![]() | ![]() |
|
![]() |
|
|
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#5781
|
||||
|
||||
خلق العالم العقلى ![]() ولكن حيث إن حركة التأمل الذاتى لا تستطيع وحدها أن تشبع "الصلاح"[11]، بل كان يجب أن يُسكب الصلاح وينتشر خارج ذاته، لكى يكثر الذين ينالون من إحسانه (لأن هذا كان أساسيًا للصلاح الأسمى)، لذلك فإن الله فكر أولاً في خلقة الملائكة والقوات السمائية. وفكره هذا صار عملاً تحقق بواسطة كلمته واكتمل بواسطة روحه. وكذلك أيضًا خُلقت المخلوقات النورانية الثانية، كخُدام للنور الأول، الذين ندركهم كأرواح عقلية أو كنار غير مادية وغير فانية، أو كطبيعة أخرى تقترب بقدر الإمكان من كل الوصف السابق. وأريد أن أقول، إنهم لم يكن في إستطاعتهم أن يتحركوا نحو الشر، بل كانوا يستطيعون أن يتحركوا فقط نحو الخير لأنهم موجودون بالقرب من الله ويحصلون على الإنارة بالإشعاعات الأولى من الله، لأن الأرضيين يحصلون على الإنارة الثانية. لكنى مضطر للتوقف عن إعتبارهم أنهم لم يكن في استطاعتهم بالمرة أن يتحركوا ناحية الشر بل أتكلم عنهم فقط على أنه كان من الصعب أن يتحركوا نحو الشر بسبب ذاك الذي بسبب بهائه سمى يوسيفوروس[12]، ولكنه صار ظلمة ودُعى ظلمة بسبب كبريائه، هو والقوات التي تحت رئاسته، وصاروا خالقين للشر بتمردهم على الله، وأيضًا صاروا محرضين لنا على الشر. |
#5782
|
||||
|
||||
خلق العالم المادى:
10 ـ هكذا خُلق هذا العالم العقلى من فيض صلاح الله، بقدر ما أستطيع أن أتفكر في هذه الأمور وأتناول أمورًا عظيمة بلغتى الفقيرة. وبعد أن وجد خليقته الأولى في حالة حسنة، فكر في إبداع عالم ثانى، عالم مادى ومنظور، وهذا العالم هو منظومة مركّبة بين السماء والأرض وكل ما هو موجود بينهما، وهى خليقة جديرة بالإعجاب حينما ننظر إلى جمال كل شئ فيها، وهى أكثر جدارة بالإعجاب حينما نلاحظ التوافق والإنسجام بين المخلوقات وبعضها، إذ يتوافق الواحد مع الآخر والكل فيما بينهم في نظام جميل لكى يُكوّنوا كمنظومة كاملة متكاملة لعالم واحد. وهذا لكى يوضح أنه يستطيع أن يحضر إلى الوجود ليس فقط طبيعة شبيهة به بل وطبيعة مختلفة تمامًا عنه. لأن الكائنات العقلية هى شبيهة بالألوهية، وتُدرك فقط بواسطة العقل؛ أما كل المخلوقات التي تُعرَف بالحواس الجسدية فهى مختلفة تمامًا عن الألوهية، وأكثر هذه المخلوقات ابتعادًا هى تلك التي بلا نفس وعديمة الحركة. لكن قد يقول أحد المندفعين، ما الذي يعنينا من كل هذا؟ وقد يتساءل أحد من المشاركين في الاحتفال من المؤمنين المتحمسين "أُنخس الحصان لكى تصل إلى الهدف"، "حدثنا عن العيد وعن الأمور التي من أجلها إجتمعنا اليوم ". هذا ما سوف أفعله. حالاً، رغم أنى قد ابتدأت بأمور عالية إضطرنى إليها حبى لها بالإضافة إلى ما يحتاجه حديثنا عن العيد. |
#5783
|
||||
|
||||
خلق الإنسان:
11 ـ إذًا، فالعقل والجسد (المادى) المتميزين الواحد عن الآخر، يظلان كل واحد ضمن حدود طبيعته، ويحملان في ذاتهما عظمة الكلمة الخالق، وهما مسبحان صامتان وشاهدان مثيران جدًا لعمله الكلى القدرة. لم يكن بعد يوجد كائن مكون من الاثنين (العقل والحس) معًا، ولا أى إتحاد من هذه الطبائع المتضادة، إنه مثال أسمى للحكمة والتنوع في خلق الطبائع، ولم يكن معروفًا بعد كل غنى الصلاح. ولأن الكلمة الخالق قرر أن يظهر غنى هذا الصلاح، ويخلق كائنًا حيًا واحدًا مكونًا من الاثنين معًا، ـ أى من الطبيعتين المنظورة وغير المنظورة ـ لذلك خلق الإنسان. ولقد خلق الجسد من المادة التي كانت موجودة، الجسد وبعد ذلك وضع فيه نفخة منه التي عُرفت بأنها نفس عاقلة وصورة لله، ثم أقامه على الأرض كعالم ثانٍ عظيم في صغره؛ ملاك آخر، عابد مركب[13]. له معرفة كاملة بأعماق الخليقة المنظورة، أما الخليقة غير المنظورة فيعرفها جزئيًا فقط؛ ملك على الموجودات التي على الأرض ولكنه تحت سلطان الملك الذي في الأعالى. أرضى وسماوى، زمنى ومع ذلك غير مائت. منظور ولكنه عقلى. في وضع متوسط بين الوضاعة والعظمة. هو نفسه روح وجسد في شخص واحد. روح بسبب النعمة التي وُهبت له، وجسد لكى يسمو الإنسان بواسطته. الواحد لكى يحيا ويمجد الله المحسن إليه، والآخر لكى يتألم وبالألم يتذكر، ويتم إصلاحه إذا تكبر بسبب عظمته. كائن حى يتدرب على الأرض لكى ينتقل إلى عالم آخر، وكأن غاية السر هو أن يصير إلهًا[14] بميله إلى الله. فإنى أرى أن نور الحق الذي نناله هنا ولكن بقدر معين يتجه بنا لكى نرى ونختبر بهاء الله. الذي هو بهاء ذاك الذي كوننا[15]، والذي سوف يحلنا ثم يعيد تكويننا بطريقة أكثر مجدًا[16]. |
#5784
|
||||
|
||||
