الفقراء الأغنياءَ والحكماءَ يموتون مثل الآخرين فلا يمقتون الفقر ولا يغمهم التعب الذي يُكابدونه في هذا العمر الحاضر... الجاهل هو ذاك الذي يعيش حياة وثنية، والذي لا عقل له هو من استنار بشرائع اليهود ولم يعمل ما يرضي الله، فإذا بكليهما قد بادا وهلكا من جهلهما وحماقتهما، فصرنا نحن المؤمنين نمتلك غناهما. وإذ كانت أعمالهما مميتة وسمجة صار جسداهما اللذين هما مسكنا النفسين بمنزلة قبرين حاويين جيفة، وانتقلا من بيوت مزخرفة إلى القبور، يسكنان فيها إلى الأبد. وقد شبههما ربنا أيضًا بقبور ظاهرة جميلة، وداخلها مفعمة برمم الأموات وكل فساد... إن ابن قايين هو أول من بنى مدينة ودعاها باسمه، وبعده دعا كثير من الملوك والولاة أسماءهم على ما اقتنوه من الأراضي. هنا يوبخهم النبي لأنهم لم يعتزموا أن يديموا ذكرهم بشيء روحي كما فعل رسل المسيح وسائر القديسين الذين أبَّدوا ذكرهم بفضائل، وجعلوا شهرتهم في أمور سماوية لا أرضية، كُتبت أسماؤهم على الأرض. الأب انثيموس أسقف أورشليم ماذا يعني هذا؟ إنه لا يفهم ما هو الموت، فعندما يرى إنسانًا حيكمًا يموت، يقول في نفسه: "هذا الزميل، كان بالنسبة للكل حكيمًا، يقطن مع الحكمة، ويعبد الله بتقوى، ألم يمت؟ لهذا فإني أمتّع نفسي مادمت حيًا لأنه لو كان الحكماء في أمور أخرى قادرين على عمل شيء ما ما كانوا يموتون". وذلك كما فعل اليهود عندما رأوا المسيح معلقًا على الصليب احتقروه، قائلين: "إن كان هذا ابن الله لينزل عن الصليب"، غير مدركين ما هو الموت... ومن هو "غير الحكيم"؟ ذاك الذي لا يدرك في أية حالة شريرة هو. القديس أغسطينوس يقول الكتاب المقدس بالحق إن "أنفس الأبرار في يديْ الله، الموت لا يمسهم" (حك 3: 1). لأن موت القديسين هو رقاد وليس موتًا. لأنهم جاهدوا من أجل الأبدية، وإلى الأبد سيحيون. "عزيزي في عينيْ الرب موت قديسيه"؛ فماذا أثمن من أن نكون في يدّ الله؟ لأن الله هو الحياة والنور، والذين في يدّ الله يبيتون في حياة ونور[936]. الأب يوحنا الدمشقي "الإنسان إذ كان في كرامة ولم يفهمها. قيس بالبهائم التي لا معرفة لها، وشُبّه بها" [12]. من يظن أنه يستقر في هذا العالم ويبقى متلذذًا بمباهجه غبي وبلا فهم، ويُسحب كالحيوانات. لهذا يُشبّه الأنبياء الأشرار الملتصقون بالزمنيات بالذئاب أو الأسود أو الكلاب والثيران والحيات الخ، وذلك من جهة عدم تعقلهم. أما الأبرار والملتصقون بالسمويات فيُشبهون ببعض الطيور والحيوانات لا من جهة عدم فهمهم وإنما من جوانب أخرى، فتُشبه الكنيسة بالحمامة في طهارتها، والحمل في وداعته، بل وشُبه السيد المسيح بالحمل بكونه الذبيحة والفدية عن البشرية، والأسد الخارج من سبط يهوذا المدافع عن شعبه ضد إبليس وجنوده. على أي الأحوال: "الإنسان إذ كان في كرامة ولم يفهمها". ماذا يعني: "إذ كان في كرامة". أي بخلقته على صورة الله ومثاله فضَّله على الحيوانات أم يخلق الله الإنسان ليس كما خلق الحيوان، إنما خلق الإنسان لكي يسود على الحيوانات... والذي خُلق على صورة الله صار يُقارن بالحيوانات التي بلا إحساسات وصار مثلها، بينما قيل: "لا تكن كفرس أو بغل بلا فهم". القديس أغسطينوس إن فعلنا غير هذا، غير مدركين إننا على صورة الله، وانشغلنا بأجسادنا أكثر مما بنفوسنا، أخشى أن يوبخنا الروح القدس بقوله بالنبي: "والإنسان في كل سموّه لم يثبت، إنه يشبه البهائم التي تُباد"[937]. إن كان رجل ملتصق بزوجته دون حدود... وينظر إلى زوجة آخر أو ابنته أو خادمة له أو لغيره - وهذه خطية خطيرة للغاية - فهو مغلوب من الشهوة البهيمية، ويصير كالبهائم ويفقد آدميته... إن كنتم لا تخشون أن تصيروا كالبهائم فعلى الأقل خافوا من أن تموتوا مثلها[938]. الأب قيصريوس أسقف آرل وأيضًا إذ كان الإنسان في كرامة قد صار كالبهائم، مما يُشير إلى أنه بسبب خطئه الشخصي تشبه بالبهائم، إذ تمثل بحياتهم غير العاقلة[939]... هكذا سيُدان بعدل، فإنه إذ خُلق إنسانًا عاقلًا، فقد تعلقه الحقيقي الذي من الله، ليعيش بطريقة غير عاقلة، معارضًا برّ الله، مستسلمًا لكل روح أرضي، وخاضع لكل الشهوات وكما يقول النبي: "الإنسان إذ كان في كرامة ولم يفهمها، قيس بالبهائم التي بلا إحساس وتشبه بها"[940]. القديس إيريناؤس من جهة أخرى، هل ينفض (الإنسان) نير خالقه، ويتجاهل أوامره الإلهية، ومن ثم يُخضِع النفس للجسد، مفضلًا ملذات الجسد، غير مدركٍ لكرامته، ومن ثم يتشبه بالبهائم التي بلا حس؟! وبهذا يتعرض للموت والفساد، مما يُسبب له حالة إحباط[941]... الأب يوحنا الدمشقي تنحني رؤوسهم نحو الأرض، ويتطلعون إلى بطونهم، ويسعون فقط من أجل خير بطونهم! رأسك يا إنسان متجهة نحو السماء، وعيناك تنظران إلى أعلى! فحين تنحط بنفسك إلى أهواء الجسد، وتُستعبد لبطنك ولأعضائك السفلية، تتمثل بالحيوانات الدُّنيا غير العاقلة وتصير كواحدة منها. إنكم مدعوون إلى اهتمامات أكثر شرفًا، فاطلبوا ما هو فوق حيث المسيح جالس. ارفعوا نفوسكم إلى فوق الأرضيات... ثبتوا سيرتكم في السماء، في وطنكم الحقيقي، التي هي أورشليم السماوية، فإن رفقاءكم في الوطن هم الأبكار المكتوبون في السماء[942]. القديس باسيليوس الكبير كرامة الطبيعة العاقلة تظهر في تمييز الخير من الشر، والذين يبددونها يشبهون بحق "الحيوانات العجماوات" التي لا عقل لها ولا تمييز. بهذه القدرة على الإدراك يمكننا أن نجد طريقنا إلى الله. إنها المعرفة الطبيعية، وهي سابقة للإيمان وأصله. هي السبيل إلى الله[943]. مار إسحق السرياني منذ أخطأ الإنسان الأول وعصى الله قيل: "صار الإنسان كالبهائم". فقد أعتبر حقًا من الكائنات غير العاقلة، لهذا شُبّه بالبهائم، إذ يقول الحكمة:"... صار الشهواني والزاني كبهيمة عجماء"، وكما أضيف: "أنه يصهل، أيا كان الذي يمتطيه". هذا معناه أن الإنسان لا يعود ينطق بعد، لأن الذي يمتطيه ضد العقل... إنه حيوان أعجم يخضع لشهوات قد امتطته[944]. القديس اكليمندس الإسكندري امتطى (السيد) أتانًا (مر 11: 1-8، يو 12: 13) حتى يحّول النفس (التي صارت كما يقول النبي غير عاقل وشُبهت بالحيوانات العجماوات) إلى صورة الله، ويُخضعها للاهوته[945]. الأب دوروثيؤس من غزة خلق إله الجميع الإنسان على الأرض بعقلٍ قادرٍ على الحكمة، وله قدرات للفهم، لكن الشيطان خدعه، على الرغم من أن (الإنسان) مخلوق على صورة الله، مفضلًا ألا تكون له معرفة خالقه وجابل الجميع. وقد تسبب (الشيطان) في انحطاط سكان الأرض إلى أدنى مرتبة من اللاعقلانية والجهل. وإذا يدرك الطوباوي داود هذا يبكي بمرارة، ويقول إن الإنسان الذي في كرامة لم يفهم ومن ثم شُبه بالبهائم التي بلا فهم[946]. القديس كيرلس الكبير هذا ما فعلته بنا الشهوات البهيمية، لذا لاق بالإنسان - وقد أدرك ما انحط إليه فعجز عن معرفة أسرار الله - أن يقبل كلمة الله فيه، يقبل عمله الإلهي في حياته كما من خلال تلميذيه اللذين حلا الأتان والجحش (مت 21: 3)، يحلانه من رباطات الخطية بالروح القدس ويقدمانه كمركبة إلهية نارية تنطبق في حرية نحو أورشليم العليا (غل 4: 26). يستمر المرتل في حزنه وأسفه على شقاء البشرية، فإنه إذ يعتمد البشر على غناهم ومالهم يسلكون هذا الطريق في حماقة وينحطون، يأتي الجيل التالي فلا يتعظ من سلفه بل يرتضي السلوك في ذات الاتجاه ويغبطونه. "هذا سبيلهم صار شكًا لهم، ومن بعد هذا بأفواههم يرتضون" [12]. 3. بركات البرّ: إذ يدفع الاتكال على غنى العالم الإنسان إلى الحياة البهيمية، إنما يدفعه كما إلى الذبح أو الموت، يصيرون في مذلة تحت سلطان راعيهم الجيد ألا وهو الموت، أما الذين لهم برّ المسيح فيحملون سلطانًا! "جُعلوا في الجحيم مثل الغنم، والموت يرعاهم، ويسود عليهم المستقيمون بالغداة. ومعونتهم تبلى في الجحيم من مجدهم. بل أن الله ينقذ نفسي من يد الجحيم إذ أخذها" [14- 15]. vالذين لم يهتموا بما ينفع آخرتهم، والذين جاءوا بعدهم يصنعون مثلهم، صاروا في الجحيم مثل غنم في المجزر. وإذا لم يريدوا أن يكونوا تحت رعاية الراعي الصالح لهذا "يرعاهم الموت"، أي الهلاك. وأما "معونتهم" التي فب مالهم وقوتهم، والتي كانوا يستعينون مستغيثين بها تقدم وتبل في الجحيم، إذ تذهب عنهم ويصيرون عرايا من مجدهم. وأما المستقيمون فإنه إذ يشرق عليهم الغداة وصحوة النور الإلهي في الدهر العتيد يصيرون رؤساء وسادة! يقول القديس باسيليوس الكبير: [إذ كان الإنسان في كرامة ولم يعرفها وقيس بلبهائم وشُبه بها، لذلك استولى المحتال على الجنس البشري بأسره، وجمع كافة الناس في الجحيم مثل الغنم التي بلا فهم ولا تقدر أن تمانع، ودفعها إلى الموت، وصار يرعاها منذ آدم حتى مجيء ربنا يسوع المسيح له المجد. ولأجل هذا قال في الإنجيل المقدس: "أنا هو الراعي الصالح"، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف التي كان يرعاها الموت. ثم أنه بالغداة، أي لما أشرق وارتفع نهار شمس البر الذي هو ربنا يسوع المسيح، فإنه الذين تبعوا الاستقامة وآمنوا به عتقهم من رق الموت العقلي الذي هو البُعد عن الحياة الأبدية. وسلَّم حراستهم للمستقيمين، أعني الملائكة الذين يسودون على المؤمنين الذين كل واحدٍ منهم يتولى ملاك مستقيم حراسته، يدبر حياته لأجل خلاص نفسه وحراسة جسده. الأب أنثيموس أسقف أورشليم إن كان المسيح هو "الحياة"، فإبليس هو "موت"... ليس لأنه الموت في ذاته، وإنما يحل الموت بسببه... بالنسبة لغير المؤمنين الموت هو الراعي، أما بالنسبة للمؤمنين فالحياة هي الراعي. فإن كان في الجحيم يوجد الغنم الذي راعيه الموت، ففي السماء يوجد الغنم الذي راعيه الحياة... إننا بالجسد نسير على الأرض وبالقلب نسكن في السماء. نسكن هناك إن كنا نرسل كل ما يمسنا إلى هناك... سيظهر تعبنا في الغداة، وسيكون الثمر في الصباح، فالذين يتعبون الآن يملكون، وأما المتكبرون والمتشامخون هنا ينحدرون إلى أسفل. فإنه ماذا يقول بعد: "ويسود عليهم المستقيمون بالغداة". القديس أغسطينوس استعدوا وتهيأوا لملاقاة (ملاك الموت) الذي يُفنى شكلنا... إذ ينزعون جمال مجد طبيعتهم (الأشرار) وتتحلل أجسادهم في التراب. طوبي للإنسان الذي يحتفي بالنجاة من هذا الهلاك بفرح[947]! مار إسحق السرياني 4. نصيحة وتحذير: يختم المرتل مزموره بالنصائح التالية: 1. إن كان الموت هو راعي الأشرار، والجحيم هو مسكنهم الأبدي، فإن الله هو راعي نفسي القادر وحده أن يخلصني من يدّ الجحيم، ولا يقدر الموت أن يأسرني [15]. 2. لا تخف من أصحاب السلطة والغنى ولا تتملقهم، فإنهم يموتون ولا يأخذون معهم شيئًا [16]، فإنهم يلحقون بآبائهم الذين سبقوهم في نفس الاتجاه وقد فقدوا كل شيء. بمعنى آخر ينصحنا ألا ننشغل بالمنظورات والزمانيات ولا من نالوا الكثير منها: "لا تخف إذا ما استغنى الإنسان، وإذا كثر مجد بيته، لأنه إذا مات لا يأخذها جميعًا. ولا ينزل معه مجده إلى الجحيم" [16-17]. ألا تُريد أن تكون لك أعين إلا لترى الأمور الحاضرة؟ لقد وعد بالأمور المستقبلية، ذاك الذي قام، لكنه لم يَعِد بسلام هذا العالم ولا راحة هذه الحياة. كل إنسان يطلب الراحة، إنما يطلب أمرًا صالحًا، لكنه لا يطلبها في موضعها اللائق. لا سلام في هذه الحياة، لكنه وعدنا أن ننال في السماء ما نطلبه على الأرض. وعدنا أن يعطينا في العالم القادم ما نطلبه في هذا العالم. القديس أغسطينوس مجد هذا العالم بلا قيمة وغير دائم، وإن بقى فإلى الموت وعندئذ ينتهي تمامًا. إذ قيل: "لا ينزل معه مجده". وبالنسبة لكثيرين لم يبق المجد حتى إلى نهاية الحياة. لكننا لا نفكر هكذا بالنسبة لذاك المجد، إذ يوم بلا نهاية. فإن الأمور الخاصة بالله دائمة وفوق كل تغيير وبلا نهاية. مجد هذه الحال ليس من الخارج بل من الداخل. أقصد أنه لا يقوم على كثرة الخدم والمركبات والثياب الفاخر. بعيدًا عن هذا كله الإنسان يلتحف بالمجد (الداخلي)؛ هنا بدون هذه الأمور يكون الإنسان عريانًا[948]. القديس يوحنا الذهبي الفم ها أنت تراه (الغنى) حيًا، احسبه ميتًا. أنت تلاحظ ما هو معه هنا، لاحظ ما يأخذه معه... لديه مخزن من الذهب والفضة وممتلكات كثيرة وعبيد؛ إنه يموت وتبقى هذه الأمور لا يعرف لمن هذه. فإنه وإن كان يتركها لمن يريد هو، لكنه يحفظها ليس لمن يُريد. فإن كثيرين اقتنوا حتى ما لم يُترك لهم، وكثيرون فقدوا ما تُرك لهم. القديس أغسطينوس 3. تطلب البركة لا حسب هواك بل حسب مشورة الرب، فكثيرون يظنون الحياة السعيدة المباركة هي في الولائم والملذات الزمنية. "لأن نفسه تُبارك في حياته، يعترف لك إذا ما أحسنت إليه" [18]. يضع الشرير بركته أو سعادته في الزمنيات، ويعترف لله بفضله إن أحسن إليه بها، أما إن دخل في ضيقة فسرعان ما يخطئ في حق الله. يقول القديس أغسطينوس: [إن مثل هذا يظن أنه يُحسن إلى نفسه حينما يأكل ويشرب ويلو ولا يدرك أنه يضر نفسه]. اعتاد أن يأكل الولائم الفاخرة بفمه الجسدي، والإثم بفم قلبه... هل يؤكل الإثم...؟ لست أنا الذي أقول هذا، إسمع الكتاب المقدس: "كالخل للأسنان وكالدخان للعينين كذلك الإثم للذين يستعملونه" (أم 10: 26). فإن الذي يأكل الإثم، أي الذي يمارسه بإرادته، لا يستطيع أن يأكل البر. فإن البر هو خبز. من هو هذا الخبر. "أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء" (يو 6: 51). إنه هو (المسيح) خبز القلب! القديس أغسطينوس 4. يلزم ألا نتمثل بآبائنا في حبهم للعالم لئلا ننضم إليهم في مصيرهم الشرير. "يدخل إلى جيل آبائه، ولا يُعاين النور إلى الدهر" [19]. يعلق القديس أغسطينوس على ذلك بقوله: [إنه يتمثل بآبائه... سيأتي الصباح ويظهر هابيل أين هو قايين أين يوجد. وهكذا كل الذين يسلكون وراء قايين وأيضًا الذين هم وراء هابيل، وذلك حتى نهاية العالم]. 5. يختم المزمور بتأكيد حفظ الإنسان لكرامته بتمتعه بالطبيعة التي خُلق عليها على صورة الله ومثاله وعدم انحداره إلى المستوى الحيواني غير العاقل [20]. أنت غناي! هب لي يا رب أذنًا روحية تسمع صوتك، فأدرك وصيتك، وأتعرف على أعمال محبتك! أقمني على صورتك وكرّمتني بالعقل الفهم. لكنني في غباوتي تركت كل معرفة صادقة، وأحنيت رأسي إلى التراب، واشتهيت مجد العالم وغناه. حلَّ بي الفقر الداخلي عوض الغنى، ودخلت إلى غباوة الحيوانات عوض الفهم. نزلتّ إليّ أيها الغني، افتقرت لكي بفقرك تغنيني! هب لي ذاتك، فأقتنيك، فإنك أنت هو غناي ومجدي! |
||||
23 - 01 - 2014, 05:43 PM | رقم المشاركة : ( 52 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 50 - تفسير سفر المزامير ذبيحة التسبيحآساف: أول مزمور لآساف؛ وآساف اسم عبري معناه "من يجمع"، وربما هو اختصار "يهوه ساف" أي "الرب جمع". كان رئيس فرقة الموسيقيين المقدسة في الخيمة حيث وضع فيها تابوت العهد. وقد عُين في وظيفة دائمة في ضرب الصنوج أثناء خدمة الهيكل (1 أي 16: 4-5، 7). يُدعى بالمرائي كغيره من رؤساء المغنين (2 أي 29: 30)؛ عُهد إلى عشريته عزف الموسيقى في بيت الرب (1 أي 25: 1-9)، وكانوا يقفون على اليمين أثناء القيام بالخدمة (1 أي 6: 39). وقد رجع من السبي من عشيرته 128 من المغنين (عز 2: 41؛ نح 7: 44). وفي أيام زربابل أُقيم بنو آساف للتسبيح بالصنوج (عز 3: 10). مزمور نبوي ليتروجي: يرى البعض أنه ليس بالمزمور في معناه العادي، وإنما هو نبوة تعلن عن الدينونة العامة، وتكشف عن إدانة الله للرياء في العبادة حيث تمارس في شكليات بلا روح، وإدانة الحياة الشريرة. يرى البعض أن المزمور يُناسب عصر حزقيال حيث الإصلاح وإن كان البعض ينسبه إلى عصر يوشيا. هو خطاب نبوي قُدم في الهيكل في مناسبة عيد كبير، يحذر من الاستخدام الخاطئ للطقس، خاصة تقديم الذبائح، كقناع يخفي وراءه العابدون شرورهم. ويلاحظ أن المزمور لم يدن طقس الذبائح في ذاته، وإنما إساءة استخدامه، كأن يظن الإنسان أن الله في حاجة إلى عبادته أو ذبائحه أو عطاياه[949]. واضح أن المزمور ينتسب إلى فترة ما قبل السبي حيث كانت أورشليم في جمالها الكامل البهي. الإطار العام: 1. ثيؤفانيا (ظهور إلهي) ملوكية [1-6]. 2. إدانة الشكليين في العبادة [7-15]. 3. إدانة الأشرار المرائين [16-20]. أ. الالتزام بطاعة الوصية وليس مجرد النطق بها أو الكرازة بها ب. قبول تأديب الرب ج. عدم الشركة مع الأشرار د. انتزاع الخداع والمكر 4. تحذير [21-23]. العبادة بالروح والحق 1. ثيؤفانيا ملوكية: جاءت مقدمة المزمور تصف ظهور الله في الهيكل، أو على جبل صهيون، في نار وعاصف، ليجمع العالم كله أمام قضاء حكمه وكرسي دينونته. وإن كانت كل عيون الشر تتجه إليه فإن عيني الرب تتطلعان إلى شعبه لتقديسهم، كما تتطلع إلى القساة والمنافقين لعلهم يعرفون طريق الخلاص ويتمتعون بحياة التسبيح حتى لا يحل بهم القضاء الأبدي. "إله الآلهة الرب تكلم، ودعا الأرض من مشارق الشمس إلى مغاربها. من صهيون حسن بهاء جماله. الله يأتي جهارًا. وإلهنا لا يصمت. النار قدامه تتقد، وحوله عاصف جدًا" [1-3]. 1. الله هو إله العالم كله، لكنه في حبه للإنسان ينسب نفسه إليه، حاسبًا الإنسان التقي المتمتع بالشركة معه إلهًا، لا من حيث جوهره، وإنما من حيث تمتعه بالتمثل به والرغبة في الاتحاد مع خالقه. لهذا يدعو الله نفسه: "إله الآلهة"، أي إله القديسين المحبوبين لديه جدًا والمتمتعين بالشركة معه. * من هم هؤلاء الآلهة؟ أو أين هم هؤلاء الذين إلههم هو الله الحقيقي! يقول مزمور آخر: "قام الله في مجمع الآلهة، وفي الوسط يُدين الآلهة" (مز 82: 1)... لاحظ في نفس المزمور أولئك الذين يقول عنهم: "أنا قلت أنكم آلهة وبنو العلي كلكم، فأنتم مثل البشر تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون" (مز 82: 6-7). واضح إذن إنه يدعو البشر آلهة، إذ يتألهوا (يتقدسوا) بنعمته، ليس مولودين من جوهره... إن كنا قد صرنا أبناء الله، فإننا قد صرنا آلهة، هذا بعمل نعمة التبني وليست ولادة طبيعية. القديس أغسطينوس 2. بينما ينسب الله نفسه إلى أحبائه الذين قبلوا عمل نعمته لتقديسهم إذ به يتكلم مع الأرض كلها، من مشارق الشمس إلى مغاربها، وكما يقول القديس أغسطينوس: [الذي يدعو العالم كله إنما يدعو ما قد خلقه]. إنه يعتز بخليقته جدًا، ويكّرمها، مشتاقًا إلى خلاص الكل، ويطلبها للشهادة عن أعمال محبته الفائقة، خاصة مع أولاده. ولعل مشارق الشمس تشير إلى الصديقين الذين يشرق عليهم شمس البر، ومغاربها إلى الأشرار رافضي الرب.3. إن كان الله يدعو المسكونة، سكان الأرض كلها، ليظهر معاملاته مع شعبه، فإنه يشرق على صهيون الجديدة، أي كنيسته، بكونها موضع اختياره، وقصره الملوكي المجيد: "من صهيون حسن بهاء جماله". جمالها إنما هو انعكاس "حسن بهاء جماله". مادام المزمور يحذرنا من الانشغال بالشكليات في العبادة بلا روح أو تغطية سلوكنا الشرير بمظاهر خادعة، يؤكد لنا في مقدمة المزمور أن الله يطلب جمال كنيسته وصلاحها لا عن احتياج من جانبه وإنما كانعكاس لعمله الإلهي فيها. خلال العبادة بالروح والحق والسلوك المقدس يشرق عريس الكنيسة عليها، ويتجلى في داخلها فتستنير ببهائه، وتحمل جماله، وتتمتع بالطاعة لإرادته بفرح وسرور. سرّ بهاء صهيون الجديدة هو عمل الروح القدس فيها، الذي يأخذ مما للمسيح ويخبرها، ليُشكّلها ويجّملها فتصير على مثال عريسها، تحمل سماته. يقول القديس أغسطينوس: [في هذا الموضع (صهيون) كان التلاميذ الذين قبلوا الروح القدس المُرسل من السماء في يوم الخمسين بعد قيامته. عندئذ (ظهر) الإنجيل فالكرازة، وامتلأت الأرض بنعمة الإيمان]. 4. الله في حبه يطيل أناته جدًا، لكنه حتمًا يأتي ليُدين ولا يصمت. كلما تأخر الله تكون العقوبة أشد متى حلت. لقد انتظر الله 120 عامًا على العالم القديم، وعندما حلَّ الطوفان واكتسح الكل؛ كان المنظر أكثر رعبًا مما يتخيله أحد[950]. "الله يأتي جهارًا، وإلهنا لا يصمت" [3]. * عندما جاء الرب كان مختفيًا، لأنه جاء لكي يتألم، ومع كونه قويًا في ذاته ظهر في الجسد ضعيفًا. كان يحتاج أن يظهر بطريقة لا يُدرك بها، فيُحتقرّ ويُقتل. كان ذلك اخفاءً لمجد اللاهوت في الجسد. "لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد" (1 كو 2: 8). هكذا سار مختفيًا بين اليهود، بين أعدائه، يصنع عجائب، ويحتمل شرورًا، حتى عُلّق على الخشبة. وإذ رآه اليهود معلقًا بالأكثر احتقروه وكانوا ينغصون رؤوسهم أمام الصليب، قائلين: "إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب" (مت 27: 40). كان إله الآلهة مخفيًا، مقدمًا كلمات أكثر حنوًا مما تصدر عن جلاله... كان مخفيًا عن الذين سار بينهم، وعن الذين صلبوه، وأيضًا عن الذين قام أمام أعينهم، وعنا نحن الذين نؤمن إنه يجلس في السموات، نحن الذين لم نره على الأرض ماشيًا... كان إله الآلهة مخفيًا ولا يزال مخفيًا، فهل يبقى مخفيًا إلى الأبد؟ حتمًا لا، اسمع ماذا يُقال: "الله سيأتي جهارًا". ذاك الذي جاء مخفيًا سيأتي جهارًا. جاء مخفيًا لكي يُحِاكَم، وسيأتي جهارًا لكي يُدين. جاء مخفيًا لكي يقف أمام قاضٍ، وسيأتي جهارًا ليُدين حتى القضاة. "الله يأتي جهارًا، وإلهنا لا يصمت"... أنه ليس صامتًا وصامتُ أيضًا؛ إنه لا يصمت من جهة التحذير، وصامت عن المعقبة؛ ليس صامتًا عن الوصية وهو صامت عن الدينونة... إنه صامت عن الدينونة؛ إذ هو مخفي في السماء، يشفع فينا، إنه طويل الأناة بالنسبة للخطاة، لا ينتقم، لكنه ينتظر التوبة[951]! القديس أغسطينوس * "سيأتي إلهنا ولا يصمت". حينما يأتي ليُدين الأحياء والأموات، ويعطي كل واحد حسب أعماله. حينما يوقظ البوق بصوته المرهوب أولئك الذين رقدوا عبر الأجيال؛ ويأتي الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة[952].القديس باسيليوس الكبير * عندما يأتي جهارًا في مجيئه الثاني لا يصمت، لأنه إن كان قد التحف بالاتضاع في مجيئه الأول إلا أنه يأتي جهارًا في قوة[953].الشهيد كبريانوس * حقًا يقول: الآن إني صامت لأني لا أزال أُرجيء العقاب، فهل حينما تفعلون هذه الأمور أسكت عنكم؟ إن كنت لم أصدر حكمًا فإني أؤجل تأديبي الصارم وأطيل أناتي لنفعكم. لقد انتظرت توبتكم زمانًا طويلًا؛ فهل عندما تفعلون هذه الأشياء أصمت عنكم؟ إنني أُرقب ذلك بمنتهى الدقة لتتوبوا ولا زلتم تحتقروني وترفضون الالتفات إلى الرسول: "من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب. واستعلان دينونة الله العادلة" (رو 2: 5)...إنك تخدع نفسك حتى إن قدمت كل ما لديك وفقدت أموالك، دون الكفارة عن خطاياك. هل تظن إنني مثلك؟ سأوبخك...؟ ماذا أفعل بك؟ إنك الآن لا ترى نفسه، فسأجعلك ترى نفسك. فإنك إن رأيتها واستأت منها تُسرّني! وطالما لا ترى نفسك فأنت راضٍ عليها، فتسيء إليّ وإلى نفسك... إنك تغلق على ذاتك، فهذه هي رغبتك. إنك تقف خلف ظهرك فلا ترى نفسك؛ سأجعلك تراها بأن أضع أمام عينيك ما قد وضعته أنت خلف ظهرك، فترى بشاعتك، لا لكي تقّومها، بل لكي تحمر خجلًا إزاءها[954]! الأب قيصريوس أسقف آرل الله يصمت عن العقوبة هنا منتظرًا توبتنا، حتى متى جاء في اليوم الأخير نتمتع بجمالها الإلهي وشركة أمجاده، وإلا يصير اليوم مرعبًا. نرى قدامه النار تتقد التي تُمحّص حياتنا، فإن كنا ذهبًا وفضة نزداد بهاءً، وإن كنا عشبًا وقشًا نصير رمادًا. حوله عاصف شديد جدًا، يفصل الحنطة عن الزوان!"النار قدامه تتقد، وحوله عاصف جدًا" [3]. * "النار قدامه تتقد"، أتخاف؟ لنتغير فلا نخاف. ليُخفَ التبن من النار، ولكن ماذا تفعل النار بالذهب...؟ ستأتي عذوبة حضرته. إن كنت لا تتغير، لا تستيقظ ولا تتنهد، ولا تشتاق (إليه)، بل تحتضن خطاياك وملذات الجسد فإنك تجمع جُذامة (التبن المتبقي بعد الحصاد) لنفسك، النار قادمة...! إن كنا نؤمن أن الدينونة قادمة يا إخوة، لنحيا حسنًا. الآن هو وقت للرحمة، وسيأتي وقت للحكم. سوف لا يقول أحد: "ردني إلى أيامي السابقة". * وحوله هذا العاصف الذي يصنع نوعًا من الفصل... بين الصالحين والأشرار... البعض يُدين مع الرب (مت 19: 28)، والآخرون يُدانون. القديس أغسطينوس يرى بعض الآباء مثل القديس أثناسيوس والعلامة أوريجانوس ويوسابيوس القيصري أن المرتل يتحدث هنا عن مجيء الله الكلمة متجسدًا، أي المجيء الأول، حيث يأتي جهارًا أي منظورًا خلال التجسد، وينطق بشفتيه بعدما تحدث قبلًا خلال الرموز والأنبياء، يبعث بروحه الناري على كنيسته لتقديسها حيث يتم العاصف الشديد كما حدث يوم الخمسين في عُليّة صهيون (أع 2: 2). بينما يرى آباء آخرون مثل القديسين ديديموس الضرير وأغسطينوس أنه يتحدث عن مجيئه الثاني للدينونة.* قوله "سيأتي جهارًا" يعني أنه يكون منظورًا وملموسًا بجسد بشري، "لا يصمت" لأنه قد قال وتكلم وأخبر عن مشيئة أبيه ولم يخفِ شيئًا مما أدى إلى خلاص الأمم. أما النار المتقدة أمامه فهي حرارة الروح القدس التي قال من أجلها ربنا: قد أتيت لألقي نارًا. ولما كنا بادرين (مثلجين) من الخطايا جعلتنا هذه النار حارين بالروح القدس، كما ألهبت قلبيْ اللذين خاطبهما في الطريق إلى عمواس وقال: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق؟!" (لو 24: 32). وأيضًا النار التي تصاحب المعمودية إذ قيل إنه يعمد بالروح القدس ونار، لأنه يحرق ويُبدد دنس خطية المعمدين. وأيضًا من أجل هذه النار جاء في الأصحاح الثالث من نبوة ملاخي النبي: "لأنه مثل نار المُمحص ومثل أشنان القصَّار، فيجلس مُمحصًا ومُنقيًا للفضة (والذهب)" (ملا 3: 2). وقد قيل عن جماعة اليهود الذين لم يقبلوا المعمودية المقدسة: "قد غاب المنفاخ من النار، فنى الرصاص؛ باطلًا صاغ الصائغ" (إر 6: 29)... يقول العلامة أوريجانوس: [إن النار والعاصف هما سلطان ربنا يسوع المسيح وقدرته. كأن النبي يقول: وإن كان قد جاء بجسد بشري لكن له القدرة والسلطان، بهما يُلهب ويضرب الذين لا يطيعونه]. وأما يوسابيوس فيقول: [إن العاصف هي الشدائد والضيقات التي تلحق بالمؤمنين]. الأب أنثيموس أسقف أورشليم يُقدم لنا الأب أنثيموس الرأيين بخصوص الظهور الألهي: ظهور للخلاص بالتجسد وظهوره الأخير للدينونة. الأول ليُقدم نار الروح الذي يلهب القلوب بالحب الإلهي، والثاني نار الدينونة والعدل الإلهي التي تفرز أولاد الله عن الأشرار.خلال هذا الظهور الإلهي المهيب حيث تتقد النار قدامه وحوله عاصف جدًا، يدعو الديان السماء والأرض لتشهدا حكمه، حيث يفصل المؤمنين الحقيقين عن المرائين، والحنطة عن الزوان. يوجه دعوة عامة إلى كل الخليقة السماوية والأرضية للشهادة، أما أتقياؤه الذين دخلوا في عهد معه خلال ذبيحة الصليب فيجمعهم ليكونوا معه يتمتعون بيمينه: "يدعو السماء من فوق والأرض إلى محاكمة شعبه. اجمعوا إليه أبراره، الواضعين عهده على الذبائح. وتخبر السموات بعدله، لأن الله هو الديان" [4-6]. سبق فدعى المسكونة من مشارق الشمس إلى مغاربها، وقد قلنا إنه يقصد الأبرار الذين أشرق عليهم شمس البر بنوره على قلوبهم، والأشرار الذين يغرب عنهم الإيمان بشمس البر؛ وربما يقصد بمشارق الشمس جماعة اليهود الذين عرفوا الله مبكرًا والمغارب الأمم الذين عرفوه في أواخر الدهر... هنا يدعو السماء أي الطغمات السمائية، والأرض أي البشر جميعًا، لكي يشهد الكل عدل الله في محاكمته لشعبه. يطلب أن يُجمع أبراره الواضعون عهده على الذبائح، وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [يأمر ربنا الملائكة والرجال الأفاضل أن يجمعوا له أبراره وقديسيه ليضعوا ويرتبوا عهدًا، ويقدموا قربان التسبحة، ويذبحوا ذبائح روحية يهواها[955]]. ويرى القديس أثناسيوس أن الأمر هنا صادر بخصوص الأبرار من اليهود قبل يوم الدينونة ليكفوا عن تقديم الذبائح الحيوانية ويبطلونها، ويستبدلونها بقرابين الفهم والعلم. وبمعنى آخر هي دعوة لقبولهم الإيمان بذبيحة السيد المسيح عوض إنكارهم الإيمان به. ويرى يوسابيوس القيصري أن الرب يرسل ملائكته ليجمعوا الأبرار ويفرزوهم عن الأشرار ما جاء في الإنجيل المقدس عن يوم الدينونة. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الدعوة هنا موجهة إلى جميع اليهود الذين قطعوا عهد الله خلال الذبائح، وقد ظنوا أنهم أبرار لممارستهم العبادة في شكليات بلا روح، ولسلوكهم الشريرة. جاء تعليق القديس أغسطينوسعلى العبارت السابقة [4-6] هكذا: * يدعو من فوق السماء، كل القديسين، هؤلاء الذين صاروا كاملين يحكمون، يجلسون معه ليدينوا أسباط إسرائيل الإثنى عشر (مت 19: 28)... في البداية دعى الكل معًا عندما "تكلم إله الآله ودعا العالم من مشارق الشمس إلى مغاربها". لم يكن بعد قد حاكم. لقد أُرسل الخدام ليدعو إلى العرس، فجمعوا الصالحين والطالحين. ولكن عندما يأتي إله الآلهة جهارًا ولا يصمت فإنه يدعو السماء من فوق، لكي تُدين معه... يجمعوا إليه أبراره. من هم أبراره إلا الذين يعيشون في الإيمان ويمارسون أعمال الرحمة. فإن هذه الأعمال هي أعمال البر... حقًا السموات (الإنجيليون) تعلن عن برّ الله لنا. لقد سبق الإنجيليون فأخبرونا فسمعنا أن البعض سيكونون عن اليمين حيث يقول رب البيت: "تعالوا يا مباركي أبي، رثوا...". بالحق الديان يحكم ولا يخلط، لأن الرب يعرف من هم له. فإنه وإن كانت الحنطة مختفية في التبن لكنها معروفة للمزارع. ليته لا يخف أحد حتى وإن كان حبة حنطة وسط التبن، فإن عينيْ المذرّى لا تُخدعان. لا تخشى العاصف الذي حوله من أن يخلطك مع التبن. القديس أغسطينوس 2. إدانة الشكليين في العبادة: يُستهل هذا القسم [7-25] بمقدمة فب الآية [7] يؤكد فيها المتكلم: "إني أنا هو الله إلهك"... فإن كان هو الله خالق الكل: السماء والأرض، لكنه مُنتسب إلى سامعيه بكونه إله شعبه المحبوب لديه؛ يجمع المؤمنين ليكشف لهم الفكر الروحي الحيّ للعبادة. فهو لا يطلب استصدار حكم، بل إلقاء ضوء على الحق، والكشف عن مفاهيم العبادة، والدخول بشعبه إلى حياة التوبة. ففي تقديم الذبائح يطلب ذبيحة القلب الكاملة، أي ذبيحة المحرقة الروحية، كما يطلب تهليل النفس بإلهها، أي ذبيحة الحمد والتسبيح. إنه لا يحتاج إلى طعام (ذبائح حيوانية) ليأكل بل إلى إقامة عهد مع شعبه. "اسمع يا شعبي فأكلمك، ويا إسرائيل فأشهد عليك. إني أنا هو الله إلهك، لست أوبخك على ذبائحك، محرقاتك هي قدامي في كل حين" [7-8]. عجيب الله في معاملاته مع الإنسان، فإنه حتى حينما ينتقد أو يُعاتب أو يوبخ لا يستخدم كلمات جارحة بل في لطف يبدأ بكلمات رقيقة للغاية تجتذب النفس إليه لتتقبل كلماته. نُلاحظ هنا في توبيخه الآتي: 1. يدعوهم "شعبي"... وكأنهم يقول لهم أنتم لي، إن إنتقدتكم فليس للتشهير بكم ولا لمحاكمتكم، وإنما لتقديسكم... ما يمسكم يمسني: "أنا هو الله إلهك"! أنتم تنتسبون لي وأنا لكم، لذا فالأمر يحتاج إلى صراحة كاملة خلال دائرة الحب! * إنه يأتي ولا يصمت؛ أنظر كيف أنه حتى الآن، إن سمعت لا يصمت. إسمع يا شعبي فأكلمك، فإنك إن لم تسمع لا أتكلم معك... متى تسمع؟ عندما تكون شعبي! "اسمع يا شعبي"، فإنك لا تسمع لي حين تكون شعبًا غريبًا (عني)! القديس أغسطينوس 2. يبدأ حديثه لا بالعمل السلبي، أي بالكشف عن ضعفاتهم وأخطائهم ومفاهيمهم غير الصحيحة، وإنما بالعمل الإيجابي، وهو "الاستماع" أو "الطاعة"، فإن الاستماع أفضل من ذبائح الجهال. يطالب الله شعبه بالاستماع قبل أن يحدثهم عن اتجاهاتهم الخاطئة في العبادة والسلوك!3. إذ ينتقدهم الله في عبادتهم وسلوكهم يقدم لهم ذاته هبة وعطية حتى لا يحسبوه رافضًا إياهم، فيقول: "أنا هو الله إلهك". وكما يقول القديس أغسطينوس: [انظروا الله نفسه يُعطي ذاته. أي غني أعظم منه؟ تطلبون عطايا، ها هو لكم واهب العطايا نفسه: "أنا هو الله إلهك"]. 4. إن كانت الشريعة الإلهية قد ركزت على الحياة المقدسة في الرب، فإن الذبائح الحيوانية لم تكن إلا ظلًا لذبيحة حمل الله أو ذبيحة كلمة الله المتجسد، فإنه هو وحده القادر على المصالحة بين الآب والبشرية، وعلى تجديد طبيعتنا بروحه القدوس في استحقاقات دمه الثمين. الله ليس بمحتاج إلى ذبائح، وهو لا يجوع! لقد أخطأوا حين ظنوا أنهم يجلبون رضا الله وسروره بكثرة ذبائحهم كتغطية على شرورهم التي لا يودون التوبة عنها. فإن الله لن يُحاسبنا عن تقديم ذبائحنا وإنما عن تقديس حياتنا به وفيه. "لست أوبخك على ذبائحك، محرقاتك هي قدامي في كل حين" [7-8]. * أي أنكم لو تهاونتم في تقديم الذبائح فلا أوبخكم، وإن لم تقدموا لي محرقات فكأنها هي تجاهي دائمًا، أن الله قد مدح هابيل وقبل تقدمته وترك قربان قايين. ليس هذا نظرًا إلى ما قدماه بل إلى ضميريهما ونيتهما. وهكذا تقدمة المسيحيين إن كانت بنيّة صالحة يقبلها. وهكذا يكون الأمر في سائر الفضائل إذا مارسها الإنسان بقلب مستقيم يقبلهما منه. الأب أنثيموس أسقف أورشليم إن كان الله لا يوبخ شعبه لعدم تقديم الذبائح الحيوانية لكنه يطلب المحرقات الروحية التي هي قدامه في كل حين، أي محرقة "بذل الذات"، حيث تُقدم على مذبح القلب الملتهب بنار الروح القدس بلا انقطاع.* يقول إن محرقات معينة يقبلها الله؛ ولكن، ما هي المحرقة holocaust؟ كلمة "Causis" تعني "يحترق"، "holon" تعني "بالكامل whole". فالمحرقة هي احتراق كامل بالنار. توجد نار معينة للحب الأكثر احتراقًا. ليلتهب العقل بالحب، ولينتقل سريعًا إلى الأعضاء، فلا يسمح لها أن تخدم الطمع؛ فنتوهج بالكامل بنار الحب الإلهي التي تقدمنا محرقة لله. مثل هذه المحرقة "هي قدامه في كل حين". القديس أغسطينوس "لست أقبل من بيتك عجولًا،ولا من قطعانك جداءً. لأن لي هي كل وحوش البر. البهائم التي في الجبال والبقر. قد عرفت سائر طيور السماء، وبهائم الحقل هي معي" [9-11]. * لقد سبق فأخبر عن العهد الجديد، الذي فيه بطلت كل هذه الذبائح. فقد كانت تُنبئ عن ذبيحة معينة تُقدم، الدم الذي به نتطهر: "لست أقبل من بيتك عجولًا، ولا من قطعانك جداءً"... القديس أغسطينوس * يظهر الطوباوي بولس أن خدمة الناموس (الذبائح حسب الشريعة) عاجزة عن التقديس[956].القديس كيرلس الإسكنري لم يطلب الله الذبائح الحيوانية إلا بكونها رمزًا لذبيحته الفريدة، التي قدمها الكلمة المتجسد. فالله ليس في عوز إلى ذبائح أو خدمات بشرية، إنما الإنسان في حاجة إلى مصالحته مع الله الذي لا يعوزه شيء، لأن كل الخليقة هي من صنع يديه وتخضع له، لكن الإنسان في حالة عوز واحتياج. * قول دود: "لست أقبل من بيتك عجولًا" هو نبوة تشير إلى إبطال الذبائح عندما يحل الوقت المعين... كان العبرانيون يقدمون لله إما من الحيوانات بقرًا وتيوسًا وخرافًا وما يماثلها، وإما من الطيور حمامًا ويمامًا، وإما من الأثمار فريكًا وخمرًا وزيتًا. فيقول الرب إن الوحوش والبهائم والطيور وكل ما في جملة الأض والحق أنا صنعتها وأنا أُعطيها، وهي لي، أعني صنعتي وعطيتي. الأب أنثيموس أسقف أورشليم * لم يأخذ منكم ذبائح ولا أمر بها أولًا أن تُقدم له عن احتياج وإنما من أجل خطاياكم... فبالحقيقية اعتبر الهيكل الذي في أورشليم بيته أو ساحته لا كمن هو محتاج إليه وإنما لكي تقدموا أنفسكم له، ولا تتعبدوا للأوثان. ولهذا يقول إشعياء: "أي بيتٍ تبنون لي، يقول الرب، السماء كرسيّ والأرض موطئ قدميَّ"[957].القديس يوستين قد عرفت سائر طيور السماء التي لا تقدر أنت أن تُعطيها... "وجمال الحقل هو معي". أفضل ما في الحقل، كل ما هو وفير... هو معي... أنت محتاج إلى ما لديك، أما الله فليس محتاجًا إلى الحقل الذي معه. معه الحقل، ومعه جمال الأرض، ومعه جمال السماء، ومعه الطيور، لأنه هو موجود في كل مكان. القديس أغسطينوس لعل الله يود أن يوبخ الإنسان الذي يظن أنه يُقدم خدمة لله عندما يدخل بذبائح وتقدمات إلى هيكله المقدس، فإن الله ليس محتاجًا إلى شيء من كل الخليقة. يقول إن هذه الخليقة هي لي، لأني خالقها، وأنا أعرفها لأني عالم بكل شيء، وهي معي لأني حال في كل موضع. وكأنه يقول: إن كانت الحيوانات والطيور والمحاصيل الزراعية هي لله فبالأولى الإنسان على صورة الله ومثاله أن يكون له. الله لا يطلب ما بين يديْ الإنسان بل يطلب الإنسان نفسه. وإن كان الله عارف بهذه الخلائق فهو يعلم أعماق قلب الإنسان، يهتم حتى باحتياجاته الخليقة، وإن كان الله حاضرًا مع خليقته أينما وُجدت فهو يطلب أن يسكن في قلب محبوبه الإنسان ليهبه شركة الحياة معه! بمعنى آخر الله لا يطلب ذبائح وتقدمات وهبات إنما يطلب الإنسان نفسه أن يُبادله الحب: يقدم نفسه مِلكًا لمن قدم ذاته له يمتلكه، ويقبل رعايته وعنايته ونعمته، ويدخل معه في شركة واتحاد! خلال هذا المفهوم يقدم الإنسان كيانه كله محرقة حب يشتمها رائحة رضا وسرور. "إن جعت فلا أقول لك. لأن لي المسكونة وكل ما فيها. هل آكل لحم الثيران. أو أشرب دم التيوس؟!" [12-13]. كان الله يُرسل نارًا لتلتهم الذبيحة علامة قبوله إياها، ورضاه على مقدمها. هذه النار النازلة من السماء كانت تُحسب أشبه بفم الله... إنه لا يأكل لحوم حيوانات أو يشرب دمها، إنما يعلن عن جوعه إلى قلب الإنسان: "يا ابني اعطني قلبك، ولتلاحظ عيناك طرقي" (أم 23: 26). لقد جاع كلمة الله المتجسد وعطش، وكما قال لتلاميذه: "أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم... طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله" (يو 4: 32، 34). طعامه أن يتمم مشيئة أبيه، ألا وهي خلاص بني البشر والدخول بهم إلى مجد ميراثه. لقد افتقر وهو الغني لكي بفقره يغنينا؛ وجاع لكي يشبعنا، وعطش لكي يروينا بينابيع روحه القدوس. * من أجلنا رسم إله الآلهة أن يجوع؛ جاء ليجوع ويشبعنا! جاء ليعطش ويروينا. جاء لكي يكتسي بالقابل للموت لكي يكسونا بالخلود! جاء فقيرًا ليغنينا! فإنه لم يفقد غناه باقتنائه فقرنا، إذ هو "المذّخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (كو 2: 3). "إن جعت فلا أقول لك، لأن لي المسكونة وكل ما فيها" إذن لا تتعب لتجد ما تعطيني إياه، فإنني بدونك لي كل ما أريده. القديس أغسطينوس إذن ماذا يطلب الله منا؟ "اذبح لله ذبيحة التسبيح. أوفِ العلّي نذورك، وادعني في يوم شدتك، فأنقذك وتمجدني" [14-15]. إن كان الله لا يُسر بالذبائح الحيوانية التي تقوم على عشور الإنسان أو الجماعة باحتياج الله إليها، إنما يقبلها كرمز لذبيحة الصليب التي تحقق المصالحة مع الله، والقادرة على تجديد الإنسان الداخلي، فما هي ذبيحة التسبيح التي يطلبها الله؟ وماذا يعني بايفاء النذور؟ قدم السيد المسيح حياته مبذولة لأجلنا، لكي يُصلح من طبيعتنا الفاسدة ويحوّله إلى طبيعة جديدة مقدسة في الرب، وبهذا نتحول من حالة الجحود إلى حالة شكر مع تسبيح لله وحمد، لهذا تُدعى ذبيحة الصليب "أفخارستيا" أي "الشكر". إذ نتناول جسد الرب المبذول ودمه الكريم يليق بنا أن نعيش شاكرين ومسبحين له في كل ظروف حياتنا. بهذا نذبح للرب "ذبيحة تسبيح" ونوفي له نذورنا. * ما هي المحرقة الروحية؟ "ذبيحة التسبيح"! أين نقدمها؟ في الروح القدس[958]. القديس باسيليوس الكبير يرى القديس أغسطينوسأن ذبيحة التسبيح وإيفاء نذورها لا يتحقق بالكلمات وحدها بالممارسة العملية، فنُعَبَّر عن شكرنا لله وفرحنا به وتسبيحنا له بحبنا لإخوته الأصاغر الذين هم في احتياح مادي أو نفسي أو روحي، كما نقدمها بالقلب المستقيم في الرب. * كان لزكا ذبيحة التسبيح هذه في ميراثه، وكان للأرملة في حقيبتها... والبعض لهم هذه بالكامل في قلوبهم... "اذبح لله ذبيحة التسبيح". يا لها من ذبيحة مجانية، توهب لنا بالنعمة! حقًا إنني لست أحضرها لكي أقدمها، بل أنت تهبني إياها، فإنه حتى هذه ليست من عندي! هذا هو ذبح ذبيحة التسبيح، أن ترد الشكر لذالك الذي أعطاك الصالحات، وبرحمته غفر لك الشرور التي لك... بهذه الرائحة الذكية يُسر الله! القديس أغسطينوس يرى بعض الآباء[959]. أن السيد المسيح هو ذبيحة التسبيح التي قدمها ممثلًا عن البشرية، فمن يقتني السيد في حياته، إنما يقتني حياة الشكر والتسبيح، مشتاقًا أن يموت كل النهار من أجل الله... بهذا يقدم ذبيحة التسبيح ويوفي نذوره. إن كنا نقدم ذبيحة التسبيح ونوفي هذا النذر باتحادنا بالمسيح الذبيح، فإننا نطلب الله في وقت الضيق فينقذنا ويتمجد فينا. كثيرون يتجاهلون "واو" العطف في كلمة "وأدعني"... فإن الوعد الإلهي بإنقاذنا يضع شرط التسبيح وإيفاء النذر الروحي عتذئذ ندعوه فيتمجد فينا! فإن الله يطلب القلب المتهلل به والمتكل عليه عندئذ يتحقق له كل طلباته ويسمع صلواته. بمعنى آخر الله يسمح لنا بالضيق لنتعلم أمرين: التسليم له بفرح والصراخ إليه... إنه يشتاق إلى راحتنا، ويود أن يهبنا أكثر مما نسأل وفوق ما نطلب، لكنه يسمح بالضيق حت نتكئ عليه بفرح ويزداد التصاقنا به. يرى البعض أن يوم الضيق هنا هو يوم الدينونة، فإنه ليس ما ينقذنا منه إلا التمتع بعربون الحياة السماوية هنا، أي حياة التسبيح، فنجد في يوم الرب يوم عُرس سماوي! 