الحالة الفردوسية للإنسان ![]() 12 ـ هذا الكائن (أى الإنسان) وضعه الخالق في الفردوس (أيًا كان هذا الفردوس)، وقد كرمه بهبة حرية الإرادة، لكى يكون تمتعه بالله عن اختيار حر، بفضل عطية الله الذي غرس فيه هذه الحرية، ولكى يفلّح النباتات الخالدة التي تعنى المفاهيم الإلهية، الأكثر بساطة والأكثر كمالاً معًا، عاريًا في بساطته وحياته غير المصطنعة، وبدون أى غطاء أو ستار، لأنه كان من الملائم لذاك الذي في البداية (أى الإنسان الأول) أن يكون هكذا. وأيضًا أعطاه ناموسًا ليظهر به حرية اختياره. هذا الناموس كان وصية من جهة النباتات التي يمكن أن يأكلها، والنبات الذي يجب أن لا يلمسه. هذا النبات الأخير كان شجرة المعرفة، وذلك ليس بسبب أنها كانت شريرة حينما غُرست في البداية، ولا حُرمت على الإنسان عن حسدٍ (من ناحية الله، ولا ندع ألسنة أعداء الله تتحدت هكذا، كما لا نقلد الحية!). السقوط: وهذه الشجرة كانت يمكن أن تكون صالحة لو أن الإنسان أكل منها في الوقت المناسب (لأن الشجرة، بحسب رؤيتى، كانت هى رؤية الله التي هى مأمونة فقط بالنسبة لأولئك الذين تكملوا بالتمرن والنسك للإقتراب منها بدون مخاطرة)، لكنها ليست صالحة للذين لم يتدربوا بعد وللشرهين من جهة الشهوة، وذلك كالطعام القوى الذي ليس له فائدة للذين مازالوا ضعفاء ويحتاجون إلى اللبن (انظر عب12:5). لكن بسبب حسد إبليس وإغوائه للمرأة التي استسلمت لكونها أكثر ضعفًا، وبدورها حرضت آدم لأنها كانت ذات تأثير عليه، وأسفاه على ضعفى! (لأن ضعف أبى الأول هو ضعفى)، إذ نسى الوصية التي أُعطيت له، واستسلم للأكل من الثمرة المهلكة، وهكذا طُرد في الحال من الفردوس ومن شجرة الحياة ومن حضرة الله بسبب خطيته، ولبس الأقمصة الجلدية ربما يعنى أنه لبس الجسد الأكثر غلاظة، والقابل للموت والمناقض للأول)[17]. وكأول نتيجة، شعرا بالخزى وإختفيا من وجه الله. وهنا حصل الإنسان الأول على ربح له وهو الموت، وقطع الخطية، حتى لا يصير الشر خالدًا، وهكذا فإن العقاب تحول إلى رحمة[18]، لأنى أعتقد أن الله يفرض العقاب بدافع الرحمة. |
#5785
|
||||
|
||||
تدبير الله للخلاص ![]() 13 ـ وبعد أن عاقب الله الإنسان أولاً ـ بطرق كثيرة، لأن خطاياه كانت كثيرة (من التي نبتت من جذر الشر، والتي نشأت من أسباب مختلفة وفي أزمنة متفرقة)، أدبه بالكلمة، والناموس، والأنبياء، والإحسانات، والتهديدات، والفيضانات والنيران، والحروب، والانتصارات، والهزائم، والعلامات في السماء، وعلامات في الهواء وفي الأرض وفي البحر، وبتغييرات مفاجئة للأمم والمدن والشعوب ـ كل هذه الأمور كانت تهدف لإبادة الشر ـ وأخيرًا إحتاج الإنسان لدواء أكثر قوة لأن أمراضه كانت تزداد سوءً: مثل قتل الأخ والزنى والقسم الكاذب، والجرائم الشاذة، وأول وآخر كل الشرور أى عبادة الأصنام وتحويل العبادة إلى المخلوقات بدلاً من الخالق (انظر رو18:1ـ32). وبما أن هذه كانت تحتاج إلى معونة أكبر، لذلك حصلت على مَن هو أعظم. ذلك هو كلمة الله ذاته ـ الأبدى الذي هو قبل كل الدهور، وهو غير المنظور، غير المفحوص وغير الجسدى، البدء الذي من البدء، النور الذي من النور، مصدر الحياة والخلود، صورة الجمال الأصلى الأول، الختم الذي لا يزول، الصورة التي لا تتغير، كلمة الآب وإعلانه[19]، هذا أتى إلى صورته[20]، وأخذ جسدًا لأجل جسدنا، ووحد ذاته بنفس عاقلة لأجل نفسى لكى يطّهر الشبه بواسطة شبهه، وصار إنسانًا مثلنا في كل شئ ماعدا الخطية إذ وُلد من العذراء التي طُهّرت أولاً نفسًا وجسدًا، بالروح القدس (لأنه كان يجب أن تُكرم ولادة البنين وأيضًا أن تنال العذراوية كرامة أعظم)، وهكذا حتى بعد أن اتخذ جسدًا ظل إلهًا، إذ هو شخص واحد من الاثنين، ياله من اتحاد عجيب، الكائن بذاته يأتى إلى الوجود، غير المخلوق يُخلق[21]، غير المحوى يُحوى بواسطة نفس عاقلة تتوسط بين الألوهة والجسد المادى. ذاك الذي يمنح الغنى يصير فقيرًا، فقد أخذ على نفسه فقر جسدى، لكى آخذ غنى ألوهيته. ذاك الذي هو ملئ يخلى نفسه، لأنه أخلى نفسه من مجده لفترة قصيرة، ليكون لى نصيب في ملئه. أى صلاح هذا؟! وأى سر يحيط بى؟! إشتركت في الصورة؛ ولم أصنها، فاشترك في جسدى لكى يخلّص الصورة ولكى يجعل الجسد عديم الموت. هو يدخل في شركة ثانية معى أعجب كثيرًا من الأولى، وبقدر ما أعطى حينئذ الطبيعة الأفضل، فهو الآن يشترك في الأسوأ[22]. هذا العمل الأخير (التجسد) يليق بالله أكثر من الأول (الخلق)، وهو سامى جدًا في نظر الفاهمين. |
#5786
|
||||
|
||||
اتضع لأجلك فلا تحتقر تواضعه ![]() 14 ـ ما الذي سوف يقوله المعترضون والمجدفون على الألوهية، أولئك المشتكون ضد كل الأمور الجديرة بالمديح، أولئك الذين يجعلون النور مظلمًا، والذين لم يتهذبوا بالحكمة، أولئك الذين مات المسيح لأجلهم باطلاً، أولئك المخلوقات غير الشاكرة الذين هم من صنع الشرير؟ هل تحوّل هذا الإحسان إلى شكوى ضد الله؟ هل تنظر إليه على أنه صغير بسبب أنه اتضع لأجلك؟ وهل تعتبره صغيرًا لأنه هو الراعى الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف (يو11:10)، والذي أتى ليطلب الخروف الذي ضلّ فوق التلال والجبال والتي كانت تقدم فيها ذبائح لآلهة غريبة، وعندما وجده، حمله على منكبيه ـ اللتين حمل عليهما خشبة الصليب، وأعاده إلى الحياة الأسمى، وعندما أعاده حسبه مع أولئك الذين لم يضلوا أبدًا؟ هل تحتقره لأنه أضاء سراجًا الذي هو جسده، وكنس البيت، مطهرًا العالم من الخطية، وفتش عن الدرهم، أى الصورة الملكية التي دُفنت وغطتها الشهوات. وجمّع الملائكة أصدقاءه؛ عندما وجد الدرهم جعلهم شركاء في فرحه والذين جعلهم أيضًا مشاركين في سر التجسد؟ فبعد سراج السابق الذي أعّد الطريق، يأتى النور الذي يفوقه في البريق، وبعد "الصوت" أتى "الكلمة" وبعد صديق العريس جاء العريس، صديق العريس الذي أعد الطريق للرب شعبًا مختارًا، مطهرًا إياهم بالماء ليجهزهم للروح القدس؟ هل تلوم الله على كل هذا؟ هل على هذا الأساس تعتبره وضيعًا لأنه شد الحزام على وسطه وغسل أرجل تلاميذه (يو4:13)، وأظهر أن التواضع هو أفضل طريق للرفعة؟ لقد اتضع لأجل النفس التي إنحنت إلى الحضيض لكى يرفعها معه، تلك النفس التي كانت تترنح لتسقط تحت ثقل الخطية؟ كيف لا تتهمه أيضًا بجرم الأكل مع العشارين وعلى موائد العشارين (انظر لو27:5)، وأنه يتخذ تلاميذًا من العشارين، لكى يربح... وماذا يربح؟ خلاص الخطاة. وإن كان الأمر هكذا، فيجب أن نلوم الطبيب بسبب أنه ينحنى على الجروح ويحتمل الرائحة النتنة لكى يعطى الصحة للمرضى، أو هل نلوم ذاك الذي من رحمته ينحنى لكى ينقذ حيوانًا سقط في حفرة كما يقول الناموس (انظر تث40:22، لو5:14). 15 ـ المسيح أُرسل، لكنه أُرسل كإنسان لأنه من طبيعة مزدوجة[23]. لأنه شعر بالتعب وجاع وعطش وتألم وبكى حسب طبيعة كائن له جسد. وإذا استعمل تعبير "أُرسل" عنه، فمعناه أن مسرة الآب الصالحة يجب أن تعتبر إرسالاً، فهو يرجع كل ما يختص بنفسه إلى هذه الإرسالية، وذلك لكى يكرم المبدأ الأزلى وأيضًا لأنه لا ينبغى أن يُنظر إليه على أنه مضاد لله. فقد كتب عنه أنه سُلم بخيانة وأيضًا سلّم ذاته، وأيضًا كتب عنه أنه أُقيم بواسطة الآب وأنه أُصعد، ومن جهة أخرى أنه أيضًا أقام ذاته وصعد. فما ذكر أولاً في كل عبارة فهو من إرادة الآب (أنه سُلِّم وأنه أُقيم)، أما الجزء الثانى من كل عبارة فيشير إلى قوته هو. فهل تفكر في الأمور الأولى التي تجعله يبدو وضيعًا، أما الثانية التي ترّفعه فأنت تتغافل عنها. وتضع في حسابك أنه تألم، ولا تحسب أن هذا الألم تم بإرادته. انظر فحتى الآن لا يزال الكلمة يتألم. فالبعض يكرمونه كإله ولكن يخلطون بينه وبين الآب، والبعض الآخر يحقرونه كمجرد جسد ويفصلونه عن اللاهوت. فعلى مَن يصب جام[24] غضبه بالأكثر؟ أو بالأحرى مَن هم الذين يغفر لهم؟ هل الذين يخلطونه بطريقة جارحة أم أولئك الذين يقسمونه؟ فالأولون كان يجب أن يميزوا (بين الأقانيم) والآخرون كان يجب أن يوحدوه[25] (مع الآب). الأولون من جهة عدد الأقانيم والآخرون من جهة الألوهية. هل تتعثر من جسده؟ هذا ما فعله اليهود. ربما تريد أن تدعوه سامريًا؟ ولن أذكر ما قالوه عن المسيح بعد ذلك (انظر يو48:8) هل تنكر ألوهيته؟ هذا لم يفعله حتى الشياطين. للأسف كم أنت أقل إيمانًا من الشياطين! وأكثر جهلاً من اليهود! فهؤلاء اليهود قد فهموا أن اسم ابن يدل على أنه مساوى في الرتبة (أى مساوى لله)، أما أولئك الشياطين فعرفوا أن الذي طردهم هو إله، لأنهم إقتنعوا بذلك بسبب ما حدث لهم. أما أنت فلا تعترف بالمساواة ولا تقر بلاهوته. كان من الأفضل أن تكون إما يهوديًا أو شيطانًا (لو عبّرت عن ذلك بطريقة مضحكة)، عن أن يتسلط على ذهنك الشر والكفر وأنت أغلف وبصحة جيدة. |
#5787
|
||||
|
||||