3. إدانة الأشرار المرائين: يكمل المرتل حديثه إلى المرائين الاسميين في إيمانهم، الذين يمارسون العبادة ويقدمون الذبائح لكنهم متمسكون بشرهم، لهذا يصرّ على فضح الخطية والاعتراف بها والهروب منها، قبل مجيء الرب ليُدين شعبه. 1. الالتزام بطاعة الوصية وليس مجرد النطق بها أو الكرازة بها: "للخاطئ قال الله: لماذا تحدث بعدلي؟ وتأخذ عهدي فيك؟" [16]". * ماذا أكون إذن وأنا لا أسمع ما يقوله (الله) فيَّ بينما أُريد أن يسمع الآخرون ما ينطق به الله خلالي؟ لأسمع أولًا، وخاصة ما ينطق به الرب الإله فيّ، وعندئذ يتكلم بالسلام مع شعبه (خلالي). لأسمع و"أقمع جسدي وأستعبده حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1 كو 9: 26). لماذا تحدث بعدلي...؟ إنه ينصحه أن يسمع، لا أن يكرز بل أن يطيع! القديس أغسطينوس جاء في الترجمة السبعينية: "التسبيح غير لائق في فم الشرير". * "لا يليق التسبيح في فم الشرير، لأنه كيف يمكن لنا أن نسبح الله بفهم نجس؟! إذ لا تقوم معًا الأشياء المتناقضة، فإنه أية خلطة للبر والاثم؟! وأية شركة للنور مع الظلمة؟! (2 كو 6: 14). هكذا يعلن خادم الإنجيل[960]. القديس أثناسيوس الرسولي يرى البابا أثناسيوس الرسوليأن هذا القول ينطبق على الهراطقة الذين يستخدمون عبارات كتابية كمن يكرزون ويشهدون للحق ولكن بخبث وشر، لهذا عندما كان الشيطان يستخدم عبارات كتابية كان المخلص يبكمه[961]، إذ كان الرب يخشى لئلا تُلقي الشياطين بذار الشر مع الكلمات الإلهية فتُهلك سامعيها[962].2. قبول تأديب الرب: "وأنت قد أبغضت أدبي، وألقيت كلامي إلى خلفك" [17]. لكي تكون عبادتنا وكرازتنا مقبولة يليق بنا أن نقبل أحكام الرب في حياتنا وتأديباته بفرح وسرور... فإن من يرفض التأديب يكون كمن وضع كلام الرب خلف ظهره، فكيف يجسر ويعبد الله أو يشهد له؟! *لقد أبغضت التأديب. عندما أصفح تُرتل وتُسبح، وعندما أؤدب تتذمر. عندما أعفو أكون إلهك، وعندما أؤدب لا أكون إلهك. "إني كل من أحبه أوبخه وأؤدبه" (رؤ 3: 19). القديس أغسطينوس 3. عدم الشركة مع الأشرار: "إذا رأيت سارقًا سعيت معه، ومع الفسقة جعلن نصيبك" [18]. هذه ثمرة عدم قبول تأديب الرب، أن تكون للإنسان شركة مع الأشرار في شرهم، أو على الأقل رضا بما يفعلونه وكما يقولالقديس أغسطينوس: [إنك لا تفعل الشرور، فهل تمدح فاعلي الشر؟!]. * أن تعلن برَّ الرب وعهده ولا تفعل ما يفعله الرب، ماذا عساه؟ إنه طَرْحُ لكلماته، واحتقار لتعاليم الرب، وارتكاب لسرقات وزنا روحي لا أرضي. الشهيد كبريانوس هكذا يحسب المرتل من يُعلّم بكلمة الرب ولا يتممها كمن يختلسها ويخونها، أو كمن يرتكب زنا روحي. هذا ما فعله بعض قادة اليهود في عصر السيد المسيح، إذ كانوا مؤتمنين على كلمة الله، يظهرون غيرة في تعليمهم للشريعة، وفي نفس الوقت رفضوا الرب، ودبروا قتله، بينما التصقوا بيهوذا السارق وبارباس الفاسق وجعلوا نصيبهم معهما. يرى العلامة ترتليان[964] أنه يليق بنا لا أن نكف عن هذه الشرور (السرقة والزنا) فحسب وإنما أن نقطع علاقتنا بمن يرتكبونها، فننفصل عنهم فيما هم يسلكونه من الشر. إننا معهم في ذات العالم لأنه من خلقة الله الصالح، لكننا لسنا معهم في السلوك العالمي الشرير الذي وُضع تحت سلطان إبليس. بمعنى آخر، لنحيا معهم في العالم ولكن ليس بروح العالم الشرير! 4. انتزاع الخداع والمكر: "فمك أكثر من الشر، ولسانك ضفر غشًا. إذا جلست تقع بأخيك وعلى ابن أمك وضعت شكًا" [19-20]. بالنسبة لنا يليق بنا ألا نكون نمامين، ولا نحكم على الآخرين، ولا نكون مخادعين. ما هو الفارق بين "أخيك" و"ابن أمك"؟ ربما قصد بالأولى كل إنسان لأن البشر جميعًا إخوة، وبالثانية "الإنسان المسيحي" بكونه ابن الكنيسة أم المؤمنين. فمن أطلق للسانه العنان للخداع يعثر الكل: المؤمنين وغير المؤمنين! * احترزوا من أن يكون لكم لسان أو آذان مستحكّة؛ أي لا تشوّه سمعة الآخرين ولا تنصت لمن يقذفون الغير[965]. القديس جيروم 4. تحذير: "هذه صنعتها وسكت، فظننت إثمًا إني أكون مثلك. أوبخك وأقيمها أمام وجهك. افهموا هذه أيها الذين نسوا الله لئلا يخطف ولا يكون منقذ" [21-22]. * أعني أني قد أمهلت وأطلت أناتي منتظرًا توبتك ولم أعاقبك وقتئذ. وأما أنت فظننت أن إمهالي هو رضا مني على رذائلك. ولكنني أوبخك على قلة ندامتك، وفي يوم الدينونة أشهر بأعمالك أمام وجهك. الأب أنثيموس الأورشليمي يُقدم لنا الأب قيصريوس أسقف آرل[966]. تفسيرًا مطولًا لهذه العبارات، جاء فيه: 1. الإنسان في شره ليس فقط يُسر بآثامه، وإنما يظن أن الله أيضًا مثله يُسر بهذه الأفعال، وهكذا يجعل من الله قاضيًا غير بار، يُشاركه مشاعره الخاطئة. هكذا يستغل الشرير طول أناة الله، حاسبًا ذلك رضا منه على أفعاله. 2. إن كان الله في طول أناته يسكت ولكنه في يوم الدينونة يوبخه، حيث يأتي بأفعاله الشريرة التي وضعها الشرير وراء ظهره، ويقيمها أمام وجهه في دينونة علنية عامة. 3. أساء الأشرار فهم طول أناة الله وصمته على شرورهم، فنسوا الله أو تجاهلوا وجوده أو لم يضعوا دينونته في حساباتهم... وبهذا نسوا حياتهم وأبديتهم. 4. يصير الله بالنسبة لهم كديان أشبه بأسد "يخطف ولا يكون منقذ"! 5. العلاج هو التسبيح لله بالقلب والعمل والشفتين كطريق للتمتع بالمخلص: "ذبيحة التسبيح تمجدني، وهناك الطريق حيث أريه خلاص الله" [23]. يختم حديثه قائلًا: [أنصحكم يا أحبائي بمعونة الله أن نُجاهد ما استطعنا. لنسبح الله بحياة صالحة كما بالكلمات. لأنه من الأفضل أن نصمت ونصنع الخير من أن نسبحه ونرتكب الإثم. فإن كان أحد يحمد الله بلسانه وبحياته في آن واحد، أي بالكلمات والأعمال الصالحة، يجلب عليه نعمة الله مضاعفة. فإن كان عاجزًا عن تسبيحه بالكلمات، فليسبحه بالأعمال الصالحة والصلاة الدائمة والأفكار المقدسة. إن كنا نفعل هذا على الدوام يمكننا أن نحمد الله بضمير صالح في هذا العالم، ونبلغ إلى الفرح الأبدي في الحياة الآتية في سعادة]. العبادة بالروح والحق * بحبك اخترتنا شعبًا لك، لا لتهبنا خيراتك فحسب، وإنما تعطينا ذاتك واهب الخيرات! أغنيتنا بك، وأرويت أعماقنا بروحك القدوس! * ماذا أرد لك؟ أنت لست بمحتاج إلى شيء! الخليقة كلها هي لك، أنت تعرفها، وهي معك! أقدم لك قلبي لكي تعرفه متبررًا بدمك، ويكون معك! * لستَ محتاجًا إلى محرقات دموية! إقبل نيران قلبي الملتهبة حبًا محرقة حب! إقبل حياتي ذبيحة تسبيح! * علمني كيف أسبحك بفمي كما بفكري وقلبي وكل حياتي! أحملك في داخلي، فتلهج كل حياتي بالتسبيح! تعمل نعمتك فيّ، فتهبني شركة التسبيح مع ملائكتك. * قدسني فأسبحك، فأنه لا يليق بفم الشرير أن يُسبحك! لتكن أنت فرحي وتسبحتي! |
||||
28 - 01 - 2014, 04:55 PM | رقم المشاركة : ( 53 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 51 - تفسير سفر المزامير التوبة الحقيقيةإذ تدرك الكنيسة أنه ليس مولود امرأة بلا خطية ولو كانت حياته يومًا واحدًا، وإذ تعلم أنه ليس من إنسانٍ، مهما بلغت قداسته، لا يخطئ، لهذا أعطت هذا المزمور مكانة خاصة. فبحسب الطقس المصري أغلب الصلوات تبدأ بتلاوة هذا المزمور بعد الصلاة الربانية وصلاة الشكر. وهي في هذا تؤكد الآتي: 1. لا يمكن للكنيسة كجماعة مقدسة، ولا لأي عضو فيها أن يقف للصلاة ما لم يشكر الله على عطاياه، ويعترف بحاجته إلى المراحم الإلهية. هذان الخطَّان -الشكر والتوبة- يمثلان اتجاهًا عامًا رئيسيًا في العبادة العامة والشخصية. 2. تقدم الكنيسة بروح الصلاة منهجًا صادقًا للتوبة، من خلال واقع عملي عاشه نبي عظيم سقط وقام بالرب. لهذا فإن دراسة هذا المزمور نافعة للغاية في الكشف عن مفهوم التوبة وممارستها عمليًا. 3. صلاتنا به كل يوم مرارًا، حتى في مخدعنا، أشبه بتحذير لنا لئلاَّ نتهاون مع الخطية أو نؤجل التوبة، يقول الأب أنثيموس الأورشليمي: [إن اشتهار زلات القديسين في الأسفار المقدسة هو بسماح من الله، فإنهم يحثُّوننا على التوبة والحرص الدائم، إذ نرى أناسًا أفاضل مثل داود النبي وبطرس الرسول من مختاري الله، قد زلَّوا وسقطوا بسبب تهاونهم وقلة حرصهم.] 4. يرى القديس أغسطينوس في هذا المزمور الذي كان يعشقه جدًا مع بقية مزامير التوبة، حيث كتبها بخط كبير وعلَّقها على الحائط ليصلي بها بدموع وهو على فراش الموت، أنه دعوة لقبول الضيق بفرح. يقول: [لم يسقط داود في هذه الخطية حينما كان يعاني من شاول مضطهده... عندما كان في ضعف في الضيق كان أكثر التصاقًا بالله بينما كان يبدو أكثر بؤسًا. أحيانًا تكون الضيقة نافعة، إنها مشرط الجرَّاح الأجدى من تجربة إبليس[1].] سماته 1. يعتبر هذا المزمور الرابع في مزامير التوبة وأشهرها، كتبه داود النبي عندما اعترف بذنبه لما بلغته الرسالة الإلهية عن طريق ناثان النبي (2 صم 12: 1-3). قدمه في أحلك اللحظات التي فيها اكتشف داود نفسه، وهو لا يكشف فقط عن أعماق حزنه على ما فرط منه في حق الله، بل يفرح ويبتهج ويسبح الله ويشهد لأعماله الخلاصية. تختلط أحزانه بالأفراح، ودموع الحزن بدموع البهجة. كثيرون نظروا إلى التوبة من جانب دون آخر، فرأوا فيها دموعًا وآلامًا وأحزانًا ليس إلاَّ، ونسوا أن التوبة ما هي إلاَّ اختبار صلب الرب وقيامته. إنها طريق ملوكي مفرح كقول الرب: "توبوا، لأنه قد اقترب منكم ملكوت السماوات" (مت 3: 2؛ 4: 17). لذلك يبدأ المزمور بطلب الرحمة الإلهية لينطلق إلى الشهادة لله الرحيم أمام الأثمة، ثم يدخل في حالة تسبيح وتمتع بأورشليم العليا حيث يشتمّ الله حياتنا محرقات مبهجة، موضوع سروره. 2. وُضع هذا المزمور والمزمور 32 في ذات الظروف المُرَّة، غير أن داود النبي يتحدث في المزمور 32 عمَّا وصل إليه من بؤسٍ بسبب الخطية وذلك قبل توبته، وما ناله من سعادة بعد اعترافه بها. هنا يحدثنا المرتل بصورة أشمل عن خبرته التي عاشها بحزنٍ بروح التقوى[2]. 3. كشف لنا هذا المزمور عن طبيعة الخطية بكونها عصيانًا وتمردًا وإثمًا وشرًا، وعن ثقلها وخطورتها قدر ما يمكننا أن ندرك، فنشتاق إلى الخلاص منها ومن سلطانها ومن لعنتها وبقية ثمارها المُرّة[3]. 4. أخطأ داود سرًا، لكن خطيته صارت علنًا؛ لقد خجل منها، لكنه لم يخجل من الاعتراف بها علانية أمام الإنسان اللائق (ناثان النبي) حتى وإن كان في مركز ديني أو مدني أقل! كما اعترف بها أمام الكل فيما بعد، بتسجيلها خلال مزامير التوبة التي صارت جزءً من العبادة الجماعية. الإطار العام 1. دعوة استهلالية للتطهير 1-2. 2. اعتراف بالإثم 3-5. 3. بهجة بالغفران 6-9. 4. تجديد مستمر 10-12. 5. شهادة أمام الخطاة 13. 6. تقديم ذبيحة تسبيح وشكر 14-17. 7. تمتع بحياة كنيسة روحية 18-19. من وحي مز 51 العنوان لإِمَامِ المُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ عِنْدَمَا جَاءَ إِلَيْهِ نَاثَانُ النبِيُّ، بَعْدَ مَا دَخَلَ إِلَى بَثْشَبَعَ. جاء العنوان يفتح باب الرجاء لكل إنسان مهما كانت خطاياه، فإن الرب يشتاق إلى رجوعنا إليه. فقد أرسل الله لداود النبي والملك من يكشف له عن جراحات نفسه، حتى يلجأ إلى الطبيب السماوي. * لينتبه (الخاطي) إلى خطورة الجرح، ولا ييأس من عظمة الطبيب. الخطية مع اليأس هي موت أكيد. لم يُرسل لك ناثان، إنما يُبعث إليك داود نفسه. اسمعه يصرخ، واُصرخ معه. اسمعه يتنهد، وتنهد معه. اسمعه يبكي، واخلط دموعك بدموعه. اسمعه وهو يُصلح من شأنه، وافرح معه. إن كنت لم تُستبعد عن الخطية، فلا تَستبعد نفسك عن الرجاء في نوال المغفرة. لقد أُرسل ناثان إلى هذا الرجل، لاحظ تواضع الملك. إنه لم يستخف بكلمات من نَصحه، ولم يقل له: "أتجسر أن تتكلم معي هكذا وأنا الملك؟" استمع الملك إلى نبي، فليسمع شعب المسيح المتواضع إلى المسيح. * إن كانت خطية داود تُحسب إثمًا، فليته لا ييأس الأثمة من أنفسهم؛ فكما أن الله غفر للأثيم (داود) ليتطلعوا إلى ذاك الذي إليه يهتدون، وطرقه يتعلمون. القديس أغسطينوس 1. دعوة استهلالية للتطهير يفتتح المرتل مزمور التوبة بطلب مراحم الله التي تهب تطهيرًا، وغفرانًا للخطية: اِرْحَمْنِي يَا اللهُ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. حَسَبَ كَثْرَةِ رَأْفَتِكَ امْحُ مَعَاصِيَّ. اغْسِلْنِي كَثِيرًا مِنْ إِثْمِي، وَمِنْ خطيَّتي طَهِّرْنِي [1-2]. إذ شعر داود النبي بثقل خطاياه، أعلن عن حاجته لا إلى رحمة الرب فحسب، وإنما إلى فيض من الرحمة وكثرة من الرأفات الإلهية. بقي داود النبي حوالي سنة ونصف يصرخ وهو كاتم خطاياه: "أنا سكتُّ، فبليَت عظامي من صراخي طول النهار" (مز 32: 3). كان داود الملك هو الرجل الأول في شعبه، ليس من مجمعٍ أو جماعةٍ أو فردٍ - أيا كان مركزه الديني أو المدني - أن يحكم عليه بالموت. لكنه أدرك أن الخطية قادرة على إصدار هذا الحكم ضده، وليس من يقدر أن يخلصه منه إلاَّ مراحم الله ونعمته. يتكلم داود النبي بلغة الإنسان العاجز تمامًا عن الخلاص بنفسه أو بغيره مع إيمان كامل وثقة في فيض مراحم الله. * الخطية ثقيلة جدًا، تحتاج إلى مراحم عظيمة[4]. القديس جيروم * من اللائق ألاَّ ييأس خاطئ ما مادام تحت يد الطبيب القدير. عظيم هكذا هو فيض رحمته، فإنه بالحق لا يمنح غفران الخطايا فقط للذين يُصلحون حياتهم، بل ويسمح لهم أن يتمتعوا بالمكافآت الأبدية[5].* إن ارتكب أحدكم معاصيَ خطيرة، فليصغِ إلى تلك الكلمات، ويقول مع داود: "ارحمني يا الله حسب صلاحك". إن صلى أحد من أجل عظم الرحمة، فليُضف إليها بؤسه العظيم. الذين يخطئون عن جهل فليطلبوا مراحمك البسيطة. أما أنا فارحمني، ولتطلق صلاحك عليّ. لتشْفِ جرحي الخطير، حسب قدرتك للشفاء العظيمة. ما فعلته أمر خطير، لكنني ألجأ إلى القدير. لو لم أجد طبيبًا عظيمًا مثلك لأصابني اليأس من جرحي المميت[6]. الأب قيصريوس أسقف آرل * من يلتمس عظيم الرحمة، يعترف بعظم بؤسه...* كنت أيأس من جرحي الخطير هكذا، لو لم أجد طبيبًا عظيمًا كهذا. * أتوسل إليك يا كُليّ الصلاح، لا تُسجل عليّ تهوري، لا تدخل في المحاكمة مع عبدك (مز 143: 2)، لكن لترحمني كعظيم رحمتك (مز 51: 1)، أمحُ كل آثامي. وعندئذ يُسمع هذا الصوت: ها هو الإنسان، وها هي أعماله (تك 19: 5)، ماذا أقول حينئذ؟ آه يا إلهي، عندما تكشف السماء خطاياي، وتقوم الأرض ضدي. القديس أغسطينوس * لما كان جرح النبي عظيمًا التمس من طبيب النفوس والأجساد دواءً عظيمًا، وهو الرحمة وكثرة الرأفة. بالحقيقة، ليست رحمة أو رأفة أعظم من تجسد ابن الله الذي يمحو الآثام.الأب أنثيموس الأورشليمي * إني أرى كثيرين يقرعون صدورهم قائلين: أخطأنا، ويظنون أن قلوبهم تنطق معهم بهذا اللفظ. أقول لهم ولأمثالهم: إنه ليس كل من يقول أخطأت، أخطأت، ينال الغفران، كما أنه ليس كل من يقول يا رب يا رب يرث ملكوت السماوات (مت 7: 21). لأني أرى في الكتاب المقدس يهوذا قال أخطأت أمام كهنة اليهود وشيوخهم (مت 27: 3). كما قالها شاول الملك أمام صموئيل (1 صم 15: 24-34)، وقالها أيضًا داود النبي أمام ناثان الملك، إلا أن واحدًا من هؤلاء فقط سمع الجواب الصريح بالغفران، وهو داود (2 صم 12: 13). ذلك لأن داود قالها من القلب حقًا (مز 51: 1)، وهو ثابت في صلواته ونسكه الواضحة في سفر المزامير. القديس يوحنا الذهبي الفم يرى القديس كيرلس[7]أن صرخات المرتل نحو الله طالبًا غسل قلبه وضميره تشير بالغسل إلى المعمودية. كانت هناك غسلات وتطهيرات حسب الشريعة الموسوية تقوم على دم الحيوانات القادرة على غسل الجسد، أما غسل الإنسان الداخلي، فيحتاج إلى مياه المعمودية التي تقوم على عمل دم السيد المسيح القادر أن يطهر الأعماق، ويجدد الطبيعة البشرية. وكما يقول الرسول بولس: "لأنه إن كان دم ثيران وتيوس ورماد عِجلة مرشوش على المُنجَّسين يقدس إلى طهارة الجسد، فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروحٍ أزليٍ قدم نفسه لله بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحيّ" (عب 9: 14).هذا الغسل المجاني الذي يقوم على استحقاقات دم المخلص يحتاج إلى اعترافنا بآثامنا، أو بمعنى آخر احتياجنا إلى المخلص. 2. اعتراف بالإثم لأَنِّي عَارِفٌ بِمَعَاصِيَّ، وَخطيَّتي أَمَامِي دَائِمًا [3]. بلا شك كان داود يعرف أنه أخطأ، لكنه وضع خطيته وراء ظهره ولم يعترف بها، حتى جاء ناثان النبي، ووضعها أمام عينيه. ومنذ تلك اللحظات، إذ شعر بعمل الله الذي رفع عنه ثقلها لم يعد يخفيها وراء ظهره، بل يعترف بها في كل حين، أي يعترف بضعفه. أدرك داود النبي أهمية الاعتراف بخطاياه، فإن الله متحنن على المعترفين بآثامهم، أما الذين يخفونها بسبب الكبرياء فلا يُظهر لهم حنوَّه. لقد صفح الله عن داود، لكن داود الواثق في عظم مراحم الله وفيض حنوه لم ينسَ خطاياه. لم يكن يائسًا، إنما كان يذكرها ليدرك دومًا ضعفه، فيطلب نعمة الله، ولكي يكون دائمًا في حذر من أسباب الخطية، خاصة الاستهتار أو التهاون ولو إلى لحظات، لكي يمجد النعمة الإلهية. * من يتذكر خطيته على الدوام يخجل، وبخجله يندم، وبندمه يحترس من السقوط مرة أخرى، وباحتراسه ينال مغفرة. كل من يتهم نفسه، مُقرًا بذنبه، تُمحى خطيته، إذ يقول الله: "أنا، أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي، وخطاياك لا أذكرها؛ ذكِّرني فنتحاكم معًا، حدِّث لكي تتبرر" (إش 43: 25-26). الأب أنثيموس أسقف أورشليم * "لأني اعترف بإثمي وجنوحي دائمًا" (مز ٥١: ٣). إني لن أضع ما ارتكبته خلفي، لأنظر إلى الآخرين، متناسيًا نفسي. لا أدَّعي أنني أُخرج القذى من عين أخي، بينما الخشبة في عينيَّ (مت ٧: ٥). خطيَّتي أمامي، وليست خلفي. فقد كانت خلفي عندما أُرسل إليّ النبي، ووضعها أمامي مثل نعجة الفقير (٢ صم ١٢). فناثان النبي قال لداود: كان هنا رجل غني جدًا وكان له غنم كثير جدًا، وكان هناك فقير بجواره ولم يكن له إلاَّ نعجة واحدة في حضنه، تأكل من لقمته. فجاء ضيف إلى الرجل الغني، وبدلًا من أن يأخذ من غنمه اشتهى أن يأخذ نعجة الفقير، وذبحها للضيف. فماذا يستحق؟ حمي غضب الملك وهو لا يعلم أن المَثل قيل عنه... خطيته لم تكن أمامه بعد، بل كل ما ارتكبه كان خلفه. لم يكن قد اعترف بإثمه بعد، لذلك لم يصفح عن خطأ غيره (إذ حكم على الغني بالموت). أما النبي فلهذا الغرض أخذ الخطية من خلف داود ووضعها أمام عينيه، ليرى أن الحكم الذي أصدره بغضبٍ شديدٍ، قد نطق به على نفسه. لقد جعل لسانه سلاحًا يجرح به قلبه ويعصبه. * أن تُدعى إنسانًا، فهذا من عمل الله، وأن تُدعى خاطئًا، فهو من عمل الإنسان ذاته. امحِ ما تفعله أنت، لكي يُخَلِّصْ الله ما قد فعله. يليق بك أن تكره عملك الذاتي فيك، وتحب عمل الله فيك. عندما لا تسرك أعمالك الذاتية، بهذا تبدأ أعمال الله الصالحة، إذ تجد خطأ في أعمالك الشريرة. الاعتراف بالأعمال الشريرة بداية الأعمال الصالحة. إنك تعمل الحق، وتأتي إلى النور. كيف تعمل الحق؟ لا تدلِّل نفسك، ولا تهادنها، ولا تتملقها، ولا تقل: "إني بار"، بينما أنت غير بارٍ؛ هكذا تبدأ تفعل الحق. تأتي إلى النور لكي ما تُعلن أعمالك أنها بالله معمولة، لأنه لا يمكنك أن تبغض خطيتك ما لم يشرق الله فيك، ويظهر لك الحق. أما من يحب خطاياه حتى بعد نصحه، فهو يبغض النور الذي ينصحه، ويهرب منه. فالأعمال التي يحبها لا تظهر له أنها شريرة. من يفعل الحق يَتهم أعماله الشريرة فيه، ولا يبرر نفسه، ولا يصفح عن نفسه حتى يغفر له الله. من يرغب في أن يغفر له الله، فليعرف خطاياه بنفسه، ويأتي إلى النور، حيث يشكر (الله) على إظهاره ما يلزم أن يبغضه في نفسه. إنه يقول لله: "ردّ وجهك عن خطاياي". ولكن بأي وجه يقول هذا ما لم يضف: "لأني أنا عارف بآثامي، وخطيَّتي أمامي في كل حين" (مز 51: 11). لتكن آثامك أمامك يا من لا تريدها أن تكون أمام الله. أما إن وضعت خطاياك خلفك، فسيدفعها الله ليجعلها أمام عينيك، يحدث هذا في الوقت الذي لا يعود يوجد فيه ثمر للتوبة[8]. القديس أغسطينوس * أنا أعرف معاصيَّ، وخطيَّتي أمامي دائمًا. لا أضع ما أفعله خلفي. لا أتطلع إلى الآخرين وأنسى نفسي. لست أجاهد لكي أنزع القشة من عين أخي، بينما توجد خشبة في عينيَّ. خطيَّتي أمامي، وليست خلفي. حقًا كانت خلفي عندما أرسل النبي ليعلمني بمثال راعي الغنم الفقير[9].الأب فيصريوس أسقف آرل * أول طريق التوبة هو إدانتنا لخطايانا[10].* من يمارس التوبة بعدما يخطئ يستحق لا الحزن عليه بل تهنئته، إذ يعبُر إلى خورس الأبرار[11]. القديس يوحنا الذهبي الفم * إذا خجل الخاطيء من أن يُظهر خطيته لكاهن الرب، فليستمد العلاج من القول: "قلت أعترف للرب بإثمي، وأنت تغفر شر قلبي". فإنه كما إذا تقيَّأ الإنسان الطعام غير المهضوم الذي ثقلت به المعدة يستريح، كذلك من أخطأ وأخفى إثمه فيه يتضايق في داخله، ويخنقه بَلْغَم الخطية... أما إذا اشتكى نفسه، فبشكايته واعترافه، يتقيَّأ الإثم ويزول عنه المرض[12].العلامة ترتليان * الشيء الذي يستحي الإنسان من كشفه وإظهاره، يكون ذلك علامة تدلنا على أنه رديء وأنه تجربة شيطانية[13].القديس يوحنا كاسيان * الفكر الخاطئ يضعف بمجرد كشفه... فبقوة الاعتراف ينسحب أفعوان الدَنَس من كهفه المظلم المخفي، وأحيانًا يظهر ويهرب في فضيحة. فالأفكار الشيطانية يكون لها سلطان علينا بمقدار ما تختبئ في قلوبنا[14]. الأب موسى * كان يوحنا المعمدان يأمر الذين يأتون إليه أن يعترفوا بخطاياهم قبل المعمودية، ليس لأنه كان محتاجًا إلى ذلك، وإنما لأجل سلامهم. فالمعترف غالبًا ما يستريح من القتال. وإن قُوتل بعد الاعتراف، فالجهاد ضد النجاسة أفضل من الجهاد ضد الكبرياء[15].القديس يوحنا الدرجي * لا تتحدث بكل أفكارك لكل أحدٍ لئلا تكون عثرة... ضع في قلبك أن تسمع لأبيك، فتحل بركة الله عليك[16].القديس أنبا أنطونيوس الكبير * ما قلته عن تذكُّر الخطايا، بالفعل مفيد جدًا ولازم لمن بدأوا في التوبة حتى بقرعهم المستمر على صدورهم يقولون: "لأني عارف بإثمي، وخطيَّتي أمامي في كل حين" (مز 51: 3)، وأيضًا: "لأنني أخبر بإثمي" (مز 38: 18). ففي أثناء توبتنا، إذ لا نزال حزانى بتذكرنا لخطايانا الماضية، فإن انسكاب دموعنا الذي يحدث باعترافنا بالخطية يخمد نار ضمائرنا[17].الأب بينوفيوس هكذا يليق بالتائب أن يعترف بخطاياه أمام الله وأمام أب اعتراف، كما فعل داود النبي والملك أمام ناثان النبي. بماذا اعترف؟إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْت،ُ وَالشَرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ. لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي أَقْوَالِكَ، وَتَزْكُوَ فِي قَضَائِكَ [4]. تحقق داود النبي أن كل خطاياه موجَّهة ضد الله وحده اللانهائي، السرمدي، القدوس، الصالح والحق. لقد أخطأ في حق بثشبع، وفي حق زوجها أوريا الحثي الرجل الأمين لداود، وفي حق الشعب كله، كما في حق نفسه. لكن إذ يدرك داود النبي أن جسده كما نفسه مِلك لله، وأن قريبه على صورة الله، لذا يحسب كل خطية موجهة ضد نفسه أو ضد الغير تهين الله نفسه. بهذا نعرف خطورة الخطية، وبالحاجة إلى الخلاص منها بعملٍ إلهيٍ. هذا من جانب، ومن جانب آخر إذ ندرك أن الله بار في محبته لنا ومواعيده وأقواله، نعرف أنه مهتم بخلاصنا، نلجأ إليه كمخلصٍ قبل مجيئه كديانٍ، فيمكننا أن نتبرأ أمامه عند مجيئه. لعل سرّ قوة داود أنه لم يكن ينشغل بآخر غير الله ووصيته، أو حق الله. لقد أخطأ في حق الناس، لكن ما أحزنه هو جَرحه مشاعر الحب الإلهي نحوه. لم يقدم لنفسه أعذارًا، ولا دافع عن تصرفاته، وإنما بروح التسليم اِعترف أنه لن يقدر أن يتبرر أمام الله! * إحساناتك وهباتك لي لا تُحصى. فإنك أقمتني من رعاية الغنم، وصيَّرتني ملكًا، ونصرتني على أعدائي، ونجَّيتني من شدائدٍ كثيرة، أما أنا فقد غفلت عن هذا كله، وخالفتُ أوامرك يا خالقي وإلهي. فإني لم أخطئ إلى الناس قدر ما أخطأت إليك. "لك وحدك أخطأت". وربما يقصد بقوله هذا: وإن كانت خطيَّتي مخفيَّة عن الناس، لكنها ليست مخفيَّة عنك، يا من تعلم الخفايا جميعها... وربما تعني أن الملك لا يخضع لشرائع الناس، بل لشريعة الله، لذلك يقول: "لك وحدك أخطأت" بتجاوزي شريعتك. وأيضًا تعني أن الناس بتملقهم لا يبالون بأني أخطأت وصرت مستوجبًا للعذاب، ولا يقولون إني أخطأت تودُّدًا لي، أما أنت فبار، لا تشاء هلاك خليقتك... لو قيس إحسانك إليّ بما اجتزته أنا في غفلتي لظهرتَ أنت صادق وأنا جاحد. ولو صارت محاكمة، أصير أصمّ، وأنت الغالب، لأنك لم تُقَصِّر في اهتمامك بي حتى بعدما أخطأت... في هذا يقول يوحنا الإنجيلي الحبيب في الفصل الأول من رسالته الأولى: "إن قلنا إنه ليس لنا خطية، نضل أنفسنا، وليس الحق فينا" (1 يو 1: 8). الأب أنثيموس أسقف أورشليم * الذين ينالون معرفة إلههم بوفرة، ويتشرَّبون تعاليمه الإلهية، هؤلاء إن أخطأوا إنما يفعلون ذلك في حضرة الله وقدامه، كقول النبي: "الشر قدامك صنعت"... ميزة من يخطئ قدام الله أنه سريع في توبته، إذ يقول: "أخطأت". وأما من يهرب من وجه الله، فلا يقدر أن يتوب، ولا أن يتطهر من خطاياه[18].العلامة أوريجينوس * إذ هو مملوء حبًا للإنسان، ومهتم بخلاصنا، ويشتاق أن يسد أفواه الأغبياء، لا يتوقف من جانبه عن أن يعمل حتى ولو لم يهتم أحد بذلك. وإذ يعرف النبي ذلك يقول: "تتبرر في أقوالك، وتغلب إذا حوكمت"[19]. * قدم الله كل ما لديه، ومع هذا فإن هؤلاء لم يتغيروا إلى الأفضل[20]. القديس يوحنا الذهبي الفم * من لا يحتاج إلى دفاعٍ، حسنًا يصمت. أما الذي يخشى الهزيمة، فيدافع عن نفسه، والذي يخشى أن يُقهَر، يسرع في التكلم. عندما يُدان المسيح يغلب، وعندما يُحاكم ينتصر، وكما يقول النبي: "بكلامك تتبرر، وتغلب إذا حوكمت" (مز 51: 4). فما هي الحاجة إذن أن يتكلم حين يُحاكَم مادامت محاكمته هي نصرة كاملة له؟[21]الأب مكسيموس أسقف تورين إذ يقف المرتل أمام الله معترفًا بخطاياه، يؤكد أن ما يمارسه من خطأ قد غُرس في طبيعته. وهو في هذا لا يبرر نفسه، وإنما يشتكي طبيعته، طالبًا تدخلًا إلهيًا لتغيير الطبيعة.هَأنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ، وَبِالخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي [5]. لقد أخبرنا عن تقوى أمه (مز 68: 16؛ 116: 16)، إنما يتحدث هنا عن الخطية الأصلية، معترفًا إنه قد وُلد في العالم ببذور الإثم. * ليس حبل بلا خطية، حيث لا يوجد والدان لم يسقطا[22]. القديس أمبروسيوس * هل وُلد داود من زنا، وقد ولد من الرجل البار يسى (1 صم 16: 18) ومن زوجته؟! ماذا يعني: "بالآثام حبل بي" إلاَّ أن الإثم قد انحدر من آدم...!لو كان الأطفال أبرارًا... فلماذا تجري بهم أمهاتهم إلى الكنيسة وهم مرضى؟! ماذا تعني المعمودية ونوال المغفرة...؟! ماذا تغسل المعمودية؟ ماذا تحلَّ النعمة؟ إنها تحل نتائج الخطية. فلو أن هذا الطفل قادر أن يتكلم معك لنطق، ولو كان له مثل فهم داود لأجابك: لماذا تنتبه إليّ أنا الطفل؟ إنك بالحقيقة لا ترى أعمالي، لكن بالإثم قد حُبل بي، وبالخطايا أطعمتني أمي في الرحم. * ليس أحد طاهرًا في عينيّ الله، ولا طفل ابن يومٍ واحدٍ على الأرض. مع أن هؤلاء يحسبون استثناء، وفوق حدود قياسنا البشري أن نسأل عن الرتبة التي يستحقونها في نصيب القديسين في النور، الذي وعُد به في المستقبل[23]. القديس أغسطينوس * "ليس أحد بلا وصمة، ولو كانت حياته يومًا واحدًا" (أي 14: 4). يئن داود قائلًا: "بالآثام حُبل بي، وفي الخطايا ولدتني أمي" (مز 51: 5). أيضًا يعلن الرسول: "إذالجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، متبررين مجانًا بنعمته الذي بيسوع المسيح، الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه" (رو 3: 23-25). لذلك فإن غفران الخطايا يُمنح للذين يؤمنون، إذ قال الرب نفسه: "هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا" (مت 26: 28)[24].القديس باسيليوس الكبير * كل واحدٍ يدخل هذا العالم يُقال عنه إنه يحمل فسادًا معينًا. هذا أيضًا يقوله الكتاب المقدس: "ليس أحد طاهرًا من دنسٍ (قذرٍ)، حتى وإن كانت حياته يومًا واحدًا فقط" (أي 14: 4-5). ذلك في الحقيقة يحدث في رحم أمه (أي 3: 11)، وقد أخذ جسدًا من أصل البذور الوالدية، فيقال عنه إنه "فسد في أبيه وأمه" (راجع لا 21: 11). ألا تعلمون أنه عندما يبلغ الطفل الذكر أربعين يومًا، يُقدم على المذبح لكي يتطهر (لا 12: 2)...، كما لو كان قد تدنس في الحبل به بالبذور الوالدية أو رحم والدته؟ لهذا فكل إنسان "تدنس في أبيه وأمه" (لا 21: 12). إنما يسوع وحده ربي قد جاء إلى العالم طاهرًا في ميلاده، هذا لم يتدنس في أمه، لأنه دخل إلى جسم غير مدنس (إذ حلّ عليها الروح القدس وقدسها). إذ هو ذاك الذي قال منذ زمن طويل بسليمان: "كنت صالحًا، فأتيت في جسد غير مدنس" (حك 8: 20)[25]. العلامة أوريجينوس * قيل هذا عن كنيسة الأمم: "أنا سوداء وجميلة، يا بنات أورشليم" (نش 1: 5). لماذا الكنيسة سوداء وجميلة؟ إنها سوداء بطبيعتها، جميلة بالنعمة. لماذا سوداء؟ بالحقيقة "بالآثام حُبل بي، وبالخطية ولدتني أمي" (مز 51: 5). ولماذا جميلة؟ "بالزوفا اغسلني من الخطية، لكي أتطهر؛ اغسلني فأبيض أكثر من الثلج" (راجع مز 51: 7)[26]. الأب قيصريوس أسقف آرل * إن كانت البداية تستلزم العقوبة فماذا تكون النهاية؟ من يفرح برحلة حياة بدايتها حزن؟ لقد عرف النبي ذلك عندما قال: "بالآثام حبل بي، وبالخطايا ولدتني أمي"[27].الأب بطرس خريسولوجوس 3. بهجة بالغفران إذ يعلن المرتل عن خطاياه أنها متأصلة في طبيعته منذ لحظات الحبل به لا يسقط في اليأس. إنه يرى الله الذي يحب الحق يكشف له عن أسرار محبته الإلهية وأعماله الخلاصية. إنه مخلص النفوس من الفساد! هذا هو ما ردّ لداود فرحه وبهجته! هَا قَدْ سُرِرْتَ بِالْحَقِّ فِي الْبَاطِنِ، فَفِي السَّرِيرَةِ تُعَرِّفُنِي حِكْمَةً [6]. * كشف الله لعبده داود هذه عن الغوامض؛ فإنه إذ قال أمام النبي مقتنعًا: "أخطأت"، للحال سمع من النبي، أي من روح الله الذي في النبي: "قد نقل عنك خطيتك" (2 صم 12: 13). القديس أغسطينوس * قد أخطأت، والشر قدامك صنعت، وأما أنت فلم تحاسبني كخطاياي، بل صنعت معي بما يحق لك من الصلاح والخير، فإنك ليس فقط صفحت عني، بل ومنحتني نعمة البنوّة، بها أعرف بوضوح ما أخفيته عن غيري من الأمور المقبلة.الأب أنثيموس أسقف أورشليم * هنا عمل الطبيب، ليس في محكمة، ولا في موضع من يعاقب على خطية، إنما أن يهب غفران الخطية[28].القديس يوحنا الذهبي الفم يرى القديس كيرلس[29] أن "الحق" الذي يحبه الآب هو "الابن" الذي يهب بعمله الخلاصي تطهيرًا للنفس والجسد. بهذا انكشفت غوامض حكمة الله لداود، أن النقاوة تتحقق ليس بتطهير وغسلات الشريعة الموسوية، بل بدم المسيح، ويُسر الآب بنا في المسيح "الحق".اكتشف المرتل عمل المسيح "الحق" الخلاصي، فبدالة قال: اغْسِلْنِي، فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلْجِ [7]. أدرك داود النبي فساد أعماقه الداخلية، وشعر كأن برصًا قد أصاب نفسه خلال الخطية، لهذا احتاج إلى الزوفا التي كانت تُستخدم في رش دم الفصح (12: 22)، وفي مياه التطهير (عد 19: 6، 18)، وفي تطهير الأبرص (لا 14: 6). تشير الزوفا إلى السيد المسيح الذي في تواضعه صار كعشبٍ لا قيمة له، أو إلى مَسحِه لشعبه بدمه لتطهيرهم. * (الزوفا) عشب ضعيف ومنخفض، لكن جذوره عميقة وقوية. كأنه يدخل بجذوره إلى الحب، ويتعمق فيه، ليدرك مع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والارتفاع (أف 3: 17-18)، ويتعرف على صليب ربنا[30]. * الزوفا كما نعرف عشب وضيع وشافٍ، تلتصق جذوره بالصخرة. لهذا صار مثالًا لسرّ شفاء القلب. هل تتمسك بجذور الحب على صخرتك (مسيحك)؟ كن متواضعًا بإلهك المتواضع، لكي تتمجد بإلهك الممجد. تُرش بالزوفا، فيغسلك تواضع المسيح. لا تحتقر العشب، أنظر إلى فاعلية الدواء... يُقال إن الزوفا نافعة لتنقية الرئتين. يحل الكبرياء في الرئتين (المنتفختين)، فحيث توجد عجرفة يحدث تنهد. * يقول: "إن كانت خطاياكم كالقرمز، تبيض كالثلج" (إش 1: 18). مِنْ هؤلاء الناس يُحضر المسيح لنفسه ثوبًا بلا عيب ولا دنس (أف 5: 27). لذلك عندما كان على الجبل صارت ثيابه بيضاء كالثلج (مت 17: 2)، إشارة إلى الكنيسة المتطّهرة من كل دنس الخطية. القديس أغسطينوس إذ ينضح علينا مسيحنا بحبه في تواضعٍ، نُغسل من خطايانا، فنبيض كالثلج، ونلبس المسيح ثوب عرسنا الأبيض.* يوجد تطهير للنفس من الدنس الذي تراكم عليها من الفكر الجسداني، وكما هو مكتوب: "تغسلني فأبيض أكثر من الثلج". إننا لا نغتسل حسب الطقس اليهودي، كلما حلَّ بنا دنس، وإنما نلنا المعمودية للخلاص[31]. القديس باسيليوس الكبير * هذا الغسيل (التبيض) يلزم أن نفهمه بكونه صادرًا عن إشعاعات النور الحقيقي والنازل من بهاء الرؤى السماوية[32].العلامة أوريجينوس * اعترف يا إنسان بخطاياك لتنال المغفرة، "اظهر آثامك فتتبرر" (إش 43: 26 LXX). لماذا تخجلون من الاعتراف بها، وأنتم قد وُلدتم فيها؟ (مز 51: 7). من ينكر ذنبه ولا يعترف به، ففي الحقيقة ينكر مولده... ليعترف الخاطي وغير المقدَّس، ولا يرتفع البار ولا يتشامخ، لئلاَّ يفقد مكافأة برِّه بالكبرياء (أي 10: 15)[33]. القديس أمبروسيوس إذ نصير ثوب المسيح الذي بلا عيب، حيث يتجلى كما على جبل طابور في وسطنا، ويشرق بنوره فينا، تمتلئ حياتنا فرحًا وبهجة، بروح التواضع. بهجتنا أننا ونحن ضعفاء صرنا بالمسيح أقوياء، ونحن خطاة نلنا برّه!* بعد ذلك أُعطيت لكم ملابس بيضاء علامة أنكم قد خلعتم ثوب الخطايا، ولبستم ثوب الطهارة والبراءة، الذي تحدث عنه النبي قائلًا: "تنضح عليَّ بزوفاك فأطهر، وتغسلني فأبيض أكثر من الثلج" (مز 51: 9). لأن من يعتمد يصير طاهرًا حسب الناموس والإنجيل كليهما. حسب الناموس، لأن موسى رش دم الحمل بباقة من الزوفا (خر 12: 22). وحسب الإنجيل، لأن ثياب المسيح كانت بيضاء كالثلج عندما أظهر مجد قيامته في الإنجيل. إذن فذاك الذي يُغفر إثمه يبيض أكثر من الثلج، لهذا قال الله بإشعياء: "إن كانت خطاياكم كالقرمز، تبيضُّ كالثلج" (إش1: 18)[34]. القديس أمبروسيوس أَسْمِعْنِي سُرُورًا وَفَرَحًا، فَتَبْتَهِجَ عِظَامٌ سَحَقْتَهَا [8]. خلال اعتراف داود الصادق عن خطاياه، ارتجفت عظامه المتواضعة، لكن نعمة الله دخلت به إلى السرور والبهجة. قدر ما انسحقت عظامه في داخله بالتوبة، تهللت نفسه فيه، إذ شعر كأن الله قد نقله من الظلمة إلى النور، ومن الفساد إلى عدم الفساد، ليحيا كما في السماوات. ربما شعر المرتل كأن الخطية قد أبلت عظامه، أو حطمت إنسانه الداخلي، لكن نعمة الله التي نزعت سلطان الخطية، أقامت فيه الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه. من لا يحزن على خطاياه وخطايا إخوته، لن يختبر الفرح الداخلي! * لقد انشغلت بالدفاع عن خطاياك، فانهزمت... دفاعك ليس مفيدًا لك. لأنك من أنت يا من تدافع عن نفسك؟ كان يليق بك أن تتهم نفسك. لا تقل: "إنني لم أفعل شيئًا"، أو "أي أمر خطير أنا فعلت؟" أو "آخرون أيضًا فعلوا هكذا". إن فعلت خطية وقلت إنك لم تفعل شيئًا تصير أنت نفسك لا شيء، ولا تنال من الله شيئًا! الله مستعد أن يهب غفرانًا، لكنك أنت تغلق الباب على نفسك! الله مستعد أن يعطي، فلا تقاوم بمزلاج الباب، بل افتح حضن الاعتراف: "تسمعني سرورًا وفرحًا". * ادخلوا إلى أعماق نفوسكم، مبتعدين عن كل ضوضاء. تأملوا في أعماق أنفسكم. انظروا إن كان يوجد مكان هادئ لخلوة الضمير، حيث لا ضوضاء ولا جدال ولا صراع ولا محاورات، حيث لا توجد أفكار تعصِّب ونضال. كونوا ودعاء لسماع الكلمة حتى يمكنكم أن تفهموا. لكنكم قد تقولون لي: "تسمعني سرورًا وفرحًا، فتبتهج عظامي" (مز 51: 8)، العظام المتواضعة لا المتشامخة[35]. * مهما بلغت الثروة التي يأخذها (الإنسان) معه من مصر، لن ينجو إن لم يحفظ الفصح. من هم الذين حملهم خفيف إلا الودعاء ومتواضعي القلب وحدهم، إذ لا تنفخهم المعرفة بل بالحب يُبنَون؟ إذن ليتذكروا أن الذين احتفلوا بالفصح في ذلك الحين كانوا ظلًا عندما مسحوا قوائم أبوابهم بدم الحمل، مستخدمين الزوفا في ذلك (خر 12: 22). هذا عشب وديع ومتواضع... فالزوفا رمز لفضيلة التطهير، فلا ينتفخ أحد بالمعرفة التي تنفخ، ولا يفتخر باطلًا بالثروات التي أحضرها معه من مصر. يقول المرتل: "تنضح عليّ بزوفاك فأطهر، تغسلني فأبيض أكثر من الثلج، تسمعني فرحًا وبهجة" (مز51: 7-8). يضيف بعد ذلك مباشرة: "فتبتهج عظامي المنسحقة"، مظهرًا أن الزوفا تشير إلى التطهير من الكبرياء[36]. القديس أغسطينوس إذ يفتح المؤمن باب البهجة الحقيقية باعترافه بخطاياه في تواضعٍ وبإخلاص يرى الله غافر الخطية ومنقذ النفوس من الفساد، ويردد بيقين:اسْتُرْ وَجْهَكَ عَنْ خَطَايَايَ، وَامْحُ كُلَّ آثَامِي [9]. "اصرف وجهك" لا عني، وإنما "عن خطاياي". ففي موضع آخر يُصلي: "لا تصرف وجهك عني" (مز 37: 9). من لا يريد أن يصرف وجه الله عنه، إنما يوّد أن يصرفه عن خطاياه. أما هو نفسه فلا يصرف وجهه عن خطاياه، قائلًا: "لأني أنا عارف بإثمي". * بحق وحسنًا تسأل الله أن ينصرف عن خطيتك، إن كنت أنت نفسك لم تصرف وجهك عنها. أما إذ وضعت خطيتك وراء ظهرك، فإن الله يثبت وجهه عليها. حوّل خطيتك لتكون أمام وجهك، إن أردت أن يصرف إلهك وجهه عنها، عندئذ في أمان تسأل وهو يسمع لك. القديس أغسطينوس * يطلب النبي محو كل الآثام، لأنه لو بقيت خطية واحدة، فإنها تحرمنا من الدخول إلى ملكوت الله، كما إذا وُجد دنس يسير في اللباس يمنعنا من الدخول إلى المقدس. يصدق هذا القول مع الرسول بولس: "لا تضلوا؛ لا زناة ولا عبدة أوثان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعو ذكور ولا سارقون ولا طماعون ولا سكيرون ولا شتامون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله" (1 كو 6: 9-10).الأب أنثيموس الأورشليمي * يلزمهم أن يحترزوا وأن لا يتوقفوا عن تذكر خطاياهم، وأن يكون ذلك دأبهم في الحياة، حتى ينسي الديان العادل آثامهم. لذلك يقول داود ملتمسًا: "أستر وجهك عن خطاياي، وامح كل آثامي" (مز 51: 9). وقبل ذلك بآيات قليلة يقول: "خطيَّتي أمامي دائمًا" (مز 51: 3). وكأنه يقول: "أتوسل أن لا تنظر إلي آثامي، لأنها أمام نظري دائمًا. لذلك يقول الرب بلسان النبي: "أنا، أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي، وخطاياكِ لا أذكرها" (إش 43: 25)[37]. الأب غريغوريوس (الكبير) 4. تجديد مستمر اكتشاف داود النبي لثقل الخطية وفساد الطبيعة البشرية منذ لحظات الحمل بالجنين لم يقدْه إلى اليأس، بل إلى الصراخ إلى الله القادر بروحه القدوس أن يهب التجديد الكامل للإنسان الداخلي. إنه يؤمن بالله الخالق، الذي لا يُصلح القلب بوضع خمر جديدة في زقاق قديم، أو وضع رقعة جديدة في ثوبٍ قديمٍ، إنما بالخَلْق من جديد، أو كما يقول الرسول بولس: "خليقة جديدة في المسيح يسوع". وكأن داود النبي وقد عرف إمكانية الله لا يطلب أقل من معجزة الخلق! قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اللهُ، وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي [10]. * نصير بالحقيقة أحرارًا عندما يدبر الله حياتنا، أي يشكلنا ويخلقنا لا ككائنات بشرية، فإن هذا قد صنعه بالفعل، بل يجعلنا شعبًا صالحًا، الأمر الذي يفعله الآن بنعمته، حتى نصير خلائق جديدة في المسيح يسوع. لهذا نقدم الصلاة: "قلبًا نقيًا أخلقه فيّ يا الله" (مز 51: 10). * "لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها". إذن ما هي غاية قوله: "مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة"؟ ولماذا عاد فقال: "مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة"...؟ اسمع الآن وافهم أن عبارة "ليس من أعمال" قيلت عن الأعمال التي تظن أن مصدرها هو أنت وحدك. لكن لتفتكر في الأعمال التي يشكلها (يخلقها ويكونها) الله فيك. عن هذه يقول: "نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق فأعدها الله لكي نسلك فيها". إنه لا يتكلم عن "مخلوقين" بخصوص خلقتنا ككائنات بشرية، بل الخلقة التي قيل عنها... "قلبًا نقيًا اخلقه فيَّ يا الله" (مز 51: 2). والتي قال عنها الرسول: "إذًا إن كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا، ولكن الكل من الله" (2 كو5: 17-18)[38]. القديس أغسطينوس * "قلبًا نقيًا اخلقه فيَّ يا الله" (مز 51: 10). إنه يطلب مثل هذه الخلقة، ليس كمن ليس له قلب، وإنما إذ أفسده يشتهي أن يرجع ويكون نقيًا[39].القديس ديديموس الضرير * القلب في أصل خلقته نقي، لأن الله خلقه؛ وكل ما خلقه الله صالح ونقي، ولا يحتاج إلى تجديد. لكن قوله هنا "قلبًا..." يقصد به الفكر الهاجس في الزيغان، فإنه يطلب تطهيره من الهواجس السمجة... وقد جاء في نبوة حزقيال: "وأعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل روحًا جديدة في داخلكم" (حز 36: 26).الأب أنثيموس الأورشليمي * إنه ليس دنس الجسد بل دنس النفس الذي ينفر الله منه... ماذا يقول النبي؟ "قلبًا نقيًا اخلقه فيَّ يا الله" (مز 51: 10). وأيضًا: "اغسلي من الشر قلبكِ" (إر 4: 14) [40].القديس يوحنا الذهبي الفم * يُظهر الرب أن الشعب النقي القلب هو مطوَّب. إنهم هؤلاء الذين إذ يعيشون بالإيمان بالله بذهنٍ نقيٍ وضميرٍ بلا غضنٍ، يرجون الحق في رؤية إله المجد في الملكوت السماوي العتيد. وكما يقول الرسول إنه ليس في مرآة في لغز، لكن وجهًا لوجه (أنظر 1 كو 13: 12)[41].الأب خروماتيوس إن كنا قد نلنا الميلاد الجديد في مياه المعمودية، فصار لنا في أحشائنا القلب الجديد والروح المستقيم، لكننا نحتاج إلى تجديد يومي مستمر بالتوبة الدائمة وعمل الروح القدس فينا في استحقاقات الدم. يرى القديس أغسطينوس أن أصحاب القلب النقي يشعرون بخطاياهم، ويقدمون عنها توبة دائمة، أما المنحرفون، فيظنون في أنفسهم أنهم أبرار، وإن سقطوا في ضيقة يلومون الله.بالقلب النقي والروح المستقيم الذي في داخلنا نرى الله مخلصًا، فنرتمي دومًا عند قدميه، طالبين غفران خطايانا، وينسحب قلبنا إلى أحضانه، لنجد فيها ميراثنا الأبدي. نرى في إخوتنا صورة الله، فنقدّرهم. وإن سقط أحدهم، مهما بلغت سقطته، لا نيأس من خلاصه، بل نصلي لأجله، ونقدم له أعمال محبة تجتذبه نحو العريس السماوي نفسه! هذا هو عمل الروح القدس فينا: يبكتنا على خطايانا، ويلهب قلبنا بالحب نحو الله والناس. لهذا يصرخ المرتل، قائلًا: لاَ تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ، وَرُوحَكَ الْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعْهُ مِنِّي [11]. إن كانت الخطية تفقدنا الالتقاء مع الله والشركة معه، فإن روح الله القدوس المُبكِّت على خطية والواهب المغفرة يردّنا إليه. * يعتبر العبد صرف وجه سيده عنه خسارة عظيمة، وكذلك الابن إذا ما ولَّى أبوه نظره عنه، وأيضًا الجندي إذا أقصاه الملك عن طلعته. أما إذا طرح الله الإنسان عن نظره فيكون ذلك له هلاكًا وإبادة، لأن الله هو سيدنا وأبونا وملكنا وخالقنا، وهو علة وجودنا وخلاصنا وصلاح كياننا... صرْف وجهه عنه ينزع عنه الروح القدس... الروح القدس هو هبة الله، كما نفخ ربنا في رسله القديسين، وقال لهم: اقبلوا الروح القدس، وبه أعطاهم حل خطايا البشر وربطها. الأب أنثيموس الأورشليمي * سأل المزمور مجيء الروح القدس، ووعد الإنجيل بمجيئه (يو 16: 13)، وروى لنا سفر الأعمال عن حقيقة حلوله... وُجد توسل في المزمور، ووعد في الإنجيل، وتحقيق للوعد في الأعمال[42].الأب قيصريوس أسقف آرل * قبلما صار الكلمة إنسانًا منح القديسين الروح بكونه روحه، وأيضًا قال لتلاميذه: "اقبلوا الروح القدس" (يو 20: 22).لقد أعطى الروح لموسى والسبعين الآخرين، كما صلى داود خلال الكلمة طالبًا من الآب: "روحك القدوس لا تنزعه مني". ومن جانب آخر، إذ صار إنسانًا قال: "أرسل لكم الباراكليت، روح الحق"، وقد أرسله كلمة الله بكونه أمينًا (في وعده)[43]. القديس أثناسيوس الرسولي يكمل المرتل هكذا:رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلاَصِك،َ وَبِرُوحٍ مُنْتَدِبَةٍ أعْضُدْنِي[12]. لقد حسب المرتل أن الخطية أفقدته التمتع بوجه الله، كما حرمته من عمل الروح القدس واهب البهجة الحقيقية بالخلاص، وواهب الرئاسة والسلطة، حيث يملك في الداخل ليقود النفس والجسد بكل طاقاتهما في طريق ملوكي مقدس بلا انحراف. كما أفقدته قوة الشهادة أمام الغير. * يعتبر داود أن الروح القدس يُمكن أن يُسحب ويُؤخذ، لهذا يصلي كي لا يؤخذ منه، قائلًا: "لا تطرحني من قدام وجهك، وروحك القدوس لا تنزعه مني"؛ وفي العبارة التالية يطلب الهبة التي سُحبت منه بسبب الخطية، إذ يقول: "رُد لي بهجة خلاصك، وبروح رئاسي أعضدني"[44]. العلامة أوريجينوس * رُد لي ما كان عندي، ما قد فقدته بالخطية، أعني ما يخص مسيحك.القديس أغسطينوس * الروح القدس الذي طلبه داود لجنس البشر، قائلًا: "أعضدني بروحك الكلي الرئاسة"... الذي حلَّ في يوم البنطقستي على التلاميذ بعد صعود الرب، له قوة أن يضم كل الأمم إلى مدخل الحياة، وأن يقيم عهدًا جديدًا، هؤلاء الذين باتفاقٍ واحدٍ يسبحون الله بكل اللغات. جاء الروح بالقبائل البعيدة إلى الوحدة، مقدمًا للآب بكر كل الأمم.القديس إيريناؤس * إذا سقط إنسان في خطية يفقد بهجة قلبه، ويمشي كئيبًا وحزينًا من شدة نخس ضميره، لكنه إذ يخلص من الخطية بالتوبة ترتد إليه بهجة الخلاص...وأيضًا خلاص الأمم هو ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، لذلك يسأل النبي من الله الآب أن يبهج العالم بمجيء ابنه إليه متجسدًا. وأما روح رئاسي فهو الروح القدس الذي يسود ويرأس كافة الخليقة. الأب أنثيموس الأورشليمي * مرة أخرى نمارس صلاة الساعة الثالثة والإخوة مجتمعون، بالرغم من أنهم تفرقوا إلى أعمالهم المختلفة. إذ نذكر عطية الروح القدس التي قُدمت للرسل في وقت الساعة الثالثة، يلزمنا أن نتعبد معًا في اتفاقٍ واحدٍ، لكي نتأهل نحن أيضًا أن نقبل تقديسه لنا. يلزمنا أيضًا أن نسأل قيادته لنا وتعليمه حسب احتياجاتنا، كما يقول المرتل: "قلبًا نقيًا اخلق فيَّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدده في داخلي. لا تطرحني من حضرتك، وروحك القدوس لا تنزعه مني. امنحني راحة عونك. أسندني بروحك المحرر" (راجع مز 51: 12-13).القديس باسيليوس الكبير إن كانت الخطية قد أفقدت الإنسان كما البشرية سلامها الداخلي الحقيقي وفرحها الصادق، فإن عمل الله الخلاصي يرد لنا البهجة، فنبكي على خطايانا، وترقص نفوسنا متهللة بعمل الله فينا. هذا ما عناه السيد المسيح عندما وبخ اليهود رافضي خلاصه: "زمرنا لكم فلم ترقصوا، نحنا لكم فلم تبكوا" (لو 7: 32). وقد بدأ بالرقص، لأن الله وإن طلب دموعنا للتوبة، لكنه يبغي فرحنا الداخلي، وتمتعنا بالحياة المطوَّبة.يقول مار إسحق السرياني: [إن بين المنهمكين بأمور العالم وبين المنشغلين بالتاوريا (التأمل) فرقًا. الأولون تبتدئ أمورهم لذيذة، بهِجة ومُفرحة، وتنتهي مُرّة كئيبة ومظلمة. أما الآخرون، فتبتدئ أمورهم مريرة محزنة ومظلمة، إلاَّ أنها تنتهي بالفرح والبهجة والسرور. والذي ذاق الطريقين يعرف قيمة هذا القول[45].] 5. شهادة أمام الخطاة عجيب هو داود النبي في توبته، فقد تمتع بعمل الله الذي يرد له بهجة خلاصه، فلا تدفعه دموع التوبة مهما كان قدرها أو استمراريتها إلى الإحباط واليأس، بل إلى البهجة بالله المخلص، ولا ينشغل بنفسه على حساب الجماعة، أو على حساب البشرية. فالتوبة الصادقة تهب فرحًا وحبًا، بمعنى آخر تهب اتساع قلب لقبول الملكوت المفرح والشهادة للمخلص. لهذا يقول المرتل: فَأُعَلِّمَ الأَثَمَةَ طُرُقَك،َ وَالْخُطَاةُ إِلَيْكَ يَرْجِعُونَ [13]. هكذا يربط المرتل بين التجديد والشهادة للمخلص، أو التمتع ببهجة الخلاص وقيادة الغير إلى المعرفة الروحية، وكما قال السيد المسيح لسمعان بطرس: "وأنت متى رجعت ثبت إخوتك" (لو 22: 32). * إن كل من يتوب عن الخطية ويرجع إلى ما هو أفضل يصير رسمًا يقتدي به المذنبون، ويرجعون إلى الله، ويلتمسون منه الرحمة. الأب أنثيموس الأورشليمي * صار داود معلمًا للتوبة...لا يكفي أن تُنزع الحمى (عن حماة سمعان)، وإنما تقوم لتخدم المسيح[46]. القديس جيروم 6. تقديم ذبيحة تسبيح وشكر كيف يشهد داود النبي أمام الأثمة، ليرد المنافقين إلى الحق؟ بحياة التسبيح والشكر الصادرة عن شفتين طاهرتين وقلبٍ نقيٍ. "نجني من الدماء يا الله إله خلاصي، فيبتهج لساني بعدلك" [14]. كثيرًا ما يعلن المرتل أنه لا يستطيع الشرير المتمسك بإثمه أن يسبح الله أو يشكره، حتى وإن ردّد بفمه تسابيح كثيرة. الآن يصرخ أن ينقذه من الخطية -الدماء- حتى يتهلل لسانه الداخلي، ويسبح ببرّ الله. * حررني من الدماء، أي حررني من الشرور، وطهرني من كل فساد. القديس أغسطينوس * يقول القديس أثناسيوس الجليل إن النبي يتضرع متهللًا إلى الله، طالبًا النجاة من سفكه دم أوريا، أو أنه يطلب إبطال ذبائح الحيوانات التي كانت مفروضة في شريعة موسى.الأب أنثيموس الأورشليمي يَا رَبُّ افْتَحْ شَفَتَيَّ،فَيُخْبِرَ فَمِي بِتَسْبِيحِكَ [15]. لا يقف عمل الله مع الخطاة عند ردّ البهجة للنفس، وإنما يفتح بنفسه الشفتين، فتخرج التسبحة مملحة بملح الروح. وكأن التسبيح هو عمل الله نفسه فينا. ما أسهل أن يقدم الإنسان ذبائح حيوانية وتقدمات للرب، لكن الله يطلب الأعماق، يطلب نفسه كي يكون مقدسًا بذبيحة المخلص، فيصير هو نفسه محرقة حب متواضعة في عيني نفسه، لكنها موضع سرور الله واعتزازه. لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَة،ٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى، ذَبَائِحُ اللهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. الْقَلْبُ الْمُنْكَسِرُ وَالْمُنْسَحِقُ يَا اللهُ، لاَ تَحْتَقِرُه [16-17]. الله ليس بمحتاجٍ إلى ذبائح كما أوضح في المزمور السابق[47] (مز 50: 7-15)، لكنه في حبه العجيب للإنسان يطلب حب الإنسان كمن هو عطشان إليه. يطلب حبه وتواضعه وقداسته وبرَّه لكي يحيا معه في السماويات، وهذه جميعها هبات إلهية يقدمها لمن يطلبها. * كانت هذه الذبائح رموزًا، تنبأت عن الذبيحة الواحدة المخلِّصة. فإننا لم نُترك نحن بدون ذبيحة نقدمها لله (أي ذبيحة شركة الصليب)... قدم بالتأكيد في نفسك ما تريد أن تقدمه... لا تطلب أن تذبح قطيعًا من الخارج، إنما يوجد داخلك ما تذبحه! القديس أغسطينوس * إن لم يتواضع القلب لا يكف عن التشتت، لأن التواضع يجمع القلب (من التشتيت)[48].* لنتعلم كيف نستميل قلب الله إلى الرحمة بالصلاة الممزوجة بالتواضع والوداعة، لأن الرب أعطانا مفتاح الوصول إلى قلبه. "تعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم" (مت 11: 29) داود أيضًا عرف ذلك، فقال: الذبيحة لله روح منسحق، والقلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله (مز 51: 17). لا يحب الرب شيئًا مثل النفس الوديعة المتواضعة. * يستحق مثل هذا الإنسان (المتواضع) الإعجاب، وأن يكون صديقًا لله، إذ قيل بأحد الأنبياء: "إلى من أنظر، إلاَّ إلى المتواضع والمنسحق، الذي يرتعد من كلامي؟!"[49] * الفكر المعتدل والمضبوط يُرفع إلى الله، لأنه كما هو مكتوب أن الله لا يرذل القلب المتواضع والمنكسر[50]. القديس كيرلس الكبير * طوبى للإنسان الذي يعرف ضعفه، فإنه إذ يدرك هذا يصير بالنسبة له أساسًا وبداية لكل ما هو صالح وجميل. إذ يتحقق الإنسان، ويدرك بالحق أنه ضعيف، ينتزع عن نفسه كل بريق يبدد المعرفة، ويصير بالأكثر يقظًا على نفسه.لكن لا يقدر أحد أن يدرك ضعفه ما لم يتخلَ قليلًا عن الأمور الصغيرة ويتجاهلها ويُحاط بالتجارب، سواء في الأمور التي تسبب آلامًا في الجسد، أو بالطرق التي بها تخضع النفس للآلام. عندئذ فقط إذ يتأمل ضعفه، يتحقق عظم المعونة التي تأتي من الله. عندما يدرك إنسان أنه في حاجة إلى عون إلهي، يقدم صلوات كثيرة. وما أن يقدم طلبات كثيرة، حتى يتواضع قلبه... "القلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله" (مز 17:51). ما دام القلب غير متواضع لا يكف عن الجولان، فإن التواضع يجعل القلب في تركيز[51]. القديس مار إسحق السرياني * ما هو منكسر لا يقوم ولا يضرب، وإنما يتأهل لقبول المعاملة السيئة دون ردّها للغير، هكذا هو القلب المنكسر. فإنه وإن أُهين وعومل رديًا يبقى هادئًا، ولا يرغب في الانتقام[52].* (التواضع) هو المذبح الذهبي، هو موضع الذبيحة الروحي، لأن الروح المنسحق ذبيحة لله. التواضع هو والد الحكمة. إن كان لإنسان هذه الفضيلة تكون له بقية الفضائل[53]. * "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات" (مت 5: 3)... توجد أنواع من التواضع: فيوجد المتواضع على قدر قامته، وآخر ينزل إلى أقصى حدود التواضع. هذا الأخير (الذي هو من القلب) يمتدحه النبي المبارك مصورًا لنا، لا مجرد خضوع النفس، بل انكسارها كلية، وذلك عندما يقول: "الذبيحة لله روح منسحق، والقلب المنكسر المتواضع لا يرذله الله" (مز 51: 17).وها الفتية الثلاثة يقدمون انسحاقهم هذا كذبيحة عظمى لله قائلين: "ولكن في نفس منسحقة وروح متواضعة ليتنا نكون مقبولين لديك" (دا 3: 39 تكملة دانيال) هذا هو ما يطوِّبه المسيح الآن[54]. القديس يوحنا الذهبي الفم * أعتقد أن اللطف ومحبة البشر والتقوى العميقة هي أسس استيعاب الغنوسي (صاحب المعرفة الروحاني)، وإنني أؤكد أن هذه الفضائل هي ذبيحة مقبولة في عين الله (في 4: 18). ويؤكد الكتاب المقدس أن القلب المتواضع مع المعرفة هو محرقة لله. وكل من يسلك في القداسة يستنير إلى وحدةٍ لا تنفصم[55].القديس إكليمنضس السكندري * إنكم تقدمون هذه الذبيحة لله، وتحتفلون بها دون توقف، ليلًا ونهارًا، إذ تصيرون ذبائح لله، وتقدمون ذواتكم تقدمات مقدسة بلا دنس، كما ينصح الرسول ويقول: "فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حيَّة مقدسة مرضية عند الله... ولا تُشاكلوا هذا الدهر، بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم، لتختبروا ما هي إرادةالله الصالحة المرضية الكاملة" (رو 12: 1) [56].القديس كبريانوس * القلب الذي غرق في جنون الملذات، يريد الله أن يطهره بندمٍ، يسوقه إلى الخلاص المنقذ. وتعالي الكبرياء الذي يصب علينا جراحات مؤلمة، يريد الله أن يشفيه بتواضع الحياة المنكسرة. هكذا تقول الأسفار المقدسة: "(قلت للمفتخرين) لا ترفعوا إلى العلي قرنكم، لا تتكلموا بعنقٍ متصلبٍ" (مز 75: 4)، لأنه إن فشل الأثمة، ولم يقروا بشرورهم، ولم يقدموا توبة بتواضعٍ، فإنهم بذلك يرفعون قرونهم. لذلك يقول الكتاب المقدس: "القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره" (مز 51: 17). كل الذين يبكون على خطاياهم دون أن يتركونها، لهم قلب منكسر، ولكنهم في الحقيقة يستنكفون من أن يسحقوه. بينما الذين يتركون الخطايا، ولا ينوحون عليها، يسحقون قلوبهم ولكن في غير انكسار[57]. الأب غريغوريوس (الكبير) * لا شيء يفيد النفس مثل التواضع. مكتوب: "ذبائح الله هي روح متواضعة" (مز 51: 17). التواضع صفة للصليب. أما الكبرياء فعزيز على الشياطين الأعداء. في التواضع لا مجال للسقوط إلى أدنى منه. إن أرادت الشياطين أن يُسقطوا (المتواضع) من علوٍ، لا توجد مسافة تحته لتسعه لو سقط![58]* إن ألم من هو متواضع بالندامة لأنه سقط، أبسط من ألم الممتطي حصان الكبرياء، ويمشي بخيلاء، لأنه يمارس سيرة روحية كما تُعرف بوضوح من مَثَل الفريسي والعشار[59]. * الآن فلتهتم قداستك يا سيدي، ليس باستئصال الزوان، لكن بتحويله ليصير حنطة. يستطيع تواضعك أن يجعل البواشق (من الطيور الجارحة) حمامًا، والذئاب حملانًا[60]. القديس مار يعقوب السروجي * قال لهم: لأني لم أكلم آباءكم ولا أوصيتهم يوم أخرجتهم من أرض مصر من جهة محرقة وذبيحة، بل أوصيتهم بهذا الأمر، قائلًا: "لا يفكرن أحد في السوء على قريبه في قلوبكم، ولا تحبوا يمين الزور" (إر ٧: ٢٢، ٢٣؛ زك ٨: ١٧)... إنّه يقول: "الذبيحة لله روح منسحق" (مز ٥١: ١٧)؛ القلب المنسحق عطر للرب الذي جبله[61].* عندما نصلي دائمًا يجب ألا نتعب، لكن نصرخ إليه بلهفة ليلًا ونهارًا، ضارعين إليه بقلبٍ منكسرٍ وروحٍ متواضعةٍ. "ذبائح الله هي روح منكسرة. القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره" (مز 51: 17)[62]. مارتيريوس - Sahdona * يريد كل من الجسد والنفس، أي الإنسان بكليته، أن يصير ذبيحة مقدسة لله. يعلن المرتل أن النفس هي ذبيحة مقدمة لله، بقوله: "الروح المنسحق ذبيحة لله"[63].* لنقدم نفوسنا ذبيحة بالصوم. فإننا لا نستطيع أن نقدم لله ما هو أفضل من هذا. يؤكد النبي ذلك بقوله: "الروح المنسحق ذبيحة لله، والقلب المتواضع لا يرذله الله". قدم يا إنسان نفسك لله. قدم تقدمة الصوم. أفعل هذا لتجعل نفسك ذبيحة طاهرة، ذبيحة مقدسة، ذبيحة حيَّة تبقى لك وأنت تقدمها لله[64]. الأب بطرس خريستولوجوس 7. تمتع بحياة كنيسة روحية ليس عجيبًا أن يبدأ المرتل مزمور التوبة بطلب الرحمة لنفسه شخصيًا اعترافًا بخطاياه، لينهي المزمور بالتمتع بالحياة الكنسية الروحية القوية والمتهللة. فإن كانت خطية عاخان بن كرمي قد أساءت إلى الشعب كله، إذ قيل: "في وسطك حرام يا إسرائيل، فلا تتمكن من الثبوت أمام أعدائك، حتى تنزعوا الحرام من وسطكم" (يش 7: 13)، فقد شعر داود بأن توبته هي نزع هذا الحرام ليعطي لنفسه شركة صادقة مع شعبٍ مقدسٍ، ويتمتع الشعب ببركة توبته، حيث يُسر الله به وبهم. "أَحْسِنْ بِرِضَاكَ إِلَى صِهْيَوْنَ. ابْنِ أَسْوَارَ أُورُشَلِيم، حِينَئِذٍ تُسَرُّ بِذَبَائِحِ الْبِرِّ مُحْرَقَةٍ وَتَقْدِمَةٍ تَامَّةٍ. حِينَئِذٍ يُصْعِدُونَ عَلَى مَذْبَحِكَ عُجُولًا [18-20]. إذ تاب داود اكتشف بروح النبوة سرور الله بالبشرية، حيث ينزل كلمة الله متجسدًا، مقدمًا ذاته ذبيحة سرور للآب باسم جميع المؤمنين، مقيمًا تلاميذه ورسله كأسوارٍ حيَّة للكنيسة المُقامة على المسيح الأساس الحيّ، والمحرقة المقبولة لدى الآب. خلاله نقدم "العجول"، أي تقدمات روحية كثيرة. * "صهيون" تُترجم "المتوقع"، و"أورشليم" "رؤية السلام". لتدركوا أنفسكم أنكم في صهيون وأورشليم، إن كنتم تتوقعون برجاء ويقين أنكم تصيرون هكذا، وأن لكم سلام مع الله... لقد بُنيت أسوار أورشليم، فتُقام فوقها شُرفات الخلود والإيمان والرجاء والمحبة. * ما هي المحرقات؟ احتراق الذبيحة بالنار بكاملها؛ عندما يُوضع الحيوان على المذبح ويحترق بالنار، فيُدعى محرقة. ليت النيران الإلهية ترفعنا بكليتنا إلى فوق، ونلتهب بالكامل... ليس فقط نفوسنا ترتفع بنار الحكمة هذه، بل وجسدنا أيضًا، إذ ينال الخلود. ليُقدَّم إذًا كمحرقة فيُبتلع الموت! القديس أغسطينوس *قدم شعب إسرائيل الكثير من ذبائح الحيوانات في العديد من المناسبات. وعندما نفكر في الدرس المستفاد من هذا الموضوع نجده يرتبط في تفكيرنا بسرّ، وهو وجوب التضحية بأهوائنا. "ذبائح الله هي روح منكسرة، القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره" (مز 51: 19). لذلك تمجد ذبيحتنا لمديح الواحد صاحب الرائحة الطيبة. تشم النفس الرائحة الطيبة مثل بولس: "رائحة المسيح الطيبة" (كو 2: 15)، وترتفع أعلى من كل رائحة رمزية للشريعة. وتصبح النفس عطرة الرائحة في حياتها، وتشم مرّ الكهنوت وبخور الضمير الذي يتكون من الفضائل المختلفة. حياتها هي رائحة عطرة للعريس. عندما قارن سليمان الشعور المقدس بالعطر المادي للشريعة، أضاف أن الفضائل تعطي رائحة طيبة وغير مادية: "وكم رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب"[65]. القديس غريغوريوس أسقف نيصص * لم يرفض ذبائحهم، لأنه كان غاضبًا مثل الإنسان، كما يجسر البعض ويقولون، وإنما من أجل حنوه على عماهم، ولأنه يطلب لهم الذبيحة الحقيقية التي بها يرضى الله، فيقبلوا الحياة منه[66].القديس إيريناؤس هكذا بدأ المرتل بصرخات قوية يطلب فيها مراحم الله العظيمة، معترفًا بإثمه، وواثقًا في عمل الله الخلاصي هذا الذي يهبه العطايا التالية خلال التوبة:1. غفران خطاياه، فيجعل نفسه بيضاء كالثلج. 2. يرد له بهجة خلاصه، عوض الغم الذي حلَّ بالخطية في قلبه. 3. يهبه تجديدًا كاملًا لطبيعته، مع تجديدٍ مستمرٍ بالتوبة. 4. يقدس شفتيه، ويفتحهما بالتسبيح. 5. يهبه قوة الشهادة، ليرد المنافقين إلى ملكوت الله المفرح. 6. يقدم ذبائح التسبيح بتواضعٍ. 7. ينعم بالروح الكنسية الجماعية المفرحة. من وحي مز 51 توبني يا رب فأتوب * علمني يا رب كيف اقتني قيثارة حب. فأرافق داود النبي في توبته، بروحٍ خاشعةٍ متواضعةٍ، ورجاءٍ صادقٍ في غنى رحمتك، * أرسل إليّ داود، كما أرسلت إليه ناثان النبي، فأكتشف نفسي، واعترف بخطاياي. أصرخ مع صرخاته، وأبكي مع بكائه، وأتنهد مع تنهداته، ابتهج معه بعملك الخلاصي. * كثيرًا ما أخفيتُ خطيَّتي وراء ظهري، فصارت أمام وجهك، وحُرمت من المثول بين يديك. ليحملها روحك القدوس، ويضعها أمام عينيَّ، فتصرف وجهك عنها، أما نفسي، فتلتصق بك، وترى بهاء وجهك! * الآن أقول: خطيَّتي أمامي في كل حين، لكن نعمة روحك القدوس لا تفارق عينيّ! أنا ضعيف كل الضعف، وأنت غافر الخطية، مجدد الأعماق، ومنقذ النفوس من الفساد! * لقد أسأتُ إلى نفسي المسكينة، وأسأتُ إلى كنيستي المحبوبة، وأهنت كل من هم حولي. لكنني بالحق إذ أدرك إحساناتك أقول: لك وحدك أخطأت! أنت وحدك بلا خطية، قبلتني في الشركة معك، لكنني أسأت التصرف! إحساناتك بلا حصر، فما هو عذري في خطيَّتي؟! * إني لا أشكو الظروف، لا اعتذر بعائلتي، ولا بخدام كلمتك، ولا بقسوة الناس، إنما أشكو نفسي إليك، إنني أقول: قد أخطأت! * عجيب أنت في حبك، تمزج دموع توبتي بدموع فرحي! تحوّل مرارتي إلى عذوبة، وسقوطي إلى نصرة! تهبني عمل روحك الناري، فأنعمُ بروح رئاسة. لا أعود أخاف الخطية، ولا أرهب عدو الخير، مادمت أنت عضدي. بدونك أهلك، وبك انتصر! * حوَّل توبتي إلى شهادة حق، فيعرف الأثمة طرقك، ويرجع المنافقون إليك. استخدمني إناءً للحياة الجادّة الدائمة التوبة! * أسبحك وأمجدك، لأنك إذ تتوبني، تدخل بي إلى صهيون. وترفع قلبي إلى أورشليم. تهبني حياة كنسية سماوية! |
||||
28 - 01 - 2014, 05:00 PM | رقم المشاركة : ( 54 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 52 - تفسير سفر المزامير مصير الكَذَبة وعابدي الوحشمناسبته جاء في عنوان المزمور: "لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ. عندما جاء دُواغ الأدومي وأخبر شاول، وقال له: جاء داود إلى بيت أخيمالك". كأن العنوان يربط المزمور بإحدى تجارب داود النبي المريرة. فقد جاء داود إلى نُوب، إلى أخيمالك الكاهن هربًا من شاول الملك، وأخذ سيف جليات وأكل هو ومن معه من خبز الوجوه، ثم هرب إلى "جت". وإذ خشي من ملك جت ذهب إلى مغارة عدلام حيث اجتمع حوله كل من كانت نفسه مرة (1 صم 21-22). سمع شاول بذلك وحسب أن خيانة قد تمت في صفوف رجاله. عندئذ قال دُواغ الأدوميإنه رأى داود في نوب، وأن الكاهن أخيمالك أعطاه زادًا وسيف جليات. فأمر الملك بقتل أخيمالك وكل الكهنة الذين معه، وإذ رفض عبيد الملك أن يمدوا أيديهم ليقعوا بهم، قام دُواغ الأدوميبهذا الدور، فقتل خمسة وثمانين كاهنًا، وقد ورد العدد في الترجمة السبعينية على أنه ثلثمائة وخمسة رجال، بينما يرفع يوسيفوس العدد إلى 385 رجلًا. ومع أن الأمر قد صدر من شاول الملك، إلا أن ما قام به دواغ يدل على تعطشه لسفك الدماء. ضرب نوب مدينة الكهنة بحد السيف، ولم ينجُ منها إلا أبياثار بن أخيمالك الذي هرب وذهب إلى داود. قال له داود: "أنا سببت لجميع أنفس بيت أبيك؛ أقم معي، لأن الذي يطلب نفسي يطلب نفسك، ولكنك عندي محفوظ" (1 صم 22:22-23). يحدثنا المرتل عن نهاية الشر وبطلانه، ومجد أولاد الله المضطهدين. هذا ما دفع المرتل إلى تسبيح الله، وتمجيد اسمه القدوس. 1. الإنسان الشرير 1-4. من سمات الشرير أ. الافتخار بالإثم ب. الاستمرار في الشر ج. العنف الممتزج بالغش د. محب للشر أكثر من الخير ه. محب للمخادعين 2. مصير الكذبة الأشرار 5. 3. خلاص الله 6-8. 4. التسبيح لله 9. من وحي المزمور 52 العنوان "لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. قَصِيدَةٌ لِدَاوُدَ عِنْدَمَا جَاءَ دُوَاغُ الأَدُومِيُّ، وَأَخْبَرَ شَاوُلَ وَقَالَ لَهُ: جَاءَ دَاوُدُ إِلَى بَيْتِ أَخِيمَالِكَ". دُواغ الأدومي: "دُواغ" اسم أدومي معناه "شديد الخوف أو القلق". ربما ذات الغلام الذي كان يرافق شاول بن قيس حين ذهب يبحث عن أُتن أبيه الضالة (1 صم 3:9)، وقد كان رئيس رعاة شاول (1 صم 21: 7)، وحيث أن المواشي كانت الجزء الرئيسي من ثروة شاول، فلابد أن رئيس رعاته كان شخصية ذات شأن، وتقول أسطورة يهودية إنه كان أعظم علماء عصره، وهو رجل دخيل. يرى القديس أغسطينوس أن "دُواغ" معناها "تحرك"، و"أدوم" معناها "تراب" أو "أرض". وكأنه يمثل من يحمل تحركًا أرضيًا لا سماويًا، أي سلوكًا أرضيًا يفسد خدمة الرب. بحسب النص السرياني هذا المزمور موجه ضد الشر بوجه عام، ويقدم نبوة عن إبادة الشر. إنه تحذير ضد التدين الذي تفسده دوافع شخصية أنانية. جاء هذا المزمور يُعلن عن افتخار دُواغ الأدوميبشره وعنفه، وهو في هذا يرمز لضد المسيح الذي يفتخر بمقاومته للحق، واضطهاده للسيد المسيح في شخص كنيسته، كما يكشف عن سلاح عدو الخير القاتل، وهو "لسانه"، أي التجديف على الله. يرى البعض أن دُواغ يشير إلى يهوذا الذي خان سيده متسترًا بالقبلة، كما سلَّم دُواغ الكهنة للقتل متسترًا بالظهور كإنسانٍ أمينٍ لسيده ومهتم بسلام الشعب. 1. الإنسان الشرير لِمَاذَا تَفْتَخِرُ بِالشَّرِّ أَيُّهَا الْجَبَّارُ؟ رَحْمَةُ اللهِ هِيَ كُلَّ يَوْمٍ [1]. يرى البعض أن المزامير 52-55 تُقدم لنا صورة قوية عن "ضد المسيح". هنا يتحدث المرتل عن الإنسان الشرير الذي يضطهد البار. هذا الاضطهاد يلازم البشرية منذ قَتَل قايين هابيل. ففي كل عصرٍ يوجد قايين، لكن الأمر يبلغ القمة باضطهاد ضد المسيح الكنيسة. يدعو الكتاب المقدس هذا العصر "الضيقة العظيمة" (مت 13:24). يتسم الشرير بالإثم ممتزجًا بالكبرياء وحب الخداع والكذب مع محبة الشر. * جيد ألاّ تغضب، ولكن إذا حدث ذلك، فالرسول لا يسمح لانفعالك هذا أن يستغرق أكثر من نهارٍ واحدٍ... ومع ذلك فأنت تتأخر حتى تغرب شمس حياتك! أَلا تعرف أن تقول: "يكفي اليوم شرّه" (مت 6: 34)؟ لماذا تحقد على الذي أغاظك؟ الذي أخطأ في حقك ليس هو بل الشيطان. فاكره المرض لا المريض. "لماذا تفتخر بالشر أيها الجبار" (مز 52: 1)؟ لقد أعلن المزمور ذلك عنك عندما قال: "لأنّ لسانك يخترع مفاسد اليوم كله" (مز 52: 2 السبعينية). أي أنك طوال أيام حياتك تعصى واضع الناموس القائل: "لا تغرب الشمس على غيظكم". كما أن بقوله إنّ لسانك يخترع مفاسد يعني أنك لا تكفّ عن التكلُّم بالشر على أخيك. ولذلك، فإنّ الانتقام (الإلهي) الذي نطق به المرتل بالروح إنما هو على حق، إذ يقول: "يهدمك الله إلى الأبد، يخطفك، ويقلعك من مسكنك، ويستأصلك من أرض الأحياء" (مز 52: 5). هذه العقوبات هي جزاء الذي يذكر الأخطاء، فهي جزاء تلك الرذيلة! القديسة الأم سنكليتيكي من سمات الشرير كما يعرضها المرتل هنا:1. الافتخار بالإثم: دُواغ الذي كان راعيًا أو رئيس رعاة عند شاول ظهر كجزار يذبح ويقتل بلا رحمة. قتل الكهنة، وكانوا لابسين الأفود، وأهلك مدينة غير مسلحة، ورجالًا لا قوة لهم مع نساء وأطفال. ومع هذا فقد أظهر نفسه كرجلٍ قويٍ، وكبطلٍ جبارٍ، متهمًا الأبرار بعدم الإخلاص للملك وللدولة (1 صم 8:22)، وكانت نيته كسب وِدّ شاول أو المكسب المادي، ولعله هدف إلى قتل الكهنة أصدقاء داود[67]. * لاحظوا يا إخوتي افتخار الإنسان الخبيث، افتخار الشرير... يحتاج الإنسان أن يكون قديرًا، لكن في الصلاح لا في الخبث... "من يفتخر، فليفتخر في الرب" (1 كو 31:1)؛ من يفتخر فليفتخر في الصلاح. أنت تفتخر، لأنك قدير في الشر. ماذا ستفعل أيها القدير حتى تفتخر هكذا...؟! هذا هو ما يفعله مواطنو أورشليم الصالحون، الذين يفتخرون بالصلاح لا بالخبث: أولًا: يفتخرون بالرب لا بأنفسهم. ثانيًا: يمارسون الأعمال التي للبنيان في غيرة، يمارسونها كأقوياء ثابتين، أما الأمور التي تبدو أنها للتحطيم، فيمارسونها للتأديب، وليس للضغط على الأبرياء. القديس أغسطينوس صورة مُرة يكررها التاريخ عبر العصور! دُواغ يحسب في نفسه "القوي" بحكم مركزه، لأنه متوشح بالسيف، يحمل كراهية للابسي الأفود، الذين لم يصنعوا ضده شرًا. الأول يتوشح بالعنف كأبيه إبليس، والآخرون متوشحون بروح العبادة ليلتصقوا بالله أبيهم! الأول يمارس الشر، بل ويفتخر به كسيده، وهم يمارسون العبادة ليحملوا روح سيدهم السماوي!2. الاستمرار في الشر: لا يقف الأمر عند صنع الشر والافتخار به، وإنما يتسم الشرير بالاستمرار في الشر. يمارس الشر إن لم يكن بالفعل أو القول، فبالفكر. إن قصرت يداه عن ارتكاب الظلم، يبقى قلبه متحركًا في طريق الشر. لا يهدأ ولا يمل من صنع الإثم! في عشقه للشر لا يعرف التعب من ممارسته. * "اليوم كله بالإثم، لسانك فكَّر بالظلم" [2]، أي كل الزمان دون ملل، أو أخذ فترات راحة، وبدون توقف. وحينما لا تصنع الإثم تفكر فيه، فإذ لا يكون في يدك صنع الإثم لا يبتعد قلبك عنه. القديس أغسطينوس * قوله "اليوم كله" يعني مدة حياة ذلك القوي بالإثم، فإنه لا يخجل، ولا يندم من عمله ونطقه بالظلم.الأب أنثيموس الأورشليمي 3. العنف الممتزج بالغش لِسَانُكَ يَخْتَرِعُ مَفَاسِدَ. كَمُوسَى مَسْنُونَةٍ يَعْمَلُ بِالْغِشِّ [2]. اتسم دُواغ الأدوميبالغش والخداع، ففي حديثه مع شاول عن أخيمالك الكاهن بتر الحقيقة وشوهها، إذ لم يعرض الحوار الذي دار بين أخيمالك وداود ليبرر نية أخيمالك، وإنما ببتره للحقيقة صوَّره كخائنٍ يساند داود عدو الملك، مما أثار نفس شاول جدًا. ربما كان غاشًا، لأنه وهو أدومي تظاهر بقبول الإيمان، فصار من الدُخلاء، يقدم تقدمات للهيكل، ويُمارس العبادة، ليظهر كرجلٍ بارٍ، حتى حانت له الفرصة، فتمم شهوة قلبه: قتل الكهنة وعائلاتهم. استخدم كل دهاء ليحقق غرضه، فظهر كالموسى المسنونة التي تقطع. لكنه ماذا قطع؟ شعر الرأس، أو ما هو زائد في حياة الإنسان! هذا هو أقصى ما يمكن أن يفعله الشرير بأولاد الله، أن يحرمهم من الزمنيات الزائلة! أو حتى من الحياة الزمنية بقتل الجسد الذي يقوم ممجدًا، يشارك النفس ذات الإكليل. عمل الشرير إزالة شعر الرأس، لكن يقول السيد المسيح: "وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة؛ فلا تخافوا" (مت30:10-31). إذن ليضرب الشرير القوي بسيفه كما يريد، فإن شعرة واحدة من رؤوسنا لن تسقط بدون إذن أبينا السماوي. قال بيلاطس للسيد المسيح: "ألست تعلم أن لي سلطانُا أن أصلبك، وسلطانًا أن أطلقك؟" فأجابه: "لم يكن لك عليّ سلطان البتة، لو لم تكن قد أُعطيت من فوق" (يو 10:19-11). * (دُواغ الأدومييقتل الكهنة بوشايته كما بسيفه). قطعهم كالموسى الحالقة للشعر بسرورٍ وهناءٍ. وفي يوم حصار أورشليم تكلم ربشاقي مع اليهود بالكفر قائلًا: لا يقدر إلهكم أن ينقذكم من يدي، فإني آخذكم إلى بلاد أخصب من بلادكم (راجع 2 مل 19:18-35)، صار لسانه مثل الموسى المسنونة متكلمًا بالغش، لأنه كان يخدعهم بلغتهم، ويستميل قلوبهم إليه، وهو يريد إزالتهم كما تزيل الموسى المسنونة الشعر.أيضًا يليق هذا القول بالأكثر بيهوذا (الإسخريوطي)، لأنه قال لرؤساء الكهنة: ماذا تُعطوني وأنا أسلمه إليكم؟ ولما عرضوا عليه ثلاثين من الفضة، صار اليوم كله يطلب فرصة ليسلم يسوع إليهم، حتى جاء الليل، وفعل ما نطق به النهار كله، وأراد مثل الموسى الحادة بلا إحساس أن يزيل ربنا. الأب أنثيموس الأورشليمي * انظروا ماذا يفعل الأشرار بالقديسين، إنهم يكشطون (يحلقون) شعورهم...ماذا يفعل موسى دُواغ لرجل على هذه الأرض يتأمل في ملكوت السماوات، وقد اقترب من الدخول في ملكوت السماوات، معه الله، ويسكن مع الله؟ ماذا يفعل هذا الموسى؟ إنه يكشط الشعر، فيجعل الإنسان أصلع. يهذا ينتمي للمسيح الذي صُلب في موضع الجمجمة (مت33:27)... فإن هذا الشعر يعني الزمنيات غير الضرورية... الذين يلتصقون بالرب بكل قلوبهم تكون لهم الأمور الأرضية كما الشعر (الزائد)... لذلك مثل موسى ليحرك دُواغ لسانه، ليثير غشه حسبما يريد، فإنه ينتزع الأمور الزمنية الزائدة، بينما تبقى الأمور الضرورية إلى الأبد. القديس أغسطينوس 4. محب للشر أكثر من الخير أَحْبَبْتَ الشَّرَّ أَكْثَرَ مِنَ الْخَيْرِ، الْكَذِبَ أَكْثَرَ مِنَ التَّكَلُّمِ بِالصِّدْقِ. سِلاَهْ [3]. * اختار يهوذا الشر، أعني به الشيطان، أفضل من الخير الذي هو المسيح، وأحب الظلم، أي الوشاية ضد المسيح، أفضل من التكلم ببشارة الإنجيل. لقد فضَّل أن يكون مع قاتلي الإله (المتجسد) عن أن يكون في زمرة الرسل القديسين. الأب أنثيموس الأورشليمي 5. محب للمخادعين هنا يبلغ الشرير إلى الذروة في شره، فإنه ليس فقط يمارس الشر، ويفتخر به ويحبه أكثر من الخير، وإنما يحب أيضًا الأشرار ليشاركهم شرورهم أو يحثهم بالأكثر على ممارستها بكل عنف. تصير لذته في صحبة الأشرار والتشاور معهم، لا لهدفٍ إلا لأنه يُسر بهلاك الناس، ويفرح بالغش والكذب. أَحْبَبْتَ كُلَّ كَلاَمٍ مُهْلِكٍ، وَلِسَانِ غِشٍّ [4]. يُدعى الشيطان بالقتَّال والكذَّاب وأب الكذابين، هكذا يتسم ضد المسيح بحبه للهلاك والكذب، ويحمل أتباعه ذات السمتين. وقد سبق فتحدث المرتل عن هاتين السمتين[68]. 2. مصير الكذبة الأشرار أَيْضًا يَهْدِمُكَ اللهُ إِلَى الأَبَدِ. يَخْطُفُك،َ وَيَقْلَعُكَ مِنْ مَسْكَنِكَ، وَيَسْتَأْصِلُكَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ. سِلاَهْ [5]. توجد ثلاث طرق لتفسير هذه التهديدات: ا. يُعلن داود النبي بوحي الروح القدس عن الويلات التي تحل بدُواغ الأدوميما لم يتب. وقد قدم الله غايته من التهديد: "تارة أتكلم على أُمة وعلى مملكة بالقلع والهدم والإهلاك، فترجع تلك الأُمة التي تكلمت عليها عن شرها، فأندم عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها. وتارة أتكلم على أُمة وعلى مملكة بالبناء والغرس، فتفعل الشر في عيني، فلا تسمع لصوتي، فأندم عن الخير، لأني قُلت إني أُحسن إليها به" (إر 7:18-10). هذا ما تم في أمر نينوى الذي هددها الله بيونان النبي، لكنها إذ تابت تمتعت بمراحمه الإلهية، وقيل إن الرب ندم على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه (يونان9:3)[69]. ب. إذ رأى داود النبي من خلال الواقع الذي اختبره أن الأشرار المصرِّين على شرهم، خاصة العنف مع الخداع يحل بهم الموت فجأة (مز 11:37؛ 23:55)، لذا فإن دُواغ لن يكون حالة استثنائية[70]. ج. كان هذا التهديد نبوة تحل بابن الهلاك يهوذا، الذي مضى وشنق نفسه؛ أو بضد المسيح الذي لا يدوم ملكه أكثر من ثلاث سنوات ونصف. ويلاحظ في هذا التهديد ثلاثة أمور: ا. إن كان الهدم ثمرًا طبيعيًا للغش والخداع أو للباطل، لأن ما هو باطل ينتهي بالبطلان ولا يدوم، لكن المرتل ينسب عملية الهدم إلى الله؛ لأن كل شر في الحقيقة موجه ضد الله شخصيًا. أما نحن فليس عملنا أن نطلب النقمة بل التوبة للآخرين، فإن أصروا على الشر يسقطون بحكم تصرفهم في البطلان حسب العدل الإلهي. هذا الهدم أبدي "إلى الانقضاء"، لا يتحقق سريعًا، لأن الله في طول أناته ينتظر توبة الكل، لكن إمهاله لا يعني تجاهله للأمر. ب. اقتلاع الأشرار ونقلهم من مسكنهم، يعني أن ما يتمتعون به من إمكانيات وقدرات: من قوة أو قدرة أو سلطان أو ممتلكات أو ذكاء أو سرعة بديهة الخ. هذه هبات إلهية، إن أساءوا استخدامها، يأتي وقت ينتزعها الله منهم. ج. يستأصلهم من أرض الأحياء: إن كان عالمنا هذا هو أرض الأموات، لأنه لن يخلد فيه أحد، فيمكن للأشرار أن يعيشوا فيه كالزوان مع الحنطة، لكن في يوم الرب العظيم لا يدخل الأشرار أرض الأحياء حيث يعيش المؤمنون المجاهدون مع الله، يشاركون السمائيين تسابيحهم، ويتمتعون بشركة الميراث الأبدي. * كل شيء يُبنى بالغش أو الكذب يهدمه الله، وكل غرسٍ لا يغرسه الآب السماوي يُقلع. وذلك كما صار لدُواغ الذي كان سابقًا أدوميًا وثنيًا، ثم دخل في دين اليهودية، وإذ وشى بداود اقتلعه الله ونقله من مسكنه، أي من جماعة المؤمنين. كذلك يهوذا الذي أسلم (المسيح) نقله من مسكن الرسل ومن أرض الأحياء، أعني من بين الصديقين ومن حياة هذا العمر أيضًا، لأنه مضى وشنق نفسه. وهكذا أيضًا الذين صلبوا المسيح، هدم مدينتهم وهيكلهم ورئاستهم ونفاهم... وشتتهم من مسكنهم، أي من أورشليم الأرضية والسماوية، وأقصاهم من ميراث الصديقين. الأب أنثيموس الأورشليمي * يلزم أن يكون لنا جذور في أرض الأحياء. لتكن جذورنا هناك. الجذر مخفي عن النظر، بينما الثمار يمكن أن تكون منظورة... جذرنا هو حبنا، وثمارنا هي أعمالنا. يلزم أن تصدر الأعمال عن الحب، عندئذ تكون جذورك في أرض الأحياء. القديس أغسطينوس إن كانت "المحبة لا تسقط أبدًا" (1 كو 8:13)، فلنمارس كل أعمالنا بدافع الحب الصادق، فيبقى لنا رصيد في السماويات لا يزول، أما إن مارسنا كل أعمالنا، حتى قدمنا كل أموالنا، وسلمنا أجسادنا حتى احترقت، وليس لنا محبة، فلا ننتفع شيئًا (1 كو 3:13). ليكن لنا الحب، فيكون لنا الله، نبقى معه في سماواته أبديًا. 3. خلاص الله فَيَرَى الصِّدِّيقُونَ وَيَخَافُونَ، وَعَلَيْهِ يَضْحَكُونَ: [6] هُوَذَا الإِنْسَانُ الَّذِي لَمْ يَجْعَلِ اللهَ حِصْنَهُ، بَلِ اتَّكَلَ عَلَى كَثْرَةِ غِنَاهُ، وَاعْتَزَّ بِفَسَادِهِ [7]. بينما يستهين الشرير بطول أناة الله وإمهاله إذا بالصديقين يرون ما يحل بالشرير، فيخافون الرب ويهابونه، ويضحكون على ضعف الشر وبطلانه، كما ينتفعون لحياتهم، مدركين أن من يتكل على غناه أو سلطانه الزمني، لا على الله، يهلك. وكما يقول الرسول: "فهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالًا، وكُتبت لإنذارنا" (1 كو 11:10). إذ يمارس الصديقون عبادتهم وسلوكهم مع الغير بدافع الحب الذي ينعمون به كهبةٍ إلهيةٍ، يكون لهم ملء الدالة لدى الله، دون تجاهل كرامة الله ومهابته: "تمموا خلاصكم بخوفٍ ورعدةٍ" (في 12:2). "اعبدوا الرب بخشيةٍ، وهللوا له برعدةٍ" (مز 11:2). يرىالقديس أغسطينوس أننا في هذا العالم أشبه بمن يسير في ليلٍ مظلمٍ، يحملون مصباح الكلمة النبوية، فإنهم يسيرون بخوفٍ ورعدةٍ حتى يشرق نهار الأبدية، فلا يكون هناك خوف. وكما يقول الرسول بطرس: "وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها كما إلى سراجٍ منيرٍ في موضعٍ مظلمٍ، إلى أن ينفجر النهار، ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم" (2 بط 19:1). هذا من الجانب السلبي حيث يخشى الصديقون السقوط فيما يسقط فيه الأشرار باتكالهم على كثرة غناهم وأباطيلهم. أما من الجانب الإيجابي، فإنهم إذ يُغرسون كأشجار الزيتون في بيت الرب، تضرب جذورهم في الأرض المقدسة، لتقتات بحب الله ومراحمه وقداسته وكلمته. يعلن المرتل عن القوت الذي تمتصه جذورهم كشجرة زيتون، قائلًا: أَمَّا أَنَا فَمِثْلُ زَيْتُونَةٍ خَضْرَاءَ فِي بَيْتِ اللهِ. تَوَكَّلْتُ عَلَى رَحْمَةِ اللهِ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ [8]. ملكوت السماوات يشبه عذارى (مت 1:25)، كأشجار زيتون، تحمل بعضهن ثمار المحبة العملية، فيوجد في آنيتهن زيت، والأخريات بلا ثمر ليس لهن زيت في آنيتهن، فلا يقدرن على استقبال العريس أو الدخول معه في العرس الأبدي. * أحسب جبل الزيتون رمزيًا يشير إلى كنائس الأمم، إذ بينهم غُرست أشجار الزيتون. يمكن لكل كنيسة أن تقول: "أنا مثل شجرة زيتون مثمرة في بيت الله" (مز 52: 8). ربما أيضًا في جبل الزيتون، حيث جذور أشجار الزيتون الصالحة تعيش، وتُطعم أغصان شجر الزيتون البرية في الشجرة الصالحة عوض تلك الأغصان التي تُقطع بسبب عدم إيمانها (رو 11: 20). الفلاح الذي يقيم على جبل الزيتون هو كلمة الله العامل في الكنيسة، وهو المسيح الذي على الدوام يُطعم أغصان الزيتون البرية في الشجرة الصالحة التي لأبينا موسى والأنبياء الآخرين، حتى إذ يتقوون بالأنبياء القديسين الذين أدركوا أن نبواتهم تشير إلى المسيح. هذه الأغصان الجديدة تأتي بثمرٍ أوفر، ثمار أغنى من تلك التي كانت لفروع الزيتون الأولى التي قُطعت، ولم تعد ذات نفع، بسبب لعنة الناموس[71]. العلامة أوريجينوس * فلنكن هكذا، كشجر زيتون، مُحمَّلين بالوصايا من كل جانب. فإنه لا يكفي أن نصير مثل شجر زيتون، وإنما يلزم أن نكون مثمرين أيضًا[72]. * العذارى، كما نعلم، كان معهن زيت، ولكن لم يكن كافيًا أن يستمر (مت 25: 3، 8). لذلك يلزم أن يكون معنا زيت كثير، وأن نكون كشجرة زيتون خضراء في بيت الرب. لنتأمل في ثقل الخطايا التي يرتكبها كل واحدٍ منا ضد الآخر، ولنمارس أعمال الرحمة مقابلها[73]. القديس يوحنا الذهبي الفم * كن كزيتونةٍ خضراءٍ في بيت الله. لا تفقد الرجاء أبدًا، بل تحصن بالإيمان بزهور الإخلاص، فتشبه ذاك النبات... بل وتفوقه في الإثمار، إن كان كل يوم يردك، وأنت تفيض بعطاء الصدقات[74]. القديس باسيليوس الكبير * جاء (يسوع) إلى جبل الزيتون (لو 19: 2، 9)، حتى يمكنه أن يغرس شجر زيتون جديد على أعالي (جبل) الفضيلة، في أورشليم العليا الأم (غل 4: 26). البستاني السماوي على هذا الجبل، حيث يُمكن لكل المغروسين في بيت الرب أن يقولوا: "أما أنا فمثل زيتونة مثمرة في بيت الله" (مز 52: 8 LXX). ربما هذا الجبل هو المسيح نفسه. لأن من غيره يقدر أن يُنتج مثل هذه الثمار، ليس في ثمر عليق، بل في كمال الروح في الأمم المثمرة؟ لأننا بواسطته نصعد، وإليه نصعد (يو 3: 13)[75]. القديس أمبروسيوس إن كان دُواغ الأدوميقد قتل كهنة الرب، فيكون كمن يقتلع أشجار الزيتون من بيت الرب، فيحل غضب الله عليه، وعلى من هم في رفقته. أما داود النبي الطريد، فهو وإن حُرم من بيت الرب جسديًا، لكنه بقلبه المثمر يكون كشجرة زيتون مثمرة مغروسة في بيت الرب. لهذا اعتادت الكنيسة القبطية أن تترنم بهذه العبارة والعبارة التالية لها في عشية عيد القديس يوحنا المعمدان (2 توت)، حيث نتطلع إليه وهو في البرية لا يمارس عمله الكهنوتي، ومحروم من زيارة الهيكل. إنه شجرة زيتون مغروسة في بيت الله. بينما كان الكهنة الأشرار يخدمون الهيكل بأجسادهم دون قلوبهم خارج بيت الله الروحي، مُعتبرين غرباء عنه وعن بيته. ليفعل الأشرار كل ما في وسعهم، فإنهم لن يقدروا أن يقتلعوا الصالحين من بيت الرب، أو يحرموهم من ثمارهم الروحية، بل على العكس كلما قاوموهم وطردوهم تعمقت جذورهم الخفية في بيت الرب! 4. التسبيح لله يختم المرتل المزمور بتسبيحه لله، وتمسكه باسمه القدوس، قائلًا: أَحْمَدُكَ إِلَى الدَّهْرِ لأَنَّكَ فَعَلْتَ، وَأَنْتَظِرُ اسْمَك،َ فَإِنَّهُ صَالِحٌ قُدَّامَ أَتْقِيَائِكَ [9]. * إنه يقول: أنا لم أصنع نفسي زيتونة مثمرة مغروسة في بيت إلهي، بل رحمتك ومعونتك فعلا هذا. عليّ أن أشكرك، وأحمد اسمك على الدوام، لأجل سائر إحساناتك، فإنك صالح وصانع كل صلاح... الأمر الذي يعرفه أبرارك. الأب أنثيموس الأورشليمي * دُواغ يُدان، وداود يُكلل... إنه اعتراف عظيم "على أفعالك"... مُرٌّ هو العالم، أما اسمك فمُبهج (صالح). فإنه وإن وجدت أمور حلوة في العالم، لكنها تنقلب إلى مرارة. اسمك مُفضل ليس فقط لأجل عظمته، وإنما لأجل بهجته أيضًا... يقول: "ذوقوا وانظروا، ما أحلى الرب!" (مز 8:34)... اسمك مُبهج، لكن ليس في عيني الأشرار. إنني أعرف كم حُلو هو، ولكن للذين يذوقونه! القديس أغسطينوس هكذا كشف المرتل عن سمات الشرير الذي يُقاوم الله في أشخاص قديسيه، مُستخدمًا العنف مع الخبث؛ فيهلك بسبب شره ويدخل إلى الباطل، ويُطرد من أرض الأحياء. أما البار، فيحتمل مضايقات الشرير من أجل الرب، فيغرسه الرب في بيته كشجرة زيتون تحمل ثمار الروح، وترتوي بالحب والرحمة الإلهية. بهذا يختبر الأبرار عذوبة مراحم الله، ويُمجدون اسمه ويسبحونه إلى الأبد. من وحي المزمور 52 اغرسني في بيتك، * اغرسني في بيتك، شجرة زيتونة مثمرة، فأحمل زيتًا في مصباحي، وأدخُل مع العذارى الحكيمات إلى عُرسك، وأنعم بالشركة معك في أمجادك! * ثبِّت جذور الحب فيّ، فأقتات بحبك ورحمتك، وأحمل ثمر الروح، يبهج قلب الآب! * ليضرب العدو الشرير بكل طاقاته، فإنه لن يقدر أن يقتلعني من بيتك! ليضرب بموسه في رأسي، فإنه لن ينزع عنها إلا الشعر، وفي هذا كله أنت تهتم حتى بإحصاء عدد شعر رأسي! لن تسقط واحدة بدون إذنك! |