كل هذا لأجلى ![]() بعد قليل سوف ترى يسوع ينزل ليتطهر في الأردن (مت17:3) لأجل تطهيرى أنا، أو بالحرى ليقدس المياه بطهارته (لأنه لم يكن في إحتياج إلى التطهير ذاك الذي يرفع خطية العالم). وإنشقت السماوات، وشهد له الروح الذي من نفس الطبيعة الواحدة معه؛ وسنراه يُجرب وينتصر على التجارب ويُخدم من الملائكة (انظر مت 1:4ـ11)، ويشفى كل مرض وكل ضعف (مت23:4)، ويمنح الحياة للأموات (وليته يهبك الحياة أنت الذي مت بسبب هرطقتك)، ويطرد الشياطين (مت33:9) أحيانًا بنفسه وأحيانًا أخرى بواسطة تلاميذه. ويُطعم بخبزات قليلة آلاف من البشر (مت14:14)، ويمشى على البحر كأرض جافة (مت25:14)، ويُسلّم ويُصلب صالبًا خطيتى معه، وقُدم ذبيحة كحمل، وأيضًا قدم ذاته ككاهن يقدم ذبيحة، ودُفن كإنسان وقام ثانية كإله، ثم صعد إلى السموات لكى يعود ثانية في مجده. كم من الأعياد توجد لأجلى في كل سر من أسرار المسيح! وغاية كل هذه الأسرار تجديدى وتكميلى أنا لكى أرجع إلى حالة آدم الأولى. 17 ـ إذًا، أرجوكم إقبلوا حمله في داخلكم (كما حملته العذراء في بطنها)، وإقفزوا فرحًا أمامه إن لم يكن مثل يوحنا المعمدان وهو في بطن أمه (لو1:1)، فعلى الأقل مثل داود أمام تابوت العهد (2صم 14:6). وعليك أن تحترم الإكتتاب الذي بسببه كُتبت أنت في السموات. واسجد للميلاد (لو1:2ـ5) الذي بواسطته فُككت من ولادتك الجسدية. واكرم بيت لحم الصغرى التي أرجعتك مرة أخرى إلى الفردوس. واسجد لطفل المزود الذي به تغذيت باللوغوس (الكلمة) بعدما كنت ضالاً. اعرف قانيك كما يعرف الثور قانيه، والحمار معلف صاحبه، حسب قول إشعياء (3:1)، ذلك إن كنت من الطاهرين الذين يكرمون الناموس وينشغلون بترديد أقواله باجترار، واللائقين للذبائح. أما إن كنت من أولئك الذين لا يزالون نجسين ولم يكن يحق لهم أن يأكلوا من المقدسات، وغير لائقين لتقديم الذبائح، وهم من الأمم الوثنيين، فإسرع مع النجم وقدم هدايا مع المجوس ذهبًا ولبانًا ومرًا كما لملك وإله ولواحد قد مات لأجلك. مجّده مع الرعاة، وسبحه مع خورس الملائكة، ورتل تسابيحك مع رؤساء الملائكة. فليكن هذا الإحتفال مشتركًا بين القوات السماوية والقوات الأرضية. لأننى أؤمن أن الأجناد السماوية يشتركون في التمجيد معنا، ويحتفلون بالعيد العظيم معنا اليوم، لأنهم يحبون البشر ويحبون الله، كما كتب داود عن أمثال هؤلاء الذين صعدوا مع المسيح بعد آلامه لكى يستقبلوه وهم ينادون أحدهم الآخر ان يرفعوا الأبواب الدهرية (مز7:24ـ9). |
#5788
|
||||
|
||||
حياة القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات ![]() (النازينزى 330 ـ 390م) مقدمة القديس غريغوريوس هو أحد آباء الكنيسة الكبار، معلمو العقيدة الذين تعتمدهم الكنيسة الأرثوذكسية فى كل العالم كشهود أمناء للإيمان المستقيم. وتظهر قيمة القديس غريغوريوس فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية من أمرين أساسيين على الأقل. الأمر الأول: أن القديس غريغوريوس هو صاحب القداس الغريغورى المعروف باسمه فى الكنيسة القبطية، والذى يجد فى نفوس المُصلين محبة خاصة لأنه يُناجى المسيح ابن الله الوحيد مناجاة طويلة فى قداسه تأسر قلوبهم وترتفع بهم إلى مشاركة السمائيين. والأمر الثانى: أن القديس غريغوريوس هو أحد الآباء القليلين الذين تأخذ الكنيسة فى تحليل الخدام منهم الحِل، مع الرسل القديسين والقديس مارمرقس. والقديس غريغوريوس هو الوحيد الذى أطلقت عليه الكنيسة الأرثوذكسية لقب "الناطق بالإلهيات" بعد القديس يوحنا الإنجيلى الرسول، وذلك بسبب عظاته وخطبه اللاهوتية الشهيرة عن ألوهية المسيح وعن الثالوث القدوس، التى ألقاها فى القسطنطينية فى السنوات القليلة التى قضاها هناك. وهو أحد ثلاثى آباء كبادوكية بآسيا الصغرى مع القديس باسيليوس الكبير أسقف قيصرية والقديس غريغوريوس أسقف نيصص. وقد حمل معهما شعلة إيمان مجمع نيقية ومواصلة الدفاع عنها بعد نياحة القديس أثناسيوس. نشأته ودراسته: وُلد القديس غريغوريوس حوالى سنة 330 فى بلدة نازينز بمقاطعة كبادوكية بآسيا الصغرى التى كان والده غريغوريوس أسقفًا لها. وكانت أمه "نونة" امرأة مسيحية حقيقية من أنبل النساء المسيحيات فى القرون الأولى للمسيحية. كان لـ"نونة" تأثير قوى جدًا فى نشأة غريغوريوس على الإيمان ومحبة الله ومحبة القداسة. هذه المرأة استطاعت بصلواتها وقداستها أن تحوّل زوجها غريغوريوس الأب من اعتناقه لبدعة خارج الكنيسة إلى الإيمان المستقيم. هذه الأم القديسة كرّست ابنها وهو فى بطنها لخدمة الله. ويقول عنها القديس غريغوريوس ابنها " كانت زوجة بحسب فكر سليمان، خاضعة لزوجها بحسب ناموس الزواج. وفى نفس الوقت كانت معلّمة لزوجها وقائدة له إلى الإيمان الحقيقى... فعندما تنشغل بالله وعبادته، كانت تبدو كانها لا تعرف شيئًا بالمرة عن أى مهام أرضية أو منزلية. وعندما تكون عاملة فى بيتها كانت تبدو كأنها لا تعرف شيئًا عن الممارسات الدينية: كانت كاملة فى كل شئ. لقد غرست الاختبارات فى قلبها ثقة لا حدود لها فى فاعلية الصلاة المؤمنة؛ وبالصلاة انتصرت على أحزانها وأحزان الآخرين، بالشكر لله"[26]. وقال عنها ابنها غريغوريوس فى أحد أشعاره: " ولولوا أيها الأموات، أيها الجنس المائت؛ ولكن حينما يموت شخص مثل "نونة" وهى تصلى فأنا لا أبكى"[27]. ومنذ نعومة أظافره ربته أمه بتعاليم الكتاب المقدس وتسابيح الكنيسة وصلواتها. درس أولاً فى نازينزا، وعندما بدأ يشب قرر بتشجيع أمه وبتأثير حلم رآه أن يكرّس حياته متبتلاً للمسيح. ثم أكمل تعليمه فى قيصرية كبادوكية حيث تعرّف هناك على باسيليوس فى صباهما. ثم ذهب إلى قيصرية فلسطين ومنها إلى الأسكندرية حيث كان القديس أثناسيوس أسقفًا دون أن تتاح له فرصة لقائه. لم يمكث غريغوريوس كثيرًا هناك بل سافر بحرًا قاصدًا أثينا ليكمل درساته. أثناء سفره حاصرت السفينة عاصفة رهيبة وكاد ركابها بمن فيهم غريغوريوس يغرقون. ولأن غريغوريوس لم يكن قد اعتمد بعد، فقد انزعج بشدة خوفًا من الموت بدون معمودية، وفى صلاة حارة جدد عهد تكريسه ناذرًا نفسه من جديد لخدمة الله إذا أعطاه الله الفرصة للنجاة من الغرق. وفى أثينا توثقت علاقته بباسيليوس الذى كان يدرس أيضًا هناك. ووصف غريغوريوس عمق المحبة والصداقة التى جمعت بينه وبين باسيليوس بقوله كنا روحًا واحدة فى جسدين. ورغم محاولة كثيرين إقناعه بالإقامة الدائمة معهم فى أثينا ليعمل مدرسًا للبلاغة، فإنها غادرها وهو فى الثلاثين من عمره تقريبًا ورجع إلى نازينز، حيث كان لا يزال والده غريغويورس أسقفًا. وبعد عودته نال سر المعمودية وله من العمر ثلاثون سنة تقريبًا. غريغوريوس الناسك: بعد ذلك ألقى غريغوريوس نفسه بكل قواه ليحيا الحياة النُسكية بأشد صرامة، ولكنه فى نفس الوقت استمر يعيش فى نازينز ممارسًا الحياة النُسكية فى المدينة ومساعدًا لوالده فى أعمال الأسقفية. ولشدة شوقه لحياة التأمل والخلوة لم يبق فى المدينة كثيرًا، بل انطلق إلى جبال البنطس حيث قضى فترة فى العبادة والتأمل مع صديقه باسيليوس. وهناك تفرغا تمامًا لدراسة الكتب المقدسة والصلوات والتسابيح. وفى دراستهما للكتاب المقدس كان المبدأ الأساسى عندهما أن يفسرا الكتب المقدسة ليس حسب آراءهما الشخصية بل على أساس الخطوط التى وضعها الآباء والمعلمون السابقون عليهما فى التفسير. وقرأ كلاهما تفاسير أوريجينوس للكتاب وانتفعا بها مع تحاشى أى أفكار قد تكون غريبة عن المألوف. ومن تفسيرات أوريجينوس للكتاب والاقتباسات التى أخذاها منها وضعا الناسكان الصديقان غريغوريوس وباسيليوس كتابًا مكونًا من سبعة وعشرين جزءً أعطوه اسم "فيلوكاليا" Philocalia أى "محبة الصلاح". وهذا الكتاب لا يزال موجودًا إلى الآن بلغات عديدة بالإضافة إلى الأصل اليونانى. وقال عنه القديس غريغوريوس فى إهدائه الكتاب لأحد أصدقائه أن الكتاب قُصد به ليكون عونًا للدارسين فى تأملاتهم الروحية. ولكن غريغوريوس لم يبق لفترة طويلة فى المرة الأولى التى ذهب فيها للخلوة مع باسيليوس، فبعد حوالى ثلاث سنوات عاد إلى نازينز، ربما بسبب مشاكل فى إيبارشية والده استدعت رجوعه. غريغوريوس الكاهن: بعد عودته وبقاءه لبعض الوقت يعاون والده الأسقف فى خدمة الإيبارشية الذى كان قد بلغ حوالى تسعون عامًا، وبإلحاح من شعب نازينز قام والده الأسقف بسيامته كاهنًا رغمًا عنه فى احتفال كبير فى عيد الميلاد عام 361م. ولم يكن غريغوريوس مستريحًا أو راضيًا بالمرة عن السيامة، إذ قال عن الطريقة القهرية التى تمت بها، بعد سنوات طويلة، إنها "عمل استبدادى" وأنه يلتمس الغفران من الروح القدس عن قوله هذا (انظر Carm, de vita, I, 345). وبعد سيامته مباشرة هرب إلى بنطس ليستأنف الحياة التأملية مع صديقه باسيليوس ولكنه لم يبق هناك سوى ثلاثة أشهر تقريبًا عاد بعدها إلى نازينز لشعوره باحتياج والديه المسنين واحتياجات كنيسة نازينز. وألقى عظة عيد الفصح فى كنيسة نازينز فى عام 362م، وفى هذه العظة دافع عن هروبه قائلاً إنه من النافع أن يخاف الإنسان فى البداية من دعوة الله العظيمة كما فعل موسى وإرميا، كما أن استجابة الإنسان لصوت الله حينما يدعوه مثلما حدث مع هارون وإشعياء لها فائدة، وفى الحالتين ينبغى أن يكون الهروب أو الموافقة بروح خاشعة: بسبب ضعف الإنسان فى حالة الهروب أو بسبب اعتماده على قوة الله فى حالة قبول الدعوة. وانتهز غريغوريوس الفرصة ليكتب رسالة طويلة عن هروبه يوضح فيها باستفاضة فهمه لطبيعة ومسئوليات الخدمة الكهنوتية وأسباب هروبه بعد السيامة ورجوعه السريع، صارت مرجعًا لكل الآباء الذين كتبوا عن الكهنوت بعده. وعندما صار يوليانوس إمبراطورًا سنة 361، حاول عن طريق حاكم المنطقة أن يرسل فرقة مسلحة للاستيلاء على كنيسة نازينز. ولكن الأسقف المُسن بمساعدة ابنه غريغوريوس وشعب الكنيسة رفضوا بجرأة تنفيذ أوامر الإمبراطور، ولما شعر الوالى بوجود مقاومة شديدة أُضطر لسحب القوة المُسلحة. ولم تتكرر هذه المحاولة من الدولة بعد ذلك. وكان لموقف