||||
28 - 01 - 2014, 05:05 PM | رقم المشاركة : ( 55 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 53 - تفسير سفر المزامير عدم الإيمان يقود إلى اللاأخلاقياتبين المزمورين 14 و53 يكاد يكون المزمور 53 تكرارًا للمزمور 14، وهما يمثلان صرخة إلى الجاهل الذي ينكر وجود الله، إن لم يكن بالإلحاد العلني فبالسلوك العملي. فالإلحاد يدفع إلى اللاأخلاقيات، واللاأخلاقيات تدفع إلى إنكار وجود الله كنوع من التغطية أو تهدئة الضمير. ويلاحظ في المزمورين الآتيين: 1. تكرر اسم الله سبع مرات في كل مزمور، غير أن المزمور 14 استخدم "يهوه" أربع مرات و”إلوهيم" ثلاث مرات، بينما في المزمور53 استخدم اسم "إلوهيم" في السبع مرات. وكما نعرف أن اسم "يهوه" يخص الله في علاقته بشعبه بكونه "الكائن" وسط شعبه يدخل معهم في ميثاق، أما "إلوهيم" فيخص الله كخالق[76]. 2. في المزمور 14: 1 جاءت كلمة "أعمال" (دنسة) lila تقابلها هنا "آثام" awel. 3. في مزمور 14: 3 جاءت كلمة "حادوا"hakhalsar يقابلها هنا سقطوا بعيدًا (زاغوا)" hullosag . 4. العبارتان 5 و6 في المزمور 14 اُختصرتا هنا في عبارة واحدة. لماذا التكرار؟ يتساءل البعض: لماذا يتكرر ما ورد في المزمور 14 بعينه في المزمور 53 مع اختلافات بسيطة؟ هل يوجد تكرار في الوحي؟ 1. يؤكد هذا التكرار أن يد التحريف لم تمتد إلى الكتاب المقدس، وإلاَّ لكانت قد حذفت ما نحسبه تكرارًا بلا معنى. 2. جاء المزمور 14 مناسبًا في وضعه حيث الحديث في القسم الأول (مز 1-41) هو عن الإنسان والخلاص، فعلى المستوى الشخصي يلزم أن يعترف الإنسان بفساد طبيعته، وبالتالي حاجته إلى مخلص شخصي. ففي المزمور السابق له كانت صرخات المرتل: "إلى متى يا رب تنساني؛ إلى الانقضاء؟! إلى متى تصرف وجهك عني؟!" (مز 1:13). وقد جاءت الإجابة في المزمور 14: لم يصرف الله وجهه عن الإنسان، إنما جهل الإنسان وفساد طبيعته هما السبب. يتطلع الله من السماء ولا يجد من يفهم أو يطلب الله. كما جاء المزمور التالي له (مز 15) يوضح سمات الإنسان التقي الذي يتأهل للسكنى في بيت الرب، خاصة "السلوك بلا عيب"، وهي سمة لا تنطبق تمامًا إلاَّ على الكلمة المتجسد، وكأنه لا خلاص من الجهالة إلاَّ بالاتحاد معه، فيتهيأ المؤمن للتمتع بالمقدسات الإلهية. والحديث في القسم الثاني (مز 42-72) هو عن الكنيسة والخلاص، فإن كان الأشرار يريدون أن يقتلعوا الأبرار من الكنيسة، إلاَّ أن الله يغرسهم كشجر الزيتون المثمر في بيت الرب (مز 52)، مرة أخرى يؤكد على المستوى الجماعي أن فساد طبيعتنا، وليس الأعداء الظاهرون، هم الذين يحرموننا من التمتع بالحياة المقدسة التي للكنيسة الروحية. وكأن المزمور 14 يوضح سرّ فسادنا كأشخاص، والمزمور 53 يؤكد أنه لذات السبب تفسد الجماعة ككل! 3. اُستخدم كل مزمور منهما في مناسبة مختلفة، وإن تشابها إلى حد كبير! الإطار العام والتفسير يمكننا الرجوع إلى المزمور 14 لعدم التكرار، وسأكتفي بتعليقات قليلة تُضاف إلى التفسير السابق. 1. بين عدم الإيمان واللاأخلاقيات 1-2. 2. فساد جماعي 3. 3. يأكلون شعب الله كالخبز 4-5. 4. تهليل الكنيسة بالحرية الروحية 6. من وحي مز 53 العنوان "لإمام المغنيين على العود Mahalath. قصيدة لداود"، وفي الترجمة السبعينية: "في النجاز (النهاية) وعن مالات". لم ترد كلمة "مالات Mahalath" قبل ذلك، إنما توجد أيضًا في عنوان المزمور 88 فقط. يرى البعض أنها تشير إلى نغمة اللحن، وآخرون إلى الآلة الموسيقية التي تستخدم عند تلحينه والبعض يترجمها "رئيس" أو "قائد" الغرفة الموسيقية. يترجمها البعض "أمراضًا"، ويفهمونها إنها تشير إلى مرض الخطية وما تسببه من ضعف، أو أن المزمور كان يستخدم في وقت الضيق حين يشعر المؤمنون كأنهم قد دخلوا في ضعفٍ بسبب سخرية الأشرار بهم[77]. ويرىالقديس أغسطينوسأنها تعني من يدخل فيألمٍ خاصة آلام المخاض. فإن كان الأشرار يسببون آلامًا للكنيسة، لكنها تتحول إلى حالة ولادة، إذ تتمخض الكنيسة بأبناء جدد للكنيسة، يتشكل فيهم السيد المسيح. * كلمة "مالات maeleth" (عنوان مز 53) كما جاءت في ترجمات الأسماء العبرية تعبّر عمن كانت متوجعة (في مخاض) أو في ألم، ولكي يعرف المؤمن من هو ذاك الذي يتوجع أو يتألم في العالم الذي نعيش فيه؛ إنه المسيح الذي يتوجع هنا. المسيح هنا في ألم! الرأس فوق، والأعضاء أسفل. فإن من لا يتوجع ولا يتألم لا يقول: "شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟" (أع 9: 4). ذاك (شاول) الذي كان يضطهده فيتوجع، هو نفسه اهتدى وصار يتوجع. إذ هو نفسه بعد ذلك استنار وتطعَّم في الأعضاء التي اعتاد أن يضطهدها، فصار يحبل بذات الحب، قائلًا: "يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضًا إلى أن يتصور المسيح فيكم" (غل 4: 19). القديس أغسطينوس 1. بين عدم الإيمان واللاأخلاقيات قَالَ الجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: لَيْسَ إِلَه. فَسَدُوا وَرَجِسُوا رَجَاسَةً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا [ع1]. كلمة "الجاهل" هنا "نابال" لا تعني مجرد الجهالة، أي عدم المعرفة، أو عدم الحكمة؛ وإنما تحمل فسادًا سلوكيًا، خاصة في مقاومة الإيمان بالله، ورفض إرادته في حماقة. وكما جاء في المزمور 74: 22 "قم يا الله. أقم دعواك. اُذكر تعيير الجاهل إياك اليوم كله". وقد دعا أيوب البار زوجته المتذمرة على ما سمح به الرب "إحدى الجاهلات" (أي 2: 10). قيل عن الجاهل: "ولا يُدعى اللئيم (نابال) بعد كريمًا، ولا الماكر يُقال له نبيل. لأن اللئيم يتكلم باللؤم، وقلبه يعمل إثمًا ليصنع نفاقًا، ويتكلم على الرب بافتراء" (إش 32: 5-6)؟ "ليس إله": لا يؤخذ هذا التعبير بمعناه الحرفي، أي أن كل جاهل هو ملحد، ينكر وجود الله؛ إنما يعني هنا الإلحاد العملي، حيث لا ينكر البعض وجود الله، لكنهم ينكرون عنايته الإلهية، وإن لم ينكروا عنايته بألسنتهم فبقلوبهم وأفكارهم الداخلية، يرون في الله الكائن القاسي الذي يترصد للإنسان ليعاقبه على كل خطيةٍ أو ضعفٍ في حياته. * من يفكر حسنًا ولا يعرف أن الله موجود؟! لكن يحدث مرارًا وتكرارًا أنه بالرغم من أن الحقيقة تُلزمنا بأن نتعرف على الله، إذًا الملذات الشريرة تحثنا على إنكار وجود الله، فننطق في قلوبنا بمشورة الشر لكي نتقبلها، هذه التي تضاد الإيمان[79]. القديس هيلاري أسقف بواتييه * من يتجاسر ويقول بأنه ليس إله هو عديم الفطنة وجاهل. هذه هي سمة ربساريس وربشاقي، لأنهما قالا هكذا: "هل أنقذَ آلهة الأمم بلادهم والمتعبدين لهم، فكيف يحميكم إلهكم ويحمي مدينتكم؟!" أما بقلبيهما وضميرهما فقالا إنه ليس إله. فالنبي بإلهام الروح القدس سبق وعلم ما في ضميرهما (2 مل 18). وأيضًا نقول إن الذين ينكرون لاهوت المسيح هم جهال، لأن مرامهم أن ينقضوا عظائمه الظاهرة التي تثبت لاهوته. وأيضًا الذين يقولون: نعم الله موجود، خالق البداية، لكنه لا يهتم بها؛ هؤلاء يتكلون على القدرة البشرية، وهم جهال. * الذي يقع في أعمال سمجة يقول في قلبه: "ليس إله"، ويخرج من الإيمان الحقيقي، ويسقط في الكفر، لأن بشنائعه يُفسد ما قد زرعه الله في قلوب البشر من الاعتقاد القويم والرأي السليم. لأن الإيمان لا يكون قائمًا إلاَّ بالأعمال، كما كان كرنيليوس وغيره لطهارة سيرتهم، وحسن أعمالهم، استناروا بنور الإيمان المستقيم., أما من كان مضادًا لذلك فإنه فاسد. الأب أنثيموس الأورشليمي * يبدأ الفساد بالاعتقاد الشرير، عندئذ تُنزع الأخلاقيات، وبعد ذلك تُفعل الشرور الأثيمة جدًا؛ هذه هي الدرجات... فاسدون هم هؤلاء الرجال ونجسون بالآثام. إنهم يقولون: "إن كان ابن الله فلينزل من على الصليب". اُنظر فإنهم يقولون علانية: "إنه ليس إله". القديس أغسطينوس "فسدوا ورجسوا رجاسة، ليس من يعمل صلاحًا". يتحدث واضع المزمور عن الفساد العام الذي حلّ بالبشرية منذ سقوط آدم وحواء. "ورأى الله الأرض، فإذا هي قد فسدت، إذ كان كل بشرٍ قد أفسد طريقه على الأرض" (تك 6: 12). يستخدم المزمور كلمة "إلوهيم"، أي الله الخالق، فإن كانت الشعوب قد رفضت الدخول في عهد معه، ولم تقبل سكناه في وسطهم، فهو كخالقٍ محبٍ لخليقته، يتطلع على بني البشر جميعًا، لعلهم يفهمون سماته كمحب للبشر فيطلبونه. وكما جاء في المزمور 33: "من السماوات نظر الرب. رأى جميع بني البشر. من مكان سكناه تطلع إلى جميع سكان الأرض" (مز 33: 13-14). إن كان ثمرة الجهالة أو الحماقة أن يظن الإنسان أن الله منعزل في سماواته لا يبالي ببني البشر، فإن المرتل من جانب آخر، يبرز أن الله في تواضعه يستخدم التعبيرات البشرية. إنه يتطلع إلى جنس البشر لكي يسكب فيهم الفهم والحكمة، فيدركون رحمته، ويقبلون الدخول في عهدٍ معه. بقوله: "ارتدوا معًا" يبرز المرتل العمل الجماعي، وكأن البشرية قد اتفقت معًا على الارتداد عن الله خالقهم والمهتم برعايتهم. لقد رفضت البشرية الحق الإلهي، واتفقت معًا على السلوك في الطرق الملتوية. اَللهُ مِنَ السَمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي البَشَرِ لِيَنْظُرَ: هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ اللهِ؟ [ع2] يرى القديس أغسطينوس أن هذه العبارة تثير تساؤلًا: هل الله لا يعلم كل شيءٍ، حتى يتطلع من السماء لينظر؟ يجيب على هذا السؤال أن الكتاب المقدس كثيرًا ما يشير إلى أعمالٍ الله بطريقة بشرية من أجلنا نحن. فعندما يقول: "لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله" (1 كو 2: 10)، لا يعني أن الروح يحتاج إلى أن يفحص ليعرف أعماق الله، إنما كُتب هذا لكي نشتاق نحن أن نفحص الأسرار الإلهية بروح الله القدوس. هكذا عندما يقول هنا أن الله ينظر من السماء إلى بني البشر، فيجدهم جميعًا وقد حلّ بهم الفساد. لم يكن الله غير عالمٍ بهذا، إنما هذا التعبير غايته أن يعلن للبشرية حقيقتهم، ويطلب كل إنسانٍ الخلاص من الفساد الذي حلّ به كما بإخوته. 2. فساد جماعي كُلُّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا مَعًا، فَسَدُوا، لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ [ع3]. كلمة "ارْتَدُّوا" أو "مالوا إلى الوراء" تدل على أن الإنسان قد خلقه الله مستقيمًا، لكن بإرادته حاد عن الاستقامة وتعطل، لأنه قد عطَّل السيادة التي مُنحت له من الله، وخضع كعبدٍ للانفعالات الذميمة. لقد عطَّل حذاقة بصيرته، إذ صار يفضل الشر عن الخير. يقول القديس أغسطينوس إنه بهذا يهيئ كل إنسان للتمتع بالعمل الإلهي، فإن كان كل بني البشر قد فسدوا، لا يسرع الله في الحكم عليهم، بل يعمل ليقيم من بني البشر أبناء له. هذا ما يؤكده القديس أغسطينوس في تفسيره هذا المزمور! إن لم يتمتع البشر بالبنوة لله، يصير حال بني البشر الفاسدين هكذا: "ليس من يعمل صلاحًا، ليس ولا واحد". * قبل ظهور المسيح، كلمة الله بالجسد، كانت ظلمة الشيطان بالخطية والمعصية موجودة في جميع الأرض بغير نورٍ، وكما يقول النبي داود في المزمور الثالث عشر والمزمور الاثنين والخمسين: "تطلع الرب من السماء ليرى إن كان يجد من يفهم أو يطلب الله، فلم يكن ولا واحد" (مز 14: 2؛ مز 53: 3). فلما تجسد المسيح كلمة الله، النور المولود من الآب بغير انفصال منه، كالشعاع من الشمس، وأعطانا بالمعمودية الروح القدس، أضاء علينا وحرَّك بنا مخافته، وأشهر في قلوبنا نور مواعيده إشهارًا حقيقيًا، حتى صدقناه وحفظناه وأحببناه وحفظنا وصاياه[80]. القديس مار أفرام السرياني 3. يأكلون شعب الله كالخبز أَلَمْ يَعْلَمْ فَاعِلُو الإِثْمِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ شَعْبِي كَمَا يَأْكُلُونَ الخُبْزَ، وَاللهَ لَمْ يَدْعُوا؟ [ع4] هنا المتحدث هو الله نفسه، الذي قدم للبشرية ما يشبع كل احتياجاتهم. خلق كل شيء على الأرض وتحت الأرض لينعم الإنسان به. وفوق الكل قدم لهم نفسه ليُشبع أعماقهم به وبحبه الفائق. لكن الإنسان في شره يود أن يأكل أخاه. وكما قيل في سفر إرميا "اسكب غضبك على الأمم التي لم تعرفك، وعلى العشائر التي لم تدعُ باسمك، لأنهم أكلوا يعقوب؛ أكلوه وأفنوه وأخربوا مسكنه" (إر 10: 25). كما قيل: "ابتهاجهم كما لأكل المسكين في الخفية" (حب 3: 14). "الذين يأكلون لحم شعبي، ويكشطون جلدهم عنهم، ويهشمون عظامهم" (مي 3: 3). ماذا يحدث بالنسبة للصالحين الذين يفترسهم الأشرار؟ يجيب القديس أغسطينوس: [هذا الشعب الذي يُفترس، هذا الشعب الذي يعاني من الأشرار، هذا الذي يئن ويتألم وسط الأشرار، الآن يصيرون أولاد الله عوض كونهم بني البشر؛ بهذا فقد افترسوا (كبني البشر).] وماذا بالنسبة للأشرار؟ كثيرًا ما يردد القديس أغسطينوس أن الذئاب البشرية إذ تفترس الحملان البشرية وتشرب دماءها، تتحول من ذئاب مفترسة إلى حملان وديعة، كما حدث مع شاول الطرسوسي. يود الأشرار أن يفترسوا الناس ويبتلعوهم على الدوام وبلا توقف، كما يأكلون الخبز يوميًا، لكنهم إذ يأكلونهم يصير بعضهم أبناء لله بقبولهم الإيمان وتمتعهم بالعماد. * يُلتهم هذا الشعب الذي يُعاني من الأشرار، هذا الذي يتنهد ويتوجع وسط الأشرار، بهذا يُلتهمون. القديس أغسطينوس إذ حاصر الأشوريون أورشليم لم يراعوا الله بل أهانوه، لذلك أرسل ملاكه يرعبهم (2 مل 18). الذي لا يدعو الله لأجل الله نفسه، وإنما لأجل أمورٍ زمنيةٍ، يفقد فرحه ببهجة الخلاص، وعوض السلام يحل الخوف بلا سبب حقيقي سوى حرمانه من الله مصدر السلام. * البعض يدعون، ولكنهم لا يدعون ذاك الذي يُقال عنه: "والله لم يدعوا" (مز 53: 4). إنهم يدعون، ولكن لا يدعون الله. إنك تدعو ما تحبه؛ تدعو ما تنجذب إليه. فإن كنت تدعو الله لهذا السبب، لكي يأتيك المال؛ أن تنال ميراثًا، أو أن تأتيك رتبة عالمية، فأنت تدعو هذه الأمور التي تشتهيها أن تأني إليك، وتجعل من الله معينًا لتحقيق شهواتك، لا أن يكون صاغيًا لاحتياجاتك. ماذا إذا رغبت في شيء شرير، أما يكون رحيمًا بك ولا يعطيك إياه. وعندما لا يعطيه لك يصير الله كلا شيء بالنسبة لك، وتقول: كم من المرات أنا صليت، كثيرًا ما صليت لكنه لا يسمع![81] * يليق بنا أن ندعو الله، فنسأله لا بركاته الزمنية، وإنما نطلبه لشخصه. ألا يدعو هؤلاء الله يوميًا؟ إنهم لا يدعون الله. تنبهوا، إن كنت أنا قادرًا أن أقول لكم بعون الله نفسه يلزم أن يُعبد الله مجانًا (وليس من أجل الخيرات)، ليُحب لأجل ذاته مجانًا، أي يُحب بنقاوة، لا ليعطي شيئًا ما، وإنما ليعطي ذاته. فمن يطلب الله أن يكون غائبًا لا يدعو الله. القديس أغسطينوس هُنَاكَ خَافُوا خَوْفًا، وَلَمْ يَكُنْ خَوْفٌ، لأَنَّ اللهَ قَدْ بَدَّدَ عِظَامَ مُحَاصِرِكَ. أَخْزَيْتَهُمْ، لأَنَّ اللهَ قَدْ رَفَضَهُمْ [ع5]. "أخزيتهم" إن كان الله يسمح للأشرار أن يضايقوا شعبه ومؤمنيه فإلى حين، لكن "الساكن في السماوات يضحك. الرب يستهزئ بهم. حينئذ يتكلم عليهم بغضبه ويرجفهم بغيظه" (مز 2: 4-5). وكما قال الرب على لسان إشعياء بخصوص سنحاريب ملك أشور: "من عيَّرت وجدَّفت؟ وعلى من هلَّيت صوتًا؟ وقد رفعت إلى العلاء عينيك؟ على قدوس إسرائيل؟ على يد رُسلك عيرت السيد، وقلت بكثرة مركباتي قد صعدن إلى علو الجبال... ولكني عالم بجلوسك وخروجك ودخولك وهيجانك عليَّ. لأن هيجانك عليَّ وعجرفتك قد صعدا إلى أذني. أضع خزامتي في أنفك، الطريق الذي جئت منه" (2 مل 19: 22-23، 27-28). كان الأشوريون مطمئنين وفي أمان، وإذا بالرعب يحلّ عليهم، ويَهلك منهم مئة وخمس وثمانون ألف جنديًا (2 مل 19: 35). لم يكن هناك ما يثير الخوف من السيد المسيح الذي جاء لكي يخلص العالم، لا ليقيم لنفسه مملكه زمنية، ومع ذلك ارتعب من هيرودس وخطط لقتله، وارتعبت منه القيادات اليهودية وطلبوا صلبه. يرى القديس أغسطينوسأن الذي يدعو الله لا يسقط في الرعب، حيث لا يوجد ما يسبب رعبًا حقيقيًا، إذ يقول: [هل يوجد خوف إن فقد إنسان الغنى؟ لا يوجد خوف، ومع ذلك يخاف البشر في هذه الحالة. ولكن إن فقد إنسان الحكمة، فبالأولى يوجد خوف، ومع هذا فهم لا يخافون... إنك تخاف لئلا ترد المال (الذي وهبك الله إياه)، وتريد أن تفقد الخلاص.] "لأن الله يبدد عظام الذين يُرضون الناس" [ع5] من لا يدعو الله يخاف حيث لا يلزم الخوف، لأنه يهتم أن يرضي جسده وشهواته والناس أيضًا لا الله، أما من يدعو الله، فلا يخاف أحدًا سوى الله الذي يطلب إرضاءه. الأول إذ يطلب إرضاء الناس يتحطم، ويفقد هيكله الروحي، وتتبدد عظامه. * يبدد الله عظام الذين يُرضون الناس (مز 53: 5). لا يقصد هنا بالعظام تلك الخاصة بالجسم، إذ لا يوجد مثل لشخصٍ تتبدد عظامه هكذا. إنما يقصد هنا قوة العقل والقلب هذه التي بها يستطيع الإنسان أن يمارس الصلاح. هذه القوى التي للنفس هي الغيرة التي تقود إلى المثابرة الجادة، والنضوج الروحي، والصبر، والاحتمال. هذه السمات يبددها الله عند الذين يُرضون الناس[82]. * يبدد عظام الذين يرضون الناس... لأن الرغبة في إرضاء الناس هي دائمًا غذاء الكبرياء اللعين الذي يكرهه الله كما الناس، وهي رأس الكبرياء وجذوره. فمن يسقط ضحية هذا الهوى يشتهي الكرامة والمديح، وهذا أمر يبغضه الله، إذ يبغض المتكبرين، ولكنه يقبل المتواضع في فكره، ذاك الذي لا يطلب المجد؛ ويظهر له الرحمة[83]. القديس كيرلس الكبير * يلزم (المؤمن) أن يقدم تشكرات لله المهوب الممجد، القدوس. ولا يمارس شيئًا بروح الجدال والمجد الباطل (في 2: 3)، وإنما من أجل مجد الله ومسرته. "فإن الله يبدد عظام الذين يسرون بالشر" (مز 53: 5)[84]. القديس باسيليوس الكبير * يحذرنا الرسول قائلًا: "لا نكن مُعجبين" (غل 5: 26). ويوبخ الرب الفريسيين قائلًا: "كيف تقدرون أن تؤمنوا، وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعضٍ، والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه؟!" (يو4: 44)وعن هؤلاء أيضًا يتكلم داود المبارك مهددًا: "بدد الرب عظام من يمالقون الناس" (مز 53: 5)[85]. * ينبغي على جندي المسيح الذي يرغب في أن يجاهد قانونيًا في هذه المعركة الروحية الحقيقية أن يجاهد بكافة الطرق لقهر هذا الكائن غير السوي المتقلب المتعدد الأشكال، هذا الذي حين يهاجمنا من كل جانب مثل شتى الشرور المتنوعة، نستطيع أن ننجو منه بعلاج كهذا: التفكير في قول داود: "بدد الرب عظام من يمالئون الناس" (مز 53: 5). في البداية يجب علينا ألاَّ نسمح لأنفسنا أن نعمل أيّ شيء بدافع من الغرور أو لإحراز أيّ مجد باطل. كذلك حين نكون قد بدأنا في شيء على نحو حسن، علينا أن نجاهد لتدعيمه بذات القدر من العناية، خشية أن يتسلل إلينا مرضالمجد الباطل، ويلاشي كل ثمار أتعابنا[86]. القديس يوحنا كاسيان * إذا أردتَ ألاَّ يتعرّض لك أحدٌ، فتوسل إلى الله في الخفاء وصُم، فلن يؤذيك شيء. إذا قالت لك الشياطين أن تُرضي الناس فلا تقبل، واُذكر ما قاله الرب: "اِحترزوا من أن تصنعوا (أعمالكم الصالحة) قدام الناس، (بل) في الخفاء، فأبوكم الذي يرى في الخفاء هو يجازيكم علانيةً" (مت 6: 1-4). وإذا حرّضك الشيطان على أن تعمل على إرضاء الناس، اُنظر قول النبي: "سيُبدِّد الله عظام الذين يُرضون الناس، إنه سيُخزيهم، لأن الله يزدري بهم" (مز 53: 5 راجع الترجمة السبعينية)، وهو لا يستمع إلى صلاتهم، بل بالحري يسخط عليهم[87]. أنبا ثيئوفيلس البطريرك * "فليضيء نوركم هكذا قدام الناس لكي يَرَوا أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السماوات". لو قال: "فليضيء نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة" فقط، لبدا كأنه جعل مديح الناس هدفًا، هذا الذي يطلبه الهراطقة وملتمسو الكرامات والمتهافتين على المجد الزائل. وقد قيل عن هذه الجماعات: "فلو كنت بعد أُرضي الناس لم أكن عبدًا للمسيح" (غل 1: 10)، ويقول النبي عن الذين أرضوا البشر "أخزيتهم، لأن الله قد رفضهم"، و"لأن الله قد بدد عظام الذين يرضون البشر"(مز 53: 5)، ويقول الرسول: "لأنكم مُعجبِين" (غل 5: 26)، كما يقول: "ولكن ليمتحن كلُّ واحدٍ عمله، وحينئذٍ يكون لهُ الفخر من جهة نفسهِ فقط، لا من جهة غيرهِ" (غل 6: 4)[88]. القديس أغسطينوس 4. تهليل الكنيسة بالحرية الروحية لَيْتَ مِنْ صِهْيَوْنَ خَلاَصَ إِسْرَائِيلَ. عِنْدَ رَدِّ اللهِ سَبْيَ شَعْبِه،ِ يَهْتِفُ يَعْقُوبُ، وَيَفْرَحُ إِسْرَائِيلُ [ع6]. إن كان الجهل يفقد الجماعة (كما العضو) إيمانها بالله وسلوكها الروحي لتعيش في الفساد، لا تدعو الله لأجل ذاته، بل تطلب ما هو زمني، فتتبدد عظامها، وتفقد سلامها بل وكيانها، فإن الخلاص يهب الكنيسة تحررًا من سبي إبليس، فتمتلئ فرحًا وتهليلًا. يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن كلمة "إسرائيل" هنا تُطلق على كل مؤمنٍ ينظر الله بعقله، وكلمة "يعقوب" تُطلق على كل من يصارع ويتعقب العدو. وكأن الكنيسة المتهللة هي التي ترى بالإيمان الله مخلصها، وتجاهد بنعمة الله في معركتها ضد إبليس عدوها. لا يعني تعبير "ردّ الله سبى شعبه" أنه السبي البابلي، وإنما عودة الشعب إلى سابق مجده بعد أن أذله العدو إلى حين. هذا ما عناه الكتاب المقدس عندما تحدث عن سبي أيوب (أي 42: 10) حيث رده الرب إلى مجده السابق قبل دخوله في التجربة. رد السبي يعني العودة إلى المجد والعز كما ورد (حز 16: 53؛ صف 2: 7؛ عا 9: 14؛ هو 6: 11). إن كانت الخطية تذل الإنسان وتدخل بالنفس كما إلى السبي، فإن التوبة أو الرجوع إلى الله، يهب العتق من السبي، والتمتع بالتهليل مع العز والمجد. من وحي مز 53 آلام مثمرة * على الصليب قبلت أيها المخلص آلام الحب، فتمخَّضت بنا نحن كنيستك وأولادك! وهبت لنا أن نشاركك آلامك، لنتمخَّض نحن أيضًا بأولادٍ جدد، يتشكلون على مثالك! * سمحت لنا أن يلتهمنا الأشرار كالخبز، فيتحولون من أبناء للبشر إلى أبناء لله! يلتهموننا كل يوم بلا توقف، فتحول الضيق إلى شهادة حق مثمرة! * لا يدعوك الأشرار، لأنهم لا يعرفوك، فيُحرمون من السلام الداخلي، ويرتعبون بدون سبب! أما نحن فنراك، ونجاهد بنعمتك، نتحرر من سلطان العدو، وننعم بالفرح الدائم والتهليل السماوي! |
||||
28 - 01 - 2014, 05:08 PM | رقم المشاركة : ( 56 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 54 (53 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير الخلاص الأكيدمرثاة أم تسبحة؟ في المزمور السابق إذ يظن الجاهل أنه ليس إله، ينقض على الأبرار ليفترسهم، أو يلتهمهم كخبزٍ يوميٍ. وكأنه لا يستغني عن مقاومتهم واضطهادهم، وإن أمكن قتلهم. لكن الله يبدد عظام الشرير الذي لا يبالي بالله، بل يفتخر بشرَّه، ويطلب رضاء الناس. أما الأبرار فيهبهم الحرية الداخلية، ويقيم منهم إسرائيل الجديد، أي الناظر لله بعقله، ويعقوب الحقيقي الذي يصارع ويغلب. يهبهم الله الفرح الحقيقي، والتهليل الروحي الداخلي. يأتي بعده المزمور 54 ليقدم مثلًا حيًا وخبرة للخلاص الأكيد الذي تمتع به داود النبي، قدمه في شكل مرثاة، لا بل في شكل تسبحة، خلالها يعلن قوة اسم الله للخلاص. فقد هرب داود من وجه الملك شاول ورجاله؛ هرب الراعي الحقيقي الخفي من وجه الأجير الذي يهتم بنفعه الخاص، ولو على حساب غنم رعيته، أو قل هرب الحمل الوديع من أمام وجه الذئب. التجأ داود إلى زيف، مدينة في المنطقة الجبلية ليهوذا (يش 15: 55)، ليتمتع بحصون طبيعية. خاف أهل زيف من شاول، وكان يمكنهم أن يطلبوا من داود أن يفارقهم، لكنهم غدروا به، إذ جاءوا إلى شاول، وقالوا له: "أليس داود مختبئًا عندنا؟!" وأرادوا تسليمه له، أو تهيئة الجو لشاول ليقتله، والرب خلصه! تسبحة الصليب يرتل المؤمن كما الكنيسة معًا في بدء صلاة الساعة السادسة بهذا المزمور، بكونه تسبحة الصليب! يشارك المؤمن مسيحه المصلوب، فإن كان السيد قد حمل بإرادته خطايا العالم كله ليكفِّر عنها بدمه، فإن المؤمن كعضوٍ في جسد المسيح لا يطيق الخطية. يصرخ إلى الله ملتجأ إلى دم المسيح الثمين، ليحطم الشر ويطأ إبليس وقواته تحت قدميه، مقدمًا ذبيحة الحمد لاسم الرب مخلص العالم. تستخدم بعض الكنائس هذا المزمور في طقس الجمعة العظيمة. الإطار العام 1. الخلاص في اسم الله 1-3. 2. الله معين لي 4-5. 3. ذبيحة الشكر 6-7. من وحي مز 54 العنوان لإِمَامِ المُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ الأَوْتَارِ. قَصِيدَةٌ لِدَاوُدَ عِنْدَمَا أَتَى الزِيفِيُّونَ، وَقَالُوا لِشَاوُلَ: أَلَيْسَ دَاوُدُ مُخْتَبِئًا عِنْدَنَا؟ كتب داود النبي هذا المزمور، أو وضعه عندما خانه الزيفيون، ووضعوا على عاتقهم أن يأسروه، لكن الله خلصه من مؤامرتهم. سجل لنا سفر صموئيل الأول حادثين تعرض فيهما داود للوقوع في يديّ شاول (1 صم 23: 14-29؛ 26: 1-25). لا نعرف في أي الحادثين سجل لنا داود هذا المزمور، غير أن غالبية الدارسين يرون أنه في المرة الأولى، فيكون النبي قد سجل المزمور في عين جدي بعد خلاصه الأول، وليس في جت بعد خلاصه في المرة الثانية[89]. "فصعد الزيفيون إلى شاول إلى جبعة قائلين: أليس داود مختبئًا عندنا في حصون في الغاب في تل حخيلة التي إلى يمين القفر. فالآن حسب كل شهوة نفسك أيها الملك في النزول انزل وعلينا أن نسلمه ليد الملك. فقال شاول: مباركون أنتم من الرب لأنكم قد أشفقتم عليّ. وصعد داود من هناك، وأقام في حصون عين جدي" (1 صم 23: 19-21، 29). تحوي هذه المرثاة صرخة تعبِّر عن الثقة في خلاص الله الكامل للمؤمنين المتألمين عبر كل الأجيال، خاصة في الضيقة العظمى. يرى البعض أن النبي المتألم هنا هو رمز للسيد المسيح ابن داود المتألم لأجلنا. يرىالقديس أغسطينوس أن كلمة "زيف" معناها "مزخرف" أو "مزيف" أو "مزدهر" إلى حين. وكأن الذين خانوا داود كانوا مزيفين كالعشب الذي يزهو وينمو إلى حين، لكن سرعان ما يذبل. لقد ظن الزيفيون أنهم يزدهرون بخيانتهم داود، لكن خطتهم فشلت وهلكوا، بينما خرج داود من الضيقات غالبًا ومنتصرًا[90]. * لم تكن خيانتهم لصالحهم، ولا أضرَّت داود. كان داود في البداية مختبئًا، وأما أعداؤه فكانوا مزدهرين. لاحظ داود المختبئ في قول الرسول عن أعضاء المسيح: "قد متُّم، وحياتكم مستترة مع المسيح في الله" (كو 3:3). كانوا مختبئين (مستترين في المسيح) فمتى يزدهرون؟ يقول: "متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تُظهرون أنتم أيضًا معه في المجد" (كو 3: 4). عندما يزدهر هؤلاء (المستترون في المسيح) يذبل أولئك الزيفيون. لاحظ بأية زهرة قُورن مجد الزيفيين: "كل جسد عشب، وكل جماله كزهر (الحقل)" (إش 40: 6). ما هي نهايتهم؟ "يبس العشب، ذبل الزهر". ما هي نهاية داود؟ لاحظ ما قيل بعد ذلك: "وأما كلمة الرب، فتثبت إلى الأبد" (راجع إش 40: 8)... أتريدون أن تكونوا زيفيين؟ إنهم يزهرون في العالم، ويذبلون في الدينونة، وإذ يذبلون يلقون في نار أبدية؛ أتختارون هذا...؟! لقد كان ربُك مُختبئًا هنا، وكل الصالحين مختبئين هنا، لأن صلاحهم داخلي ومخفي في القلب حيث يوجد الإيمان والحب والرجاء، حيث يكون كنزهم... كل هذه الأمور الصالحة مخفية، ومكافأتها مخفية. القديس أغسطينوس 1. الخلاص في اسم الله ذهب شاول إلى جانب الجبل، وداود على الجانب الآخر، وبينهما صخور كثيرة وعرة لا يمكن عبورها. كانا ينظران الواحد الآخر، لكن لا يمكن لشاول الوصول إليه إلا من خلال دوران طويل. أرسل شاول فريقًا من جانب، وفريقًا من جانبٍ آخر حتى لا يفلت داود من أيديهم، بل يُحاط من كل ناحية. ولكن الله أوجد لداود منفذًا، إذ جاء رسول إلى شاول يقول له: "أسرع وانزل، لأن الفلسطينيين قد اقتحموا الأرض" (1 صم 23: 27). يُقال إنهم اقتحموا أرضه الخاصة[91]. أدرك داود النبي أن خلاصه قد تحقق لا بتخطيطٍ بشريٍ، ولا بقدرةٍ إنسانيةٍ، ولا ثمرة مصادفات، إنما باسم رب الجنود. لذا ترنم، قائلًا: اَللهُمَّ بِاسْمِكَ خَلِّصْنِي، وَبِقُوَّتِكَ احْكُمْ لِي [ع1]. هذه هي خبرة داود النبي منذ صباه، تحدث بها وهو غلام مع شاول الملك الذي قال له: "لا تستطيع أن تذهب إلى هذا الفلسطيني (جليات) لتحاربه، لأنك غلام وهو رجل حرب منذ صباه"، فأجابه: "الرب الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب، هو ينقذني من يد هذا الفلسطيني" (1 صم 17: 37). وفي مقاومته لجليات قال: "أنت تأتي إليّ بسيف ورمح وترس؛ وأنا آتي إليك باسم رب الجنود..." (1 صم 17: 45). يُدرك المرتل ما لاسم الله من قوة، فيقول: "على اسمه القدوس اِتكلنا" (مز 33: 21). "أيها الرب ربنا، مثل عجبٍ صار اسمك على الأرض كلها" (مز 18: 1). "باسمك ندوس القائمين علينا" (مز 44: 5). "باسمك أرفع يدي، فتشبع نفسي كأنها من شحمٍ ودسمٍ" (مز 66: 4). "أعنا يا الله مخلصنا من أجل مجد اسمك، يا رب تنجينا وتغفر لنا خطايانا من أجل اسمك" (مز 79: 9). "باسمك طول النهار يبتهجون" (مز 89: 16). هكذا يرى المرتل في اسم الله سرّ الخلاص، فعليه يتكل، وفيه يجد عجبًا يملأ الأرض كلها، وبه يحطم العدو إبليس، ويرفع يديه لتشبع نفسه، ومن أجله يتمتع بغفران الخطية، وتتحول حياته إلى بهجة مستمرة بلا انقطاع. واضح هنا أن "الاسم" الإلهي يعني "الحضرة الإلهية"، والتمتع بالعمل الإلهي، وليس مجرد ترديد الاسم بالشفاه. إذ يقول الأشرار للسيد المسيح: "أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟!" (مت 7: 22)، فيجيبهم: "إني لم أعرفكم قط؛ اذهبوا عني يا فاعلي الإثم" (مت 7: 23). ليتنا لا نستغل اسم الله المخلص لغير خلاص نفوسنا، فإنه قد وُهب لنا لنجد فيه عذوبة الخلاص. نناديه باسمه، فينادينا بأسمائنا. نطلب باسمه أن نخلص، فيحملنا إلى أحضانه، ونترنم قائلين: "اللهم باسمك خلصني، وبقوتك أحكم لي" [ع1]. لقد اهتم أهل زيف بإرضاء شاول، أما داود فالتجأ إلى اسم الله، وسلم له كل أموره بكونه الحاكم الأعظم وديان الجميع. ليس غريبًا أن يتعرض المؤمنون في كل الأجيال للخيانة حتى من ذويهم، حتى يصيروا مقاومين لهم أكثر من الأعداء، الأمر الذي يسبب لهم حزنًا شديدًا، لكن الحزن لا يقدر أن يبتلعهم، إذ يدركون أنهم في يد الله الديان العادل، الذي يسمح لهم بالضيق، لكن إلى حين. يرى القديس أغسطينوس أن الكنيسة مثل داود، تختفي بين أهل زيف. بينما يمارس أهل زيف الخداع، ويدبرون مؤامرات. تجد الكنيسة المُضطهدة في اسم عريسها المصلوب المُهان خلاصها، وفي قوة صليبه ما يقيمها في يوم الدينونة أو الحكم العظيم. * كما يقول معلم الأمم إنه لا يعرف شيئًا بيننا "إلا يسوع المسيح وإيّاه مصلوبًا" (1 كو 2:2)، لكي ما نفضل الاسم الذي له عن زهو الزيفيين. ومع ذلك فماذا يقول عنه؟ "إن كان قد مات عن ضعفٍ، لكنه يحيا في قوة الله". إذن جاء لكي يموت في ضعفٍ، وسيأتي ليدين في قوة الله. لكن خلال ضعف الصليب صار اسمه مشهورًا. من لا يؤمن بالاسم الذي صار مشهورًا خلال الضعف يصير في رعب أمام الديان عندما يأتي بقوة. القديس أغسطينوس إذن اسم "يسوع" الذي يعني "الله خلاص"، هو سرّ خلاصنا وتبريرنا في يوم الدين، وهو عينه مُرعب للأشرار الرافضين خلاصه. * اسم الله عظيم الجلال وكلي القدرة؛ بالنسبة للمؤمنين يكون نصرة ومعونة، أما بالنسبة للمقاومين فانكسارًا وإبادة... لا يزال إلى الآن اسم ربنا إذا دُعي بإيمان يصنع خلاصًا. داود أيضًا يطلب الخلاص باسم الله، وبقدرته يقيم الحكم بينه وبين أعدائه والانتقام منهم، دون أن يفتخر ببرّه (الشخصي). لنسأل نحن أيضًا غفران خطايانا، ونجاتنا من الشدائد في هذا العالم وفي الآخرة، لكن ليس بأعمالنا، وإنما باسم ربنا المدعو علينا. الأب أنثيموس أسقف أورشليم "اُحكم لي": لا يعتمد المؤمن على برِّه الذاتي، إنما على نعمة الله ومحبته، واثقًا في إمكانية مخلصه. يواجه عدو الخير، فيقول مع داود: "يكون الرب الديان، ويقضي بيني وبينك، ويرى ويحاكم محاكمتي، وينقذني من يدك" (1 صم 24: 15). كما يقول: "لأنك أقمت حقي ودعواي؛ جلست على الكرسي قاضيًا عادلًا" (مز 9: 4). "اَقضِ لي يا الله، وخاصم مخاصمتي مع أمة غير راحمة، ومن إنسانٍ غش وظلم نجني" (مز 43: 1). إدراك المرتل لقوة اسم الله للخلاص دفعه إلى حياة الصلاة الداخلية، والصراخ أيضًا بشفتيه، واثقًا في إمكانية الاستجابة: اسْمَعْ يَا اللهُ صَلاَتِي. أصْغَ إِلَى كَلاَمِ فَمِي [ع2]. * ما الفارق بين الاستماع إلى الصلاة والإنصات إلى كلام الفم؟ تشير الصلاة إلى حديث القلب السري مع الله أو الاتصال به، ولو بلغة الصمت، فكثيرًا ما يسمع الله ما نصرخ به في قلوبنا، ولا نستطيع أن تعبر عنه بكلماتنا. ليس سلاح آخر أقوى من الصلاة. إذا كانت بنية صالحة يستمع إليها الله، وإذا ما قربها المصلي بأعمال صالحة يستجيب لها، وينصت إليها. الأب أنثيموس الأورشليمي * أرسلها إلى أذنيك، فاسند (صلاتي) حتى تبلغ الطريق، ولا تسقط سريعًا وسط الطريق، وتخور كأنها ساقطة. القديس أغسطينوس * الصلاة هي أن تتكلم بعظم دالة، محاورًا الله. إن كنا بالهمس دون فتح الشفتين نتحدث في صمتٍ، فإننا نصرخ من الداخل. الله يسمع على الدوام كل حديث داخلي[92]. القديس إكليمنضس السكندري يرى القديس أغسطينوسأن سرّ استجابة الله لصلوات داود، وإعطاء أذنيه لكلام فمه، هو تسليم الأمر بين يدي الله، تاركًا القرار بين يديه، إذ يقول: [أنت مريض، فلا تُملي على الطبيب الأدوية التي يختارها لك. إن كان معلم الأمم، بولس الرسول، يقول: "لأننا لسنا نَعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي" (رو 8: 26)، فكم بالأكثر يكون حالنا نحن؟!] كما يقول: [ليت المريض لا ينسحب من بين يدي الطبيب، ليته لا يقدم مشورة للطبيب. ليكن الأمر هكذا في كل الأمور الزمنية.] إذ يفتح المرتل قلبه وفمه للحديث الصريح مع الله، يشتكي أعداءه الروحيين، ليس رغبة في الانتقام، وإنما لطلب خلاص نفسه حتى لا يهلك أبديًا. لقد قدم ثلاث سمات للأعداء: أ. غرباء.لأَنَّ غُرَبَاءَ قَدْ قَامُوا عَلَيَّ، وَعُتَاةً طَلَبُوا نَفْسِي. لَمْ يَجْعَلُوا اللهَ أَمَامَهُمْ. سِلاَهْ [ع3]. غرباء: كان الزيفيون من ذات سبط داود، أي من سبط يهوذا، لكن كان لهم روح الغرباء. قد يكون الإنسان قريبًا لك، من عائلتك، لكنه عوض أن يعينك يقف ضدك. فقد جاء السيد المسيح إلى خاصته، وخاصته لم تقبله. كما قال السيد: "أعداء الإنسان أهل بيته" (مت 10: 36). حينما يستغل عدو الخير أقرب من لك لتحطيم حياتك الروحية وإفساد نفسك، إنما يحمل روح التغرُّب والعداوة. "عتاة": في عتاب أيوب لأصدقائه يصرخ: "هل قلت أعطوني شيئًا؟ أو ومن مالكم ارشوا من أجلي؟ أو نجوني من يد الخصم أو من يد العتاة افدوني؟" (أي 6: 22-23). وجاء الوعد الإلهي: "أنقذك من يد الأشرار، وأفديك من كف العتاة" (إر 15: 21). "لم يجعلوا الله أمامهم": لا يخشون الله، ولا يعطون أي اعتبار لوصاياه وكلمته وإرادته. وكما قيل عن معصية الشرير: "نأمة (أنين داخلي) معصية الشرير في داخل قلبي أن ليس خوف الله أمام عينيه" (مز 36: 1). فالشرير، لا يخشى الله، ولا يبالي بوصيته الإلهية أو الكلمة الإلهية، حاسبًا كلمة الله (السيد المسيح) عدوًا ضده وخصمًا، فيعطيه ظهره، ولا يجعله أمامه. الشر يفسد القلب، فلا يطيق النور الإلهي، ولا يحتمل رؤية المسيح المصلوب. يقول القديس أغسطينوس: [عندما يحب البشر خطاياهم يبغضون وصايا الله؛ ويصير حكمة الله (المتجسد) خصمًا لكم إن صرتم أصدقاء لشروركم. لكن إن صرتم خصمًا لشروركم، يكون كلمة الله صديقًا لكم، وخصمًا لشروركم[93]]. * الإنسان المتغرب عن كنيسة الله يضطهدها، حاسبًا أنه قوي، ليس من قوة تروعه. مثل هذا لا يجعل الله أمامه، بل يتكل على قوته أو سلطانه أو ممتلكاته أو أصدقائه. الزيفيون غرباء، وشاول وجنوده هم الأقوياء. أيضًا يدُعى الذين تغرَّبوا عن الله غرباء... ولو أنهم بنو جنسنا وأقرباؤنا، لأنهم يطلبون هلاك نفوسنا، إذ لم يعبأوا بعناية الله، وتهاونوا بقدرته. الأب أنثيموس الأورشليمي * عندما لا يضع الإنسان الله أمام وجهه، ماذا يكون أمام عينيه إلا العالم؟ بمعنى آخر يجمع مالًا على مالٍ، ويهتم أن يزيد القطيع، وتمتلئ مخازنه، فيقول لنفسه: "يا نفسي لكِ خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة، استريحي وكُلي واشربي وافرحي" (لو 12: 19). القديس أغسطينوس * نعم إن الذين يتكلمون بكلام الله أمام الله يفهمون أنهم قد قبلوا كلمات التعليم من الله، وبهذا يجب أن يسعوا لمسرة الله، وليس لمسرة ذواتهم. كذلك ينبغي أن ينصتوا إلى قول الكتاب: "مكرهة للرب كل متشامخ القلب" (أم 16: 5). من الواضح أن هؤلاء عندما يسعون وراء مجدهم الباطل باستغلال كلمة الله، يغتصبون حق الله الواهب المعطي، لأنهم لا يخشون سلب المديح من الذين قبلوا التعليم بأمورٍ مقدسة. ليسمعوا كذلك ما يقوله سليمان للمعلمين: "اشرب مياهًا من جُبِّكْ، ومياهًا جارية من بئرك، لا تفض ينابيعك إلى الخارج، سواقي مياه في الشوارع، لتكن لك وحدك، وليس لأجانب معك" (أم 5: 15-17)[94]. فعندما يفحص المعلم أعماق قلبه، وينصت إلى ما يقوله، يشرب من جُبِّه. وهو يشرب من المياه الجارية من بئره، إذا تأثر بارتوائه من ينبوع الكلمة. وعندما أضاف: "لا تفض من ينابيعك إلى الخارج، سواقي مياه في الشوارع" يقصد أنه ينبغي أن يشرب الراعي أولًا ثم بعد ذلك يروي الآخرين بالتعليم. إن فيض الينابيع إلى الخارج ما هو إلا تقطير التعليم كالماء بقوة في الآخرين. وتعني "سواقي المياه في الشوارع" توزيع الكلمة الإلهية بين جموع غفيرة من السامعين، كلٌ حسب شخصيته. ولأنه مع امتداد كلمة الله إلى معرفة الكثيرين يحشر المجد الباطل نفسه، هكذا جاء القول المناسب: "لتكن لك وحدك، وليس لأجانب معك". في هذا المجال تدعو الحكمة الأرواح الشريرة "بالغرباء". لقد كتب النبي عن المجرَّبين قائلًا: "لأن غرباء قد قاموا عليّ، وعتاة طلبوا نفسي" (مز 54 :3). لذلك يقول لتبقَ سواقي المياه في الشوارع لك وحدك، ويعني هذا أنه من الضروري أن يخرج الراعي للتعليم كالسواقي في الشوارع، ولكن عليه ألاَّ يتحالف مع الأرواح النجسة وذلك من خلال الغرور. ينبغي ألاَّ نتخذ من الأعداء شركاء في خدمة الكلمة الإلهية. علينا بذلك أن نبث تعليمنا بعيدًا ليتسع دون أن تغرينا أية رغبة في المديح الباطل[95]. الأب غريغوريوس (الكبير) 2. الله معين لي صار أقربائي حسب الجسد غرباء ومقاومين لي، أما أنت أيها السماوي، فصرت قريبًا لي، تعينني وتنصرني. هُوَذَا اللهُ مُعِينٌ لِي. الرَبُّ بَيْنَ عَاضِدِي نَفْسِي [ع4]. يمكننا القول بأن العبارات السابقة تمثل مرثاة للصليب! لكن ليس مرثاة الحزن المملوءة يأسًا، إنما مرثاة البشرية التي لا تدرك حب الله وعمله الخلاصي. الآن خلال الصليب تتحول المرثاة إلى تسبحة بهجة بالخلاص، وترنم بالقيامة واهبة الحياة الجديدة الفائقة. "هوذا الله معين لي؛ الرب بين عاضدي نفسي"، وكما سبق فقيل: "أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت، لأن الرب يعضدني" (مز 3: 5). وأيضًا: "رد لي بهجة خلاصك، وبروح منتدبة أعضدني" (مز 51: 12). يَرْجِعُ الشَرُّ عَلَى أَعْدَائِي. بِحَقِّكَ أَفْنِهِمْ [ع5]. "أعدائي": يقصد بهم عدو الخير وقواته الذين يجولون للافتراس. وكما جاء في هوشع: "فأكون لهم كأسدٍ؛ أرصد على الطريق كنمرٍ" (هو 13: 7). إنه يطلب من مخلصه أن يحطم إبليس، فلا يقوى بعد على مقاومة أولاد الله. * ليعلنوا تغربهم عن الله وعني، وليستخدموا كل العنف ضدي، متجاهلين وجه الله. فإنني لا أخاف مادام الله في جانبي. بترك الأشرار يجتنون ثمرة أفعالهم، يرد عليهم أعمالهم الشريرة. هم يطلبون أن يستأصلونني، فيستأصلوا أنفسهم. كيف يعينك (الله)؟ "الرب رافع نفسي"... ينتعش هؤلاء الرجال (الأشرار) في إخلاصهم للعالم، لكنهم يهلكون بقوة الله. ليس كما ينتعشون هكذا يُستأصلون. فإنهم ينتعشون إلى زمانٍ، ويهلكون إلى الأبد. ينتعشون في خيرات باطلة، ويهلكون في عذابات حقيقية. القديس أغسطينوس 3. ذبيحة الشكر مقاومة شاول ورجاله لداود قدمت للمرتل خبرة جديدة في معاملات الله الحانية المجانية، لذا يرد هذا الحب بالحب، مقدمًا قلبه وحياته كلها ذبيحة محرقة. يقدمها طوعًا بسرورٍ وبهجةٍ دون انتظار لجزاءٍ زمنيٍ. أَذْبَحُ لَكَ مُنْتَدِبًا (طوعًا). أَحْمَدُ اسْمَكَ يَا رَبُّ، لأَنَّهُ صَالِحٌ [ع6]. * ماذا أقدم إلاَّ ما تطلبه: "ذبيحة التسبيح تمجدني" (مز 50: 23). لماذا "طوعًا"؟ لأنني بالحق أحب ما أسبحه. إنني أسبح الله، وفي هذا التسبيح أفرح، في تسبيحي إياه أفرح، ولا استحي. ماذا يعني "طوعًا"؟ لأجل الله نفسه، وليس لأجل مكافأة. لأنك إن كنت تسبح الله لكي يهبك شيئًا آخر، فأنت لا تحب الله مجانًا. "فأذبح لك طوعًا"؛ لا تفعل ذلك عن ضرورة. لأنك إن كنتَ تُسبح الله لنوال شيءٍ آخر، فإنك تسبحه عن ضرورة... "واعترف لاسمك يا رب، فإنه صالح... لا أجد شيئًا أفضل من اسمك. القديس أغسطينوس * أنصت إلى صوت النبي: "أذبح لك طوعًا يا رب". تعلم كيف تقدم احتمالًا للمشقةٍ بإرادتك الحرة. الإنسان الذي يكتشف إهماله، متهمًا نفسه، ومحتملًا طوعًا المشقة، لن يعبر به يوم دون أن يتأسف... ليتأمل كل واحدٍ منكم في عطية الحرية العجيبة التي يهبها المسيح لشعبه المخلص خلال الميلاد الجديد واهب الحياة...، وخلال سكب الروح القدس. إنه يدرك أن الله لن يُخدم بفتورٍ. فإننا وإن قدمنا لله كل يوم أية كرامة أو عطية في مقدورنا، لن نفيه حقه... إذن، ليتنا فوق كل شيء نحرر قلوبنا من الالتصاق بالشر، حتى يمكننا بطريقة أفضل أن نقتات بثمار العدل... "أذبح لك طوعًا". لم يستخدم النبي هذه العبارة بلا سبب حين يودع نفسه لدى الله. كان يدرك أن كثيرين قدموا خدمتهم عن إلزام، فكانت قلوبهم معارضة للخدمة. كانوا يعدون بشيءٍ بأفواههم، ويدبرون في قلوبهم شيئًا آخر. "أذبح لك طوعًا"، فإنه وإن كانت العطايا قليلة في ذاتها، فإنها تصير عظيمة بسبب الرغبة في تقديمها بمسرة. أما تلك التي عن إلزام، فغالبًا ما تُفسد مقدم العطية. هكذا من يُعد مائدة عن تغصبٍ، يشتكي دومًا من تكلفتها. "أذبح لك طوعًا"، بمعنى أقدم العطية طوعًا. لتقدم تقدمة لخالقك كل يومٍ بفرحٍ، تقدم القليل بلسانك، وتُعد عطية التسبيح بكلمات تنطق بالعذوبة. أسرع أيضًا بروح التقوى لتتمم الخدمة المعهود بها إليك. لتهتم بكلمات النبي "تقدمات فمي طوعًا مقبولة يا رب"[96]. الأب فاليريان لأَنَّهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ نَجَّانِي، وَبِأَعْدَائِي رَأَتْ عَيْنِي [ع7]. يتحدث هنا المرتل في يقين خلال خبرته الماضية، فقد اختبر الله كمخلصٍ له من كل ضيقٍ، ورأى بعينيه فشل عدو الخير بالرغم مما بذله من تدبير خطط وتكريس طاقاته لتحطيم أولاد الله. إنها ليست بهجة بتدمير إنسانٍ ما، إنما بتدمير قوات الظلمة الروحية! من وحي مز 54 عجيب هو اسمك يا رب! * عجيب هو اسمك يا رب! فهو قوتي للخلاص، عليه أتكل (مز 33: 21)، وفيه أرى المسكونة كلها قد امتلأت عجبًا (مز 8: 1، 9)، وبه أطأ عدو الخير تحت قدمي (مز 44: 5)، وأرفع يديَّ، فتشبع نفسي من دسم محبتك (مز 63: 4)، ومن أجله أنال غفران الخطايا (مز 79: 9)، وتتحول حياتي إلي نهارٍ مبهجٍ، لا يدخل إليه روح الغم (مز 89: 16). * علمني كيف أنادي اسمك بروح الحب، أجد فيه كل لذتي، فتناديني باسمي، كما ناديت زكا، وتدخل إلى بيتي، وتعلن حلول الخلاص فيه! * اسمك حلو في أفواه قديسيك، فيه عذوبة الخلاص، وفيه علامة الشركة معك. أناديك، وأَتحد بك، وأحتمي فيك! * صرتَ أيها السماوي قريبًا لي، قبلتني عضوًا في جسدك، أيها السماوي. أقربائي حسب الجسد، صاروا غرباء، قاوموني بلا سبب. إلا أنهم لم يضعوك أمام وجوههم. * ليبذل الأشرار كل جهدهم لاستئصالي، فيرتد عملهم عليهم ويُستأصلون. ما أرادوه لي سقطوا فيه. * أنت معيني ومخلصي! أسبحك، وأعترف لاسمك طوعًا. أود أن أقتنيك، ومعك لا أطلب شيئًا. |