غريغوريوس الأب وغريغوريوس الابن فى مقاومة يوليانوس الجاحد دفاعًا عن الإيمان المستقيم دور كبير لتحويل نظر الإمبراطور عن مهاجمة الإيمان وممتلكات الكنيسة فى مقاطعة كبادوكية كلها. وبعد أن تولى الإمبراطور فالنس الآريوسى عرش الإمبراطورية كان يوسابيوس أسقف قيصرية هو رئيس أساقفة كبادوكية؛ فأرسل إلى غريغوريوس يدعوه إلى قيصرية لمساعدته فى مقاومة الآريوسية فاعتذر غريغوريوس لأنه كان يعلم بوجود خلاف بين المطران يوسابيوس والكاهن باسيليوس. وكتب غريغوريوس خطابات إلى يوسابيوس وباسيليوس واستطاع أن يصالح بينهما سنة 365م، فذهب باسيليوس إلى قيصرية لمساعدة يوسابيوس. غريغوريوس الأسقف: بسبب وجود صراع بين أنثيموس أسقف "تايانا" الذى اعطاه الإمبراطور فالنس فرصة أن يسيطر على مقاطعة كبادوكية كلها بجعل تايانا مقر رئاسة الأساقفة بدلاً من قيصرية ـ فلكى يقوّى القديس باسيليوس الذى كان أسقفًا لقيصرية مركزه فى مواجهة الخطة الإمبراطورية قام بإقامة أسقفيات عديدة فى المنطقة المتنازع عليها بينه وبين أنثيموس. ومن بين هذه الأسقفيات "سازيما"، قرية فقيرة وصغيرة جدًا وجميع سكانها من الأجانب واللصوص، قام بسيامة صديقه غريغوريوس أسقفًا لها بعد ضغط شديد من باسيليوس ووالد غريغوريوس المُسن سنة 372م. ولكنه لم يذهب لاستلام هذه الإيبارشية تحاشيًا للصدام واستعمال العنف مع الأسقف أنثيموس. وتسبب هذا الموقف مع باسيليوس فى تأزم العلاقات بينهما لدرجة كادت تؤثر على الصداقة العميقة التى كانت تجمعهما. عاد غريغوريوس إلى خلوته مفضلاً حياة الهدوء والتأمل. وبعد ذلك استجاب غريغوريوس مرة أخرى لتوسلات أبيه أن يظل فى نازينز ويخدم فيها كأسقف معاون له، فاستمر فترة فى نازينز يعظ ويرعى الشعب. وألقى عظة سنة 372م فى حضور والده حدّث فيها الشعب بكل صراحة عن مشدود بين الحياة التأملية وبين الاستجابة لداعى العمل الرعوى بدعوة الروح القدس. وهكذا وقف مساعدًا أمينًا بجوار والده الوقور الذى كان قد وصل إلى سن المائة وكان له فى الأسقفية 45 عامًا. وفى سنة 374م انتقل والده فألقى عظة مؤثرة جدًا فى جنازة والده التى حضرها القديس باسيليوس (Orat. XVIII). قال فيها موجهًا الحديث لوالدته التى كانت ما تزال تعيش: " هناك حياة واحدة فقط هى أن نرى الله، ويوجد موت واحد فقط ـ الخطية؛ لأن هذه هى هلاك النفس. وكل ما هو غير ذلك الذى لأجله يجهد الكثيرون أنفسهم، هو حلم يحجب عنا الحق، إنه وهم خادع للنفس. فحينما نفكر هكذا، يا أمى، فلن نفتخر بالحياة ولن نخاف الموت" وفى نفس السنة انتقلت أمه. وبعد أن ظل حوالى سنة يرعى كنيسة نازينز، اعتزل مرة أخرى فى خلوته المحببة سنة 375م حيث ذهب إلى "سلوكية" فى "إشوريا" وقضى هناك حوالى أربع سنوات بالقرب من كنيسة القديسة "تِكلا". وبينما هو هناك فى خلوته وصله خبر وفاة القديس باسيليوس سنة 379م فأرسل رسالة إلى غريغوريوس أسقف نيصصا شقيق القديس باسيليوس يعبّر فيها عن حزنه الشديد وفقدانه وخسارته العظيمة بانتقال باسيليوس. غريغوريوس رئيس أساقفة القسطنطينية: فى عام 379م دُعى القديس غريغوريوس ليذهب لإنقاذ كنيسة القسطنطينية من الحالة المزرية التى وصلت إليها طوال أربعين عامًا تحت رئاسة أساقفة آريوسيين. لذلك لجأ إليه أرثوذكس العاصمة المتبقين لكى يأتى لمساعدتهم بعد أن صاروا عددًا قليلاً وأيدهم فى إلحاحهم عدد من الأساقفة الأرثوذكس يحثونه على قبول الدعوة. وأيدهم الإمبراطور ثيؤدوسيوس الكبير وبعد أن قاوم الدعوة لمدة من الوقت فإنه أخيرًا شعر أن إرادة الله أن يذهب إلى القسطنطينية لكى يملأ الفراغ الإيمانى إلى أن يتمكن أرثوذكس العاصمة من اختيار رئيس أساقفة لهم. ورغم أن المرض كان قد أحناه، وثيابه البسيطة وببساطة حياته كناسك إلاّ أنه لم يعجب شعب العاصمة المحبون للمظاهر، بل أن البعض هزءوا به واحتقروه. ولكنه رغم كل هذا نجح بقوة وعظه ومقدرته اللاهوتية وجهاده المخلص هناك أن يجعل من القطيع الصغير المتبقى هناك كنيسة مزدهرة وقوية فى الإيمان والحياة المسيحية، وحقق انتصار إيمان نيقية مرة أخرى. ولكى يخلد ذكرى نصرة الإيمان هذه فإنه أعطى للكنيسة الصغيرة ـ التى كانت جزءً من منزل أحد أقربائه فى المدينة ـ اسم "أناستاسيا" التى تعنى القيامة، وفيها قدم عظاته مع خدماته الليتورجية للشعب. وتجمعت حوله كل جماهير القسطنطينية لتسمع عظاته التى تركزت معظمها حول ألوهية المسيح وعقيدة الثالوث القدوس مع الدعوة إلى حياة تقوية تليق بالإيمان المستقيم. وبسبب نجاحه الباهر فى الانتصار على البدعة الآريوسية فى المدينة حاول الآريوسيون أن يستأجروا قاتلاً لاغتياله. وهذا دليل ساطع على انتصاره عليهم فى ضمائر شعب المدينة. ويخبرنا القديس جيروم أنه جاء من سوريا إلى القسطنطينية ليستمع إلى خطب غريغوريوس اللاهوتية. وأنه تعلّم شخصيًا من غريغوريوس فى تفسيره للكتاب المقدس. وقد توّج الإمبراطور ثيؤدوسيوس انتصار إيمان نيقية الذى حققه غريغوريوس فى نفوس الشعب حينما دخل القسطنطينية فى عام 380م، وأسقط الأسقف الآريوسى ديموفيلوس وكهنته وسلّم "كاتدرائية الرسل" للقديس غريغوريوس قائلاً: "نسلّم هيكل الله هذا لك بأيدينا كمكافأة لأتعابك". وعندئذٍ طلب الشعب أن يصير غريغوريوس رئيسًا لأساقفة القسطنطينية، فرفض بإصرار. وعندما اجتمع المجمع المسكونى فى القسطنطينية سنة 381م اُختير غريغوريوس من آباء المجمع بطريركًا. ورأس اجتماع المجمع لفترة كبطريرك للقسطنطينية. ولكن حينما اعترض أساقفة مصر ومقدونية الذين وصلوا متأخرين على قانونية انتخابه لأنه أسقفًا لـ"سازيما" فلايجوز نقله إلى أسقفية أخرى بحسب قرارات مجمع نيقية. فإنه قَبِل هذا الاعتراض رغم ان مجمع القسطنطينية كان بقراره قد ألغى ارتباطه بسازميا التى لم يستلمها أصلاً، ولكنه كان زاهدًا فى المناصب. سنواته الأخيرة: رجع إلى نازينز واستمر يقوم بأعمال الكنيسة هناك لفترة إلى أن تمكن من ترتيب اختيار أسقفًا للمدينة، ثم اعتزل هو فى ضيعة أسرته فى أريانز حيث قضى السنوات الأخيرة من حياته فى خلوة وهدوء دون أن يقطع اتصالاته مع قادة الكنيسة فى ذلك الوقت بواسطة الرسائل فكان يهتم اهتمامًا شديدًا برعاية الفقراء والأسر التى فى منطقة إقامته، صارفًا وقته بين الصلاة والتأمل وقراءة الكتب المقدسة إلى أن انطلق لرؤية الإله الذى كان يهيم بحبه سنة 390م. وتعيد له الكنيسة يوم 25 يناير. (مراجع السيرة : N.P.N. Fathers, Vol. 7, p. 187-200 Philip Schaff, History of The Church, Vol. 3, p908-920). فليبارك المسيح إلهنا هذا الكتيب لبنيان كنيسته بشفاعة والدة الإله وصلوات الرسل والشهداء والقديسين والقديس غريغوريوس، وصلوات قداسة البابا شنودة الثالث، والمجد والسجود للآب والابن والروح القدس. |
#5789
|
||||
|
||||
مــيــلاد الـمخلص ![]() يقول داود النبى " انفخوا في رأس الشهر بالبوق ليوم عيدنا المبهج"[1]. إن الوصايا الخاصة بتعليم الملهم من الله (داود النبى) هى على أية حال، قانون لكل من يسمع. إذًا فلأن يوم احتفالنا المفرح قد أتى، فيجب علىّ أنا أيضًا أن أطبق هذا القانون، وأصير نافخًا بالبوق لهذا اليوم المقدس. إن بوق الناموس كما يشير الرسول بولس هو الكلمة. لأنه يقول لا ينبغى أن يكون صوت البوق غير واضح[2]. بل يجب أن تكون الأصوات مميزة، لكى تكون واضحة لكل مَن يسمعها. إذًا لندع نحن أيضًا أيها الاخوة صوتًا بهيًا يُسمع في الأفق البعيد، وهو ليس بأقل أبدًا من صوت البوق القرنى. يرجع ذلك أيضًا لأن الناموس الذي سبق ورسم الحقيقة من خلال رموز وظلال، شرّع أمرًا بإطلاق صوت الأبواق في يوم عيد المظال[3]. وموضوع هذا الاحتفال (أى الاحتفال بميلاد المسيح) هو سر عيد المظال الحقيقي. في هذا الاحتفال اتحدت الخيمة البشرية بذاك الذي لأجلنا لبس الجسد الإنسانى. وأجسادنا التي تتحلل بالموت تعود مرة أخرى إلى حالتها، بواسطة ذاك الذي أقام مسكننا منذ البداية. لنُردد نحن أيضًا كلام المزمور متهللين معًا، بصوت داود العظيم " مبارك الآتى باسم الرب "[4]. وكيف يأتى؟ بالطبع ليس كما بسفينة أو بعربة، لكنه عبر إلى الحياة الإنسانية ووهبها حياة نقية بلا فساد. " الرب هو الله وقد أنار لنا. أوثقوا الذبيحة يُربط إلى قرون المذبح "[5]. وعلى أية حال نحن لا نجهل أيها الاخوة، السر المختفي في هذه الكلمات، أن كل الكون هو مسكن لخالق الكون. عندما دخلت الخطية، أُغلقت أفواه أولئك الذين سادت عليهم، وصمت صوت الفرح، وتوقفت الترنيمة اللائقة بالاحتفالات، طالما أن الجنس البشرى لم يحتفل مع القوات السمائية، ولهذا أتت أبواق الأنبياء والرسل، والتي دعاها الناموس (قرنيات)، لأنها تصنع من القرن الحقيقي لحيوان وحيد القرن. هذه الأبواق بُوّقت بكلمة الحقيقة بقوة الروح، حتى ينفتح السمع الموصود بالخطية، ويقام احتفال لائق، هذا الذي من خلال الإعداد أو التهيئة لمظلة الكون كله، يمكن للمحتفلين فيه أن يعزفوا أو يرنموا معًا، بالاشتراك مع القوات السمائية التي تقف حول المذبح السمائى. لأن قرون المذبح العقلى هى القوات الفائقة والمتميزة للطبيعة العاقلة، رئاسات، وسلطات، وعروش، وربوبيات. هذه القوات تشترك في بهجة هذا الاحتفال بانضمامها إلى الطبيعة الإنسانية في ثوبها الجديد، الذي تجدد بتغيير الأجساد في القيامة. لأن كلمة (puk£zomai) تعنى أتجمل أو أرتدى شيئًا جديدًا، كما يفسرها كل من يعرف هذه الأشياء. إذًا