||||
28 - 01 - 2014, 05:13 PM | رقم المشاركة : ( 57 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 55 - تفسير سفر المزامير يا ليت لي جناحيّ حمامة!مرثاة أم تسبحة؟! جاء عنوان هذا المزمور في الترجمة السبعينية: "في التسابيح"، ودُعي في العبرية "قصيدة لداود"، مع أن المزمور في حقيقته هو مرثاة شخصية كتبها داود النبي وهو مرّ النفس. كتبها حين شاهد ألصق صديق له، وهو أخيتوفل، الذي أقامه مشيرًا له، كان يأكل معه، ويسير معه في بيت الرب، يحرض ابنه أبشالوم، ويخطط له، لا ليحتل كرسيه فحسب، وإنما ليأتي برأسه (2 صم 15). ما أصعب على النفس أن ترى الصديق الحميم قد انقلب إلى عدوٍ عنيفٍ ومخادعٍ بلا سبب! ومع هذا كله فقد سجل لنا النبي مرثاته بروح التسبيح والفرح، إذ لم يتطلع إلى خيانة أخيتوفل أو تمرد أبشالوم، وإنما انسحب كل قلبه وفكره إلى معاملات الله معه. لقد حوّل الله مرثاته إلى تسبحة! داود أم إرميا؟! يرى بعض المفسرين المُحدثين أن المزمور يناسب إرميا النبي الذي اشتهى الهروب إلى البرية، قائلًا: "يا ليت لي في البرية مبيت مسافرين، فأترك شعبي، وانطلق من عندهم، لأنهم جميعًا زناة، جماعة خائنين" (إر 9: 2)، ويقول المرتل: "قلت من يعطيني جناحًا كالحمامة، فأطير وأستريح. هأنذا قد ابتعدت هاربًا وسكنت البرية" [ع6-7] جاء في الترجمة السبعينية والقبطية: "قلت من يعطيني جناحين كالحمامة". لقد عانى إرميا من خيانة إخوته وبيت أبيه (إر 12: 6)، كما ضربه فشحور الكاهن وجعله في مقطرة (إر 20: 2)، ويقول المرتل: "لو كان العدو عيَّرني إذًا لاحتملت، ولو أن مبغضي عظَّم عليَّ الكلام لاختفيت منه..." [ع12]. على أي الأحوال ليس إرميا وحده ولا داود وحده، إنما أغلب الأنبياء قد عانوا من أقربائهم ومن بني جنسهم. إذ لا يحتمل الأشرار الحق؛ وقد عانى السيد المسيح نفسه رب الأنبياء من خيانة تلميذه يهوذا. وقد أكد لنا السيدالمسيح أن أعداء الإنسان أهل بيته (مت 10: 36؛ مي 7: 6). الإطار العام 1. صرخة من أجل الضيق 1-5. 2. يا ليت لي جناحي حمامة 6-8. 3. فرق ألسنتهم 9-11. 4. أعداء الإنسان أهل بيته 12-15. 5. استجابة الله 16-21. 6. الاتكال على الله 22-23. من وحي المزمور 55 العنوان لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ الأَوْتَار. قَصِيدَةٌ لِدَاوُدَ. حسب الترجمة السبعينية: "فهمًا لداود؛ في الآخرة، وفي التسابيح". 1. "فهمًا لداود": تحتاج الكنيسة إلى روح الفهم كعطية إلهية، بها تدرك أن ما جاء في المزمور هو رمز لما تم في حياة "ابن داود" الذي تعرض لمحاولة اغتيال بني جنسه له، ومؤامرة تلميذه يهوذا. 2. "في الآخرة" أو "في النهاية". يقول القديس أغسطينوس: [لننتبه إذًا إلى النهاية، إلى المسيح. لماذا يُدعى النهاية؟ لأن في كل ما نفعله نرجع إليه.] 3. "في التسابيح": مادام المسيح ابن داود هو غايتنا أو نهايتنا، فإن فيه يكمل فرحنا، وتتحول حياتنا إلى تسابيح لا تنقطع. يقول القديس أغسطينوس: [يليق بقلب المسيحي وفمه ألاَّ يكفَّا عن التسبيح لله ، فلا يمجّداه في الفرج، ويتذمّرا عليه في الشدة.] 1. صرخة من أجل الضيق أصغِ يَا اللهُ إلى صَلاَتِي، وَلاَ تَتَغَاضَ عَنْ تَضَرُّعِي [ع1]. سِرّ سلام المؤمن وسط ضيقته أن يرى الله قد أمال أذنه ليسمع تنهدات قلبه الخفيّة في وسط الضيق، فهذا فيه كل العزاء لنفسه والشبع لقلبه. يقول المرتل: "أنا دعوتك، لأنك تستجيب لي يا الله، أمل أذنك إليَّ، اسمع كلامي" (مز 17: 6). "فلتأتِ قدامك صلاتي، أمل أذنك إلى صراخي" (مز 88: 2). ويقول دانيال النبي: "أمل أذنك يا إلهي واسمع، افتح عينيك واُنظر خربنا والمدينة التي دُعي اسمك عليها، لأنه لا لأجل برّنا نطرح تضرعاتنا أمام وجهك، بل لأجل مراحمك العظيمة" (دا 9: 18). يقف رجال الله على أبواب مراحم الله يقرعون باستمرار، إذ يدركون أنه لا نجاح لهم، ولا خلاص، ما لم يمل الله أذنه إليهم ويسمع صرخاتهم. حقًا إن الله قريب جدًا من أولاده، لكنه يطلب سؤالهم منه، واتكالهم عليه، وليس على آخر غيره. في وقت الضيق، خاصة إذا اشتد حتى بدا غير محتملٍ يبدو الله وكأنه قد انسحب أو تغاضى عن صلاة المؤمن، لذا يصرخ المرتل: "لا تتغاضَ عن تضرعي". * أنت يا الله يا من صفاتك الغيرة والرحمة والشفقة، لا تمد عليّ سلطان (جبروت) يمينك. سوف يغرقني قلبي القاسي في لجة الهاوية تعيسًا. أصغِ يا رب، يا إلهي، وانظر (مز 55: 1)، فإنك قدوس (مز 55: 1), اُنظر، فإن أعدائي قد قاموا عليّ، قائلين: إن الله قد تخلى عنه (مز 71: 11)، فطارِدوه، واقبضوا عليه، لأن لا منقذ له. وأنت يا الله... فإلى متى؟ (مز 6: 3) عُد ونج نفسي - وأنقذني من أجل رحمتك. ارحم ابنك الذي أعطيته ميلادًا. القديس أغسطينوس اسْتَمِعْ لِي، وَاسْتَجِبْ لِي. أَتَحَيَّرُ فِي كُرْبَتِي، وَأضْطَرِبُ [ع2]. يعترف المرتل أنه في حالة اضطراب شديد وقلق. يرى البعض أن الكلمة المترجمة هنا "أتحير" تُستخدم عن الحيوانات حينما تجول هنا وهناك في حالة هياج، خاصة الجِمال، إذ تفقد اتزانها، ولا تعرف كيف تتصرف. وكما جاء في هوشع: "لم يزل يهوذا شاردًا عن الله، وعنالقدوس الأمين" (هو 11: 12). لقد شعر المرتل أنه أشبه بجملٍ في حالة هياج بلا وعي، عاجز عن تدبير أمره، ومحتاج إلى تدخل صاحبه فورًا! يرى القديس أثناسيوس الرسوليأنها صرخة السيد المسيح المتألم، فقد جاء إلى الصليب لكي يخلص البشرية. ونحن أيضًا إذ نحسب آلامنا شركة مع المسيح في صلبه، نصرخ إلى الله، فنجد أذنيه تسمعان صلواتنا الخفية. في وقت الضيق ننعم بما هو أعظم من الخلاص من الضيق، ألا وهو إنصات الله إلى صلاتنا، واستماعه إلينا، وتطلعه نحونا، وكأنه لا يوجد في العالم غيرنا. إنه كالخزّاف الذي يتطلع دومًا إلى الإناء الذي في الفرن، يعرف متى يُخرجه إناءً للكرامة! مِنْ صَوْتِ العَدُوِّ، مِنْ قِبَلِ ظُلْمِ الشِرِّيرِ. لأَنَّهُمْ يُحِيلُونَ عَلَيَّ إِثْمًا، وَبِغَضَبٍ يَضْطَهِدُونَنِي [ع3]. ماذا يقصد بصوت العدو وظلم الشرير، سوى الاتهامات الباطلة المرعبة التي يوجِّهونها ضده. كأنهم يصرخون ضده قائلين: لا يستحق هذا البائس المُلك، ليعصه الجميع، وليطردوه من كرسي المملكة! لا يقف الأمر عند الاتهامات بالفم، وإنما دخلت في دور العمل، بالضغط بكل الوسائل لممارسة الظلم على المرتل، خاصة العصيان العملي. هذا ما فعله أخيتوفل صديق داود الذي انضم إلى أبشالوم ليطرح داود عن العرش. وقد برَّر هذه الخيانة باتهام داود أنه فاعل شر. يَمْخَضُ قَلْبِي فِي دَاخِلِي، وَأَهْوَالُ الْمَوْتِ سَقَطَتْ عَلَيَّ [ع4]. شعر داود كأن قلبه صار يدور حول نفسه في مرارة، لا يعرف ما هو سبب خيانة أخيتوفل له. صار يتلوَّى كالمرأة وهي تعاني من المخاض. لكن المرأة وهي تتمخض تئن من شدة الألم، وإن كانت تترجى مولودًا جديدًا. أما قلب داود فيتمخض، وهو يترقب الموت، خاصة وأن الأحداث قد تمت بطريقة مفاجئة لم يكن يتوقعها. كان داود في هروبه يتوقع حلول مذبحة له ولمن التف حوله. خَوْفٌ وَرَعْدَةٌ أَتَيَا عَلَيَّ، وَغَشِيَنِي رُعْبٌ [ع5]. إنه وصف لما حلّ بالسيد المسيح بعد أن سلَّم نفسه بين أيديهم بإرادته، ودخل في محاكمات ظالمة واتهامات باطلة. ما هو صوت العدو المُقلق إلاَّ كلمات قيافا: "قد جدّف، ما حاجتنا بعد إلى شهود؟!" ومن هو الخاطي الذي أحزنه إلاَّ يهوذا الإسخريوطي الذي سلَّمه؟! مسيحنا رأس الكنيسة القدوس صار في ضيقة، وسلَّم نفسه للموت ظلمًا، لذا لاق بالجسد أن يشاركه آلامه. يقول القديس أغسطينوسأن داود هنا يرمز للسيد المسيح، الرأس والجسد معًا، إذ يصير الاثنان جسدًا واحدًا. بهذا نحن نعيش في العالم، نشاركه آلامه. أما لماذا يسمح الله بوجود الأشرار؟ فكما يقول القديس أغسطينوسإنه ليس بدون جدوى، إنما يحوّل الله أعمالهم لخيرنا. إنه يتركهم لعلهم يرجعون إليه بالتوبة، أو لكي ينتفع الأبرار بتصرفاتهم، التي بها يُكللون. لهذا يليق بنا ألاّ نبغض الأشرار. ليتنا نشتهي خلاص الأشرار، لا الانتقام منهم، وكما يقول القديس أغسطينوس: [عندما تشعر أنك تكرهعدوًا، فأنت تكره أخًا لك دون أن تعلم.] 2. يا ليت لي جناحيّ حمامة فَقُلْتُ: لَيْتَ لِي جَنَاحًا كَالْحَمَامَةِ، فَأَطِيرَ وَأستريح! [ع6]. كيف يمكنني أن أحتمل مضايقة العدو لي، دون أن تتسلل الكراهية إلى قلبي؟ يطلب المرتل عمل الروح القدس فيه، فيصير كحمامة يطير ويستريح في حضن الآب، حيث يتمتع بالحب الذي لا يعرف الكراهية [ع6]. لماذا اشتهي داود النبي أن يكون له جناحا حمامة، إلاَّ ليطير نحو السماء، ويستقر ويستريح في حضن الله. هكذا يشتهي رجال الله في كل العصور أن يحملهم روح الله القدوس، ويطير بهم من وادي الدموع إلى الأحضان الإلهية. هناك يتمتع الإنسان لا بالراحة من محاربات العدو ومكائد الأشرار، وإنما بالأكثر يجد راحته في التعرف على الأسرار الإلهية المُفرحة والمشبعة للنفس. لماذا اختار الحمامة؟ 1. لأنها ترمز إلى الروح القدس، الذي من عمله أن يجدد طبيعتنا، لتصير كسحابةٍ نقيةٍ طاهرةٍ وخفيفةٍ، قادرة أن ترتفع إلى السماء. يعلق العلامة أوريجينوس على الكلمات: "عيناك حمامتان" (نش 1: 15) بقوله: [من المؤكد أن مقارنة عينيها بالحمام, عائد إلى أنها الآن تفهم المكتوب الإلهي, ليس بحسب الحرف بل وفقًا للروح. وتدرك فيه أسرارًا روحانية. فالحمامة رمز للروح القدس (مت 3: 16). يتحقق فهم الناموس والأنبياء بالمعنى الروحاني بأن يكون لنا أعين الحمام... النفس التي مثل هذه, تصبو في المزمور أن يُعطى لها جناحا حمامة (مز 68: 14) , حتى تصير لها القدرة أن تطير عاليًا في فهمها للأسرار الروحانية. وأن تربض في أروقة الحكمة.] 2. تشير الحمامة إلى البساطة كما إلى السلام، حيث عادت إلى فلك نوح تحمل غصن زيتون، إشارة إلى انتهاء الطوفان، وعودة الحياة إلى الأرض الجديدة. 3. عُرفت الحمامة بعدم معاناتها من الضغينة حتى نحو الذي يأخذون صغارها. 4. يقول القديس أغسطينوسمادحًا نزاع الحمام، قائلًا إنها تنقر بعضها البعض إلى الحين ليعود فيأكل معًا ويطير معًا في انسجام. 5. تشير الحمامة إلى الطهارة، إذ لا تحتمل رائحة العفونة، ولا تأكل من القاذورات مثل الغربان وغيرها. في رسالة بعث بها القديس جيروم إلى سالفينا -من القصر الإمبراطوري- يعزيها في زوجها نيبريدوس Nebridius كتب عنه: [تعلمنا كيف يمكن للجمل أن يعبر من ثقب إبرة، وكيف يمكن لحيوان به حدبه (سنام) على ظهره عندما يلقي بالأحمال التي عليه يمكنه أن يأخذ لنفسه جناحيّ حمامة، ويستريح في أغصان شجرة نمت من حبة خردل (مت 13: 31-32)[97]]. وفي رسالة بعثها إلى ريستيكوس Rusticus الذي اتفق مع زوجته على حياة البتولية، ثم فشل، وقد حاولت زوجته أن تجتذبه لإيفاء وعده، كتب القديس جيروم: [إذ أطوف هكذا في حقول الكتاب المقدس الجميلة اخترت أزهارها المحبوبة لكي اصنع لحاجبيّ عينيكَ إكليل الندامة، فإن غايتي هي أن تطير بجناحيّ حمامة، وتجد راحة، وتدخل في سلامٍ مع إله الرحمة[98].] * كل الشعب الخائف الله في الكنيسة الجامعة هم أطهار وبسطاء في كل وضوح. يمكنهم أن يقولوا مع المرتل: "ليت لي جناحًا كالحمامة فأطير وأستريح" (مز 55: 6)، وأيضًا: "وجدت السنونة عشًا لنفسها حيث تضع أفراخها" (مز 84: 3). الناس الجسدانيون الذين يمكن أن ينقسموا، منحطون إلى أسفل من جراء ثقل قيود الرذيلة. الروحيون يرتفعون إلى العلو بأجنحة الفضائل المتنوعة. كما لو كانوا بجناحين، أي بوصيتيّ حب الله وحب القريب، يرتفعون إلى السماء. يمكنهم أن يقولوا مع الرسل: "مواطنتنا هي في السماء" (في 3: 20). كثيرًا ما يقول الكاهن: "ارفعوا قلوبكم"، فيجيبون بثقةٍ وتقوى أنهم رفعوها عند الرب. على أي الأحوال، قليلون جدًا ونادرون الذين يمكنهم في الكنيسة أن يقولوا هذا بيقين وحق[99]. الأب قيصريوس أسقف آرل * لماذا كالحمامة؟ لأن نعمة الغسل تتطلب البساطة، حتى نكون أبرياء كالحمام. نعمة الغسل تتطلب السلام، كما في صورة أولية للحمامة التي جاءت إلى الفلك، والذي وحده لم يُنتهك بواسطة الطوفان (تك 8: 10-11). ذاك الذي الحمامة صورته، ينزل الآن على شكل حمامة، معلمًا إيانا أن في ذلك الغصن وفي ذلك الفلك وُجدت صورة السلام وصورة الكنيسة. في وسط فيضانات العالم يُحضر الروح القدس سلامه المثمر لكنيسته. هذا أيضًا يعلمنا إيّاه داود الذي أدرك سرّ العماد، وقال بروح النبوة: "ليت لي جناحا حمامة" (مز 55: 6)[100]. * يصلى داود، كما قلتُ، بقوله للرب: "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه، هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله. عطشت نفسي إلى الله، إلى الإله الحيّ، متى أجيء وأتراءى قدام وجه الله؟!" (مز 42: 1-3). اضطرب القديس ولم يتمالك نفسه، لأن ألم النفس أعظم من أية أوجاع لأي جسدٍ ما. وإذ يتيقن في الجُعالة (المكافأة) يشتاق أن ينطلق من الأرض إلى السماويات، تمامًا كما يقول في نص آخر: "من يعطيني جناحيّ حمامة، فأطير وأستريح" (مز 55 :6). لأن الفخاخ هنا تعوق البَار، حتى وإن لم يقع فيها (أو يورِّط نفسه فيها). هنا الأحزان والقلق، لكن الفرح هناك حيث النعمة. أجل، قيود الجسد هنا، يشتاق بولس في لهفة أن يحطمها، ليتخلص من كل ارتباطاتها، ويقف متحررًا بجوار الرب (في 1: 23). لهذا عطشت نفس داود لكي يرى الله حينئذٍ، لا بالإيمان، بل وجهًا لوجهٍ (1 كو 13: 12). ولكي لا يتغرب فقط عن الجسد (2 كو 5: 8)، بل ويتحرر أيضًا منه، لأنه عطش أن يرحل ويكون مع المسيح. ذاك أفضل جدًا(في 1: 23). لأنه بالنسبة للبار الموت ربح (في 1: 21). حقًا إنه ربح عظيم أن نصير بلا خطية، فلا تثيرنا شهوات الشرور. ومن هو حر من الدنس حتى إن كانت حياته يومًا واحدًا على الأرض؟ لا يمكن أن يكون بدون عدوىّ فعل الشر! (أي 114: 4-5 LXX). لهذا نحن نفتقد براءتنا (أو حكمتنا) فقط بالحياة، بينما نربح نهاية لآثامنا بالموت! لهذا بالموت نجني ربحًا، لكن بفعل الحياة (الزمنية) تزداد غرامات الخطية، كأننا دائنون لصَكٍّ مركَّب الفائدة وكريه! وتعاني النفس عطشًا حقيقيًا، إذا ما أسرعت إلى النبعِ، لا نبع مياه، لكن نبع الحياة الأبدية؛ التي قال عنها داود في نصٍ سابق: "لأن عندك ينبوعَ الحياة، بنورك نرى نورًا" (مز 36: 9)، لهذا كان على حق أن يسرع ويجيء ويتراءى قدام وجه الله (مز 42: 2)، الذي وجهه نور (مز 4: 7). لأن الرب يضيء على كل الذين يتطلعون إليه (يو 1: 9)[101]. القديس أمبروسيوس * من الأفضل أن نتطهر من أي انجذاب نحو السفليات، فننجذب نحو الأمور السامية عن الحواس. عندئذ لا نكف عن الإعجاب بجمال السماوات وبهاء الأنوار السماوية، وكل ما يبدو جميلًا. لكن الجمال الذي ينعكس على كل هذه الأشياء يقودنا إلى الجمال (أي الله) الذي تمجده السماوات، ويخبر عنه الفلك وكل الخليقة (مز 19: 1). يليق بالنفس التي ترتفع أن تترك كل ما قد نالته بسقوطها في شهواتها، عندئذ فقط يمكنها أن تدرك العظمة التي تفوق الكواكب. لكن، كيف يمكننا أن نبلغ هذا ونحن لا نزال نشتهي الأرضيات؟ كيف يمكننا أن نطير إلى السماء بدون أجنحة سماوية، ونحن لم نصر بعد خفيفين، محمولين في الهواء بحياة سامية علوية؟ في الواقع لا يتأهل أحد بأسرار الإنجيل إذا كان غير مدركٍ أن للإنسان مركبة واحدة فقط، تستطيع أن تحمله إلى السماء. ويلزمه أن تكون له أجنحة الحمامة (الروح القدس) النازلة، كما اشتهى داود لنفسه (مز 55: 6). بهذه الطريقة يعبر الكتاب المقدس بطريقة رمزية عن قوة الروح. وقد استخدم الحمامة، لأنه كما يقرر الملاحظون أنها لا تحمل ضغينة، أو لأن هذا الطائر لا يحتمل رائحة العفونة. هكذا الإنسان الذي يتجنب كل مرارة وكل شهوات الجسد يرتفع بجناحيّ الحمامة (الروح) فوق كل صراعات العالم، وبالحق فوق كل المسكونة، ويكتشف ما هو وحده يستحق أن نشتهيه، ويصير جميلًا. إذ يقترب من الجمال (أي الله). بهذا يستنير مثل النور، إذ تصير له شركة مع النور الحقيقي[102]. القديس غريغوريوس النيسي * لقد تزايد الاضطهاد جدًا، واشتدت الضيقة للغاية، حتى صار المرتل في قلقٍ من الحياة. انظروا كيف حلَّ به الخوف والرعدة، وكيف غشته ظلمة، كما جاء في المزمور. إنه صوت جسد المسيح كما ترون، هو صوت أعضاء المسيح. أتريدون أن تتعرفوا على صوتكم هناك؟ كونوا أعضاء المسيح. قيل: "خوف ورعدة أتيا عليَّ، وظلمة غطَّتني. فقلت: من يعطيني جناحين كحمامةٍ، فأطير وأستريح" (راجع مز 55: 5-6)... عندما أراد المرتل أن يطير إلى المسيح شعر بالحيرة على غرارٍ ما، وذلك بسبب ثقل الجسد وفساده. يوجد فيض من المتاعب يقلقه في الطريق، لكنه لا يعوق السير فيه تمامًا. كان (الرسول) متحيرًا من الحياة، لكن ليس من الحياة الأبدية، هذه التي يقول عنها: "لأن لي الحياة هي المسيح، والموت هو ربح" (في 1: 21)[103]. * شعر المرتل بالقلق من المتاعب الأرضية وفساد الجسد، عندما أراد أن يطير إلى المسيح؛ من فرط المتاعب التي تهاجمه على الدوام في الطريق، لكنها لا تغلق الطريق تمامًا. كان مضطربًا من الحياة، لكن ليس من الحياة الأبدية التي يقول عنها: "لي الحياة هي المسيح، والموت هو ربح" (غل 1: 22)[104]. القديس أغسطينوس * لنلتمس من الله أن ينعم علينا بأجنحة، ولكي يفصل الريح الشريرة، ويقطعها من نفوسنا وأجسادنا، ذاك الريح الذي هو الخطية الساكنة في أعضاء نفوسنا وأجسادنا. ليس أحد إلاَّ (الروح القدس) الذي يستطيع أن يفعل هذا الأمر[105]. * كما أن الإنسان إذا رأى طائرًا يطير، يشتاق أن يطير هو أيضًا، فلا يمكنه ذلك بسب عدم وجود أجنحة له، كذلك يشتهي الإنسان أن يكون نقيًا بلا عيب ولا دنس، وأن لا يكون في طبيعته حقد، ويشتهي أن يكون مع الله دائمًا. ولكن ليس له ما يهبه ذلك. فبالرغم من رغبته في الطيران في الجو الإلهي في حريَّة الروح القدس، لكنَّه لا يقدر إلاَّ إذا أُعطيت له أجنحة لتحقيق هذه الغاية. لنلتمس من الله أن يهب لنا أجنحة حمامة (مز 55: 6)، أي الروح القدس، لنطير إليه، ونطمئن، ونتوسل إليه أن يقصي عنا الروح الشرير، ويقطعه قطعًا من نفوسنا وأجسادنا، أي الخطية الساكنة في أعضائنا الجسدية والنفسية، لأنه هو وحده القادر على ذلك. هذا هو حمل الله الذي يرفع خطية العالم[106]. * بطول إقامة النفس في نار الروح وفي النور الإلهي لا يصيبها أي أذى من الأرواح الشريرة، بل إن اقترب أحدها منها يحترق بنار الروح السماوي... وكما إذا طار طير عاليًا لا يبالي بالصيادين والوحوش المفترسة، ولا يخافهم، لأنه في العلو في أمان من الجميع، هكذا النفس متى نالت أجنحة الروح (مز 55: 6) وطارت إلى السماوات العليا، تستهزئ بمن هم تحتها لعلوها فوق الجميع. * كل نفسٍ لا تُصلح بالروح القدس، ولا تملَّح بالملح السماوي، أعني قوة الله، تفسد في الحال، وتمتلئ برائحة الأفكار الشريرة الرديئة الكريهة. فيتحول وجه الله عن الرائحة الدنسة التي لأفكار الظلمة الخبيثة، وفساد الشهوات الساكنة في هذه النفس، والدود الشرير اللعين، يعني أرواح الشر وقوات الظلمة تتمشى فيها، وتتحول لتجد فيها مرعى وقبولًا، فتدبّ فيها وتأكلها وتفسدها، كقول المزمور:"قد أنتنت وفاحت جراحاتي" (مز 38: 5)[107]. القديس مقاريوس الكبير * من الواضح أن من يموت وهو في الخطية، لا يؤمن حقًا بالمسيح، حتى ولو قال إنه يؤمن. فمن يؤمن بعدل المسيح لا يَظلِم، ومن يؤمن بحكمته لا يسلك بحماقة ولا يتحدث بها. رفع موسى يديه، فانهزم عماليق. رفع الأيدي هو بمثابة رفع لأعمالنا وأفعالنا لله، والامتناع عن الأعمال الهابطة، بل وممارسة كل الأعمال التي تُسر الله، والمرتفعة نحو السماء. فذاك الذي "يكنز لنفسه كنزًا في السماء، يرفع يديه إلى حيث يكون كنزه" (راجع مت 6: 20-21)، كما يرفع أيضًا عينيه، كذلك يرفع يديه. القائل: "ليكن رفع يديَّ كذبيحة مسائية "(مز 141: 2). فإذا رفعنا إذن أعمالنا، ولم نضعها على الأرض، ينهزم عماليق. لكن لابد أن نأخذ في اعتبارنا، أننا عتيدون أن نُحاكم أمام العدل الإلهي، ليس فقط عن إيماننا، كما لو كنا غير مسئولين عن أعمالنا (راجع يع 2: 24)، وليس فقط على أعمالنا، كما لو كان إيماننا ليس بِمُعَرِّضٌ للمساءلة. نرجو أن تصغوا بانتباه لما تسمعون. ولا تقتصروا على الاستماع إلى كلمات الله بالكنيسة، بل تمارسوها في بيوتكم، وأن تلهجوا في ناموسه نهارًا وليلًا (مز 1: 2). من هذه "الزيتونة"، دعنا نستخلص زيت أعمالنا، الذي يمكن به إيقاد مصباح للرب، ولا نسلك في الظلمة (راجع يو 2: 11). هذا كل ما يمكننا قوله فيما يختص بالسُرُج وزيتها (لا 1: 24). طيور السماء المجنحة روحانيًا يمكنها أن تأوي بين أغصان إيمان بهذا القدر العظيم. العلامة أوريجينوس هَأَنَذَا كُنْتُ أَبْعُدُ هَارِبًا، وَأَبِيتُ فِي الْبَرِّيَّةِ. سِلاَهْ [ع7]. هرب داود من أعدائه، وذهب إلى البرية وراء الأردن (2 صم 17: 22-23). "البرية" في الكتاب المقدس تعني مكانًا غير آهلٍ بالسكان، تلجأ إليه الحيوانات المفترسة. لا يقصد بها مناطق غابات، وإنما مناطق صخرية أو صحراء. لقد شعر المرتل أنه لم يعد يستريح لأحدٍ من البشر، بل يطلب العزلة عن الجميع، فحتى المناطق غير اللائقة بالسكن أفضل من الاحتكاك بالناس. بقول "أبيت"، يعني أن حياته صارت أشبه بليلةٍ لا نور فيها. فإنه بسبب المضايقات، حسب حياته كلها ظلمة، ويود أن يقضي هذه الليلة بعيدًا عن الجميع. إن كان الضيق يولد هذا الفكر، فمن جانب آخر كثير من المؤمنين الذين التهبت روحهم بالحب الإلهي انطلقوا، ليس هربًا من الناس، بل رغبة في الالتصاق بالله، وعدم الانشغال بأمورٍ بشرية. لقد حوَّلوا البراري إلى فراديس، كقول القديس يوحنا كاسيان. * لزم علينا أن نسعى مجاهدين لإصلاح أخطائنا ومعالجة سلوكنا، فإذا ما وُفِّقنا في ذلك، توفرت لنا أسباب السلام دون أدنى شك، ليس مع البشر فحسب، بل وحتى مع الحيوانات والوحوش، مصدقين ما جاء في سفر أيوب المطوَّب: "لأن وحوش البرية تسالمك". لأننا لن نخشى أية ضروب للإثارة تأتى إلينا من الخارج، ولا تزعجنا أية فرصة للسقوط، مادامت لا تلج أو تُغرس داخل نفوسنا: لأن "سلامة جزيلة لمحبي شريعتك، وليس لهم معثرة" (مز 119: 165)[108]. القديس يوحنا كاسيان * يرتسم أمام أعيننا الفرح المبهج الذي لأقربائنا حينما انسحبوا إلى البرية بسرورٍ ولياقةٍ وتوغَّلوا في أعماق الغابات[109]. * من الأفضل لنا أن نثابر على الدوام نحو هدفنا، مقتنين ربحًا معتدلًا في البرية، حيث لا يوجد فيها اهتمامات عالمية، وارتباطات تشتت الفكر، ولا كبرياء ولا مجد باطل، وتكون الاهتمامات بالضرورات اليومية أقل... هذا خير من أن نطلب ربحًا عظيمًا خلال التحدث مع الآخرين حديثًا قيمًا للغاية، لكننا ننهمك في مطالب الحياة العلمانية المملوءة بالارتباطات اليومية. لأنه يقول سليمان: "حفنة راحة خير من حفنتَي تعب وقبض الريح" (جا 4: 6)[110]. الأب إبراهيم * لا يجب أن ينتفخ الإنسان بسبب ما حقّقه في حياته، بل يكون باستمرار متواضعًا، ويهرب إلى أبعد الأماكن في البرية، إذا تحقّق من أنه سيصير متكبِّرًا. لأن المعيشة بجوار المدن والأرياف كثيرًا ما أضرَّت حتى بحياة الكاملين. ولذلك فإن داود النبي بعد خبرةٍ مماثلة يرتل قائلًا: "هأنذا أبعُدُ هاربًا، وأبيتُ في البرية، أُسرع في نجاتي من الريح العاصفة ومن النوء" (مز 55: 7-8). وكثيرون من إخوتنا اختبروا أمورًا مشابهةً لذلك، ولكنهم بسبب العجرفة فشلوا في الوصول إلى هدفهم. القديس يوحنا الأسيوطي عندما كتب القديس جيروم إلى لوسينيوس Lucinius الذي اتفق على حياة البتولية مع زوجته، وإن كان قد تراجع في نذره، جاء في رسالته له: [لقد تركت خلفك الأمواج القاسية، والتيارات المالحة، والجبال المصدعة، واحتقرت لوياثان الذي يملك في المياه (مز 104: 26). هدفك أن تبحث عن البرية مع يسوع، وأن ترنم بتسبحة النبي: "عطشت إليك نفسي، يشتاق إليك جسدي في أرضٍ ناشفة ويابسة بلا ماء، لكي أبصر قوتك ومجدك كما قد رأيتك في قدسك" (مز 63: 2-3) [111].] كُنْتُ أُسْرِعُ فِي نَجَاتِي مِنَ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ، وَمِنَ النَوْءِ [ع8]. هروب داود إلى البرية لم يكن يحتاج إلى تفكير، ولا إلى التردد، إنما كان أشبه بالحمامة التي شعرت بريحٍ عاصفةٍ تهب، فطارت بأقصى سرعة لتختبئ في عشها. هكذا كان أبشالوم وأخيتوفل والشعب المرافق لهما يتحركون بسرعة فائقة، أشبه بالريح العاصفة. بقدر ما كان المتمردون يسرعون في الحركة، كان داود الملك يسرع في التحرك نحو البرية خشية قتله هو ومن معه. 3. فرِّق ألسنتهم أَهْلِكْ يَا رَبُّ، فَرِّقْ أَلْسِنَتَهُمْ، لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ ظُلْمًا وَخِصَامًا فِي الْمَدِينَةِ [ع9]. جاءت كلمة "أهلك" هنا في الأصل بمعنى "ابتلع"، فإن كان أبشالوم أراد أن يفترس أباه، يسنده في هذا الصديق الشخصي لداود والمشير له أخيتوفل، فإنهما بفعلهما هذا الشر الجسيم والخيانة العظمى للأبوة والصداقة، يُعرضان نفسيهما ومن معهما للافتراس، فما يزرعه الإنسان إياه يحصد (غل 6: 7). أما صلاته لكي يفرق ألسنتهم، فيذكرنا بما حدث حينما حاول البشر إقامة برج لمقاومة خطة الله فبلبل ألسنتهم، وتخبط الكل في اضطراب، ولم يحققوا خطتهم (تك 11: 1-9). ظن أبشالوم بلسانه المعسول أن يسحب كرسي المُلك من تحت والده، ويأتي برأسه دون مقاومة تُحسب. وظن أخيتوفل بحواره مع أبشالوم تنجح خطتهما لا محالة، ولم يدركا أن ثمرة الشر هو البلبلة والاضطراب والفشل التام، مع الهلاك! أما عن الظلم والخصام اللذان حلا بمدينة أورشليم، فالظلم صدر عن المقاومين لداود الملك بلا سبب. وأما الخصام أو النزاع فقد صدر عن وجود خلافات وسط القادة والشعب، إذ شعر البعض أن ما فعله أبشالوم ومن معه هو افتراء وظلم؛ بهذا حدث شقاق وسط الصفوف، وإن كان لم يجسر أحد على مقاومة أبشالوم علانية. لقد رأى السيد المسيح إثمًا واضطرابًا في مدينة أورشليم، إذ أسلموه ظلمًا للمحاكمة، وقد حدث شقاق، لأن قومًا كانوا يقولون إنه ليس من الله، لأنه لا يحفظ السبت، وآخرون قالوا: كيف يقدر رجل خاطي أن يصنع مثل هذه الآيات؟! وقد أحاط الإثم أسوارها ليلًا ونهارًا، إذ بدأ القادة في محاكمته ظلمًا في الليل، واستمرت حتى الصباح، وفي النهار تم الصلب. الذين كان يجب أن يكونوا أسوارًا تحفظ الإيمان، وتعلن عن النبوات الخاصة به، اتسموا بالإثم. استخدموا المال والخداع في صلبه، فقبل يهوذا الثلاثين من الفضة ثمنًا للبار، وكأنه قد قبل أبشع أنواع الربا! هذه هي صورة المدينة الأثيمة التي سلمت سيدها، التي يطلب المرتل أن يهلكها ويفرِّق ألسنتها! أما أنت أيها العزيز، فقد صرت مدينة الله التي تعرف البرّ. فقد قبلت ملك الملوك ابن داود في داخلك، تعرف كيف تتكلم بلغة الروح التي يفهمها السمائيون، ويتجاوب معها كل المؤمنين في كل المسكونة، ويكون الرب نفسه سورها الناري، ومجدها الداخلي، لا تعرف محبة المال، بل العطاء والبذل مع الإخلاص والحق! كن أيها العزيز أورشليم الجديدة، مدينة الله المفرحة والمتناغمة مع السماء، وكأنها نازلة من السماء، ولا تكن بابل الجديدة المملوءة اضطرابًا ورِبا وغشًا، التي تدبر مؤامرات للخلاص من ابن داود. بهذا لا يتبلبل لسانك الداخلي! نَهَارًا وَلَيْلًا يُحِيطُونَ بِهَا عَلَى أَسْوَارِهَا، وَإِثْمٌ وَمَشَقَّةٌ فِي وَسَطِهَا [ع10]. هنا يصور المرتل حال أورشليم بعد أن قام أبشالوم ومن معه بحركة التمرد المسلحة. فالقادة لا يشغلهم سوى التخطيط المستمر لنجاح حركتهم وتحقيق أهدافهم. لا ينامون بالليل، ولا يهدأون في النهار. يباشرون الأسوار لتشجيع الحراسة المشددة العاملة لحسابهم، وقد امتلأت المدينة بالإثم، حيث يزرعون الشقاق، ويفترون على داود الملك وأتباعه باتهامات كاذبة. يتحدثون في رياءٍ مع افتراءات وأكاذيب. امتلأت المدينة بأعمال العنف في الداخل وحول الأسوار. إنها صورة مؤلمة للنفس التي كان يليق بها أن تكون أورشليم الروحية، مدينة الله المقدسة، يملك المسيح ابن داود عليها، لكنها إذ ترفض مملكته فيها، تمتلئ بالعنف عوض السلام، والأكاذيب عوض الحق، والمؤامرات عوض السلام والعمل لحساب ملكوت الله، والأكاذيب عوض الحق. هكذا يملك الإثم عوض البرّ. مَفَاسِدُ فِي وَسَطِهَا، وَلاَ يَبْرَحُ مِنْ سَاحَتِهَا ظُلْمٌ وَغِشٌّ [ع11]. كثيرًا ما يظن العصاة والمتمردون والمتآمرون أنهم مصلحون للمجتمع، غير أن العصيان والتمرد يزرع فسادًا في النفس كما في الجماعة. تتحول النفس إلى بؤرة فساد، وتصير شوارعها وساحاتها أشبه بطرقٍ للدمار. من ينصت إلى الوصية الإلهية بروح الطاعة، يسكن برّ الله فيه، ويصير سفيرًا للحق، وشاهدًا لعمل الله، مجتذبًا الكثيرين معه إلى الخلاص والمجد الأبدي. لننصت ونطع الوصية، فلا يتسلل الغش إلى أعماقنا. * "ولم يخلُ من شوارعها الربا والغش" (مز 55: 11). الربا والغش لا يختفيان... لكنهما يُمارسان علانية... يوجد ربا آخر أشر من (ربا المال)، عندما لا تغفر لمن هو مدين لك بدين، ومع ذلك تصلي، قائلًا: "اغفر لنا ما علينا، كما نغفر نحن للمذنبين إلينا" (مت 6: 12). فماذا تريد أن تفعل عندما تذهب للصلاة، وتبلغ هذه الفقرة؟ لقد سمعت كلمة شتيمة، وأنت تريد الانتقام...! يا له من ربا شرير! القديس أغسطينوس 4. أعداء الإنسان أهل بيته حقًا كان داود الملك محصورًا وسط المرّ، فمن جانب رأى ابنه وصديقه الحميم اتفقا معًا على قتله، ومدينته المحبوبة لديه صارت مركزًا للمؤامرات يسودها العنف والغش والمؤامرات في الداخل وحول أسوارها. لقد اشتهى أن تنطلق نفسه كحمامة إلى السماء، فتستريح أعماقه في أحضان الرب. هكذا أيضًا المؤمن، إذ يجد العدو الحقيقي الخطير هو أهل بيته، حين يجد اقرب من له: جسده وعواطفه وأحاسيسه تثور على نفسه، لكي تنتزع ملكوت الله من داخلها. ليس من عدو أخطر للإنسان من الإنسان نفسه، فإن لم يطلب إبادة مملكة إبليس وتحطيم سلطانه في داخل نفسه لا يتمتع بسلام المسيح ومجده الداخلي. لنهرب من أنفسنا بالالتصاق بذاك الذي يرد لنا صورتنا الأصلية، فتتناغم الروح مع الجسد، وتعمل كل الطاقات للبنيان. لنشكو للرب خاصتنا الداخلية، فيبدد الشر الذي فيها، ويحوَّلها من روح العداوة إلى روح الحب الصادق. فقد اختبر السيد المسيح ذلك، ليس من حيث جسده ومشاعره، وإنما من حيث أقربائه الذين أسلموه للموت، لكن من رجع منهم إليه بالإيمان صاروا عاملين لحسابه. لأَنَّهُ لَيْسَ عَدُوٌّ يُعَيِّرُنِي، فَأحْتَمِلَ. لَيْسَ مُبْغِضِي تَعَظَّمَ عَلَيَّ، فَاَخْتَبِئَ مِنْهُ [ع12]. بَلْ أَنْتَ إِنْسَانٌ عَدِيلِي، إلفي، وَصَدِيقِي [ع13]. في رسالة بعثها القديس جيروم إلى بولينوس أسقف نولا يشير إلى هذه العبارة، مطالبًا إياه ألاَّ يزن الإيمان. بعدد السنوات التي عاشها في الإيمان، فإن بولس الرسول الذي جاء حسب التاريخ آخر الرسل صار الأول بينهم. يهوذا الذي عاش مع المسيح سنوات وأكل معه وتعرَّف عليه خانه. [دانيال كشابٍ قضى على شيخين، وفي زهرة شبابه أدان عدم عفة الشيوخ (قصة سوسنة). إنني أكرر ألا تزن الإيمان بالسنوات، ولا تظن فيَّ أني أفضل منك لمجرد أنني قد سُجلت تحت لواء المسيح سنوات قبلك. فالرسول بولس، الإناء المختار تشَكَّل من مُضطهد، في آخر النظام الرسولي قد تأهل أن يكون الأول. فمع أنه الأخير تعب أكثر منهم جميعًا (2 كو 15: 10). قيل مرة ليهوذا: "أنت إنسان كنت تأكل معي طعامًا حلوًا، مشيري وأليفي، كنا نسير معًا في بيت الله" (راجع مز 55: 13)، مع هذا اتهمه المخلص بخيانة صديقه ومعلمه[112]]. الَّذِي مَعَهُ كَانَتْ تَحْلُو لَنَا الْعِشْرَةُ. إِلَى بَيْتِ اللهِ كُنَّا نَذْهَبُ فِي الْجُمْهُورِ [ع14]. من السهل أن يحتمل الإنسان الشر الصادر من عدوٍ عن ذاك الذي يصدر من صديقٍ حميمٍ. فإن الإنسان غالبًا ما يكون في حذرٍ من عدوٍ معروفٍ، لكنه يُفاجأ بالصفعة غير المتوقعة الصادرة عن صديقٍ. كان أخيتوفل هو مصدر المتاعب لداود، وهو أحد الأشخاص المقربين جدًا لدى الملك، حيث أقامه مشيرًا له وقائدًا (1 أي 27: 33)، الذي جعله نظيره. كانا يتجاذبان الحديث بعذوبة حين كانا يأكلان معًا على مائدة واحدة من طعام الملك، ويتبادلان الأفكار. اعتادا أيضًا أن يسيرا معًا في بيت الرب، وبعذوبة يتبادلان أسرارهما خفية وعلانية. بنفس الطريقة اختار السيد المسيح يهوذا الإسخريوطي تلميذًا له وصديقًا، وسلمه عملًا تدبيريًا، وجعله مع عمله الكرازي أمينًا للصندوق، وأقام معه في ذات الموضع، كما كان يشاركه طعامه حتى الفصح الأخير، حتى يبدو يهوذا أنه متفق مع المسيح في كل شيءٍ، لكنه بعد هذا كله باعه وسلمه بثلاثين من الفضة. هذا وافاه الموت، إذ شنق نفسه، وانحدرت نفسه إلى الجحيم، لأن الشر قد استقر في أعماقه! * الأذية التي تصدر ممن يتزين بالصداقة تؤلم القلب، وتكون أشد ضررًا من تلك التي تصدر عن عداوة ظاهرة... هذا القول هو نبوة واضحة عن يهوذا الإسخريوطي، وتوبيخ ربنا له. يقول له: بما أن الكتبة والفريسيين أعداء الحق ومبغضوه، فحين كنت أكلمهم وأوبخهم على محبتهم للفضة، كانوا يعيّرونني ويعِظمون عليّ كلامهم. وكنت احتملهم، لأن عداوتهم ظاهرة، وأحيانًا كنت أختفي من حسدهم. وأما أنت يا يهوذا، يا من حنوتُ عليك مع جملة تلاميذي نظير نفسي، وأقمتك مدبرًا للعالم ورئيسًا مثل سائر الرسل، وقلٌَدتك سلطانًا على طرد الشياطين وشفاء الأمراض وعمل الآيات وكنت أمينًا للصندوق، فتأكل معي بحلاوة الصداقة والمصاحبة، خاصة عند ذهابنا إلى صهيون التي هي بيت الله، باتفاق، في صحبة جميع التلاميذ ليلة العشاء السرّي. هذا القول إذًا هو نبوة واضحة عن يهوذا وتوبيخ له بروح النبوة منذ زمن بعيد. الأب أنثيموس الأورشليمي لِيَبْغَتْهُمُ الْمَوْتُ. لِيَنْحَدِرُوا إِلَى الْهَاوِيَةِ أَحْيَاءً، لأَنَّ فِي مَسَاكِنِهِمْ، فِي وَسَطِهِمْ شُرُورًا [ع15]. تنبأ المرتل عن مصير يهوذا قائلًا: "لينحدروا إلى الجحيم أحياءً"، معبرًا عن مصير نفسه بعد أن حاول إراحة ضميره، حيث أقدم على الانتحار شنقًا. كل نفس تخون سيدها، إنما تُحدر نفسها بنفسها إلى جحيم الخطية والفساد، ومحبة الشهوات الأرضية. * أسمع عن أحباء يهلكون، وتبتلعهم هاوية الأرض، أي يبتلعهم جشع الشهوات الأرضية. القديس أغسطينوس * يقول الحق: "وأما ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيُضرب كثيرًا... (فكل من أُعْطِي كثيرًا يُطْلب منه الكثير)" (لو 12: 47-48). كذلك يقول صاحب المزامير: "لينحدروا إلى الهاوية أحياء" (مز 55: 15)[113]. من الواضح أنه يقصد بالأحياء الذين يدركون ما يحدث لهم ويشعرون به. أما الأموات فلا يشعرون بأي شيء. الذين يجهلون الشر الذي يفعلونه ينحدرون إلى الهاوية كأموات، أما الذين يدركون الشرور ويعرفونها، فإنهم ينحدرون إلى هاوية الجحيم أحياء وهم في وعيهم وقد أدركتهم اللعنة[114]. الأب غريغوريوس (الكبير) تنفتح السماوات أمام المتألمين ليدخلوا كما إلى عرش الله القدير، فيدركوا أن شئون البشر لا تسير بطريقة عشوائية، وإنما بتدبيرٍ إلهيٍ عجيبٍ. فالله ضابط الكل يهتم بكل ما يمس حياة الإنسان. هذا هو سرّ تعزيتنا وسط الضيق. فنردد القول: "عند كثرة همومي في داخلي، تعزياتك تلذذ نفسي" (مز 94: 19)، "لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا، كذلك بالمسيح تكثر تعزياتنا أيضًا" (2 كو 1: 5). * حيث ذُكر في الأناجيل الثلاثة أنهم "لن يذوقوا الموت" (مت 16: 28)، في حين ذكر كُتّاب آخرون أمورًا مختلفة فيما يختص بالموت، فلن يكون خروجًا عن الموضوع أن نذكر ونفحص تلك الفقرات التي عالجت "تذوق الموت". فالمزمور يقول: "أي إنسان يحيا ولا يرى الموت؟ (مز 89: 48). وفي موضع آخر: "ليبغتهم الموت، لينحدروا إلى الهاوية أحياء" (مز 55: 15). أما إشعياء فيقول، إن الموت وقد تجبر قد ابتلعهم (إش 25: 8). وفي سفر الرؤيا ورد أن الموت والهاوية تتبعهم (رؤ 6: 8). في هذه الفقرات يبدو لي أن تذوق الموت شيء، ورؤية الموت شيء آخر. وشيء آخر أن يبغت الموت البعض. وآخر اختلف عن كل ما سبق تميز في الكلمات: إن الموت وقد تجبر ابتلعهم. ثم آخر كما جاء في الكلمات: "الموت والهاوية تتبعهم[115]". العلامة أوريجينوس * قال الرب عن يوحنا البشير: "إن كنت أريد أن يبقى حتى أجيء" (يو 21: 22). نحن لا نعتقد أن المقصود هنا يوحنا وحده، بل هي دعوة موجهة عامة لكثيرين. فالرب لم يستبعد موت الجسد بل موت الروح. لأنه يوجد أموات يعيشون، ويوجد أحياء قد ماتوا! مثال ذلك تلك المرأة المتنعمة التي قد ماتت وهي حيَّة (1 تي 5: 6). وكما هو مكتوب: "ليباغتهم الموت، لينحدروا إلى الهاوية أحياء" (مز 55: 15). فإنه يوجد من ينزلون الهاوية أحياء، إذ بالخطية ينزلون إلى الهاوية، ويقيمون في مكان الموت. بالحري أحياء هم أولئك الذين لم تنتهِِ حياتهم عند موت الجسد، مثل إبراهيم وإسحق ويعقوب، الذين نعرف أنهم أحياء بحسب سلطان الكلمة الإلهية، فالله: "إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب، ليس إله أموات، بل إله أحياء" (مت 22: 32). القديس أمبروسيوس 5. استجابة الله أَمَّا أَنَا فَإِلَى اللهِ أَصْرُخُ، وَالرَّبُّ يُخَلِّصُنِي [ع16]. إذ بلغ المرتل إلى المرارة، صرخ إلى الله بالصلاة، فتغيرت لهجة كلامه، لأنه وُجد فيه المعين الحقيقي القادر أن يخلصه، بينما اكتشف دهاء الشرير وخداعه، الذي ينطق بكلمات لينة كالزيت، وهي سيوف مسلولة للقتال. * إذ لم يكن الشيطان راغبًا في الرحيل بعد، بل بغطرسة يتقوَّى علينا، وفي لحظةٍ ما يغرينا بتملقاته لكي يفترسنا بطريقه أفضل عند التذمر، ويصرخ بمرارة كي يرعب قلوبنا، يجب ألا نظهر ضعفًا وننهار بجبنٍ أمامه. يجب أن نشدد أنفسنا بالأكثر ضده، مستخدمين كل الوسائل الممكنة لكي نقاومه ونبعده عنا، صارخين نحو الله لنرجوه أن يخلصنا منه (راجع مز 55: 16). نعم ومن عمق قلوبنا يجب أن "نقدم بصراخٍ شديدٍ ودموعٍ طلبات وتضرعات" (راجع عب 5: 7)، ونناديه ليسمع صراخنا، وينقذنا من يد الشيطان، لأن له القدرة على خلاصنا وتمكيننا من طرده عنا مخزيًا، ورأسه مضروبة بحجارة روحية تنطلق نحوه من أفواهنا[116]. الأب مرتيروس السرياني - Sahdona[117] مَسَاءً وَصَبَاحًا وَظُهْرًا أَشْكُو وَأَنُوحُ، فَيَسْمَعُ صَوْتِي [ع17]. كان داود الطريد مرّ النفس، أناته لا تنقطع، فلماذا يحدد صرخاته بأوقات معينة: صباحًا، ومساء،ً وفي وقت الظهيرة؟ أولًا: تحمل هذه العبارة معنى عدم الانقطاع، فصراخه كان مستمرًا، حتى أثناء عمله في النهار، وأثناء نومه بالليل. ثانيًا: تكشف مزامير داود النبي كما حياة رجال الله في العهدين القديم والجديد عن جانبين متكاملين للعبادة. الجانب الأول هو العبادة غير المنقطعة التي لا تُحد بأوقات معينة. والجانب الثاني هو مع صرخات القلب غير المنقطعة وتسابيح النفس الدائمة يحدد رجال الله مواعيد خاصة للعبادة في ساعات النهار والليل. هذه تسند العبادة الدائمة، كما أن العبادة الدائمة تلهب القلب في العبادة في الساعات المحددة! لما كانت حياة داود النبي سلسلة لا تنقطع من المتاعب والضيقات، لهذا فقد تحولت صلواته إلى صراخ قلبي دائم طول النهار والليل، بجانب صلواته التي يمارسها في ساعات معينة. واضح أن داود النبي كان يصلي على الأقل ثلاث مرات يوميًا: "مساءً وصباحًا وظهرًا". كذلك دانيال النبي اعتاد أن يصلي ثلاث مرات يوميًا (دا 6: 1). هكذا اعتاد رجال الله أن يحددوا مواعيد ثابتة للصلاة، بجانب صرخات القلب غير المنقطعة. يرى الآباء أن المرتل رأى استجابة الرب لصلاته في المساء، حيث علق على الصليب، وفي الصباح حيث قام الرب من الأموات كشمس البرّ المشرق علينا، وفي الظهيرة حيث صعد الرب إلى السماء، واهبًا إيانا كمال نور معرفته (شمس الظهيرة). * في المساء أخبر عن آلامه في وقت موته، وفي الصباح روى عن حياته في القيامة، وفي الظهيرة صلى أن يُسمع له وهو عن يمين الآب، يسمع صوتي ويشفع لأجلنا (رو 8: 34). القديس أغسطينوس يميز الآباء بين العبادة من جانب، والدراسة أو التأمل أو التعليم من جانب آخر. فالعبادة وإن كان لها مواعيد وساعات خاصة كما رأينا، إلا أنها تفقد حيويتها بل وكيانها إن لم ينشغل القلب بالله بلا انقطاع. أما عن الدراسة أو التأمل أو التعاليم، حتى في الكتاب المقدس، فيليق بالإنسان مهما بلغت قامته الروحية أن يدرك الحدود اللائقة، سواء بالنسبة له أو لمن هو حوله. يحذرنا كل من القديسين غريغوريوس النزينزي وباسيليوس الكبيرمن المبالغة حتى في الأمور الصالحة واللاهوتيات، إذ يليق بالإنسان أن يراعي قدراته ومواهبه واستعدادته وخبرته دون مبالغة. * لست أعني أننا لا يجب أن نفكر في الله في جميع الأوقات، ولا داعي لأن يهاجمني خصومي بهذه الحجة، حيث أنهم دائمًا مستعدون للهجوم، فإننا يجب أن نتذكر الله أكثر مما نتنفس، بل يمكنني القول أنه يجب ألا نفعل شيئًا آخر غير ذلك، وأنا من أنصار المبدأ الذي يأمرنا بأن "نلهج نهارًا وليلًا" (مز 1: 2)، لنُخبر عن الرب "مساءًا وصباحًا وظهرًا" (مز 55: 17)، "لنُبارك الرب في كل حين" (مز 34: 1)، أو كما قال موسى: "حين تمشي في الطريق، وحين تقوم، وحين تنام" (تث 6: 7)، أو عندما نعمل أي شيء آخر، وبهذا التَذكُّر لله نصبح أنقياء. هكذا فإنني لست ضد التَذكُّر المستمر لله، بل ضد المناقشة المستمرة للاهوت، وأنا لا أُعارض اللاهوت -كأنه شيء ضد التقوى - ولكنني أُعارض مناقشته في وقت غير مناسب، ولست ضد تعليم اللاهوت، إلا عندما يتجاوز الحد، فإن الامتلاء والتخمة- حتى من العسل مع كل لذته- يسبب القيء (أم 25: 16). ولكل شيءٍ وقته كما أرى ويرى سليمان الحكيم، وما هو حسن ليس حسنًا إذا كان الوقت غير مناسب. فالزهور وقتها ليس في الشتاء بالمرة، وملابس الرجال لا تصلح للنساء، ولا ملابس النساء للرجال. ولا يليق الضحك المفرط أثناء الحِداد، ولا البكاء في حفل شراب. إذا كانت كل هذه لا تصلح لأنها في وقت غير مناسب، فهل نُهمل اختيار الوقت المناسب في مناقشة اللاهوت فقط، مع أن مراعاة الوقت المناسب لهذه المناقشة في غاية الأهمية؟[118] القديس غريغوريوس النزينزي * يلزم أن يغطي وقت الصلاة الحياة كلها، ولكن حيث توجد ضرورة مُلزمة أن يتخللها ركوع (مطانيات) وترنم بتسابيح، فقد عُينت ساعات للصلوات بواسطة القديسين يلزمنا أن نحفظها. يقول القوي داود: "في نصف الليل أقوم أسبحك من أجل أحكام عدلك" (مز 119: 62). كما نجد بولس وسيلا اتبعًا مثاله، إذ سبحا الله في السجن في منتصف الليل (أع 16: 25). يقول نفس النبي أيضًا: "عشية وباكر وفي الظهيرة" (مز 55: 18). علاوة على هذا، فإن حلول الروح القدس تحقق في الساعة الثالثة كما يخبرنا سفر الأعمال. عندما سخر الفريسيون بالتلاميذ بسبب التكلم بألسنة متنوعة، قال بطرس إنهم ليسوا بسكرى، لأنه كانت الساعة الثالثة (أع 2: 15). مرة أخري الساعة التاسعة تذكرنا بآلام الرب التي حدثت لكي نحيا (مت 27: 45؛ مر 15: 33-34). ولكن حيث أن داود يقول: "سبع مرات في اليوم أسبحك على أحكام عدلك" (مز 119: 164)، وأزمنة الصلاة التي أشير إليها لا تقيم السبعة أقسام، لذا يلزم تقسيم صلاة نصف الليل. قسم قبل اختفاء القمر، والآخر بعد ذلك. بهذا يصير التسبيح السباعي اليومي لله نموذجًا لنا[119]. * في الساعة السادسة أيضًا نقرر ضرورة الصلاة، مقتدين بمثال القديسين، كما هو مكتوب: "في المساء وفي الصباح وفي الظهيرة سأخبرك وأعلن فيسمع صوتي" (مز 55: 17). ولكي نتخلص من الضجر ومن شيطان الظهيرة، لتلاوة المزمور التاسع عشر في هذه الساعة. * بالنسبة للصلاة والتسبيح، كل الأوقات مناسبة... يمكننا وسط العمل أن نتمم واجبات الصلاة[120]. * يلزمنا ألاَّ نهمل الأوقات المحددة للصلاة التي اخترناها للإخوة[121]. القديس باسيليوس الكبير * يعلمنا اللاهوتي المقدس (القديس غريغوريوس النزينزي) نفس الشيء بقوله: يجب أن نتذكر الله أكثر من التنفس، وإذا صح أن نقول يجب ألا نفعل شيئًا آخر غير ذلك. إنني أحد الذين يستحسنون هذا المنهج الذي يوصينا أن "نلهج نهارا وليلًا" (مز 1: 2). نتلو اسم الله، مباركين إياه في كل الأوقات "عشيه وباكر ووقت الظهر" (مز 55: 17)، وإذا كان ضروريا لنقل مع موسى: "حين تجلس في بيتك، وحين تمشى في الطريق، وحين تنام، وحين تقوم" (تث 6: 7). لنلتصق بالطهارة في تذكرنا له، ولننظر إلى أنفسنا، ونصور اللاهوت بجماله فينا. وأيضا لنتأمل في هذه الأشياء الإلهية، ونتكلم كلام الروح... لأنه جيد أن نلتصق بالله بتذكر الإلهيات[122]. مارتيريوس - Sahdona فَدَى بِسَلاَمٍ نَفْسِي مِنْ قِتَالٍ عَلَيَّ، لأَنَّهُمْ بِكَثْرَةٍ كَانُوا حَوْلِي [ع18]. مما أحزن قلب داود الطريد أنه عاش زمانًا طويلًا يثق في كثيرين من الملتفين حوله مثل أخيتوفل، وكان يظنهم يده اليمنى، يحبونه بالحق ويسندوه. لكن فجأة اكتشف أنهم مراءون وخائنون. هكذا يصعب على الإنسان أن يحكم على من هم حوله، حتى وإن كانوا خدامًا في الكنيسة. كثيرون نحسبهم حنطة، وهم في حقيقتهم زوان. يرافق الأشرار الصديق، لكن ليس كل الطريق، وذلك كالهراطقة الذين ينسبون أنفسهم لذات المسيح الواحد ولإنجيل واحد الخ.، لكنهم يختلفون مع الكنيسة في الإيمان الواحد. * كانوا معي كتبنٍ ولم يكونوا معي كحنطةٍ. وإن كان التبن يرتبط إلى حد ما بالحنطة... في حقلٍ واحدٍ جذورهما، وبمطرٍ واحدٍ ينميان، وحاصد واحد يجمعها، وتتم دراستها معًا، وتتم تذْريتْها معًا، لكنهما لا يُحفظان في مخزن واحد. القديس أغسطينوس يَسْمَعُ اللهُ فَيُذِلُّهُمْ، وَالْجَالِسُ مُنْذُ الْقِدَمِ. سِلاَهْ. الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ تَغَيُّرٌ، وَلاَ يَخَافُونَ اللهَ [ع19]. يشير داود النبي هنا إلى الذين حملوا صورة الحملان وهم ذئاب خاطفة، مختفية بين الحملان داخل الكنيسة. هؤلاء إن لم يتغيروا بالتوبة وقبول عمل الروح القدس فيهم، حتمًا يهلكون. قد ينجحون في مساعيهم، ولكن إلى حين، أما هلاكهم فأبدي، لأنهم لا يخشون الله. يرى القديس أغسطينوسفي هذه العبارة أنه قد تحقق وعد الله لإبراهيم، إذ بنسله تتبارك الأمم التي قبلت العهد الجديد، بينما دنس اليهود العهد برفضهم الإيمان، وعدم تمتعهم بالمخافة الربانية. * عندما نسمع الطوباوي داود يقول: "الكائن قبل الدهور" (راجع مز 55: 19)، لا يعني القول بأن الله يوجد قبل الدهور المتأخرة، وإنما لله وجود أزلي، سابق عن كل تدخل زمني. عندما يقول بولس: "الذي به عمل العالمين" (عب 1: 2) لا يعني بولس أن الله خالق العصور المتأخرة، بل هو أزلي، وعلة كل العصور التي لها بداية[123]. الأب ثيؤدور أسقف المصيصة أَلْقَى يَدَيْهِ عَلَى مُسَالِمِيهِ. نَقَضَ عَهْدَهُ [ع20]. يرى البعض أن الحديث هنا عن الله، الذي وأنه أطال أناته على العصاة والمتمردين لعلهم يرجعون إلى الحق والحب بالتوبة، لكن إذ يمتلئ كأس شرهم يضع يده عليهم ويهلكون. أما من هو هذا الذي يضع الله يده عليه، فالمرتل يشير إلى الآتي: 1. يقصد به أخيتوفل الذي خان عهد الصداقة مع داود الملك. 2. اليهود الذين رفضوا المخلص الذي قدم لهم عهدًا جديدًا، يحقق كمال العهد القديم مع آبائهم. لكنهم رفضوا العهد وتجاهلوا النبوات. 3. يهوذا الذي خان العهد مع سيده. * حسبوا العهد الإنجيلي دنسًا ولم يقبلوه، لأنهم صلبوا المسيح، الوارد ذكره في كتاب العهد القديم... دنسوا العهد، لأن الله رتب العهد القديم لكي يكمل به عملًا حسيًا إلى زمانٍ محددٍ، وبعد حلول الوقت تبطل الحسيات، ويعمل فيه عملًا روحيًا. لكن اليهود - بعد حلول الوقت - لبثوا متمسكين بالمحسوسات الخاصة بالعهد، واعتصموا بالظل والرسم، ولم يقبلوا الأصل والحق. دنسوا العهد، لأنهم كانوا يكرمون الله بالشفاه، وأما قلبهم فكان بعيدًا عنه، فشتتهم الله برجزه، حتى تقترب إليه قلوبهم. الأب أنثيموس الأورشليمي أَنْعَمُ مِنَ الزُّبْدَةِ فَمُهُ، وَقَلْبُهُ قِتَالٌ [ع21]. إنهم مخادعون بكلماتهم اللينة والمعسولة، إذ يقتربون إليه ويخاطبونه برقةٍ. * اقتربوا إليه يجربونه (لو 2: 19-26)، يخفون عنه هدفهم المخادع. كانوا يخاطبونه بكلمات لينة، وهم مثل وحوشٍ شرسةٍ في ثياب حملانٍ. مثل هؤلاء وبخهم المرتل أيضًا قائلًا: "ألْين من الزيت كلماتهم، لكنها سهام مسنونة"[124]. القديس كيرلس الكبير * كانت أقوالهم ناعمة مثل الزيت، هؤلاء الذين بتملقٍ كانوا يقولون: "يا معلم أنت بالحق تعلم طريق الله"، وأقوال كثيرة مثل هذه، لكنهم بالحقيقة كانوا مثل السيوف المسنونة، يجرحوننا ويميتوننا. الأب أنثيموس الأورشليمي * غالبًا ما يثير الصبر المتصنع الغضب أكثر مما يثيره الكلام، وبالصمت المؤذي يزيد شتائم الغير بطريقة أكثر مما يثيرها الكلام، وجراحات الأعداء تُحتمل بأكثر سهولة من مداهنة الساخرين المملوءة مكرًا، والتي قيل عنها حسنًا بالنبي: "يأسر رؤساء إرادته"، وفي موضع آخر قيل: "كلام النمَّام مثل لقمة حلوة، فينزل إلى مخادع البطن" (أم 26: 22). هذا يطابق القول: "لسانهم سهم قتَّال، يتكلم بالغش بفمه، يكلم صاحبه بسلام وفي قلبه يصنع له كمينًا" (إر 9: 8). على أي الأحوال، إنه يخدع الغير، إذ "الرجل الذي يُطري صاحبه، يبسط شبكة لرجليه" (أم 29: 5). أخيرًا عندما جاءت جموع كثيرة بسيوف وعصي للقبض على الرب، لم يكن أحد من المجرمين في حق واهب الحياة أكثر قسوة من ذاك الذي تقدم باحترام مملوء خداعًا وتكريمًا فاسدًا، مقدمًا قبلة حب غاش، هذا الذي قال له الرب: "يا يهوذا، أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟!" (راجع لو 22: 48)[125]. الأب يوسف 6. الاتكال على الله أَلْقِ عَلَى الرَبِّ هَمَّكَ فَهُوَ يَعُولُكَ. لاَ يَدَعُ الصدِّيقَ يَتَزَعْزَعُ إِلَى الأَبَدِ [ع22]. إذ كان المرتل كغيره من الأتقياء قد وجد مرارة من أكثر الناس صداقة بسبب خداعهم، لجأ إلى الله الذي وحده قادر أن يزيل أثقالنا، ويدبر أمورنا لخيرنا، ويهبنا السلام الداخلي الحقيقي، تاركًا أمر المخادعين المُصرّين على عدم التوبة في يديه. وجد المرتل أن حياته قد امتلأت همًا، أو صارت كحملٍ ثقيلٍ لا يقدر أن يحتمله، وإذ ألقاه على الرب صار الرب يعوله. لم يقل رفَع الحِمل عنه، ولا حمله الرب عنه، إنما صار يعوله، بمعنى أنه أعطاه إمكانية للاحتمال بفرح، والقدرة على العمل. فإن الله في حبه للإنسان لا يريد أن يفقده بركة العمل بالله ومع الله، إنما يقدم الله نفسه للإنسان "قوة "، وقائدًا، ومعينًا! حقًا ما أجمل عبارة الرسول بولس: "العاملان مع الله" (1 كو 3: 9)، "العاملين معي في المسيح يسوع" (رو 16: 3). نعمل مع الله في المسيح يسوع وبه! * لا يليق بجنود الملكوت (2 كو 10: 3) أن يقلقوا من جهة الطعام. فالملك يعرف كيف يقوت أهل بيته، وينشغل بهم، ويكسوهم. لهذا قال: "ألقِ على الرب همك، فهو يعولك" (مز 55: 22)[126]. القديس أمبروسيوس * إن كنت تؤمن أن الله يعولك، فلماذا تقلق وترتبك بالأمور المؤقتة واحتياجات الجسد...؟ "ألقِ على الرب همك، فهو يعولك" (مز 55: 22)، وأنت لن تفزع من أي رعبٍ يحل بك[127]. * خلال اتكالك على الله احتمل الحرمان من مستلزماتك الجسدية، فإنك سرعان ما تشبع. ليكن اشتياقك هو أن تتلقى احتياجاتك خلال الرجاء في الله، ولا تنتظر الخلاص من منطلق آخر، ولا التعزية من كائن آخر[128]. * يليق بنا أن نثق في الله لا في أنفسنا[129]. القديس مار إسحق السرياني * لنطرح همومنا على الرب، ولنثبت فيه. إني أحمله دائمًا أمورًا أكثر من هذه، وأشد عنفًا ومرارة[130]. القديس يوحنا سابا * إن كنتِ تتوقين إلى الطمأنينة التي كنتِ تتمتعين بها قبلًا بوجودك مع زوجك، وحماية ممتلكاتك، وحفظك من مكائد أولئك الذين يرغبون في مصائب الآخرين؛ "اَلقِ على الرب همكِ، فهو يعولكِ" (مز 55: 22). لقد قيل: "انظروا إلى الأجيال القديمة وتأملوا. هل توكَّل أحد على الرب فخزي... أو دعاه فأهمل" (حكمة يشوع 2: 11-12). فالله الذي هدَّأ هذه المصيبة غير المحتملة، معطيًا إياكِ الآن هدوءً، هو أيضًا يحصَّنك من الشرور التي تحدق بكِ. فلا تعودي تُسقطين نفسك تحت ضربة أقسى من التي أنتِ فيها (بعدم اتكالِك عليه). باحتمالك الضيقات الحالية بشجاعة، وأنتِ بعد ليس لكِ خبرة، يعطيكِ إمكانية لاحتمال الأمور التي تحدث مخالفة لإرادتكِ. الله لا يسمح! لذلك اُطلبي السماء، وما يخص الحياة الأخرى، فلا يقدر شيء ما أن يضركِ... حتى ولاة عالم الظلمة (الشياطين) أنفسهم لا يقدرون أن يضرونا ما لم نضر نحن أنفسنا بأنفسنا. لأنه حتى لو نزع جسدنا أو مزقه إربًا إربًا، هذا لا يعنينا طالما روحنا سليمة[131]. القديس يوحنا الذهبي الفم إذا ما صممت أن تحتمل الثقل بغير معينٍ، فإنه لا يكون ثقيلًا فحسب، بل وغير محتملٍ. أما إذا شاركك الرب حملك، "اَلقِ على الرب همَّك"، فهو نفسه يعمل. القديس باسيليوس الكبير يريدنا الله ألاَّ نهتم (نقلق)، وأن يكون لنا عمل واحد، ألا وهو عمل الملائكة، أي تمجيد الخالق بلا انقطاع، وأن تفرح بالتأمل فيه[132]. الأب يوحنا الدمشقي * لا تضع رجاءك في إنسان من أجل أي أمر من أمور هذه الدنيا لكي تبقى حرًّا. ألقِ على الرب همك، لكي يهتم بك الرب (مز 54: 23). * يا بُنيَّ، اهتم بقلبك، واحرص على فمك. كن وديعًا وودودًا للناس. وكن بلا همٍّ، "ألقِ على الرب همّك" (مز 55: 22). القديس إسطفانوس الطيبي وَأَنْتَ يَا اللهُ، تُحدِرُهُمْ إِلَى جُبِّ الْهَلاَكِ. رِجَالُ الدِمَاءِ وَالْغِشِّ لاَ يَنْصُفُونَ أَيَّامَهُمْ. أَمَّا أَنَا فَأَتَّكِلُ عَلَيْك َ[ع23]. كأن المرتل وقد طلب لنفسه جناحين كحمامة ليطير إلى حضن الله، يرى المخادعين ينحدرون إلى هوة الفساد، يخسرون حياتهم الزمنية والأبدية. إن ما يشغل المرتل هو انطلاق نفسه نحو الله الذي يريدنا أن نكون معه نشاركه الحياة السماوية المفرحة التي بلا هم. * "رجال الدماء والغش لا يكملون نصف أيامهم" (راجع مز 55: 23)، لأنهم لا يتممون أعمال الفضيلة، ولا يجاهدون لإصلاح أخطائهم بالندامة. لذلك يُقادون إلى العالم السفلي، وحياتهم لا يكمل نصفها، وهم في ظلمة الخطأ[133]. القديس جيروم من وحي المزمور 55 هب لي جناحيّ الروح * إليك أصرخ يا الله إله خلاصي، فقد كثر عليّ الذين يحزنونني. حنقوا عليّ، وطلبوا نفسي ليهلكوها! * هب لي جناحي الروح كالحمامة، فأطير إليك، وفي أحضانك استقر واَستريح. * هب لي أن أطير إلى برية قلبي الداخلية، هناك أنفرد معك، أحاورك وتحاورني، فتحول برِّيتي إلى فردوس سماوي، وعوض الجفاف تقيم فيَّ نهر ماء يروي أعماقي. * أطير إلى أحضانك، عوض صغر النفس، تهبني روح القوة، وعوض زوابع العالم، تمتعني بهدوء السماء! * أطير إليك، فلا أرتبك من مدينة الإثم! لا أَنشغل بأسوارها المُحاطة بالإثم، ولا بساحاتها المملوءة غشًا وربا! * أطير إليك، فلا أرتبك من مقاومة الأعداء، ولا أضطرب لخيانة الأصدقاء، ولا انشغل بالكلمات المعسولة القاتلة كالسهام! لقائي بك يرفعني فوق كل عداوة، وتأملي في حبك يفرِّح نفسي. * عليك توكلت، تعمل فيٌ وبيّ، وتسندني حتى أطير، وألتقي بك! |
||||
28 - 01 - 2014, 05:22 PM | رقم المشاركة : ( 58 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 56 - تفسير سفر المزامير تسبحة الحمامة البكماءمناسبته هذا المزمور هو تسبحة الحمامة البكماء، أي خاصة بالمؤمن الذي يقف أمام الضيقات والتجارب في عجزٍ تامٍ. فإذ يُصاب كما بصدمةٍ في أعماق نفسه، ويتوقف لسانه عن الكلام، يئن قلبه ويصرخ، فيستجيب الله لأنات القلب، ويصنع عجائب. عندئذ ينفتح قلب المؤمن وفكره وكل أحاسيسه مع لسانه للتسبيح لله وتقديم ذبائح شكر مقبولة لدى الله. الحمامة البكماء هي الكنيسة المتألمة في كل عصرٍ، وفي كل جيلٍ، كما هي المؤمن الحقيقي، العضو الحيّ في كنيسة المسيح المصلوب. تصدر صرخات داود النبي من قلوب الكثيرين، حين يشعر الإنسان كأن كل من هم حوله يودون أن يبتلعوه، أو يفترسوه، حتى وإن أظهروا كلمات معسولة أو حنانًا ظاهريًا. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن من بركات الرب على الإنسان أنه لم يهبه أنيابًا كالأسود، ولا قدرة على السرعة، مثل كثير من الحيوانات، ولا ضخامة جسم كالفيلة، لأن هذه الحيوانات المفترسة غالبًا ما لا تؤذي من هم من فصيلتها، أما الإنسان فكثيرًا ما يود أن يؤذي أخاه الإنسان حتى وإن لم يكن قد بادره بأذيته. فلو كان للإنسان هذه الإمكانيات التي للحيوانات لبادت البشرية من على وجه الأرض. يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن داود النبي -الحمامة البكماء- يتحدث عن الأعداء، ويقصد بهم الشياطين التي تثير البشر، ليحملوا عداوة ضد أبناء الله. إذ تريد أن تطأ عليهم كما بأقدامها. كما يقصد هنا بالعدو شاول الملك الشرير، وأيضًا أنطيوخس أبيفانس الذي قاوم شعب الله، ودنس الهيكل مقدمًا خنزيرًا على المذبح في أيام المكابيين، وأيضًا يرى في العدو بابل التي أسرت الشعب. من المحتمل أن يكون هذا المزمور تسبحة شعبية، قُدمت بمناسبة احتفال قومي، يقدم فيه الشعب الشكر لله في مدينة أورشليم. ربما يكون أحد احتفالات الخريف، حيث يتطلع المؤمنون إلى سنةٍ جديدةٍ تكون مملوءة بالبركات. يمارس المؤمنون في الاحتفال طقوسًا معينة، خلالها يطلبون حلول بركة الله عليهم. ويرى البعض أن هذه التسبحة أنشدها الشعب في احتفال أقيم في الربيع بمناسبة تقديم البكور في عيد الفصح، حيث تتسم البلاد في ذلك الوقت بالمروج الخصبة. ويرى آخرون أنها أُنشدت بعد عبور مجاعةٍ ما، حيث أنعم الله على شعبه بأمطار ردت الخصوبة للأرض، وقدمت ثمارًا عوضت المجاعة. على كل الأحوال، إنه مزمور شكر لله واهب الخيرات، ومعطي البركات، ومانح البهجة بروحه القدوس. يكشف هذا المزمور عن حقيقة هامة، وهي أننا كلما اقتربنا من الله، فاضت أعماقنا بالتسبيح وقبول إرادته التي تعمل دومًا لنمونا وتقدمنا المستمر. يربط التقليد الكنسي هذا المزمور (خاصة أية 4) بليتورجيات الجنازات، حيث يرى المؤمنون أن الذي عاش يسبح الله في بيت الرب، وفي وسط الطبيعة الجميلة، يهتف ويغني في الأودية كما على التلال، ينطلق ليسبح مع طغمات السمائيين إلى الأبد. 1. التسبيح لله في بيت الرب العنوان1-4. 2. التسبيح لله وسط الكون 5-8. 3. التسبيح لله على عطاياه 9-13. من وحي مز 56 لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى الْحَمَامَةِ الْبَكْمَاءِ بَيْنَ الْغُرَبَاءِ. مُذَهَّبَةٌ لِدَاوُدَ عِنْدَمَا أَخَذَهُ الْفِلِسْطِينِيُّونَ فِي جَتَّ. جاء العنوان في الترجمة السريانية: "شكر الإنسان البار من أجل خلاصه من عدوه، من يد شاول؛ وأيضًا بخصوص اليهود والمسيح". هرب داود من وجه شاول، وذهب إلى جت مرتين. في المرة الأولى ذهب وحده، وإذ أرادوا أن يمسكوه كعدوٍ لهم ويقتلوه، تظاهر بالجنون، فتركوه وهرب منهم. وفي المرة الثانية التجأ إلى جت وبصحبته ستمائة رجل، فقبلوه باحتفالٍ، واثقين به، وأسكنوه هو وأتباعه في مدينة صقلات. من هي الحمامة البكماء إلا داود العاجز عن الدفاع عن نفسه، بكونه كحمامة لا قوة لها عن الدفاع، خاصة وإن كانت بكماء. إذ عجز عن الدفاع عن نفسه، حتى بالكلام، التصق بالرب القادر وحده أن يدافع عن مؤمنيه. يرى القديس أغسطينوس أن العنوان يبدأ بكلمة "عند النهاية". وكما يليق بنا أن نتعرف على العنوان الذي نذهب إليه، هكذا نعرف أن العنوان إلى النهاية يشير إلى السيد المسيح بكونه نهاية الناموس للبرّ لكل من يؤمن (رو 10: 4). [لهذا عندما نسمع "عند النهاية" يلزمنا أن نركز انتباهنا نحو المسيح، حتى لا نتلكأ في الطريق فلا نبلغ النهاية.] هذا وقد اعتادت الترجمة السبعينية وترجمة الفولجاتا أن تترجم كلمة "الفلسطينيون" Allophyli، وفي نظر القديس أغسطينوس تعني "الغرباء"، ويُقصد بهم من هم غرباء أو البعيدين عن القديسين. فإن كان الله يدعو شعبه المقدس كرمته، فإنه يدعو غير المؤمنين "جفنة غريبة" (إر 2: 21). أما "جت" ففي نظر القديس أغسطينوس معناها "معصرة"، وهي بهذا تشير إلى الكنيسة. * نقول عن "جت" إنها مدينة. أما تفسير هذا الاسم إذا سؤلنا، فهو "معصرة"... كيف أُخذ في جت؟ أخذ في معصرة عنب في جسده (المسيح)، أي في كنيسته. ماذا في معصرة العنب؟ الضغط. بالضغط تكون معصرة العنب مثمرة. فالعنب الذي على الكرمة لا يُمارس عليه ضغط، يبدو كأنه سليم تمامًا، لكنه لا يفيض شيئًا. إذ يُطرح في المعصرة، ويُداس عليه، يصير تحت الضغط ويبدو كأن العنب قد أصابه ضرر، لكن هذا الضرر ليس عقيمًا. بل إن لم يحدث له ضرر يبقى عقيمًا. القديس أغسطينوس 1. التسبيح لله في بيت الرب إذ يدخل المؤمن إلى الرب، يلقي بخطاياه عند قدمي الله مخلصه، الذي وحده يكفر عنها، فيتمتع بالمصالحة مع السماوي. يشعر المؤمن أنه في بيت أبيه، القادر أن يشبع كل احتياجاته بدسم محبته الفائقة. يقترب إليه، ويطلب الاتحاد معه، ويود ألاَّ يفارق الموضع المقدس. اِرْحَمْنِي يَا اللهُ، لأَنَّ الإِنْسَانَ يَتَهَمَّمُنِي، وَالْيَوْمَ كُلَّهُ مُحَارِبًا يُضَايِقُنِي [ع1]. كلمة "يَتَهَمَّمُنِي"تعني:يلاحقني ظمآن إلي دمي. جاءت الكلمة مترجمة في مواضع أخرى "يدوسني" أو "يسحقني" (مز 57: 3). كان الملك شاول بكل إمكانياته يقاوم داود ويطلب قتله، لكن داود لم يخشَ الملك، إذ يعلم أنه إنسان فانٍ، ملح فاسد سيُداس من الناس. لهذا لم يقل: "لأن الملك يبتلعني"، بل "الإنسان يبتلعني". فمهما ظن الأشرار أنهم أصحاب سلطان، قادرون على أن يطأونا بأقدامهم أو يبتلعونا، فإن الله يرحمنا ويرفعنا، أما هم فبشرهم يسقطون تحت الأقدام. بينما يُشبه داود بحمامة بكماء عاجزة عن أن تفتح فمها للدفاع عن نفسها، إذ بفم العدو ينفتح لا لينطق بالكذب والافتراءات فحسب، وإنما ليبتلع داود نفسه. هوجم داود من أبناء وطنه حتى من أهل بيته وأصدقائه، والآن صار بين أعدائه الفلسطينيين، متوقعًا أن يبتلعوه وهو حيّ. فالحرب ضده مستمرة من خاصته كما من أعدائه. لا خلاص له إلاَّ بالله القدير ينبوع كل رحمة! ليس من إنسان يثق فيه؛ لم يعد له ملجأ آمن سوى إلهه. يصرخ المرتل إلى الله لكي يُحسن إليه ويرحمه، فإن الإنسان بوجهٍ عام، دون تحديدٍ لأسماءٍ أو جماعاتٍ معينةٍ، قد وضع في قلبه أن يتهممه، أي يلاحقه ظمآن إلي دمه، أو يبتلعه، مثل وحشٍ يفترسه تمامًا. لا يجد المرتل راحة قط، فالمقاومة مستمرة ضده "اليوم كله"! الإنسان المسيحي في محبته الفائقة لإخوته في البشرية، يشعر أن العدو الحقيقي الذي يقاومه بلا توقف هو إبليس ومعه كل قوات الظلمة الروحيين. * ليت القديسين الذين يعانون من ضغط من هم غرباء عن القديسين أن ينتبهوا إلى هذا المزمور... لننتبه إلى عدوين، ذاك الذي نراه، والذي لا نراه. نحن نرى البشر، ولا نرى الشيطان. لنحب الإنسان، ونحذر من الشيطان. نصلي لأجل الإنسان، وضد الشيطان. لنقل لله: "ارحمني يا الله، لأن الإنسان يطأ عليّ" [1]... لا تخف لأن الإنسان يطأ عليك، سيكون لك خمر، إذ صرت عنبًا لكي يطأ الإنسان عليك. العنقود الأول في المعصرة الذي ضغط عليه هو المسيح (إش 53: 3)... ليقل أيضًا جسده، متطلعًا إلى الرأس: "ارحمني يا الله، لأن الإنسان وطأ عليّ". القديس أغسطينوس تَهَمَّمَنِي أَعْدَائِي الْيَوْمَ كُلَّهُ، لأَنَّ كَثِيرِينَ يُقَاوِمُونَنِي بِكِبْرِيَاءٍ [ع2]. في كل الأزمنة يحمل الأشرار نوعًا من العداوة ضد الأبرار. أما سرّ العداوة فهو ليس بسبب شرٍ يفعله الأبرار بهم، وإنما بسبب كبريائهم. فقد تشامخ إبليس وملائكته حتى على الله. وها هم في كبريائهم يودون أن يسحقوا كل مؤمنٍ. لكن سرعان ما تتحطم أياديهم العالية، وترجع شرورهم عليهم فيهلكون (مز 54: 5). * أظهر النبي بقوله هذا ما كتبه الرسول (بولس) في الأصحاح السادس من الرسالة إلى أفسس: "فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 6: 12). إنهم الأبالسة الذين يهيجون أناسًا مثل شاول وأنطيخوس وأهل بابل، ويثيرونهم على أذية البشر الأبرياء وممارسة الظلم. فالأبالسة أيضًا تدوس جماعة الأمم، وتثقل عليهم بعبادة الأصنام وبلذة الشهوات، ولا تزال تحاربنا لكي تطأ علينا شهوة الأرضيات. لكن من يرتقي إلى علو الفضائل ولا ينزلق في الولع بالأرضيات يكون أكثر علوًا منها، ولا تقدر أن تطأ عليه. الأب أنثيموس الأورشليمي * "اليوم كله"، أي كل الزمان. لا يقل أحد في نفسه: "كانت هناك أتعاب في أيام آبائنا، أما في زماننا فلا توجد متاعب. إن ظننت في نفسك أنه لا توجد متاعب تضايقك، فإنك لم تبدأ بعد تكون مسيحيًا. أين يوجد صوت الرسول: "وجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهدون" (2 تي 3: 12). فإن كنت لا تُضطهد قط من أجل المسيح، احذر لئلا تكون لم تبدأ بعد تعيش بالتقوى في المسيح. ولكن عندما تبدأ تعيش بالتقوى في المسيح، فإنك تدخل المعصرة، وتتهيأ للعصر. لا تكن جافًا لئلا لا تفيض شيئًا عند العصر. القديس أغسطينوس فِي يَوْمِ خَوْفِي، أَنَا عَلَيْكَ أَتَّكِلُ [ع3]. بقوله: "في يوم خوفي" لا ينكر داود أنه كان يعاني أحيانًا من الخوف، لكنه لم يكن يستسلم لليأس، وإنما يقول: "انتظرتك يا رب، انتظرت نفسي، وبكلامه رجوت. نفسي تنتظر الرب أكثر من المراقبين الصبح" (مز 130: 5-6). اتسم داود النبي بالشجاعة، لكنه عانى أحيانًا من الخوف. يوم خوفه هو اليوم الذي فيه هرب من وسط شعبه، والتجأ إلى الأعداء. وإذ خشي أن يكتشفوا أنه هو الذي قتل جليات، وأنه كان سببًا في هزيمة جيشهم، تظاهر بالجنون أمام ملك جت ليفلت من يده ويهرب (1 صم 21). عندما كان داود يشعر بالخوف بسبب ضيقة حلت عليه، كان يتكئ على الله، فتستريح نفسه، ويُنزع الخوف منه. في أظلم اللحظات حين يحل به الخوف لم يكن يفقد المرتل رجاءه في الرب. حقًا إن الصديقين لا يتحرروا تمامًا من الخوف في لحظات معينة، إنما حتى هذا الخوف يدفعهم إلى الصراخ إلى الله والثقة فيه، فيُحسب ليس سقوطًا بل تزكية لهم. من لا يتكئ على صدر الله عندما يُهاجم بالمخاوف يُحسب كمن ينكر وجود الله، ويجحد العناية الإلهية. يرى البعض أن كلمة "يوم" هنا يُقصد بها "نهار"، فحيث تستنير نفس المؤمن بنور الله، لن يقدر أن يحل الخوف بها، إذ تضع كل اتكالها ورجائها في الله الذي ينيرها بفرحه الأبدي. جاءت الترجمة في تفسير الأب أنثيموس الأورشليمي: "علو النهار لا أخاف، لأني عليك توكلت" [ع3]. * إن قوله: "من علو النهار" معناه أن أعدائي يحاربونني من قديم الأيام لكي يهزموني، أي منذ اغتصاب فرعون وأتباعه لي في عبودية مصر. لكني لا أخاف لاتكالي عليك... آخرون وصفوا ذلك: "لأن الذين يقاتلونني كثيرون من العلو" بهذا يدل على محاربة الشياطين الساقطين من العلو. يضيف: "في النهار لا أخاف"... بمعنى أن المستضيء بنور الإيمان، كأنه في يوم منير، سالك في النهار بجمال النور، كما كتب الرسول إلى أهل رومية. هذا هو حال من يتكل على الله ولا يخاف. الأب أنثيموس الأورشليمي * حاليًا يأتي البرّ من الإيمان، إنه البدء الذي يهبنا إياه الروح. يبدأ حينما نتعرف على أفعالنا الشريرة، عندما لا نعود نبرر خطايانا، لكنه يبلغ الكمال فقط عندما يُبتلع الموت إلى غلبة. في اللحظة التي فيها لا نزال وسط المعركة نُحارب ونُجرح، نسأل أنفسنا: من الذي يغلب؟ أيها الإخوة، الغالب هو ذاك الذي يعتمد على الله، الذي يحثه وهو يحارب، ولا يعتمد على قوته. للشيطان خبرته في الحرب، لكن إن كان الله معنا فسنغلبه. يحارب الشيطان بذاته، فإن حاولنا أن نفعل ذات الأمر، فسيغلب. إنه محارب مختبر، لهذا فلتستدعي القدير ليقف ضده. ليقطن فيك ذاك الذي لا يُغلب، فستغلب ذاك الذي عادة ما ينتصر. من هم الذين يغلبهم؟ أولئك الذين قلوبهم فارغة من الله. الحب هو كمال ناموس الله وغاية وصاياه. إننا لم نأخذ الناموس الذي يهددنا من الخارج، بل ناموس البرّ في قلوبنا[134]. القديس أغسطينوس اَللهُ أَفْتَخِرُ بِكَلاَمِهِ. عَلَى اللهِ تَوَكَّلْت،ُ فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُهُ بِي الْبَشَرُ [ع4]. الخط الرئيسي في هذه التسبحة هو اتكال المرتل على الله، فلا يخشى أية مقاومة، خاصة الصادرة من البشر. التمسك بالوعود الإلهية، أو الالتصاق بكلمة الله، يحول مخاوفنا من مراثٍ إلى تسابيح شكر لله مخلصنا. هذا ما دفع المرتل وسط مخاوفه أن يتغنى "أفتخر بكلامه". فإن كلام الله حق، قادر أن يرفعنا إلى الحضرة الإلهية، ويدخل بنا إلى النور الإلهي، فلا تكون للظلمة سلطان علينا. "ماذا يصنعه بي البشر؟" جاءت كلمة "بشر" هنا بمعنى الجسد الترابي، الذي لن يقدر أن يقف أمام الله، إذ لا حول له ولا قوة. قيل: "إنهم بشر؛ ريح تذهب ولا تعود" (مز 78: 39). وأيضًا: "فقال الرب: لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد لزيغانه، هو بشر!" (تك 6: 3). وأيضًا: "كل جسدً (بشرٍ) عشب، وكل جماله كزهر الحقل. يبس العشب، ذبل الزهر، لأن نفخة الرب هبت عليه. حقًا الشعب عشب" (إش 40: 6-7). يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن كلمة "البشر" هنا تعني الجسدانيين، كقول الرسول بولس: "لأنكم بعد جسديون، فإنه إذ فيكم حسدُ وخصام وانشقاق، ألستم جسديين، وتسلكون بحسب البشر" (1 كو 3: 3). وقوله: "لأن اهتمام الجسد هو موت، ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام" (رو 8: 6). فالإنسان الروحاني يتكل على الله، فلا يخاف من الإنسان الجسداني المائت. الأول يحمل فيه الحياة الأبدية، وسلام الله، أما الثاني فيحمل الموت الأبدي. * إن قوله: "بالله أمدح أقوالي" يعني: "إني قلت ولم أخف، لكني لست مفتخرًا بقوتي، بل امتدح الله". وأيضًا بمعنى: "في وقت شدتي أنطق بتسابيح مجملة باسم الله". وأيضًا بمعنى: "إذا أعانني الله كي استغيث به، يمدح الناس صدق أقوالي". وأيضًا: "إن أقوالي تتضمن معرفة الله والاتكال عليه، لذلك فهي ممدوحة". فمن يتكل على الله يكون إنسانًا روحانيًا، فلا يفزع من إنسان مائت، لأن المائت يُسمى في الكتاب بشرًا (جسدًا). الأب أنثيموس الأورشليمي يربط القديس أغسطينوس بين عدم خوف المرتل واتكاله على الله، قائلًا بأن المرتل لا ينسب عدم خوفه إلى نفسه، بل إلى رجائه في الله الذي يتكل عليه. وفي هذا يختلف المرتل عن الأشرار الذين لا يخافون من الآخرين، لا لاتكالهم على الله، وإنما بسبب عنفهم وقسوة قلوبهم. لا يدهش القديس أغسطينوس من المرتل الذي كان يئن، لأن الإنسان يطأ عليه بقدميه، واليوم كله يضايقه [1]، وها هو يقول: "لا أخاف، ماذا يصنع بي البشر" [4]. فقد كان عنبًا، والآن إذ وطأ عليه الإنسان بقدميه فاض منه خمر. هكذا بالاتكال على الله لا نخشى بشرًا، لأن الله يحول الضيقة في حياتنا إلى فيضٍ من الخمر الروحي أو من الفرح الداخلي. 2. التسبيح لله وسط الكون إن كنا في بيت الرب نشعر بالعودة إلى بيتنا، لنستقر في حضن الله أبينا، فإننا في الكون بكل جماله وإمكانياته نشهد لقدرة الله أبينا، الذي خلق العالم لسعادة الإنسان وبهجته. الْيَوْمَ كُلَّهُ يُحَرِّفُونَ كَلاَمِي. عَلَيَّ كُلُّ أَفْكَارِهِمْ بِالشَرِّ [ع5]. يتعجب داود النبي مما يفعله الأشرار المحيطون بشاول، فيحرِّفون تصرفاته وكلماته بافتراءات: "وقال داود لشاول: لماذا تسمع كلام الناس القائلين هوذا داود يطلب أذيتك" (1 صم 24: 9). لقد اتفق الأشرار معًا في التفكير بالشر ضد داود لأجل أذيته. "كل مبغضي يتناجون معًا عليّ؛ عليَّ تفكروا بأذيتي" (مز 41: 7). إن كان داود النبي يفتخر بكلام الله ووعوده الصادقة الأمينة، فإنه يشتكي من كلام الأشرار وأفكارهم الخفية فإنها متغيرة وملتوية، تنصب الشباك لاصطياد الصديقين وافتراسهم. إذ ينطق المؤمن بكلمات الحق، ماذا يتوقع من الأشرار مبغضي الحق؟ "اليوم كله يحرفون كلامي". إنهم يقاومون الحق الذي ينطق به المؤمن الحقيقي وتتحول كل أفكارهم للتخطيط ضده. * هكذا هم (يحرفون كلامنا)، لتعلموا هذا. تكلموا بالحق، اكرزوا بالحق، اعلنوا عن المسيح للوثنيين، أعلنوا عن الكنيسة للهراطقة، أعلنوا عن الخلاص لكل البشر. إنهم يقاومون ويحرفون كلماتي. وحينما يحرفون كلماتي، من يقاومون سوى ذاك الذي أفتخر بكلامه؟ "اليوم كله يحرفون كلامي" [5]... عندما يرفضون الكلمات، عندما يبغضونها، فإن هذه الكلمات يفيض منها الحق، فماذا يفعلون بذاك الذي ينطق بها؟ ماذا يفعلون سوى ما جاء بعد ذلك: "عليَّ كل أفكارهم بالشر" [5]. إن كانوا يبغضون الخبز نفسه، فماذا يفعلون بالسلة التي بها يُخدم الخبز...؟ إن كانوا قد صاروا ضد الرب نفسه؛ ليت الجسد لا يستنكف مما قد حدث مع الرأس، حيث يلتصق الجسد بالرأس. لقد استخفوا بربك، فهل تنتظر أن تُكرم بواسطة أولئك الذين صاروا غرباء عن القديسين؟ لا ترغب لنفسك إن تطالب بما لم يطالب به ذاك (المسيح) قبلك. "ليس التلميذ أفضل من المعلم، ولا العبد أفضل من سيده. يكفي التلميذ أن يكون كمعلمه، والعب كسيده. إن كانوا قد لقبوا رب البيت بعلزبول، فكم بالحري أهل بيته" (مت 10: 24-25). القديس أغسطينوس يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن المرتل هنا يشير إلى اليهود الذين يشوّهون كلمات ربنا يسوع ليصطادوه بكلمة، ويسلموه للحاكم. وبعد صعوده استخدموا نفس الأسلوب مع الرسل والتلاميذ. هذا ما نلاحظه في خطاب الرسول بولس في أيامه الأخيرة، إذ قال لوجوه اليهود عند وصوله إلى روما: "أيها الرجال الإخوة مع أني لم أفعل شيئًا ضد الشعب أو عوائد الآباء، أُسلمت مقيدًا من أورشليم إلى أيدي الرومانيين" (أع 28: 17). * إن الله كثير الرحمة لكل الداعين إليه، ومراحمه على كل أعماله (مز 145: 9). تأملوا في العالم ترون ذلك من تلك التأثيرات الظاهرة في كل مكان. فتشوا الكتاب المقدس، تجدوا آدم وحواء عريانين خائفين، ورحمة الله متجلية بشعائر المحبة، وتدعوهما كأم حنون لتكسوهما وتطمئنهما. القديس يوحنا الذهبي الفم يَجْتَمِعُونَ يَخْتَفُونَ، يُلاَحِظُونَ خَطَواتِي، عِنْدَمَا تَرَصَّدُوا نَفْسِي [ع6]. لم يقف الأمر عند اتفاق الأشرار في التفكير بالشر ضده، وإنما تحول الفكر إلى عمل، للاجتماع معًا في سريةٍ، للتخطيط العملي لأذيته. لقد ترصدوا نفسه، أي طلبوا قتله، فصاروا يراقبون خطواته، لوضع خطة محكمة للخلاص منه. "لأنهم يكمنون لنفسي" (مز 59: 3). "فاذهبوا أكدوا أيضًا، واعملوا جميع المختبآت التي يختبئ فيها، ثم ارجعوا إليّ" (1 صم 23: 22-23). ليس ما يرضي الأشرار سوى موت الصديقين وهلاكهم. * جاء في ترجمة سيماخوس أنهم كانوا مجتمعين خفية، مترصدين آثاره، مترقبين هلاك نفسه. كانوا يعقدون مجامع ويفحصون سيرته، ابتغاء هلاك نفسه. الأب أنثيموس الأورشليمي عَلَى إِثْمِهِمْ جَازِهِمْ. بِغَضَبٍ أَخْضِعِ الّشعُوبَ يَا اللهُ [ع7]. جاء في الأصل العبري: "هل ينجون بإثمهم؟" يظن الأشرار أن الشر يحمل قوة، فلا يخشون الموت، ولا يضطربون من الهاوية. "لأنكم قلتم: قد عقدنا عهدًا مع الموت، وصنعنا ميثاقًا مع الهاوية" (إش 28: 15). لكن المرتل يدرك عجزهم عن الوقوف أمام غضب الله: "وأنت يا الله تحدرهم إلى جب الهلاك. رجال الدماء والغش لا ينصفون أيامهم" (مز 55: 23). قد يزدهر الأشرار وينجحون، ولكن لن يستقر نجاحهم، ولن تستريح أعماقهم، ولن يذوقوا سلام الله الداخلي في القلب. تَيَهَانِي رَاقَبْتَ. اجْعَلْ أَنْتَ دُمُوعِي فِي زِقِّكَ. أَمَا هِيَ فِي سِفْرِكَ؟ [ع8] بينما يراقب الأشرار خطوات الصديق للتخطيط لأذيته، إذا بالله يراقب الصديق وهو في هروبه، ليجمع دموعه كرصيد مجدٍ يُعد له. يهتم الأشرار بالبار للخلاص منه، ويهتم الله به لخلاصه. "أليس هو ينظر طرقي، ويحصي جميع خطواتي: (أي 31: 4). "وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعًا محصاه" (مت 10: 30). يسجل الله متاعب مؤمنيه ودموعهم في كتابه، كأحداث تشغل قلبه، تعلن دموعهم عن إخلاصهم وحبهم، فيعتز بها ويكافئهم عليها. إنه يحفظ دموعهم كما في زقٍ. تشبه الرسول بولس بسيده فكتب لتلميذه المحبوب لديه جدًا: "مشتاقًا أن أراك، ذاكرًا دموعك لكي امتلئ فرحًا" (2 تي 1: 4). قيل إنه كانت هناك عادة قديمة أن يضع الإنسان زقًا أو وعاء تحت عينيه، يجمع فيه دموعه في أوقات الحزن والضيق، ويقوم بختمها، وحفظها في بيته. وعند موته تدفن معه هذه الأوعية بكونها تحتوي أقدس ممتلكاته. كانت هذه الأوعية من زجاج رقيق، مختلفة الأحجام من 3 إلى 6 بوصات في الطول. عندما كان داود يقول: "خطيتي أمامي في كل حين" (مز 51: 3) ربما كان يضع أوعية دموعه أمام ذهنه هذه التي تحتوي على دموع توبته التي كان يعوم بها سريره كل ليلة[135]. * اجتهد للسير في الطريق الضيق لتدخل مدينة السلام، أورشليم المهيَّأة كعروسٍ لعريسها! ولكن الطريق إليها تعوزه دموع تُذرف ليلًا ونهارًا. - أعوًم كل ليلة سريري بدموعي أبل فراشي! (مز 6: 6). - صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلًا! (مز 42: 3). - قد أكلت الرماد مثل الخبز، ومزجت شرابي بدموعٍ! (مز 102: 9). - يا رب لا تسكت عن دموعي، لأني أنا غريب عندك! (مز 39: 12). - يا رب اجعل دموعي في زق عندك, أما هي في سِفْرِك؟ (مز 56: 8). القديس مقاريوس الكبير * أنت ترى دموعي كأنها تجاه عينيك، يا من تعلم الخفيات، وحققت ما قد وعدت به قائلًا: "طوبى للحزانى لأنهم يتعزون". الأب أنثيموس الأورشليمي * الدموع التي تسكب حقًا من حزنٍ شديدٍ، وكآبة قلب، وبمعرفة للحق، واحتراق في الداخل، إنما هي طعام للنفس، يأتيها من الخبز السماوي الذي سبقت مريم وأخذت منه، عندما جلست عند قدميّ الرب، وسكبت بحسب ما شهد لها المخلص نفسه. إذ قال: "لقد اختارت مريم النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها" (لو 10: 42). فما أثمن الدرر التي تتساقط مع انسكاب وفيض الدموع المغبوطة![136] القديس مقاريوس الكبير 3. التسبيح لله على عطاياه ما يشغل ذهن المؤمن فيض مياه الروح القدس خلال عتبة بيت الرب (حز 47). عوض جفاف العالم. يسكب الله روحه، ليقيم من النفس القفر الجافة فردوسًا سماويًا. كان سكب الماء في احتفالات عيد الفصح بواسطة رئيس الكهنة خلال إبريق ذهبي جزءً حيويًا في الطقس. إن كان المؤمن يتهلل بحب الله الذي يسكب عطية روحه القدوس في أعماق النفس، لكي يقيم من الإنسان الداخلي أيقونة حيَّة للعريس السماوي، فإن المرتل يتطلع إلى الطبيعة، فيرى الوديان بثوب الخضرة، وقد تمنطقت الآكام بمنطقة البهجة. كل الطبيعة ترقص وتغني للخالق العجيب في عطاياه ورعايته الإلهية. حِينَئِذٍ تَرْتَدُّ أَعْدَائِي إِلَى الْوَرَاءِ، فِي يَوْمٍ أَدْعُوكَ فِيهِ. هَذَا قَدْ عَلِمْتُهُ لأَنَّ اللهَ لِي [ع9]. إذ يدعو البار الله ليختفي فيه، كما في ملجأ وحصن، يرجع الأشرار إلى الوراء في رعبٍ شديدٍ. "عند رجوع أعدائي إلى خلف يسقطون ويهلكون من قدام وجهك" (مز 9: 3). هذا هو ما عرفه (علمه) المرتل أن الله هو مخلصه من كل أعدائه، فإليه يلجأ، وبه يحتمي عندما يهرب إليه. * عند قبولك دعائي للوقت يهرب أعدائي، ويتحقق علمي بك أنك ناصري. الأب أنثيموس الأورشليمي يقدم لنا القديس أغسطينوس السيد مثالًا، حينما انتهره بطرس الرسول عندما تحدث عن صلبه، قال الرب لبطرس: "اذهب عني يا شيطان، لأنك تهتم بما لله، لكن بما للناس" (مت 16: 3). بهذا تحقق القول: "حينئذ ترتد أعدائي إلى الوراء" [9]. وهو بهذا لا يريد لبطرس أن يبقى إلى الوراء، إنما لكي ينسحب من تصرفه الخاطئ ويرجع عما هو عليه. [لهذا الهدف تثور التجارب، لكي يفرغ الإناء من الشر، ويعود فيمتلئ بالنعمة.] * يا لها من معرفة عظيمة! لا يقول: "لقد علمت أنك أنت هو الله"، وإنما "أنت هو إلهي" [9]. إنه لك، عندما يساعدك. إنه لك حينما لا تكون غريبًا عنه عندما يُقال: "طوبى للشعب الذي الرب إلهه" (مز 144: 15). لذلك لمن هو؟ ولمن ليس هو؟ فوق كل شيء، الله هو للناس الذين هو لهم على وجه الخصوص، الذين يحبونه، ويتمسكون به...، الذين يتعبدون له، كمن ينتمون لبيته: هم أسرته العظيمة، الذين يخلصون بدم ابنه الوحيد العظيم. يا له من أمرٍ عظيم يوهب لنا أن نصير خاصته، وهو خاصتنا! القديس أغسطينوس اَللهُ اَفْتَخِرُ بِكَلاَمِهِ. الرَبُّ أَفْتَخِرُ بِكَلاَمِهِ [ع10]. ما يشغل قلب المرتل وسط مخاوفه ليس الضيقات التي يود الخلاص منها، لكن كلمات الله ووعوده التي تدخل بالنفس إلى الحضرة الإلهية فتملأها فرحًا وتهليلًا. يزدري الشرير بكلمة الله، أما البار فيفتخر بها. "من ازدرى بالكلمة يخرِّب نفسه، ومن خشي الوصية يُكافأ" (أم 13: 13). يقول الأب أنثيموس الأورشليمي إن الكلام هنا هو العلم اليقين بتمام معرفة الله، من يعرفه يتكل عليه، فلا يخشى إنسانًا سريع الزوال. يلاحظ هنا أن المرتل يستخدم اللفظين: الله (ألوهيم) والرب (يهوه)، الأول يُستخدم للقدرة الإلهية، والثاني لسكنى الله وسط شعبه، وكأن المرتل يسبح الله على قدرته وحنوه على شعبه. عَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُهُ بِي الإِنْسَانُ؟ [ع11]. * إني متذكر ما قد نذرته لك يا الله ولا أنساه، وإني مهتم بوفائه، لأنه مثل دين عليّ، وهو أن أقدم ذبائح التسبحة. الأب أنثيموس الأورشليمي * لماذا يقول لنا: "افرحوا" ألا لأنه قد غلب لأجلنا، وحارب لأجلنا؟ أين حارب؟ لقد حارب بأن أخذ طبيعتنا له... لقد غلب من أجلنا نحن الذين أظهر لنا قيامته... التصق يا إنسان بالله، هذا الذي خلقك إنسانًا. التصق به جدًا، ضع ثقتك فيه. أدعه، ليكن هو قوتك. قل له: "فيك يا رب قوتي". عندئذ تتغنى عندما يهددك الناس، وأما ما تتغنى به فيخبرك الرب نفسه: "إني أترجى الله، لا أخشى ماذا يفعل بي الإنسان" (مز ٥٦: ١١)[137]. القديس أغسطينوس * إذا اقترب منك بعض الناس، ودخل الشيطان بينهم، وتكلموا معك بالشر وشتموك، فاُنظر إلى ما قاله النبي: "لو أنّ عدوًّا عيّرني لاحتملتُ، ولو تكلم مبغضي عليَّ بتبجُّحٍ (أو بتعظُّمٍ أو بمباهاةٍ) لاختبأتُ منه" (مز 55: 12 السبعينية)، ولا تبرح قلايتك، بل أمكث فيها واصمت. إذا أضمروا شهادة زور ضدّك، فتلقّاها وقُل: "هكذا الأمر تمامًا (كما تقولون)"، فقط لا تسبَّهم بل اصمت، لأن الرب أيضًا صمت عندما شهدوا ضده بشهادات زورٍ، إنما قُل أنت: "دعوني أتوب". وسيرى الله تواضعك وسينجِّيك من التجربة بمعجزاتٍ عظيمة. إذا أخطأتَ وضلّلك الشيطان بنوعٍ من الضلال، فلا تقُل في قلبك: "لا توجد بعد توبة"، بل بالحري تأوّه وأبكِ حتى يتجدَّد بناء حياتك كما كانت من قبل[138]. أنبا ثيؤفيلس البطريرك * عندما يُمتدح عقلك وكل كيانك في الله، لا توجد علة للخوف من فقدان المديح، لأن الله لا يفشل. إذن لتعبر حتى فوق المديح المقدم لك[139]. الأب قيصريوس أسقف آرل اَللهُمَّ عَلَيَّ نُذُورُكَ. أُوفِي ذَبَائِحَ شُكْرٍ لَكَ [ع12]. ما هو النذر الذي كان المرتل يقدمه؟ وما هي الذبائح التي يدخل بها إلى الحضرة الإلهية؟ النذر الذي يقدمه هو أن يقبل إرادة الله بفرحٍ ويتهلل بأعماله، واثقًا في رحمته الإلهية ومحبته الفائقة نحو. أما الذبائح فهي "ذبيحة التسبيح والشكر الدائم لله". "أدخل إلى بيتك بمحرقات. أوفيك نذوري" (مز 13: 66). * من مخزن القلب تقدم بخور الشكر؛ من مخزن الضمير الصالح تقدم ذبيحة الإيمان. كل ما تقدمه فليكن ملتهبًا بالحب، لتكن النذور في داخلك، تقدمها تسبيحًا لله. لماذا تسبيح؟ لأجل ما وهبك! "لأنك نجيت نفسي من الموت" [13]. القديس أغسطينوس لأَنَّكَ نَجَّيْتَ نَفْسِي مِنَ الْمَوْتِ. نَعَمْ وَرِجْلَيَّ مِنَ الزَّلَقِ، لِكَيْ أَسِيرَ قُدَّامَ اللهِ، فِي نُورِ الأَحْيَاءِ [ع13]. إذ يلجأ المؤمن إلى الله واهب الحياة، لن يقدر الموت أن يتسلل إلى نفسه. ولا يمكن لقدميه أن تنزلقا وتنحرفا نحو طريق الشر، إنما يسير بالكمال أمام الرب. لا تقدر ظلمة القبر أن تحبسه، بل ينطلق إلى الله، النور الحقيقي. إنه يسمع مع أبينا إبراهيم الصوت الإلهي: "أنا الله القدير. سرْ أمامي، وكن كاملًا" (تك 17: 1). * توضح الكنيسة كيف يمكنها أن تسر الرب في نور الأحياء (مز 56: 13)، الذي يعني بهاء القديسين، إذ بهم تصير الكنيسة جميلة بلا عيب ولا غضن. كل ما يحل عليهم يشرق من وجهها، وذلك كالإنسان الذي في صحة جيدة، يظهر وجهه وسيمًا بالأكثر. وكما يقول سليمان: "القلب الفرحان يجعل الوجه طلقًا" (أم 15: 13). هكذا فإن جمال ملامح الكنيسة المقدسة ينتشر بالأكثر عندما يوجد في استحقاقات المطوبين[140]. الأب كاسيدورس * ماذا كنت؟ لقد كنت ميتًا! بنفسي كنت ميتًا، بك ماذا أكون؟ أكون حيًا! القديس أغسطينوس من وحي مز 56 ليبكم فمي، وتتكلم أنت! * تقف أعماقي في دهشة، ويُصاب فمي بالبُكم، فقد حاصرني الضيق من كل جانب، وتحول الكل إلى غرباء! حتى الذين كنت أحسبهم أهل بيتي! هوذا الإنسان يود أن يبتلعني! * ألجأ إلى مراحمك الإلهية، يا أيها المُحسن إليّ! تتجلى أمامي، فيمتلئ قلبي سلامًا نحو كل إنسانٍ! ليس من عدو يقاومني سوى إبليس. إنه ينصب لي شباك الخطية اليوم كله! إنه يثير حتى إخوتي ضدي! لكن بك أنتصر عليه. يلتهب قلبي حبًا، حتى نحو مضايقي من البشر! لأن عدوًا واحدًا يود أن يفترس الجميع! أنت واهب النصرة، يا مخلصي! * هوذا قوات الظلمة تتبع خطواتي، لكي تنصب لي الشباك، وتقتلني. أما أنت يا إلهي، فتتبع خطواتي، لكي تحول الشرور لخيري، تهتم حتى بعدد شعر رأسي. عجيب أنت يا إلهي في حبك لي! وعجيبة هي رعايتك الفائقة! * أختفي فيك، فأنت ملجأي، وحصن حياتي. أرتوي بكلامك، وأشبع بحبك. حضورك يهبني الحياة، ويشبع كل كياني. حضورك يرعب العدو، فيرجع إلى الوراء في خزيٍ وعارٍ. * ماذا أقدم لك مقابل حبك الفائق؟ أنذر أن أكون لك بكليتي. أقدم لك ذبائح الشكر والتسبيح! أدخل إلى حضرتك في أمان، لأنك أنت النور الحقيقي، تبدد كل ظلمة العدو! لك الشكر يا مخلصي الصالح! |
||||
28 - 01 - 2014, 05:27 PM | رقم المشاركة : ( 59 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 57 (56 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير في وسط الأشبالأو فرح المرتل بالمسيَّا مخلصهمناسبته أنشد داود هذا المزمور حين كان مختفيًا في كهف، كما جاء في العنوان، سواء في كهف عدلام (1صم 22: 1-5) أو كهف عين جدي (1صم 24: 1-22). ووقع شاول مطارده في يده ولم يقتله. وربما يمثل هذا المزمور حياة داود بوجه عام، حيث كان يلجأ إلى كهوف بلده. كان داود هاربًا من وجه شاول، وكأنه كان يتمم ما قاله رب المجد: "متى طردوكم في هذه المدينة، فاهربوا إلى الأخرى" (مت 10: 41). كان داود يهرب من وجه شاول، حتى لا يثير غضبه بحضوره أمامه. يكشف المزمور عن الخطر الذي أحدق به، كما عبَّر عنه. "إنه كخطوة بيني وبين الموت" (1 صم 20: 4)؛ وعن مدى رعاية الله له وسط المخاطر. مفتاح هذا المزمور هو القرار: "ارتفع اللهم على السماوات، وعلى سائر الأرض مجدك" [5، 11]. ففي وسط المتاعب يتمجد الله الساكن في السماوات، العالي بظهوره وتجليه في حياتنا وسط الآلام. وإن كنا على الأرض وسط الأسود أو الأشبال، لكن فرحنا لا ينقطع، من أجل ذاك الذي يخلص نفوسنا من بين الأشبال، ويدفع بالعدو الشرير في ذات الحفرة التي أعدها لنا. ما يشغل قلب داود المرتل وسط ضيقه هو علاقته بالله نفسه. يبدأ داود بالصراخ إليه، طالبًا مراحمه الإلهية، مع شهادته بثقته العظيمة في الله سامع الصلوات وصرخات القلب [1]. إن كان يصف أعداءه كأسود [4] مفترسة، فإنه يقدم الشكر لله مقدمًا، وكأن خلاصه قد تحقق فعلًا [5]. في نفس الوقت ما يشغله أن يأتي اليوم الذي فيه يسبح الله مع شعبه [6-10]. مزمور مسياني إذ اُقتبست الآية 9 في العهد الجديد يرى كثير من الدارسين أن المزمور مسياني. فإن كان داود غالبًا ومنتصرًا، فبالأولى يكون ابن داود هكذا إذ غلب لحسابنا. وإن كان داود قد اخضع كل أعدائه، فبالأكثر هكذا صنع السيد المسيح بصليبه وقيامته من أجلنا[141]. يرى كثير من الآباء أن داود المختفي في المغارة، والغالب بتواضعه الملك شاول وكل جنوده امتلأ فرحًا وتهليلًا، لا من أجل نصرته على شاول، وإنما لأنه شاهد بعين النبوة المسيّا وقد جاء مختفيًا في الناسوت، ليعلن النصرة على إبليس وجنوده. النبوات الواردة في هذا المزمور عن ابن داود أ. أُعلن عن عنوان علة صلب السيد المسيح في عنوان هذا المزمور. ب. أشير أيضًا في عنوان المزمور إلى نصرة المسيح المصلوب بتحطيم إبليس "حتى النهاية". ج. أشار عنوان المزمور إلى تجسد الكلمة، مع إخفاء لاهوته كما "في مغارة". د. صلب المسيح يعلن عن فيض الرحمة الإلهية [ع1]. ه. تلاقي الرحمة والحق الإلهي على الصليب [ع3]. و. مقاومة الأشرار للمخلص [ع4]. ز. صعود المسيح [ع5]. ح. بالصليب تحطم الشيطان [ع6]. ط. بالصليب نتمتع بروح الله، واهب الثبات والتسبيح [ع7]. ي. بالصليب آمنت الأمم، وصارت من طغمة المُسبحين [ع9]. ك. بالصليب صار المؤمنون سحابًا مرتفعًا نحو السماء [ع10]. 1. الصليب وفيض الرحمة الإلهية 1-2. 2. الرحمة والحق تلاقيا 3. 3. مقاومة اليهود للمسيَّا 4. 4. صعود المسيح 5. 5. هلاك الشيطان بالصليب 6. 6. الصليب واهب القوة والفرح والمجد 7-8. 7. بالصليب انفتح باب الإيمان للأمم 9. 8. بالصليب صرنا سحابًا 10-11. من وحي مز 57 العنوان "لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. عَلَى لاَ تُهْلِكْ. مُذَهَّبَةٌ لِدَاوُدَ عِنْدَمَا هَرَبَ مِنْ قُدَّامِ شَاوُلَ فِي الْمَغَارَةِ". أو: "إلى التمام (إلى النهاية)، لا تُهلك Al.taschith، كتابة على العُمد michtam لداود، حين هرب من وجه شاول إلى المغارة". 1. سبق الحديث عن أغلب ما ورد في هذا العنوان أثناء الكتابة عن عناوين المزامير السابقة، غير أن تعبير Al.taschith لم نلتقٍ به قبلًا. يوجد اتفاق عام على أنه يعني "لا تُهلك"، وقد فُسر بطرق كثيرة: أ. يظن البعض أنه يُعبر عن آلة موسيقية ذات تسعة أوتار. ب. يرى البعض أنه يعبر عن النغمة أو الموسيقى التي تُستخدم في الترنم بالمزمور. ج. يرى آخرون أن القول "لا تُهلك" يشير إلى شاول. وكأن القصد به أن هذا النشيد المقدس قد وُضع في هذه المناسبة التذكارية، إما لأن الله وضع في قلب داود ألا يمد يده على مسيح الرب، أو أن داود منع رجاله من قتل شاول. د. يحمل هذا التعبير صلاة صغيرة تخرج من قلب المؤمن الحيّ الذي لا يطلب هلاك نفوس أعدائه، بل خلاصهم. إنه يطلب هلاك عداوتهم وشرهم وإبادة أعمالهم الشريرة ومؤامراتهم لا نفوسهم! ه. يرى القديس أغسطينوس أن هذا العنوان نبوة، تحققت بالتمام بالعنوان الذي كُتب على الصليب كعلةٍ لموت السيد المسيح: "ملك اليهود". فإنهم وإن كانوا قد طلبوا هلاكه بصلبه، لكن على العكس بالصليب تحقق ملكه على إسرائيل الجديد. * ما كتبه بيلاطس قد كُتب، لم يغيره عندما اقترح ذلك غير المؤمنين (يو 19: 22)، فقد سبق بزمانٍ التنبوء عن ذلك، إذ جاء في المزامير: "لا تهلك" كعنوانٍ. لقد آمنت الأمم بالمسيح يسوع ملك اليهود، لقد ملك على الأمم[142]. القديس أغسطينوس 2. جاء في العنوان: "إلى التمام" أو "إلى النهاية"، إشارة إلى السيد المسيح الذي جاء في ملء الزمان، وتمَّم عمل الخلاص حتى النهاية. * لما كان هذا المزمور يُسبح آلام الرب، انظر ما هو عنوانه: "إلى النهاية"! النهاية هو المسيح. لماذا دُعي النهاية؟ ليس لأنه ينتهي ويُستهلك، بل هو الذي يستهلِك... القديس أغسطينوس 3. "هَرَبَ مِنْ قُدَّامِ شَاوُلَ فِي المَغَارَةِ". يرى كثير من الآباء مثل العلامة أوريجينوس والقديس أغسطينوس أن اختفاء داود في مغارة يشير إلى اختفاء كلمة الله في الناسوت، إذ أخلى ذاته، وأخفى مجده بتأنسه. * ماذا يعني الاختفاء في مَغَارَةِ؟ اختفاء في الأرض. من يهرب في مَغَارَةِ، إنما يتغطى (بالمَغَارَةِ) فلا يُرى. أما المسيح فحمل الأرض، أي الجسد الذي قبله من الأرض، وفيه أخفى نفسه، حتى لا يكتشف اليهود أنه هو الله. "لأن لو عرفوا، لما صلبوا رب المجد" (1 كو 8: 2). إذن لماذا لم يجدوا رب المجد؟ لأنه أخفى نفسه في مَغَارَةِ، بمعنى أنه أظهر لهم ضعف الجسد، أما جلال اللاهوت فصار كما قد اختفى في مكان خفي في مَغَارَةِ، مرتديًا الجسد... وقد أراد أن يحتمل الموت بصبرٍ... يمكن أن يُفهم الكهف أنه الأماكن السفلى في الأرض. القديس أغسطينوس 1. الصليب وفيض الرحمة الإلهية اِرْحَمْنِي يَا اللهُ، ارْحَمْنِي، لأَنَّهُ بِكَ احْتَمَتْ نَفْسِي، وَبِظِلِّ جَنَاحَيْكَ أحْتَمِي، إِلَى أَنْ تَعْبُرَ المَصَائِبُ [ع1]. لعل تكرار كلمة "ارحمني" في بداية هذا المزمور يشير إلى حاجة كل من اليهود والأمم إلى الرحمة الإلهية، التي تحققت بالصليب. وكما يقول الرسول بولس: "لأن الله واحد، هو الذي سيبرر الختان بالإيمان، والغرلة بالإيمان" (رو 3: 30). كان داود المرتل في خطرٍ عظيمٍ، لكن مراحم الله أعظم وأقدر، لذا يكرر الطلب "ارحمني" مرتين. فإنه لا خلاص له إلا بالاختفاء تحت جناحيّ الله، أي بوضع حياته بين يديه. في محبة الله للإنسان، وفي تواضعه يُشبَّه بالطائر الذي يجمع صغاره تحت جناحيه ليحميها من الخطر. "احفظني مثل حدقة العين، بظل جناحيك استرني" (مز 17: 8). "ما أكرم رحمتك يا الله، فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون" (مز 36: 7). "لأسكنن في مسكنك إلى الدهور، أحتمي بستر جناحيك. سلاه" (مز 61: 4). "لأنك كنت عونًا لي، وبظل جناحيك أبتهج" (مز 63: 7). "بخوافيه يظللك، وتحت أجنحته تحتمي، ترس ومجن حقه" (مز 91: 4). "ليكافئ الرب عملك، وليكن أجرك كاملًا من عند الرب إله إسرائيل، الذي جئت لكي تحتمي تحت جناحيه" (را 2: 12). "يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادكِ، كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا" (لو 13: 34). * تكرار القول: "ارحمني" يدل على احتياجنا إلى رحمة الله في الدهرين، الدهر الحاضر، والدهر المقبل. وأيضًا على غزارة الرحمة ووفرتها. وأما "ظل جناحيّ الله" فهو قوته التي تعتني بالعالم، التي تحدث عنها في بشارة متى: "كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا" (مت 23: 37). في هذا العالم الحاضر نتكل على ظل جناحي الله، وأما في العتيد فنلتجئ إلى ما هو أعظم من الظل. يُقال أن جناحي الله هما إيماننا به وأفكارنا المرتفعة التي بواسطتها ترتفع عقولنا. الصديق الذي يكون مؤيدًا بهذه الأفكار يتكل على الله، واثقًا في ظل جناحي الله إلى أن يعبر الإثم، لأن الإثم لا يدوم بل يزول. الأب أنثيموس الأورشليمي يرى العلامة أوريجينوس أن النبي كان يرغب في التمتع بظل الجناحين الإلهيين، وهما الناموس والنبوات، أما مؤمنو العهد الجديد فيطلبون ما هو أكثر، يطلبون الجناحين نفسيهما، أي أن يُرفعوا بالروح القدس ويتمتعوا بالحق نفسه وليس بظله. * بهذه الكلمات تُظهر (العروس) أنه قد حان الوقت عندما تزول كل الظلال ويسكن الحق نفسه[143]. علامة أوريجينوس ويرى القديس أغسطينوس في هذه العبارة أن السيد المسيح نفسه يصرخ مصليًا، ليعلم المؤمنين الصراخ والطلبة وسط الضيق، حتى يعبروا فوق الآلام ويتمتعوا بالرجاء في القيامة. * ترون السيد يصلي لكي تتعلموا الصلاة. فإنه بهذا الهدف يصلي، حتى يعلم كيف تكون الصلاة. وبهذا الهدف تألم، يعلمنا أن نتألم. وبهذا الهدف قام ليعلمنا الرجاء في القيامة. القديس أغسطينوس إن كان داود المرتل يصرخ طالبًا المراحم الإلهية، فإن العالم كله بكل شعوبه محتاج إلى هذه المراحم. يتطلع القديس مار يعقوب السروجي في يوم عيد ميلاد السيد المسيح، الذي جاء ليقدم نفسه ذبيحة عن العالم كله ويحرره من عبودية إبليس. فقد صُلب لكي ترى الأمم التي استُعبدت لإبليس زمانًا هذا مقداره، أنه قد جاء زمن تحررها بصلب المخلص الإلهي. بالصليب يعلن أنه هو المحرر القدير، والفنان القادر على إصلاح الصورة البشرية، والمهندس الذي يُصلح بناء البيت الساقط، والراعي الذي يرد الخروف الضال، والطبيب القادر أن يشفي النفوس مع الأجساد ويضمد الجراحات ويعصب المنكسرين، ويهب قوة للضعفاء. يا لعظمة مراحم كلمة الله القدير المصلوب، والعجيب في حبه! * في هذا اليوم صدرت الحرية للمُستعبدة، لأنها كانت مربوطة لخدمة الوثنية. في هذا اليوم حُلت المربوطة منذ مدة طويلة، لأن الجبار قام وكسر قيود سجنها. في هذا اليوم اقتنت أمة الأبالسة الحرية، لأن الرب العظيم هزمهم، واسترجع خاصته. في هذا اليوم خرجت السجينة من الظلمة، لأن النور أشرق، وكسر باب بيت الظلام. في هذا اليوم نقى المصوّر صورة آدم، ولما فسدت خلط فيها الدواء الذي لا يفسد. في هذا اليوم شيد المهندس البيتَ المنهار، ولئلا يسقط دخل إليه سندُ اللاهوت. في هذا اليوم تصالح الرب مع آدم، لأن الابن الذي أشرق ألقى الأمان بين الجهتين. في هذا اليوم وجد الراعي الخروف الضال، وحمله على كتفيه، ودخل به إلى الفردوس. في هذا اليوم عاد قطيع الشعوب، لأن الذئب الخفي حطمه راعي الكل. في هذا اليوم دخل الذين في الخارج، وصاروا في الداخل، وخرج أهل البيت من بيت الملك غاضبين... في هذا اليوم قام القوي على المتمرد، ومسكه وربطه، وخرّب داره المخصبة. في هذا اليوم أتى المحارب عند السبي، وربط السالب بقوة، واسترجع خاصته. في هذا اليوم أتى الطبيب عند المرضى، ليضمد ويشفي... في هذا اليوم أتى مُضمد جميع المنكسرين، ليسند ويداوي ويشفي ويُشبع بعنايته. في هذا اليوم أتى مقوي جميع الضعفاء، ليمسك ويقيم ويثبت ويشبع بعنايته[144]. القديس مار يعقوب السروجي أَصْرُخُ إِلَى اللهِ الْعَلِيِّ،إِلَى اللهِ الْمُحَامِي عَنِّي [ع2]. شعر داود المرتل بضعفه مع قوة العدو المقاوم له، لكن يبقى الله فوق الكل، لا يُشمخ عليه. إنه قادر أن يحقق ما يبدو مستحيلًا ليحميني، ويهبني من فيض سلامه وفرحه، فأحيا به سعيدًا. كأن المرتل قد تطلع إلى ابن داود الذي قبِلَ أن يدخل تحت المحاكمة، ويرتفع على الصليب، لكي يشفع فيه بدمه، ويدخل به إلى المساكن العلوية. لقد صرخت القيادات مع الشعب تطالب بصلبه، ظانين أنهم ينزلون به إلى الهاوية، ويتخلصون منه إلى الأبد. أما المرتل فيصرخ في أعماقه بلغة الروح، متطلعًا إلى المصلوب أنه "الله العليّ"؛ وهو الديان والقاضي، يشفع في المرتل ليصعده من الهاوية ويصعد به إلى الأعالي. * صراخ الصديق إلى الله لا يكون بارتفاع الصوت، بل بشدة عزم النفس ونشاطها، الأمر الذي من أجله يقول الرسول في رسالته إلى أهل رومية: "الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا يُنطق بها" (رو 8: 26). أما قوله: "الله العلي"، فيدل على أن الإثم سفلي ودنيء، والحاجة إلى من هو في العلو. الأب أنثيموس الأورشليمي صار الديان المخيف شفيعًا عني، ودمه المبذول كفارة لخطاياي. أو كما يصفه يوحنا الرائي أنه "خروف قائم كأنه مذبوح" (رؤ 5: 6). لازالت جراحاته باقية في جسده بطريقة تعلو عن أذهاننا، ودمه يشفع عنا. "فمن ثم يقدر أن يخلص إلى التمام الذين يتقدمون بواسطته إلى الله، إذ هو حيّ في كل حين ليشفع فيهم" (عب 7: 24-25). وكما يطمئن يوحنا الحبيب نفوسنا فيقول: "يا أولادي أكتب إليكم هذا، لكي لا تخطئوا. وإن أخطأ أحد، فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار. وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضًا" (1 يو 2: 2). صار الديان شفيعًا عن المتهمين الذين قبلوه وآمنوا به والتصقوا به وعاشوا بروحه الساكن فيهم، لهذا ننتظر يوم الدينونة بفرح قائلين: "من سيشتكي على مختاري الله؟ الله هو الذي يبرر. من هو الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات، بل بالحرى قام أيضًا، الذي هو أيضًا عن يمين الله، الذي أيضًا يشفع فينا" (رو 8: 32-34). هكذا لم أعد أخاف يوم الدينونة، ولا أرتعب من الخطية بالرغم من ثقلها وشرها، فهي عاجزة عن أن تحجبني عن محبة ربي يسوع أو تشغلني عنه، مادمت أجيء إليه، ملتصقًا بالصليب بقلبٍ منكسرٍ. إذ عند الصليب تتحطم قوى الخطية ونجاساتها، ويبقى الرجاء عاملًا فيّ. يبقى الصليب علامة حب الله لنا، يجذب قلوبنا إليه، مهما أحسسنا بكثرة عصياننا وتعدياتنا على وصايا الله، نقدمها إليه مهما كانت القلوب حزينة آثمة! * بنور الصليب انفضحت الضلالة التي أدخلتها الحية (رؤ 12: 9). انحلت شهوة الغنى والسلطة التي ملكت من شجرة المعرفة (تك 2: 9)، بالثمرة التي ظهرت من شجرة الحياة (المسيح المصلوب). طُرد حارس الفردوس (تك 3: 14)، وأُعطيت مفاتيح الجنة للِّص الذي استحق الجانب اليمين (مت 17: 31). أخذ رمح الكاروب (تك 3: 24)، وفتح طريق الفردوس، وطُعن (مُفسد) الفردوس بالرمح... وفتح الجنة ليدخل المطرودون إلى تخومهم[145]. * سحق بصليبه الحية العظيمة التي خدعت أمنا... طرد الكاروب الذي كان حارسًا شجرة الحياة، وقبل الرمح في جنبه، ليدخل الورثة الذين خرجوا. فتح الفردوس الذي كان مُغلقًا أمام الداخلين، ورد للمطرودين ميراثهم وحدودهم. أدخل اللص، وصار الرجاء لبيت آدم. فُتحت المراحم للخطاة وردتهم. غلق الهاوية وترس أبوابها التي كانت مفتوحة. أبهج الجنة بفتح أبوابها المغلقة! جازت الأزمنة الشريرة التي كانت لبيت آدم، وجاءت الأزمان الصالحة لكي يرث الذين كانوا مطرودين. محا الصك العظيم الذي كتبته حواء أمنا، هذا الذي كتبته الحية في الجنة بهزيمة آدم... قبل أن يفي كل دينٍ على آدم... من أجل هذا جاء، وصار منا، وحمل موتنا لأنه جعلنا أن نكون منه. صار مثلنا لما تنازل وصار بجوارنا، وجعلنا مثله هناك في مكان أبيه. أعطى الصحة، وحمل هو أوجاع المضروبين. افتقد المرضى واحتمل الآلام من الصالبين... قتل التنين الذي أكل آدم التراب ... وأعطى حواء حلة المجد التي كانت ترتديها، هذه التي سرقتها الحية منها بين الشجر. أخذ من آدم ثوب الورق المفضوح، وأعطاه عوضًا عنه لباس المجد الذي تعرى منه. ها هو عمانوئيل معنا كما كرز به، ونحن معه لنحيا بحياته، له المجد دائمًا. القديس مار يعقوب السروجي تعلن صرخات السيد المسيح كممثل للبشرية عن حاجتنا إلى الصراخ إلى الله لنطلب مراحمه، واثقين أنه يعمل دائمًا ما هو لبنياننا وخيرنا، يصنع معنا خيرًا ويحامي عنا. * إن كان هو العلي، فكيف نسمعه يصرخ؟ تتحقق الثقة خلال الخبرة، فيقول: إلى الله الذي صنع معي خيرًا. إن كان قبل أن أبحث عنه صنع معي خيرًا، ألا يسمع لي عندما أصرخ إليه؟ فقد صنع الرب الإله (الآب) خيرًا بإرساله مخلصنا يسوع المسيح ليموت عن معاصينا ويقوم لتبريرنا (رو 4: 25). لأي نوع من البشر أراد أن يموت ابنه عنهم؟ لأجل الخطاة. لكن الخطاة لم يطلبوا الله، وكان الله يطلبهم. إن كان هو العلي في هذا الأمر، لهذا فإن بؤسنا وتنهداتنا ليست بعيدة عنه، فإن الرب قريب من منسحقي القلوب (مز 34: 18). "الله يصنع معي خيرًا". القديس أغسطينوس * بين كل المولودين الذين لبسوا جسدًا واحد هو البار، إنه يسوع المسيح، كما يشهد عن نفسه، إذ قال: "أنا قد غلبت العالم" (يو 16: 33). وشهد عنه النبي أيضًا: "لم يعمل ظلمًا، ولم يكن في فمه غش" (إش 35: 9). وقال الرسول الطوباوي: "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا" (2 كو 5: 21). كيف جعله خطية؟ حمل الخطية دون أن يرتكبها، وسمرها على الصليب (كو 2: 14). يقول الرسول أيضًا: "الذين يركضون في الميدان جميعهم يركضون، ولكن واحدًا يأخذ الجعالة" (1 كو 9: 24). أضف إلي هذا أنه ليس من بين البشر من نزل إلي المعركة ولم يُجرح أو يُضرب، لأن الخطية سيطرت منذ تعدى آدم الوصية (رو 5: 14)، فضربت الكثيرين، وجرحت الكثيرين، وقتلت الكثيرين. ولم يقتلها أحد من بين الكثيرين حتى جاء مخلصنا على صليبه. كان لها شوكة توخز الكثيرين، حتى جاءت النهاية، وتحطمت شوكتها حين سُمرت على الصليب[146]. القديس أفراهاط 2. الرحمة والحق تلاقيا يُرْسِلُ مِنَ السَمَاءِ وَيُخَلِّصُنِي. عَيَّرَ الَّذِي يَتَهَمَّمُنِي. سِلاَهْ. يُرْسِلُ اللهُ رَحْمَتَهُ وَحَقَّهُ [ع3]. جاء تعبيرا "رحمته" و"حقه" مشخصنين، لأنهما يشيران إلى شخص المخلص القائل: "أنا هو الحق"، وهو أيضًا الرحمة والحب. فإن كان يرسل ملائكته لتحوط بخائفي الرب (مز 34: 7)، فإنه ينزل بنفسه، رب الملائكة، لنتمتع بالحب الإلهي والحق الإنجيلي المفرح. إذ يتطلع القديس أغسطينوس إلى هذا المزمور كمزمور مسياني، كما يتطلع إلى أغلب المزامير هكذا، فإنه يرى فيه صورة للسيد المسيح في آلامه الواهبة النصرة. فباسم البشرية كلها التي تمثلها كلمة الله المتجسد والحامل خطاياها يصرخ إلى الآب ليرسل من السماء ويخلصه. لقد أطاع حتى الموت موت الصليب، وله سلطان أن يقوم، لكنه إذ يقدم آلامه المخلصة يطلب من الآب أن يقيمه ويمجده، حتى نقوم فيه ونتمجد فيه ومعه كرأس للكنيسة كلها! بقيامة السيد المسيح تحقق ما ورد في هذا المزمور. وقد أعلن السيد المسيح ذلك بقوله لليهود: "انقضوا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيام أقيمه" (يو 2: 19) ويعلق الإنجيلي يوحنا على ذلك: "وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده فلما قام من الأموات تذكر تلاميذه أنه قال هذا فآمنوا بالكتاب والكلام الذي قاله يسوع" (يو 2: 21-22). * إننا نجد المسيح نفسه هو الرحمة والحق، هو الرحمة في تألمه من أجلنا، والحق في مجازاته لنا. القديس أغسطينوس * هذا القول يخص الطبيعة البشرية التي بعد معصية أبينا آدم، استولى عليها الموت والخطية والشيطان. هؤلاء الأعداء الثلاثة قد وطأوها، وكانت بينهم كأنها نائمة بين أشبال، أعني غافلة وبطالة من الحركات. فأرسل الآب ابنه الوحيد، أي أنه سُرّ وارتضى بحضور ابنه إلى العالم، الذي نزل من السماء، ولكن ليس نزولًا مكانيًا، ولا حدث تغير أو انتقال جوهري (للاهوت)، ولا من السماء الحسية المنظورة، بل قولنا نزل من السماء معناه تنازل وقبل أن يصير إنسانًا تامًا، ويتردد على الأرض متجسدًا. قبل التواضع والذل البشري، وهو لم يزل إلهًا عاليًا ودائمشرف لاهوته وجلاله. إنه الحق، لأنه الإله الحق من الإله الحق. وهو الرحمة أيضًا، لأن رحمته شغفته على خليقته، فخلصها بآلامه من الأشبال المذكورة، وأفاقها من نوم الغفلة. نزع اضطرابها وحفظها من خوف الهلاك، ورد العار والذل على أعدائها الذين كانوا يطأونها. الأب أنثيموس الأورشليمي * كل الذين يعيشون في البشر لا يرغبون العيش ضعافًا وهم في الشيخوخة، وهكذا أيضًا المؤمنون، فإنهم لا يرغبون في الحياة إلاَّ في الحق وفي كل برّ، إلى اليوم الذي يشخصون فيه أمام الله الذي يجازي كل واحد حسب أعماله في العدل والحق. لأن سيدنا يسوع المسيح مات لأجلنا لكي نقوم، ليس فقط بالجسد من الأموات في اليوم الأخير، ولكن لكي نقوم أيضًا الآن من موت الخطية. إن الذين ماتوا في الخطية، بعد ما عاشوا طويلًا في الشر، فأضاعوا حياتهم في كل نجاسة، يقومون من موت الخطية بأمر الذي مات لأجلنا وقام. لكن البعض يستمرون في التوبة ممجدين الله من أجل خلاصه، ومن أجل البركة، بينما يمسي البعض جاهلين، لا يعرفون من الذي أحسن إليهم. يا للشرف الذي يمنحه الرب يسوع للذين أكرموه في آلامهم الحقيقية، إذ يمنحهم الحياة الأبدية، ولا يموتون في الخطية فيما بعد، بل يحيون في العدل، ويقومون بالجسد ليحيوا إلى الأبد. وكم يكون الازدراء الذي يعاقب به الآخرون، إذ يسلمون مرة أخرى إلى نجاستهم، ويُسلمون إلى الجحيم بسبب خطاياهم إلى يوم القيامة؟! القدِّيس الأنبا شنودة (رئيس المتوحدين) * قال الكتاب: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يو 1: 29). فهو وحده الذي أظهر هذه الرحمة لمن آمنوا به من جنس البشر، فاُفتدوا من الخطيئة. ويجرى هذا الخلاص فائق الوصف للذين يصبرون له، ويطلبونه (مز 40: 1، 3). القديس مقاريوس الكبير 3. مقاومة اليهود للمسيَّا نَفْسِي بَيْنَ الأَشْبَالِ. أضْطَجِعُ بَيْنَ الْمُتَّقِدِينَ بَنِي آدَمَ. أَسْنَانُهُمْ أَسِنَّةٌ (حراب) وَسِهَامٌ، وَلِسَانُهُمْ سَيْفٌ مَاضٍ [ع4]. يتطلع داود المرتل إلى أعدائه كوحوشٍ مفترسةٍ، أسود تحمل أفكار إبليس الذي يجول كأسدٍ زائرٍ ليفترس من يجده (1 بط 5: 8). إنه عدو متقد نارًا ليحرق ويبدد! تخرج كلمات الأعداء من بين أسنانهم التي تصِّر بالغيظ والكراهية، وكأنها سهام مميتة، ولسانهم قاتل كالسيف. إنه تصوير خطير لموقف القادة الذين كانوا يصرون على صلب ربنا يسوع المسيح! * يقول النبي "أسنانهم" عن الأقوال البارزة من الفم والأسنان، التي تحمل تجارب الأشرار (ضد الصديقين)، تخرج وتطعن البعيدين بالاغتياب مثل نِبل تُقذف إلى البعيد، وتذبح القريبين بالبهتان والاتهامات، وكأنها سيف مرهف. وذلك كما كان اليهود يصوبون كلامهم ضد ربنا في حضوره وفي غيابه. الأب أنثيموس الأورشليمي * أناس مثل هؤلاء (ينمّون على إخوتهم) لن تتطلع إليهم ولا تخالطهم. ولا تحول قلبك إلى كلمات الشر (مز 141: 4 Vulgate)، لئلاَّ يقول لك المرتل: "تجلس تتكلم على أخيك، لابن أمك تضع عثرة" (مز 50: 20). لئلاَّ تصير مثل "بني آدم، أسنانهم أسنة وسهام، ولسانهم سيف ماضٍ" (مز 57: 4). تصير مثل الإنسان الذي كلماته أنعم من الزيت، لكنها تُسحب مثل السيوف (راجع مز 55: 21). ويُعبر الكارز بأكثر وضوح، إذ يقول: "إن لدغت الحية بلا رقية فلا منفعة للراقي، والمفتري ليس أفضل منها" (راجع جا 10: 11)[147]. القديس جيروم * آل قيافا رفاق كل الكذب، وآل حنَّان حاملو السيف على مخلصنا. يهوذا في المقدمة، مثل قائد المصيبة العظمى، ومعه حلقة متعطشة إلى الدم بغضبٍ عظيمٍ. المرضى الذين جُنّوا، حملوا السيوف والعصيّ على الطبيب ليضربوه، بعد أن ضمدهم وشفاهم. تهديد وحقد وصخب وكلمات زائدة وإهانة وسخرية، وصرير الأسنان على المنتصر. جُنّ الترابيون وهددوا، وخرجوا ضد الموج، الأشواك والهباء خرجت لكي تصطاد اللهيب. ركض القش ليحارب مع اللهيب، والتراب والهباء ليصطادا الريح التي تستأصل الجبال. الغيوم والسحب خرجت مهددة النهار، والظلال كانت تجنّ لتربط الشمس. سألهم من تطلبون؟ أما هم فسقطوا، لأنه لا توجد قوة في الرمل ليلاقي الريح. منظر الشمس سقط على الظلال بخوفٍ وبددها، ولم تجد موضعًا لتهرب إليه. عندما قال: أنا هو، سقط الأشقياء، لأن العالم كله لا يقدر أن يقف قدام قوته. كان بحر ناره يلتهب ليحرقهم، وبمراحمه كان يخمد ناره ليحفظهم. قوته كانت تخيف وتسقطهم عندما يرونه، وبما أنه كان صالحًا، فقد سندهم ليقيمهم[148]. القديس مار يعقوب السروجي * هؤلاء لا يعضون بأسنانٍ؛ ليته كان العض بالأسنان وليس بحراب الحسد التي هي أقسى من الأسنان. فإن "أسنانهم أسلحة ورماح. من الذي يشعر بألم أقسى، من يضرب مرة ثم يُشفي، أم الذي يؤكل باستمرار بأسنان العوز؟ فعندما يكون العوز غير اختياري يكون أكثر ألمًا من الأتون والوحوش المفترسة[149]. القديس يوحنا الذهبي الفم تحدث العلامة أوريجينوس في تفسيره للعبارة الواردة في سفر النشيد: "أني مجروحة حبًا"، قائلًا بأن السيد المسيح هو السهم الإلهي الذي يخترق القلب لا ليمزقه بجرح قاتل، وإنما يهب جراحات الحب العذبة. اقتبس عنه القديس أغسطينوس هذا وقارن بين الجراحات التي تسببها سهام الأشرار، وتلك التي يسببها السيد المسيح. الأولى تطلب القتل والتدمير، فتصرخ قلوبهم "اصلبه! اصلبه!"، وأما سهم المسيح فتجرح القلب بالحب، وتطلب الشركة مع الله والحب للبشرية. * لا تفكروا في الأيادي غير المُسلحة، بل في الفم المُسلح. فمنه صدر سيف به قُتل المسيح. بنفس الطريقة يصدر سيف من فم المسيح ليقتل (جحد إيمان) اليهود. يُشحذ هذا السيف مرتين (رؤ 1: 16)، يقيم به من يضربهم، ويفصل عنهم من يريدهم مؤمنين به. هم سيف شرير، وهو سيف صالح. هم سهام شريرة، وهو سهم صالح، يصدر كلمات صالحة عندما يطعن القلب المؤمن لكي يحب! القديس أغسطينوس 4. صعود المسيح ارْتَفِعِ اللهُمَّ عَلَى السَمَاوَاتِ. لِيَرْتَفِعْ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ مَجْدُكَ [ع5]. إن كان العدو قد أراد أن يحدر داود المرتل في الهاوية، فإن الله يحمله في أحضانه ليدخل به، لا إلى أمجاد أرضية، بل إلى السماء عينها. لقد ظن قاتلو السيد المسيح أنهم أغلقوا عليه في القبر المختوم، لكنه قام وصعد إلى السماوات، لكي يقيمنا معه، ويرفع قلوبنا إلى سماواته. لقد صرح ربنا يسوع وسط آلامه: "مجد ابنك، ليمجدك ابنك أيضًا" (يو 17: 1). * يقول القديس أثناسيوس الرسولي الجليل إن هذا القول يخص صعود ربنا إلى السماء، وامتلاء المسكونة من معرفته والإيمان به. الأب أنثيموس الأورشليمي *لقد ارتفعت (طبيعتنا في شخص الإله المتجسد) فوق السماوات، وسمت فوق الملائكة. لقد عبرت فوق رؤساء الملائكة والشاروبيم، وحلَّقت فوق السيرافيم، عالية أكثر من كل القوات السمائية، واستراحتفي العرش الإلهي الحقيقي وحده. أنتم ترون كيف تبتعد السماوات عن الأرض! لكن دعنا بالأحرى نبدأ بنظرنا من أسفل. أما ترون مقدار البُعد بين الجحيم والأرض؟ ثم بين هذه الأرض والسماء؟! وبين السماء التي فوقنا وسماء السماوات؟! انظروا إلى طبيعتنا كيف انحطت ثم ارتفعت. فإنه ما كان يمكن النزول أكثر مما نزل إليه الإنسان، ولا يمكن الصعود إلى أكثر مما ارتفع إليه المسيح. ويوضح بولس ذلك إذ يقول: "الذي نزل هو الذي صعد أيضًا". وأين نزل؟! "إلى أقسام الأرض السفلى"، وصعد إلى "فوق جميع السماوات" (أف 4: 9-10)[150]. القديس يوحنا الذهبي الفم * مكث في العالم أربعين يومًا بعد الانبعاث (القيامة)، وبعدئذ ارتفع عند أبيه. لم يشأ الخَتَن أن يرتفع من القبر عند أبيه إلى أن أكد انبعاثه. الكنيسة التي مات لأجلها، جمعها على جبل الزيتون، لتراه هناك وهو يصعد إلى موضع أبيه. سلك المخلص العظيم دربه، وكمّل عمله، وخرج ليذهب، ويرسل الغنى للعروس التي جلبها. أخذ الفقيرة والمعوزة والمعذبة، ووضع لها شرطًا: أنه سيرسل لها كنوز أبيه. سبى سبيًا وأخذه، وأتى به من العثرات، وأعطى المواهب للضعيفة التي كانت محتاجة. عادت من السبي وكانت عارية، فصعد وأرسل الروح القدس معطي الثياب لجميع العراة. أتى السبي العظيم الذي خلّصه وليس له شيء، فصعد ليجلب الكنوز والثروات ليرسلها إليه. أتى ومات في موضعنا، وصعد ليحيينا في موضع أبيه، ليُحيي بموته العالمَ الذي لم يكن حيًا[151]. القديس مار يعقوب السروجي 5. هلاك الشيطان بالصليب هَيَّأُوا شَبَكَةً لِخَطَوَاتِي. انْحَنَتْ نَفْسِي. حَفَرُوا قُدَّامِي حُفْرَةً. سَقَطُوا فِي وَسَطِهَا. سِلاَهْ [ع6]. بينما يهيئ العدو الفخاخ ليحنوا نفس المؤمن إلى التراب، ويحفروا حفرة ليسقط فيها ولا يقوم، ولا يرتفع قلبه إلى السماء، إذا بالعدو نفسه يسقط في الفخ الذي نصبه، والحفرة التي حفرها. أما المؤمن، فيتمتع بعطية الروح القدس الذي يجدد الأعماق والفكر على الدوام، فيرتفع قلبه وفكره إلى السماء، ويتحول إنسانه الداخلي إلى قيثارة يعزف عليها روح الله سيمفونية الحب والتسبيح والشكر لله. يستخدم الأشرار وسائلهم الشريرة، يهاجموننا بها، لكن لا يليق بنا أن ندافع عن أنفسنا بنفس الوسائل. فلا نستخدم شبكة مقابل شبكة، ولا حفرة مقابل حفرة. لنؤمن أن ما يحفرونه هو لدمارهم، إذ عادة ما يسقطون في الحفرة التي يحفرونها. يقول المثل اليوناني: "المشورة الشريرة غالبًا ما تصير مهلكة للمشير الشرير". ويقول المثل الروماني: "لا يوجد قانون أكثر عدالة من موت الذي يدين الإنسان بالموت بذات الوسيلة الذي اخترعها لإبادة حياة الآخرين". فجولتين Guillotine الذي اخترع الأداة التي تحمل اسمه "المقصلة guillotine" حُكم عليه بالإعدام بالمقصلة[152]. لقد صُلب هامان على الخشبة التي أعدها للبار مردخاي. * هيأوا لرجلي فخًا، وأحنوا نفسي، حفروا قدام وجهي حفرة، وسقطوا فيها" [ع6]. يكرر النبي رصد أعدائه واغتيالهم له، مشبهًا ذلك بالفخ المنحني الذي لا يدع الساقط فيه يرفع رأسه إلى السماء. وبالحفرة التي يتورط فيها. يقول إنه قد ارتد الأذى عليهم، وذلك بمعونة الله. المولع بالزمنيات تنحني نفسه إلى الأرض، كما كانت تلك المرأة المنحنية التي حلها ربنا من رباطات الشيطان، وأبرأها من مرضها. الأب أنثيموس الأورشليمي * الجنس البشري كله مثل هذه المرأة (لو 13: 11)، كانت منحنية حتى الأرض. يفهم أحدهم هؤلاء الأعداء، فيصرخ ضدهم، قائلًا: "احنوا نفسي إلى أسفل" (راجع مز 57: 6). يحني إبليس وملائكته نفوس الرجال والنساء إلى الأرض. يحنونها لكي تطلب الزمنيات والأرضيات، وتمنعهم عن البحث في العلويات (كو 3: 1)[153]. * لو لم يكن قد وُضع المسيح للموت، ما كان يمكن للموت أن يموت. لقد اِنهزم الشيطان بذات نصرته، لأن الشيطان فرح عندما خدع الإنسان الأول، فطرحه في الموت. بخداعه الإنسان الأول قتله. وبقتله الإنسان (آدم) الأخير، فقد الأول الذي في شباكه[154]. القديس أغسطينوس * وقف حشد اليهود مع رئيسهم ضد المسيح، وناضلوا ضد رب الجميع، لكن الكل يدركون أنهم إنما فعلوا ذلك ضد أنفسهم، ناصبين الشباك لأنفسهم، حفروا لأنفسهم حفرة لهلاكهم(مز9: 15)... لأن المخلص رب الكل، وإن كانت يمينه كلية القدرة، وقوته تطرد الفساد والموت، لكنه خضع بإرادته، إذ صار جسدًا ليذوق الموت من أجل حياة الكل، لكي يبطل الفساد، وينزع الخطية عن العالم، ويخلص الذين هم تحت يد العدو الطاغية غير المحتمل[155]. القديس كيرلس الكبير * "نجت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصياد. الفخ اِنكسر ونحن نجونا" (مز 123: 3). لم يقل المرتل: "إني كسرت الفخ"، فإن داود لا يجسر أن ينطق بهذا، بل يقول: "معونتنا من عند الرب" (مز 123: 8)، مشيرًا إلى الكيفية التي بها تُحل الفخاخ، متنبئًا عن مجيء ذاك الذي سيحطم الفخاخ التي أعدها إبليس. غير أن أفضل الطرق لتحطيم هذا الفخ هو عرض الطُعم لإبليس، حتى إذا ما اِنقض على فريسته، انطبقت عليه الشباك، وعندئذ يمكنني أن أردد قائلًا: "نصبوا لرجليَّ فخاخًا فسقطوا فيها". ترى ما هو هذا الطُعم؟ كان ينبغي أن يأخذ جسد تواضعنا وضعفنا لكي يصلب هذا الضعف. لأنه لو أخذ (جسدًا) روحانيًا ما كان له أن يقول: "وأما الروح فنشيط، وأما الجسد فضعيف" (مت 26: 41). اسمعوا إذًا كلا الصوتين: صوت الجسد الضعيف، وصوت الروح النشيط. "يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عنيِّ هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت" (مت 26: 39). هذا هو بذل الروح وقوتها. لقد تنازل فأخذ جسدنا، تنازل وحمل بؤسنا وضعفاتنا، ومن المؤكد أن لاهوته لم يتأثر بهذا (لم يتألم)، بل حتى ناسوته ذاته اِستهان بهذه الأعمال (الآلام)، لكنه احتملها وقاساها. فلنتبع إذًا المسيح، إذ كما جاء في الكتاب: "وراء الرب إلهكم تسيرون، وإيَّاه تتَّقون" (تث 13: 4). وبمن ألتصق إلاَّ بالمسيح، كما يقول الرسول بولس: "وأما من اِلتصق بالرب، فهو روح واحد" (1 كو 6: 17). فلنتبع خطوات الرب، بهذا نرجع من البرية إلى الفردوس. القديس أمبروسيوس * من هم الذين نفهم أنهم صيادون أشرار يبيدهم الله إن لم يكونوا القوات المضادة التي يقول عنها النبي: "هيأوا شبكة لخطواتي" (مز 57: 6)، شباك بها يصطادون النفوس للخطية؟ هؤلاء يبيدهم الرب. فإنه إذ يهلك مثل هؤلاء الصيادين حتى لا يبقى في النهاية من ينصب شباكًا لنا ليصطادوا كل شخصٍ تحت كرمته وتحت تينته (مي 4: 4)[156]. العلامة أوريجينوس 6. الصليب واهب القوة، والفرح، والمجد جاءت الآيات الخمس الأخيرة مطابقة للمزمور 108: 1-5، مع أن المناسبتين في المزمورين مختلفتين. فالمرتل كان يجد سلامه ونجدته في التسبيح لله. كثيرًا ما تبدأ المزامير بالصراخ وطلب العون الإلهي، وتنتهي بالتسبيح والشكر لله مخلصه. ثَابِتٌ قَلْبِي يَا اللهُ، ثَابِتٌ قَلْبِي. أُغَنِّي وَأُرَنِّمُ [ع7]. إذ يركز المرتل أنظاره على مخلصه، ويضع ثقته فيه، هذا القادر أن يرفعه من الهاوية إلى السماوات، يصير قلبه ثابتًا، فلن يقدر العدو - مهما بلغت حيله وقدراته - أن ينحرف به عن هدفه. كان المرتل مستعدًا أن يحتمل كل التجارب التي تحل به، مادام الله مخلصه يسنده! * يقولالقديس أثناسيوس الرسولي إن النبي يقول: إني مستعد ومهيأ لقبول الروح القدس الموعود به من الابن الوحيد، الذي يلهم بالتسبيح والترتيل لأجل عظائم الله. الأب أنثيموس الأورشليمي * يلزم للشخص ألاَّ يفتخر بكراماته الزمنية، بل يُعد قلبه لاحتمال كل الأشياء، حتى يستطيع أن يرتل بفرحٍ مع النبي، قائلًا: "قلبي مستعد يا الله. قلبي مستعد"[157]. القديس أغسطينوس * ماذا يعني: "ثابت قلبي" سوى "إرادتي قوية"[158]؟ الأب قيصريوس أسقف آرل * ماذا يفعل معي؟ إنه يُعد لي حفرة، وأنا أعد قلبي. يُعد حفرة ليخدعني، ألا أعد قلبي لكي يحتمل؟ يُعد حفرة لاضطهادي، ألا أُعد نفسي للاحتمال؟ لهذا فإنه يسقط فيها، وأنا أرنم... لتسمع للقلب الذي أُعد في الرسول، إذ تمثل بربه، قائلًا: "نفتخر أيضًا في الضيقات، عالمين أن الضيق ينشئ صبرًا، والصبر تزكية، والتزكية رجاءً، والرجاء لا يخزي، لأن محبة إلله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا" (رو 5: 3-5). لقد كان في ضغطات، في قيود، في سجون، ويقول: "نفتخر في الضيقات". متى؟ عندما كان قلبه مُعدًا (ثابتًا). القديس أغسطينوس اسْتَيْقِظْ يَا مَجْدِي. اسْتَيْقِظِي يَا رَبَابُ، وَيَا عُودُ. أَنَا أَسْتَيْقِظُ سَحَرًا [ع8]. جاءت كلمة "مجدي" في الترجمة السريانية "قيثارتي". جاء في التقليد اليهودي أن داود المرتل اعتاد ألاَّ تفارقه قيثارته أو مزماره، حتى أثناء هروبه يحملها معه، فلا يقدر أن ينام دون عزف مزمور أو مزمورين، ولا يبدأ عمله في الصباح المبكر دون ممارسة نفس الأمر. لقد عرف أن يسبح الله حتى في لحظات الشدة والضيق. * أعني أيها الإله، أنت مجدي، لأنك تمجدني بمعونتك. لتنهض الآن لمعونتي، فإني مستعد أن أسبحك وأشكرك بالمزمار والقيثارة حالًا. يدعو النبي اتفاق القوات الروحية مع الحواس الجسدية وانتظامها معًا مزمارًا وقيثارة. أما القديس أثناسيوس الجليل فيدعو نعمة البنوة مجدًا، ويدعو نفسه وجسده مزمارًا وقيثارة، إذ ينهض لتسبيح الله (بروحه وبجسده). أما قوله "سأستيقظ سحرًا" فمعناه إني بسبب استنارتي بروح البنوة أسبحك ليس الآن فقط، بل وعند إشراق الشمس بالإيمان بك في العالم، في النهار المنتظر الذي هو يوم تجسدك الإلهي. الأب أنثيموس الأورشليمي يرى القديس جيروم أن المتحدث هنا هو السيد المسيح الذي أخفى مجد لاهوته بتأنسه؛ ففي وسط آلامه يطلب إعلان مجده الخفي. * "استيقظ يا مجدي، استيقظ". ليكن هذا هو فكرنا، أن الإشارة هنا هي لمجد المخلص، الأمر الذي أدركه الرسل في تواضع جسده (جسد المسيح)، ورأوا بعيون ثاقبة ليس ما هو ظاهر، بل ما هو مخفي في الجسد[159]. القديس جيروم * ليتحقق فينا القول: "اَفغر فاك فأملأه" (مز 81: 10)، "الرب يعطي كلمة، المبشرات..." (مز 68: 11). أنا متأكد تمامًا أن صلواتكم مثل صلاتي تمامًا هي بخصوص صراعنا، لتتحقق النصرة للحق. فأنتم تطلبون مجد المسيح لا مجدكم. إن كنتم منتصرين، فأنا أيضًا اقتني النصرة إن اكتشفت خطأي[160]. القديس أغسطينوس يقدم كثير من الآباء مفاهيم رمزية للرباب والعود، بكونهما يمثلان جسد المؤمن ومواهبه وطاقته التي تستيقظ لتسبيح الله وتمجده. وإذ يرى القديس أغسطينوس في المزمور أنه مسياني، لذا يرى في الرباب والعود عمل السيد المسيح، سواء بحسب لاهوته كصنع المعجزات، أو من جهة ناسوته كالجوع والعطش والنوم الخ. * الرباب هي الجسد الذي يمارس الإلهيات؛ والعود هو الجسد الذي يحتمل الآلام. لتعزف الرباب، وليستنير الأعمى، ويسمع الأصم، وليمتلئ المفلوج بالقوة، ويمشي الأعرج، ويُشفى المريض، ويقوم الميت؛ هذا هو صوت الرباب. وليصدر العود صوتًا، ليكن (المسيح) جائعًا وعطشانًا ونائمًا، ويُجلد، ويُسخر منه، ويُصلب ويدفن. عندما ترى في هذا الجسد أمورًا تعطي صوتًا من فوق، وأمورًا من أسفل، فإن جسدًا واحدًا يقوم، وفي جسدٍ واحد نعزف الرباب والعود معًا. هذان النوعان تحققا في الإنجيل، وكُرز بهما في الأمم، المعجزات التي للرب، وآلامه. القديس أغسطينوس 7. بالصليب انفتح باب الإيمان للأمم أَحْمَدُكَ بَيْنَ الشُعُوبِ يَا رَبُّ. أُرَنِّمُ لَكَ بَيْنَ الأُمَمِ [ع9]. يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن داود النبي قد رأى الأمم الوثنية تقبل الإيمان بالسيد المسيح، فتسبح وترتل؛ ويضع نفسه شريكًا معهم في التسبيح والشكر لله. ما أبهج قلب داود النبي إذ رأى قبل ألف سنة أن الأمم الوثنية أدركت مفاهيم المزامير، وصارت تسبح بها. * كنيسة الشعوب خطيبة شمس البرّ، لها ميمر مع بنت الشعب (اليهود) بخصوص ربها. يا مستقيمي القلب، هلموا اجلسوا واسمعوا كلتيهما، وفتشوا بعدلٍ عن القضاء من كلماتهما. لنرَ من هي عروس البيت الإلهي؟ ومن هي التي تمسك بخاتم العريس وتحفظ كنوزه؟ لنفحص ولنرَ أين يوجد الحق بينهما؟ تلك التي تقول الحقائق تُمجد. لقد حدث الجدال بين الكنيسة لنُسكتها ولتدخل أفعالها بدون ضجة... أشرق لي نور، واستنرت به، لأنني كنت مظلمة. يسوع الضوء فتح عينيّ، لأنني كنت عمياء. صرخ النبي (وقال) لي: انسي شعبك وبيت أبيك، فنسيتهم لأجل العريس الذي أحبه... ما أجملك! ما أجملك يا بنت الآراميين، وكلماتك أحلى من شهد العسل! منظركِ نور، وكلمتك حياة ولذة، والعريس جمالكِ، ودمه في رقبتك كالقلادة! صليبه الغافر هو تاج مجيد، موضوع على رأسكِ، وجسده في فمكِ دواء الحياة بدون نهاية. إنه مُصور على شفتيكِ كخيط القرمز، ومنظر لون دمه يطرد الشرير عنك. عندك كل كنوز بيت الله. مبارك المسيح الذي بواسطته أعطاك أبوه الغنى[161]. القديس مار يعقوب السروجي 8. بالصليب صرنا سحابًا لأَنَّ رَحْمَتَكَ قَدْ عَظُمَتْ إِلَى السَمَاوَات، وَإِلَى الْغَمَامِ حَقُّكَ [ع10]. أدرك المرتل أن مراحم الله عظيمة وعالية، فكما تعلو السماوات عن الأرض، هكذا تعلو مراحم الله عن أفكار البشر وخططهم، ليس من يقدر أن يقاومها أو يصدها أو يمنعها عن رجال الله. إن الحق الإنجيلي أشبه بالسحاب، من يقدر أن يحطمه أو ينزعه عن خائفي الرب؟! * إن تحننك على البشر جعل الملائكة في السماوات تعظمك، لأنك رفعت الإنسان الساقط إلى السماوات. لقد حققت ما قد أعلنته لأنبيائك. فكما أن السحاب يصعد من الأرض مرتفعًا، ويأخذ قوة المطر، ويروي الأرض، كذلك الأنبياء والرسل ارتفعوا عن الأرضيات بفضائلهم، وأخذوا من الله نعمة بأن يرووا نفوس الأرضيين مما نالوه من إعلانات من الله، لهذا يُدعون سحابًا. الأب أنثيموس الأورشليمي * في السماء تسبح الملائكة الله، إذ يرون شكل الحق نفسه، دون أية ظلمة في الرؤية، وبلا امتزاج بأية أوهام. إنهم يرون ويحبون ويسبحون بلا هم. هناك يوجد الحق؛ أما هنا في بؤسنا، فتوجد بالتأكيد الرحمة. إذ تُقدم الرحمة للبائسين، إذ لا تكون هناك حاجة للرحمة فوق حيث لا يوجد كائن ما بائس... يُقهم "السحاب" بكونه الكارزين بالحق. يشرق الله على الناس الحاملين الجسد بطريقة مظلمة، بومضات المعجزات، ويرعد عليهم برعود الوصايا[162]. القديس أغسطينوس ارْتَفِعِ اللهُمَّ عَلَى السَمَاوَاتِ. لِيَرْتَفِعْ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ مَجْدُكَ [ع11]. يختم المرتل المزمور بسؤال المخلص أن يأتي ليقيم كنيسته المتألمة ويرفعها كما إلى السماء، تحمل شركة أمجاده الفائقة. * لما ظهر الحق بكرازة الأنبياء والمرسلين، عرف الناس أنك إله عالٍ، خالق السماء والأرض وكل المخلوقات. الأب أنثيموس الأورشليمي * ما هو مجدك فوق كل الأرض؟ كنيستك هي فوق كل الأرض، عروسك هي فوق كل الأرض![163] * لمن قيل هذا؟ هل يُقال "لترتفع" للآب الذي لم يخل نفسه؟ لا، إنما "لترتفع" أنت الذي نزلت إلى أحشاء أمٍ...[164] القديس أغسطينوس من وحي مز 57 لأعبر مع المرتل إلى صليبك * لأدخل مع داود في المغارة. فأنسى شاول وكل مكائده. إنما أنطلق مع داود أبي إلى صليبك. * أراك يا سيدي قد قبلت مغارة طبيعتنا. وأنت مالئ السماوات والأرض، صرت إنسانًا، تخفي جلال لاهوتك! * من أجلي ارتفعت على الصليب. يا للعجب! كتب بيلاطس علة صلبك: ملك اليهود! هل أدرك هذا الأممي سرّ صليبك؟ هل أدرك أنك ملك الملوك؟ هل علم أنك بالصليب تحطم إبليس وجنوده حتى النهاية؟ * صليبك، فيض من المراحم لا ينقطع! صليبك، مغارة سماوية، أختبئ فيها من الشرير! صليبك، هو جناحان سماويان أستظل تحتهما. هل لسهام العدو أن تلحق بي، وأنا مختفي في صليب حبك الفائق؟ * على الصليب تلتقي رحمتك مع برَّك. وببرّك تمجدني فيك، يا أيها الحق الإلهي. لا أخشى يوم الدينونة العظيم. فأنت الديان الساتر كل كياني! * ما لي أرى الكل ثائرًا ضدك؟ صاروا كأشبالٍ يطلبون افتراسك! تحولت ألسنتهم الشريرة إلى سيفٍ ماضٍ! صوبوا سهامهم ضدك، يا واهب الحياة! سقطوا في الشبكة التي نصبوها، وانحدروا في الحفرة التي حفروها. أما أنت فحملت مؤمنيك فيك، وصعدت بهم إلى سماواتك، لكي تهب الجميع شركة أمجادك! * صليبك، صار نبعًا فريدًا، يبعث في أعماقي قوة وثباتًا وفرحًا لا ينقطع! صليبك، حوَّل حياتي إلى قيثارة، يعزف عليها روحك القدوس، تسابيح لا يُمكن للغة بشرية أن تعبَّر عنها. * صليبك، فتح أبواب الرجاء لكل الشعوب. رفع البشرية من الفساد، وأقام منها سحابة شهود سماوية! لك المجد يا من صُلبت من أجل البشرية! |
||||
28 - 01 - 2014, 05:32 PM | رقم المشاركة : ( 60 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 58 - تفسير سفر المزامير المشورات المداهنة الشريرةإحدى قطع المرثاة بسبب سيادة الظلم في العالم. من الصعب أن نتعرف عما إذا كان المرتل يشير إلى قادة إسرائيل الأشرار أم إلى حكام غرباء. ويحذر المزمور أصحاب السلطة الذين يستغلون مراكزهم ضد الفقراء والمساكين العاجزين عن الدفاع عن أنفسهم. يبرز المرتل ثقته الكاملة في الله الذي ينزل الشر على الأشرار الذين يقاومون عمل الله[165]. يتطلع المرتل إلى الأعداء والمشيرين الذين يسلكون بروح الخداع لكي يقتنصوا خائفي الرب. فقد عانى داود المرتل من خداع شاول الملك الذي وضع في قلبه أن يقتله مهما كلفه الأمر، من وقتٍ أو جهدٍ أو وضع خططٍ. فكثيرًا ما كان يبدو شاول كمن رجع إلى صوابه، طالبًا الصداقة مع داود، لكي يتحين فرصًا جديدة للغدر به. وعانى داود أيضًا بطريق آخر من مشيره أخيتوفل الذي كان ملازمًا له حتى في بيت الرب، يأكل معه على مائدته، وصار يخطط لأبشالوم كيف يتخلص من داود أبيه. جاء هذا المزمور دعوة للأشرار أن يكفوا عما في قلوبهم من خبث، فإنه وإن بدا الأبرار في ضعفٍ وعجز أمام خداعات الأشرار، لكن نهاية الأشرار الهلاك. أما الأبرار فيتطلعون إلى الله إلههم ويمجدونه على برِّه وعنايته الفائقة بخائفيه. القضاة الأشرار يقدم المرتل تشبيهات ليعبر عن مصير القضاة وأصحاب السلطة الأشرار. أ. الأخرس الصامت عن التكلم بالحق، بينما أعماله تشهد عن شره [ع1-2]. ب. السقط الذي انحرف عن الحق قبل ولادته [ع3]. ج. الحية الصماء التي لا تسمع توسلات الناس ولا تهديدات الله [ع4-5]، إنما ما يشغلها هو أن تبث سمومها القاتلة. د. الأسد أو الشبل، الذي يكسِّر الله أنيابه [ع6]. ه. الماء الساقط من الأمطار الذي يجف ويختفي [ع7]. و. القوس الذي سهامه غير حادة [ع7]. ز. الحلزون الذي مع سيره البطيء، فإن ما يخرجه من مخاط على الطريق يزول [ع8]. ح. السقط الذي لا يعاين نور شمس البرَّ، لأنه لا يرى الحياة [ع8]. ط. الشوك الذي تحت القدر، تجرفه الرياح سواء بعد أن احترق وصار رمادًا أو لم يحترق [ع9]. أقسامه 1. انتهار الأشرار المخادعين 1-5. 2. هلاك الأشرار 6-9. 3. تمجيد الأبرار لله مخلصهم 10-11. من وحي مز 58 العنوانَ "لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. عَلَي لاَ تُهْلِكْ. لِدَاوُدَ. مُذَهَّبَة" راجع ما ورد في المزمور السابق بخصوص تعبير "لاَ تُهْلِكْ". 1. انتهار الأشرار المخادعين أَحَقًّا بِالْحَقِّ الأَخْرَسِ تَتَكَلَّمُونَ بِالْمُسْتَقِيمَات تَقْضُونَ يَا بَنِي آدَمَ؟ [ع1] ينطبق هذا على مشيري أبشالوم بن داود، خاصة أخيتوفل، الذين خططوا له لكي يظهر أمام الشعب أنه أقدر من داود أبيه على الحكم بالحق، وأكثر منه تواضعًا وحنوًا. "كان أبشالوم يبكر ويقف بجانب طريق الباب، وكل صاحب دعوى آتٍ إلى الملك لأجل الحكم، كان أبشالوم يدعوه إليه، ويقول له: ...أمورك صالحة ومستقيمة، ولكن ليس مَنْ يسمع لك من قِبَلْ الملك. ثم يقول أبشالوم: من يجعلني قاضيًا في الأرض، فيأتي إليّ كل إنسان له خصومة ودعوى فأنصفه.... فاسترق أبشالوم قلوب رجال إسرائيل" (2 صم 15: 2-6). هكذا كان الابن العاق يخطط بمشورة الأشرار المحيطين به للثورة على أبيه واستلام كرسي الحكم، وقتل أبيه، ويتظاهر بالتمسك بالحق والاهتمام بكل مظلومٍ. حتى بعد الثورة على أبيه الذي هرب، أشار عليه أخيتوفل أن ينتخب اثني عشر ألف رجل، ويقوم الأخير بالسعي وراء داود في نفس الليلة حتى يضربه وهو متعب ومرتخي اليدين. يرى البعض أن ما ورد في هذا المزمور من رغبة الكاتب في هلاك الأشرار المقاومين له لا يتناسب مع مشاعر داود من نحو ابنه المتمرد. فقد قيل: "أوصى الملك يوآب وأبيشاي وإتاي، قائلًا: "ترفقوا ليّ بالفتى أبشالوم" (2 صم 18: 5). وحين سمع الملك عن موت ابنه: "انزعج الملك، وصعد إلى علية الباب، وكان يبكي ويقول هكذا وهو يتمشي: "يا ابني أبشالوم. يا ليتني مت عوضًا عنك، يا أبشالوم ابني، يا ابني" (2 صم 18: 33). لعل داود كان يشعر أن ما بلغه أبشالوم من روح التمرد كان بدافع مجموعة من الأشرار، فما يسأله عن مقاضاة الأشرار [ع6-11] لا يقصد به أبشالوم نفسه، بل من هم وراءه، أو مجلس الشورى الذي يخطط له. يترجم البعض هذه العبارة: "أحقًا تتكلمون بالبرّ يا أيها المجلس؟" يرى البعض أن شاول، إذ فشل في قتل داود، وهرب الأخير إلى البرية، دعا الملك بعض المشيرين لعقد مجلس يدرس ويخطط لحماية العرش، حيث اُتهم داود بالتمرد والخيانة والرغبة في الاستيلاء على عرش إسرائيل. وكأن هذا المجلس قد اجتمع بغرضٍ صالحٍ، وهو حماية عرش إسرائيل من الاغتصاب. كان داود يصرخ موبخًا مشيري شاول ورجاله قائلًا: "هل تطلبون العدل، وتحكمون بالحق، وتتظاهرون بالبرّ، وأنتم تخططون لاغتيال البريء؟" يدعوهم المرتل بني آدم، إما ليذكرهم بضعفهم وأنهم ليسوا فوق القانون، بل سيُحاسبون عن تصرفاتهم، أو ولكي يدركوا أنهم لا يتمتعون بالبنوة لله، بل هم بنو البشر[166]. * لقد أقسم شاول بأن يحل عداوته من نحو داود، ويُبطل اضطهاده له، لكنه حنث بقسمه، وغدر بعهده، وكان يترصده. هكذا أيضًا بالنسبة لأنطيوخس (أبيفانس) ومن معه، فإذ كان المكابيون يغلبونهم، كانوا يتظاهرون في تملقٍ كأنهم محبون لهم... أناس كثيرون قاموا بأذية اليهود في مكرٍ. وهذا المزمور يشير إلى مكرهم وكذبهم، إذ يقول النبي: يا أيها الرجال فكروا في أنكم أبناء بشر (أي مائتون)، وقابلوا أقوالكم بأعمالكم، انظروا وأحكموا بغير مراءاة، إن كانت أقوالكم صدقًا! هذا المزمور أيضًا نبوة عن اليهود الذين كانوا يتظاهرون أنهم حافظون للناموس، ويخاصمون ربنا لأنه كان يصنع أشفية في السبوت. الأب أنثيموس الأورشليمي * ليته لا يكون لكم برّ الشفاه فحسب، وإنما أيضًا الأعمال. إن كنتم تعلمون بغير ما تنطقون، فأنتم تنطقون بالصالحات، وتحكمون بما هو شر... القديس أغسطينوس * لا يترك المكر مكانًا للبساطة، ولا موضعًا للإلهيَّات في هذه القلوب... أما إذا رأى الرب طهارة قلب فيسند فيه عمل عظمته، أي الهبة العظيمة الفائقة التي تنسكب في قلوب الصالحين[167]. القديس أمبروسيوس ما يحزن قلب المرتل أن القضاة المسئولين عن التكلم بالحق، أخذوا موقف الصمت تجاه التصرفات الشريرة الظالمة ضد المرتل. بَلْ بِالْقَلْبِ تَعْمَلُونَ شُرُورًا فِي الأَرْضِ. ظُلْمَ أَيْدِيكُمْ تَزِنُونَ [ع2]. حرف "بل" هنا يعني "بالأكثر". فإن الأمر لم يقف عند الصمت عن إعلان الحق، وإنما وإن صمتت ألسنتهم عن الدفاع عن الحق، لكن قلوبهم وأفكارهم وأعمالهم تشهد بالأكثر للشر العامل فيهم. قد يصمتون أو ينطقون بكلمات معسولة، لكن أعماقهم تشهد بشرهم؛ هذا ما تترجمه أعمالهم. ما يفكرون به في قلوبهم تكشفه أعمالهم حيث يمارسون الظلم علنًا. "ويل للمفتكرين بالباطل، والصانعين الشر على مضاجعهم. في نور الصباح يفعلونه، لأنه في قدرة أيديهم" (مي 2: 1). يسألهم المرتل أن يزِنوا قلوبهم وأعمالهم بميزان الحق، فما حملته قلوبهم من خبثٍ وشرٍ، ترجمته ألسنتهم حتى وإن ادعوا أنهم حماة للحق. ليس في قلوبهم سوى الخبث. يدعون أنهم ممسكون بميزان العدل، بينما تتحرك أياديهم نحو العنف والظلم. * هنا يعني: إن أقوالكم وإن كانت صالحة، لكن منبعها الذي هو عقلكم مملوء من كل إثم، وبأياديكم تضفرون ظلمًا. أفكاركم وأعمالكم شريرة تناقض أقوالكم. الأب أنثيموس الأورشليمي يرى البعض أن الكلمة العبرية المقابلة لتزنون "Paw-las" تعني أن تعدوا (الطريق) أو تعملوا. ويرى القديس أغسطينوس أن المرتل هنا ينتقد الأشرار لأنهم يحبكون الإثم معًا. * تحبك أياديكم الإثم معًا. فمادمتم تعملون معًا (في الإثم)، تربطون خطية بخطية. القديس أغسطينوس زَاغَ الأَشْرَارُ مِنَ الرَحِمِ. ضَلُّوا مِنَ الْبَطْن،ِ مُتَكَلِّمِينَ كَذِبًا [ع3]. كأن المرتل يقول لهم: إنني لست أدهش لما تمارسونه من ظلم وشرور، فإن أعمالكم تتناغم مع طبيعتكم وأنتم بعد في البطن، فأنتم أشرار، نسل شرير من سلف شرير". إن كان هذا هو حالهم، فإننا نحن أيضًا نشاركهم في الفساد الذي يحلّ بكل البشرية. لكن نعمة الله هي التي تضمنا إليه، وتهبنا البنوة له. ليس لنا فضل في ذلك. يقول المرتل: "متكلمين بالكذب".لأنه كما يقول القديس أغسطينوس إن ينطقوا بالحق أو بالظلم، فهم ينطقون بالكذب، لأنهم يحملون الشر مخفيًا في قلوبهم. ارتكاب الخطية والانغماس في الشر تغرب عن الله وعن ناموسه. يقول الرسول بولس: "أنتم الذين كنتم قبلًا أجنبيين وأعداء في الفكر، في الأعمال الشريرة" (كو 1: 21). يرى العلامة أوريجينوس أنه لايمكن تفسير هذه العبارة حرفيًا، لأنه لا يستطيع أحد أن يتكلم بمجرد ولادته، ولا أن يزوغ نحو الشر وهو في رحم أمه. إنما يُفهم من هذا أنه كما يوجد أبكار للرب، يكرسون حياتهم لله، هكذا يوجد أبكار لإبليس، يكرسون كل طاقتهم لمقاومة الحق الإلهي[168]. اعتمد بعض الهراطقة على هذه العبارة كما على قول الرسول بولس إن الله أفرزه قبل أن يُولد ودعاه لنعمته (غل 1: 15)، ناسبين للأشرار طبيعة الشر قبل ميلادهم، بينما للقديسين طبيعة صالحة. ويجيب عليهم العلامة أوريجينوس قائلًا: [نقول إن بولس قد اُختير ليس مصادفة، ولا لأن له طبيعة مختلفة، وإنما هو نفسه ينسب علة اختياره إلى ذلك الذي يعرف كل شيء قبل أن يحدث... إذ سبق فرأى الله بولس سيجاهد بفيضٍ أكثر من غيره في الإنجيل... ولهذا السبب كرسه يسوع وهو في رحم أمه لخدمة الإنجيل. لو أنه اختير قضاءً وقدرًا كما يقول الهراطقة، أو لأنه ورث طبيعة أفضل من غيره، لما كان يخشى من أن يُدان إن فشل في الكرازة بالإنجيل (1 كو 16: 9)[169].] * عندما ينطقون بالظلم إنما ينطقون بالباطل، لأن الظلم مخادع. وعندما ينطقون بالعدل يتكلمون أيضًا بالباطل، لأنهم ينطقون بشيءٍ، ويخفون في قلوبهم شيئًا آخر. القديس أغسطينوس * لا يصنع الجنين قبل ولادته خيرًا ولا شرًا، وإنما يفعل ذلك بعد ولادته وبلوغه. أما قوله "من الحشا البطن"، فمعناه أن الأشرار بما أنهم مولودون من والدين أشرار غير عارفين الله، ولم يتعلموا أنه معتني بالعالم، لهذا صنعوا أعمالًا تقصيهم عن العدل، ومارسوا أعمال الظلم، وتكلموا بالكذب من بدء ولادتهم. أيضًا يعني أن الله بسابق علمه يعرف الذين سيكونون صديقين كقوله لإرميا النبي: "قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك" (إر 1: 5). وبهذا المعنى أيضًا جاء قول الله لفرعون: لهذا الأمر نفسه أقمتك لكي أُظهر فيك قدرتي، ولكن سابق علم الله لم يكن سببًا في أن يصير إرميا قديسًا وفرعون شريرًا. وأيضًا جرن المعمودية هو بطن ورحم، لأن المعمودية تلد ولادة روحية. أما الخطاة والذين زاغوا عن حقيقة الإيمان ابتعدوا عنها بكذب اعتقاداتهم وتزييف كلامهم، وقد ضلوا، لأنهم فضلوا الكذب عن الحق. أما القديس غريغوريوس النيسي فيقول: إن الكنيسة هي بطن ورحم، لأنها تلد المسيحيين، وتأتي بهم إلى النور الإلهي والحياة الأبدية. وأما الهراطقة فقد أقصوا منها وتغربوا عنها. وأيضًا المرء في بدء نشأته إذا عمل فضيلة أو رذيلة يُقال إنه من الرحم صنع هذا. وكما جاء في سفر أيوب: "إن أكلت لقمتي وحدي، فما ناولت منها يتيمًا، بل منذ البطن كنت أهديهم وأعولهم كأب" (راجع أي 31: 17-18). أيضًا التعليم الفاسد هو البطن والرحم الذين نشأوا فيه، فالذين يقبلونه أقصوا عن الله، وتغربوا عنه منذ بطنأمهاتهم التي هي غريبة منه. الأب أنثيموس الأورشليمي * حسب الكلمة النبوية، عندما انحرف الناس عن الرحم واهب الحياة الذين فيه تشكلوا، نطقوا بالباطل عوض الحق (مز 58: 3). لهذا اتخذ الوسيط بكر طبيعتنا العامة، وجعلها مقدسة خلال نفسه وجسده، بغير امتزاج ودون أية نزعة نحو الشر، محتفظًا بها في نفسه Himself. فعل هذا لكي ما إذ يصعد بها إلى أب عدم الفساد خلال عدم فساده، تنسحب الجماعة كلها معها بسبب الطبيعة المشتركة، حتى يهب الآب المحرومين من الميراث "البنوة" (غل 4: 5؛ أف 1: 5)، كأبناء لمن فقدوا الميراث، ويجعل من أعداء الله أن يشاركوا في اللاهوت (الحياة المقدسة)[170]. القديس غريغوريوس النيسي يرى القديس أغسطينوس في تعبير "زاغ الأشرار من الرحم"، إشارة إلى الذين بعدما وُلدوا من الكنيسة تغربوا عنها، وحملوا لها روح العداوة؛ تغربوا عن الحق! * ممن تغربوا؟ عن الحق! من أين تغربوا؟ عن المدينة المطوَّبة، عن الحياة المطوَّبة... يوجد من وُلدوا من أحشاء الكنيسة... وهو أمر صالح! أنهم تشكَّلوا هكذا ولم يُجهضوا. لتحملكم الأم، ولا تُجهضكم. إن كنتم في طول أناة تبقون حتى تتشكلوا، ويكون فيكم تعليم الحق الأكيد، فإن الأحشاء الملموسة تحتفظ بكم. ولكن إن كنتم في غير صبرٍ تترجون أمكم، فإنها ستتخلص منكم وهي في ألمٍ، لكن خسارتكم أعظم من خسارتها. لهذا فإن هؤلاء زاغوا من الرحم، لأنهم نطقوا بأمور باطلة... لقد زاغوا من الرحم، لأن الحق يقطن في أحشاء الكنيسة. القديس أغسطينوس لَهُمْ حُمَةٌ مِثْلُ حُمَةِ الْحَيَّةِ. مِثْلُ الصِلِّ الأَصَمِّ يَسُدُّ أُذْنَهُ [ع4]. قديمًا كان البعض يستخدمون نوعًا من الرقي والتعاويذ لتمنع الحيات من أن تلدغ. جاء في سفر الجامعة: "إن لدغت حية بلا رقية، فلا منفعة للراقي" (جا 10: 11). وفي سفر إرميا: "لأني هأنذا مرسل عليكم حيات أفاعي لا تُرقى، فتلدغكم يقول الرب" (إر 8: 17). توجد جماعة خاصة بين الهندوس متخصصون في استخدام تعاويذ بها يجلبون الحيات من جحورها وينزعون عنها سمومها. يقول Plumer إن الحواة الراقين لا يزالوا موجودين إلى اليوم في الهند وفي مصر. وأن هؤلاء ليس لهم سلطان على الأفعى السامة Cobra بدعوى أنها أصم لا تسمع صوت الحاوي الراقي. يرى G. S. Cansdale أن الحواة الراقين يهتمون بالأكثر بالأفعى السامة Cobra... هذا ويوجد اتفاق عام الآن بأن الحيات لا تسمع deaf، وإن الراقين يجتذبونها لا بأصوات المزمار، وإنما بحركة المزمار[171]. إذ يحمل الإنسان إرادة شريرة يتحول كما إلى حيَّة تبث سمًا (حُمة). وكأنه يقبل البنوة لإبليس، ويمارس أعماله الشريرة. غير أنه مراحم الله تنتظر كل إنسان إلاَّ إذا سدْ أذنيه عن صوت الروح القدس واهب التبكيت على الخطية. إنهم لا يطلبون أذية البار فحسب، وإنما يريدون قتله، كما بسم الحية، حيث يبدو كأن لا شفاء للبار من شرهم القاتل. يشبه المرتل هؤلاء الأعداء المخادعين بالأفعى والصل adder الأصم، لأن خطورتهما في أنيابهما وفمهما. هكذا يستخدم الأشرار أفواههم، فينطقون بمشورات قاتلة مسمومة. صار الأشرار متشبهين بالحية القديمة التي قدمت للبشرية سمًا قاتلًا. صاروا كالأفعى السامة الصماء، التي لا تسمع لصوت الراقين (المعوذين). إنهم لا يبالون بتوسلات المظلومين، ولا يستمعون إلى كلمات الله ووصاياه. ليس أحد أصم مثل ذاك الذي يسد أذنيه عن إخوته وعن الوصية الإلهية. * كما لو أن روح الله إذ يتكلم مع أشخاصٍ معينين لا ينصتون إلى كلمة الله، ليس فقط لا يعملون، وإنما أيضًا يرفضون أن يسمعوا، حتى لا يعملوا بها. القديس أغسطينوس * إننا حاكينا أيضًا الأفاعي، لأن غضب بني البشر، كما يقول الكتاب، شبه الحية (مز 58: 5)، "وسُمّ الأفاعي تحت شفاهه" (مز 140: 4)[172]. * لنحذر لئلاَّ يُقال عنا إن آذاننا هي آذان الصل الأصم. اَخبروني، في أي شيء يمكن للمستمع الذي من هذا النوع أن يختلف عن الحيوان؟ وكيف يمكنه أن يكون غير عاقلِ بطريقة تختلف عن أي حيوان أعجم، ذاك الذي لا يبالي عندما يتكلم الله؟[173] القديس يوحنا الذهبي الفم الَّذِي لاَ يَسْتَمِعُ إِلَى صَوْتِ الْحُواة،ِ الرَاقِينَ رُقَى حَكِيمٍ [ع5]. يرى القديس أثناسيوس الجليلأن نفس الغضوب تتشبه بالحية التي ظهرت في الجنة كأنها حكيمة أمام أبوينا آدم وحواء، وظهرت كما لو كانت تحمل روح الصداقة والمودة، لكنها حكمت على نفسها بالموت. هكذا تشبه بها شاول الملك الذي كان يظهر المودة لداود النبي، لكنه كان يُريد قتله. هكذا فعلت جماعة أنطيوخس أبيفانس، وأيضًا هكذا فعل الكتبة والفريسيون الذين كانوا يتوددون لربنا يسوع المسيح بكلام يبدو رقيقًا مملوء حبًا، فيدعونه: "ربي"، و"يا معلم" الخ، أمَا قصدهم فكان قتله. بهذا تشبهوا بالحية القديمة بشرها، ولم يريدوا أن يسمعوا أقوال الأنبياء المرسلين، الذين كانوا يعرضون عليهم التعاليم الحكيمة مثل الرقي. إنهم باختيارهم سدوا أذان نفوسهم لئلا يسمعوا، كما تسد الأفعى أذنيها لئلاَّ تسمع صوت الحاوي. هذا قاله الله في إشعياء: "غلظ قلب هذا الشعب، وثقل أذنيه، واطمس عينيه، لئلاَّ يبصر بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويفهم بقلبه، ويرجع فُيشفى" (إش 6: 10). إذًا خرجوا بإرادتهم عن أطوار البشرية، وتشبهوا بالوحوش السامة. * إنهم ليسوا صُمًّا، بل جعلوا أنفسهم صمًّا. * لقد اختاروا ألاَّ يكونوا في هدوء،ٍ بل في غضبِ، لهذا لا يريدون أن يسمعوا. لو أنهم سمعوا ربما لتوقف غضبهم. لقد صار سخطهم أشبه بسخط حية. القديس أغسطينوس * دعا الله أولئك الذين يعلم أنهم أبناء للبشر "جيل حيات"، لأنهم على مثال هذه الحيوانات يسلكون بمكرٍ ويؤذون الآخرين[174]. العلامة ترتليان 2. هلاك الأشرار اَللهُمَّ كَسِّرْ أَسْنَانَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمِ. اهْشِمْ أَضْرَاسَ الأَشْبَالِ يَا رَبُّ [ع6]. كثيرًا ما يتطلع الكتاب المقدس إلى الأفواه والأسنان كما الألسنة والشفاه أنها تشير إلى قوة الاعتداء والافتراس. فمن جانب تستخدم الوحوش المفترسة أنيابها عند هجومها على الفريسة. ومن جانب آخر، فإن الهراطقة والملحدين يستخدمون أفواههم للتجديف على الله، وتضليل المؤمنين عن الحق. يقول المرتل: "قم يارب، خلصني يا إلهي. لأنك ضربت كل أعدائي على الفك. هشمت أسنان الأشرار" (مز 3: 7). كما يقول الحكيم: "جيل أسنانه سيوف، وأضراسه سكاكين لأكل المساكين عن الأرض، والفقراء من بين الناس" (أم 30: 14). تذكر داود النبي كيف قتل أسدًا ودبًا لإنقاذ غنم أبيه (1 صم 17: 36)، لذا يقول: "الرب الذي أنقذني من يد الأسد، ومن يد الدب، هو ينقذني..." (1 صم 17: 37). الآن مهما ظن الأعداء أنهم أشبال أقوياء قادرون على الافتراس بأنيابهم، فإن الرب قادر أن يكسر هذه الأنياب. تارة يشبههم بالحيات التي تبث السموم في جسم الإنسان بأنيابها، وأخرى بالأشبال المتعطشة إلى سفك دم الفريسة، تمزقها بأنيابها. * أسنان الأشرار هي أقوالهم، لأنه كما أن الحية سمها في أسنانها، كذلك الأشرار. فإن الضرر هو في أقوالهم البارزة من أفواههم وأسنانهم. وأما الأنياب، فنُقال عن قوتهم الطاغية. لأن قوة السباع في أضراسها، وأنيابها التي تفترس بها، فيسحقها الله ويهشمها، وينجي المظلومين من أذيتهم. الأب أنثيموس الأورشليمي يرى القديس أغسطينوس أن الذين جاءوا يجربون السيد المسيح، سألوه إن كانوا يدفعون الجزية لقيصر أم لا، هم أشبه بالحيات السامة. وإذ أخرج الإجابة من أفواههم "كسَّر أسنانهم في أفواههم". وأما الذين ثاروا ضده، صارخين: "اُصلبه، اُصلبه" فكانوا يزأرون كأسود أو أشبالٍ مفترسة. وقد هشَّم السيد أضراسهم تمامًا. * ماذا يعني: "في أفواههم"؟ فعل هذا هكذا، جعل أفواههم ذاتها تشهد ضدهم. إنهم يلتزمون بالحكم على أنفسهم ذاتها. * أسنان الخطاة يمكن أيضًا أن تعني زعماءهم الذين يستخدمون سلطانهم ليقطعوا البشر عن طريق الاستقامة، ويضمونهم إلى جماعة فاعلي الشر. مقابل هذه الأسنان توجد أسنان الكنيسة الذين بسلطانهم يُقطع المؤمنون من أخطاء الوثنية والتعاليم الهرطوقية، وبهذا يوُجهون نحو العودة إلى الكنيسة، جسد المسيح. بهذه الأسنان أمر بطرس أن يأكل الحيوانات عندما ذُبحت، أي بقتل الوثنية التي للأمم، وتغييرهم إلى ما هو عليه (كأعضاء في جسد المسيح)[175]. القديس أغسطينوس * لنبكِ عليهم لا يومًا ولا يومين، بل كل أيام حياتنا[176]. القديس يوحنا الذهبي الفم لِيَذُوبُوا كَالْمَاءِ، لِيَذْهَبُوا. إِذَا فَوَّقَ سِهَامَهُ فَلْتَنْبُ [ع7]. لقد حطم السيد المسيح إبليس والموت بقيامته، فصار إبليس أشبه بحيوانٍ مفترسٍ قد تهشمت أنيابه، لا حول له ولا قوة، حتى أمام الأطفال. يتطلع المرتل إلى أعدائه الأشرار، وكأنهم أشبه بالمياه التي تسقط في الأمطار في وسط الصحراء، تعجز عن أن تُغرق أحدًا، إذ تجففها حرارة الشمس الشديدة، كما تتسلل بين رمال الصحراء، وكأنها تذهب بلا عودة. أما الله فيصوب سهامه نحو الأشرار، فيتمزقون إربًا إربًا. يرى البعض أن الحديث هنا عن الشرير الذي يصوب سهامه ضد البار ليقتله، فإذا بها تبتعد عن الهدف، ولا تصيب البار. فلتنْب تعني عدم إصابة الهدف. فوّقوا تعني وضع أسفل السهام في الأوتار لإطلاقها. كَمَا يَذُوبُ الْحَلَزُونُ مَاشِيًا. مِثْلَ سِقْطِ الْمَرْأَة،ِ لاَ يُعَايِنُوا الشَمْسَ. [ع8]. الحلزون هو حيوان رخو يعيش في صدفة البحر. فيما هم يعملون بكل قوة وبسرعة حتى لا يفلت البار من أياديهم، إذا بهم يشبهون الحلزون البطيء الحركة للغاية والكسول. أو مثل السمكة الرخوة التي في داخل قوقعة خزفية عاجزة عن الحركة، وعن مقاومة من يحملها ليذهب بها أينما شاء. يشبّه الأشرار بالحلزون الذي متى شعر بالخطر يغيِّر لونه من الأحمر الفاتح إلى الأبيض الباهت، ويبدو كأنه قد ذاب، إذ يدخل قوقعته ويختبئ. إنهم مثل الحلزون البطيء جدًا في حركته، لكنه وهو يسير ببطيء يفرز مادة لزجة على الطريق لامعة، سرعان ما تزول كلما تحركت[177]. يشبههم أيضًا بالسقط الذي لم يكتمل نموه. التعبير العبري يشير إلى ثمرة الإجهاض، حيث يكون السقط ميتًا، ليس فيه حياة ولا قوة، ويطلب الكل الخلاص منه. أمّا أنهم لا يعاينون الشمس، فمعناه أنهم لا يُحسبون بين الأحياء، وأنهم فاقدو البصر والبصيرة. قَبْلَ أَنْ تَشْعُرَ قُدُورُكُمْ بِالشَوْكِ، نِيئًا أَوْ مَحْرُوقًا يَجْرُفُهُمْ [ع9]. مرة أخرى يشبههم بالشوك الذي يعجز عن الوقوف أمام نار غضب الله. تهب الريح على الشوك الملتهب نارًا، فيصير رمادًا يتطاير، ويتبدد هنا وهناك. كثيرًا ما يُستخدم تشبيه الشوك الذي يحترق تحت القدر (مز 118: 15؛ جا 7: 6). يشبه الأشرار قدرًا فيه يوضع الطعام لطبخه على نار متقدة بأشواك تُجمع من البرية. لكن تهب عاصفة، فتجرف القدر ومعها الشوك الذي تحته، سواء كان قد احترق وصار رمادًا، أو لم يحترق بعد. هكذا ينشغل الأشرار بالمؤامرات ضد أولاد الله، وكأنهم يوقدون نارًا في شوك، وإذا بعاصفة تهب فتبدد خططهم. يقول العلامة أوريجينوس: [قلب الإنسان هو تنور. لكن إن كان هذا القلب تلهبه الرذائل أو يشعله الشيطان، فإنه لا يُطهى (أو يُخبز) بل يُحرق. ولكن إن كان يشعله ذاك الذي قال: "جئت لأرسل نارًا على الأرض" (لو 12: 49)، فإن خبز الأسفار الإلهية وكلمات الله التي أتقبلها في قلبي، لا أحرقها لدمارها، بل أخبزها لتقديمها ذبيحة[178].] * لا يقفون ضدك، إنهم لن يستمروا، فإنهم يهلكون بنوع من نار شهواتهم... الشهوة الشريرة تشبه نارًا واحتراقًا. عندما يتحدث الكتاب المقدس عن الزنا يقول: "أيأخذ إنسان نارًا في حضنه ولا تحترق ثيابه؟!" (أم 6: 27)...؟ اسمعوا ما يقوله الرسول: "لذلك أسلمهم الله أيضًا في شهوات قلوبهم (أي نار الشهوة)" (رو 1: 24)... * تحل عليهم النار، نار الكبرياء، نار الشهوة، نار السخط. يا لخطورة هذه النار! ذاك الذي تسقط عليه لا يرى الشمس. لذلك قيل: "لا تغرب الشمس على غيظكم". لهذا، أيها الإخوة نار الشر ترعبكم، إن كنتم تذوبون كالشمع، وتهلكون أمام وجه الرب. حيث تسقط تلك النار عليكم، ولا ترون الشمس. القديس أغسطينوس 3. تمجيد الأبرار لله مخلصهم يَفْرَحُ الصِدِّيقُ إِذَا رَأَى النَقْمَةَ. يَغْسِلُ خَطَواتِهِ بِدَمِ الشِرِّيرِ [ع10]. إذ يتبدد الشر، ويهلك (إبليس) الشرير، يفرح الصديق لأجل نصرة النور على الظلمة، والبرّ على الشر. ما يشتهيه الصديق هو دمار الشر وقوات الظلمة، وخلاص الأشرار من شرورهم. كان من العادات القديمة في المعارك أن المنتصر في المعركة يغسل قدميه أو يديه في دم القتلى من أعدائه الذين سُفكت دمائهم. كأن المرتل يعلن أن النصرة على الشر كاملة ونهائية (مز 68: 23؛ إش 63: 3)[179]. يغسل الصديق خطواته (أو يديه كما جاء في الترجمة السبعينية) بدم الخاطي. وإن كان الدم لا يغسل بل يُدنِّس، مع ذلك إذ يرى الصديق ما حلّ بدم الخاطى يرتعب من الخطية، ويخشى أن يحل به ما حلّ بالشرير، عندما اِنحرف إلى الشر. البار لا يقتل الأشرار، لكن إذ يقتل الأشرار أنفسهم بأنفسهم خلال شرورهم المهلكة، يعبر البار في أرض المعركة، فتغتسل قدماه بدمهم. يفرح الصديق، لكن ما يُفرح قلبه ليس هلاك الشرير، وإنما إذ يرى موت الشرير يلتهب قلبه بالطاعة للوصية الإلهية بفرحٍ عظيمٍ ونقاوةٍ؛ مدركًا أنه يتبرر بالنعمة الإلهية، ويتحرر مما يسقط فيه الشرير المعاند. سرّ فرح الصديق عند انتقام الله من الأشرار، ليس الشماتة بالشرير، بل شكر الله على قضائه العادل. * اسمعوا النبي يقول: "يفرح الصديق إذا رأى النقمة" على الأشرار. إنه يغسل يديه بدم الشرير. لا يفرح بالنقمة، حاشا! إنما إذ يخشى أن تحل به نفس الأمور، يجعل حياته أكثر نقاوة. هذه إذن علامة رعاية (الله) العظيمة. نعم، قد تقول: كان يلزم أن يهدد فقط ولا يعاقب. لكن إن كان وهو يعاقب تقولون إنه مجرد تهديد، وبهذا تصيرون أكثر كسلًا، فلو أنه بالحقيقة يستخدم التهديد فقط أما كنتم تزدادون بالأكثر في الكسل؟[180] القديس يوحنا الذهبي الفم * عندما يرى الصديق عقاب الشرير، هو نفسه ينمو. فإن موت الواحد هو حياة للآخر. * لاحظوا أن الشرير يموت، فطهروا أنفسكم من الخطايا. هكذا تكونون كمن تغسلون أياديكم بدم الشرير، بطريقة ما. القديس أغسطينوس يتطلع البار الذي يضطهده الأشرار بكل طاقاتهم، فيراهم وإن كانوا قد صاروا كالحيات بسمومها القاتلة، والأشبال المفترسة، لكن إذ يتدخل الله لحساب خائفيه، يصيرون هكذا: أ. يكسر الله أنيابهم، كما أُنقذَ داود من الأسد والدب. ب. يشبهون مياهًا في الصحراء، تجففها حرارة الشمس، أو تتسرب وسط الرمال. ج. يشبهون الحيوانات المائية التي في داخل قواقع، عاجزة عن الحركة، يمكن لأي إنسان أن يحملها بسهولة ويذهب بها أينما شاء. ه. يشبهون السقط الذي بلا حياة، لا يرى نور الشمس. و. يشبهون الشوك الذي يلتهب بنار غضب الله، فيصير رمادًا تذريه الريح، فلا يُوجد! هذه الصور المختلفة للأشرار المقاومين الحق الإلهي والمضطهدين لخائفي الله، تجعل البار في طمأنينة، لأن حياته في يد الرب، لا في يد إنسانٍ! وَيَقُولُ الإِنْسَانُ: إِنَّ لِلصِدِّيقِ ثَمَرًا. إِنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ قَاضٍ فِي الأَرْضِ [ع11]. يترنم الصديق حيث يعلن الله قضاءه على الشر، مقدمًا البركات للصديق المتألم! يتعظ الصديق بتأديب الشرير، مدركًا أن الله قاضٍ عادل، وأن للبرّ ثمره المفرح. * أي ثمر للصِديق؟ "نفتخر أيضًا بالضيقات، عالمين أن الضيق ينشئ صبرًا، والصبر تزكية، والتزكية رجاءً، والرجاء لا يخزي لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا" (رو 5: 3-5)... في الحب يوجد ثمر للصِديق. القديس أغسطينوس * إنه الكنز الذي أُعطي لهم في هذه الحياة ليمتلكوه في داخل نفوسهم، الذي "صار لنا حكمة الله وبرًّا وقداسةً وفداءً" (1 كو 1: 30). فالذي وجد كنز الروح السماوي وامتلكه يتمم به كل برّ الوصية وكل تتميم الفضائل بنقاوةٍ وبلا لومٍ، بل بسهولة وبدون تغصبٍ. لذلك فلنتضرع إلى الله، ونسأله ونطلب منه بشعور الاحتياج، أن ينعم علينا بكنز روحه، لكي ما نستطيع أن نسلك في وصاياه كلها بطهارةٍ وبلا لومٍ، ونتمم كل برّ الروح بنقاوة وكمال، بواسطة الكنز السماوي، الذي هو المسيح[181]. القديس مقاريوس الكبير من وحي مز 58 هل لقوات الظلمة أن تقف أمامك؟ * تئن نفسي من مقاومة الأشرار، حتى أشعر أحيانًا بحالة من الإحباط. يستخدمون مع العنف المكر والخداع. يحملون روح سيدهم، إبليس القتَّال والمخادع! * يظن الأشرار كأبيهم إبليس، أنهم أصحاب سلطان، ويحسبون العالم كله تحت أيديهم. يتسللون كالحيات، لكي يبثّوا السموم بأنيابهم. لن يقبلوا أقل من تدمير الأبرار وإبادتهم. لا يطيقون رؤيتهم، ولا يحتملون أصواتهم. ولا يقبلون حبهم ووداعتهم! إنهم كالظلمة التي لا تطيق النور! * أنهم كالأشبال التي تجول لتبتلع من تفترسه! يحسبون أنه ليس من بار لا تمزقه أنيابهم. ولا من صِديق يهرب من أياديهم! * يا للعجب! لن يترك الله عصا الخطاة تستقر على خائفيه. يحطم أنياب الحيات والأشبال، فتصير ألعوبة، لا حول لها ولا قوة! يتركهم يصوّبون سهامهم الشريرة، لكنها لن تبلغ هدفها، ولا تلمس بارًا! يصيرون كمن في قواقع ضعيفة، عاجزة عن الحركة! يولدون سقطًا ليس فيهم حياة، لا يرون شمس البرّ، ولا يدركون أسرار الحب الإلهي! حقًا إنهم كالشوك الجاف، لكن هل للشوك أن يقف أمام نار غضب الله؟ يحترقون تحت القدور، ويصيرون رمادًا. تهب الرياح، فيتبددون هنا وهناك، ولا يصير لهم وجود حقيقي! * يرفع الصِديقون قلوبهم بالشكر. فالظلم يتبدد أمام برّ الله. وتختفي الظلمة أمام النور الإلهي. يسبحون الله البار بكل كيانهم! يفرحون ويتهللون لإبادة الشر. يشتهون توبة الأشرار ونمو الأبرار. يطلبون خلاص العالم كله! |
||||
|