هلم ننهض أنفسنا للنشوة الروحية، ولنضع داود في بداية الخورس كقائد وقمة هذا الخورس الخاص بنا، ولنقل معًا تلك الآية العذبة الإيقاع، التي صلينا بها منذ قليل، لنكررها مرة أخرى " هذا هو اليوم الذي صنعه الرب نبتهج ونفرح فيه"[6]. في هذا اليوم يبدأ الظلام في التراجع وينحصر ذلك الليل الممتد أمام النور الغامر انحصارا دائمًا. إن هذا التدبير المتعلق بهذا الاحتفال، حيث تستعلن الحياة الإلهية داخل الحياة الإنسانية في هذه اللحظة، لا يكون من قبيل المصادفة يا اخوتى ولا هو أمر تلقائى، أن الكون بكل ما فيه من ظواهر يروى سرًا لأكثر الناس فطنة، وكأنه يصرخ ويقول لذاك الذي يمكن أن يسمع ما يريد أن يقول له في هذا اليوم الذي تعظّم بمجيء الرب، إذ الليل قد انقطعت أوصاله أو بُتر. وأنا أعتقد أننى أسمع الكون يروى شيئًا مثل هذا. أيها الإنسان، وأنت ترى كل هذا، فلتفكر في الأمر المختفي الذي تُعلنه لك تلك الظواهر الكونية. أرأيتم الليل (ليل الخطية) الذي تمادى حتى أحلك فترات ظلامه، لقد توقف هناك عن المضى، وبدأ مرة أخرى في التراجع؟ ضع في اعتبارك أن ليل الخطية الردئ لم يعد قادرًا اليوم على المضى قدمًا، ذلك بعد أن بلغ مداه في الاتساع، ووصل إلى أقصى درجات الشر، من خلال ابتداع جميع أنواع الشرور، التي ستضطر من الآن فصاعدًا، إلى الانكماش والاختفاء. |
#5790
|
||||
|
||||
لماذا لم يظهر الرب متجسدًا منذ البداية؟ ![]() أرأيت أن إشراقه النور، تمتد أكثر، وأن الشمس تشرق بصورة تفوق المعتاد؟ فكر في استعلان النور الحقيقي، الذي يُنير بأشعة البشارة كل المسكونة. وحيث إن الرب لم يستعلن من البداية، لكنه في هذه الأزمنة الأخيرة منح الإنسانية إعلان ألوهيته، فإن ذلك قد يجعل المرء يفكر منطقيًا في هذا السبب، وهو أن ذاك الذي كان ينبغى أن ينزل إلى داخل الحياة الإنسانية، للقضاء على الخطية، كان يجب عليه أن ينتظر بالضرورة حتى يكتمل نبت الخطية التي زرعها العدو، وحينئذٍ دعا إلى وضع الفأس على أصل الشجرة كما يقول الإنجيل[7]. فالأطباء المتميزون في عملهم، لا يقدمون للمريض أى مساعدة من خلال الأطعمة حتى عندما يزداد ارتفاع درجة حرارة الجسم إلى الحد الأقصى. أما عندما تختفي أعراض المرض وتتضح مسبباته فيبدأ الأطباء في ممارسة عملهم، ورويدًا رويدًا يتشدد المريض ويتعافى من مسببات المرض التي تبدأ في التراجع. هكذا المسيح أيضًا، ذاك الذي يداوى جميع الذين أصاب المرض نفوسهم، فقد انتظر حتى تظهر جميع علل الشر الذي أسر طبيعة البشر، حتى لا يبقى أى شر من الشرور ـ التي كانت مختبئة بلا شفاء ـ وإلاّ فكان سيعالج فقط المرض الظاهر. إن الإنسانية لم تكن قد فسدت بالكامل وسقطت في شرورها حتى في زمن نوح ولذلك فلو كان الرب قد ظهر في تلك الفترة لما كان قد شفى الإنسانية بالكامل، ذلك لأن نبتة شرور سدوم لم تكن قد نبتت بعد. ولم يُستعلن الرب أيضًا في زمن هلاك سدوم، لأن شرور كثيرة كانت لازالت مختبئة داخل الطبيعة الإنسانية. حقًا فأين كان فرعون المقاوم لله؟ أين كانت شرور المصريين الغير المروضة أو التي لم تُقمع؟ وأيضًا لم تكن هذه اللحظة وأقصد زمن شرور المصريين هى اللحظة المناسبة لإصلاح كل شئ، أن يتحد الكلمة بحياتنا، بل كان لابد أن تظهر شرور الإسرائيليين. وأيضًا كان يجب أن تستعلن وتظهر إلى الوجود مملكة الأشوريين، وتباهى نبوخذ نصر الذي كان يشتعل خفية. كان ينبغى أن يسقط ـ مثل شئ خبيث ـ ذلك الخداع المؤدى لقتل الأبرار، وأن تسقط كل أشواك النبات، من جذرها الشيطانى. كان ينبغى أن يشتد نباح اليهود ضد قديسى الله، هؤلاء الذين قتلوا الأنبياء، ورجموا المرسلين، وأخيرًا ارتكبوا جريمة حمقاء حيث قتلوا زكريا بين الهيكل والمذبح[8]. ثم تُضاف إلى هذه القائمة، الجرائم والقتل الذي ارتكبه هيرودس ضد أطفال بيت لحم. إذًا فبعد أن استعلنت كل قوة الشر بكل جذرها الخبيث وازدادت الوقاحة في رغبات الغنوسيين الشريرة والمتنوعة والممتدة في كل جيل، عندئذٍ، كما يقول الرسول بولس لأهل أثينا، تغاضى الله عن أزمنة الجهل، وأتى في أواخر الأيام[9]، عندما لم يكن هناك أحد لديه معرفة، أو لديه رغبة البحث عن الله. فعندما فسد الجميع ورجسوا[10]، عندما انتشر الشر في كل مكان[11] وكثر الظلم، عندما بلغت ظلمة الخطية أقصى حد لها، عندئذٍ استعلنت النعمة. وهنا أشرقت أشعة النور الحقيقي علينا، وأشرق شمس البر على الجالسين في الظلام وفي ظلال الموت[12]، وقتها قصف رؤوس كثيرة للتنين، مُسقطًا إياه بقدمه، وسحقه وطرحه أرضًا. ولا ينبغى لأحد وهو ينظر إلى الشرور الحالية، أن يعتقد أن الكلام الذي يقول، إن الرب في أواخر الأزمنة أشرق كالشمس في حياتنا، هو كلام كاذب. |