27 - 08 - 2014, 03:05 PM | رقم المشاركة : ( 5531 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
ضرورة الصوم الجسديّ تأثّرت روحانيّة الصوم المسيحيّ تأثّراً بالغاً بحياة النسّاك والحبساء. فروحانيّة هؤلاء تعتمد على الصوم اعتماداً شديداً. وهم يمارسونه بطريقةٍ شبه يوميّة تقريباً. ولمّا كان هؤلاء هم المرجعيّة الدينيّة الهامّة في المسيحيّة، ومنهم يُنتقى الأساقفة ورؤساء الكنائس، انتقلت عادة الأصوام المتكرّرة إلى حياة المسيحيّ الاعتياديّ، واصطبغة بصبغة الحزن والزهد والتقشّف. لكنّ المؤمنين احتالوا على الصوم، وبدأوا ينعمون بالمآكل والمشارب اللذيذة الّتي تحترم في بنيتها الممنوع الغذائيّ الّذي تفرضه الكنيسة في الصوم، ممّا أدّى، في الآونة الأخيرة، ببعض المعلّمين إلى رفض صوم الطعام، أو الصوم الغذائيّ، والدعوة إلى تكثيف الحياة الروحيّة والإكثار من أفعال الرحمة في فترة الصوم. بذلك، ألغى هؤلاء عنصراً هامّاً من الثلاثيّة الّتي يقوم عليها الصوم، ألا وهي الصوم والصلاة والصدقة. فدعوا إلى الصلاة والصدقة على حساب الصوم. لم ينتبه هؤلاء المعلّمين إلى الوحدة البنيويّة في الإنسان. فهو مركّب من نفسٍ وجسد. وللجسد تأثير بالغ على النفس. فصوم الطعام وسيلة هامّة، إن لم تكن وسيلة رئيسة، لارتقاء النفس وتنقيتها، كي تتابع مسيرتها نحو الاتّحاد بالله. ومحاربة الطريقة الفرّيسيّة الّتي يصوم بها بعض الناس لا تتمّ بإلغاء صوم الطعام بل بتحريره من قيود الممنوع والمسموح، وفتح أفقه على حرّيّة اختيار الإنسان، تماماً كما كان آباء البرّيّة يفعلون. ففي سير حياتهم، نجد أنّهم مارسوا التمييز في مسائل فرض الأصوام، لهذا كانوا صارمين ولذاك متساهلين، كلّ بحسب بنيته الجسديّة والمرحلة الّتي وصل إليها في تقدّمه الروحيّ، لكنّهم لم يلغوه قط. وكان أساس تمييزهم هو الحصول من الصوم على أعظم فائدةٍ روحيّة. وتروي السيَر أيضاً قصص كثيرين بالغوا في أصوامهم فحصلوا على نتائج معاكسة لما كانوا يرجونه. خلاصة القول، إنّ الامتناع برضى عمّا هو مريح ولذيذ شهادة على تمييز روحيّ ناضج. فنحن لا نحتقر ملذّات الحياة ونزهد بها إن لم نتذوّق طيبة الله وحلاوة العيش في ملء حضوره. وكما أنّ خلوّ النفس من المشاغل ضروريّ كي ترتقي هذه النفس في الروحانيّة نحو خالقها، كذلك على الجسد أن يرتقي ويسمو على الأرضيّات. فالجسد عنصر مقدّس، ووسيلة لتسبيح الله وتمجيده، والصيام يساعده على أن يبقى وسيلةً لا غاية |
||||
27 - 08 - 2014, 03:07 PM | رقم المشاركة : ( 5532 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
القداسة إن الطموح الأساسي للمسيحي الحق هو القداسة. فالقداسة هدف الإيمان المسيحي وغاية الحياة الروحية. وبذلك لا تهدف المسيحية، في عمقها، إلى تحقيق مؤسسات خيرية واجتماعية وفكرية وتربوية، إلا بمنظار هذا الطموح الأساسي، وهو إطلالـة الملكوت في المكان والزمان، في كل مكانٍ وكل زمان. أو لنقل بالأحرى: مؤسسات المسيحية هي شهادة لخبرة حب عميقة يعيشها مؤمنوها. إن الحياة الروحية، بحسب مفهوم الإيمان المسيحي، هي أولاً وآخراً خبرة تحقيق قداسة الله في الواقع المعاش. فالقداسة من صفات الله القدوس. يدعى الإنسان إليها لكونه في أساس وجوده مخلوق على صورة الله القدوس. ويمّيز "الآباء" هنا في تأملهم نص خلق الإنسان بين "الصورة" و"المثال". فالله القدوس يخلق الإنسان على صورته أي شبيهاً به في الحرية والسيادة على الكون، ويدعوه إلى تحقيق التمثل به، أي أن يكون على مثاله في خبرة القداسة. وبذلك تصبح القداسة حركة تحقيق وتواصل مستمرة، فهي أكثر من أن تكون نهاية مسيرة، أو صفة دائمة لإنسان أو لقب شرف لبار، والدليل على ذلك فقدانها في حالة الخطيئة. إنها حركة مستمّرة، تستغرق أبدية الله وتلتحف عظمته. لذلك يمكننا القول أن القداسة هي حالة معينة تُختَبر، واقعٌ مميز يُعاش، من أهم خصائصها أنها لا تُحَد. من يختبرها "ينتقل من نطاق حياته الضيق المستكين إلى رحاب إمكانية دخول حياة الله، أشبه بمن تنفتح أمامه مساحات شاسعة لا يحدها النظر بل تقطع على المرء أنفاسه. وإنها لمساحات على أكمل ما تكون الحرية، وهذه المسافات نفسها هي حريات تجذب حبنا وتستقبله وتستجيب له.. وهكذا تتكدس، بشركة القديسين في الله، وإلى أبعد ما يمكن إحصاؤه، مغامرات الحب الخلاّق المبدع، فتصبح الحياة أعجوبة مطلقة، ولن يُعطى أيُّ شيء يقضي على إمكانية القبول، وعملية العطاء تنتشر لا تحدّها حدود " (أنظر: بَلْتَسار (هانس أورس فون)، نؤمن، دار المشرق، ص88-89). القداسة إذاً هدف الحياة الروحية، ولكن هذا الهدف يتحقق دون أن ينتهي، لأن الله لا ينتهي، والغاية هنا ليست مجرد فكرة أو مبدأ أو عقيدة أو مشروع أو أي شيء آخر، الغاية هي فقط اللقاء بالله القدوس المحب، وتواصل اللقاء معه. تقول القديسة تيريزيا الأفيلية: "كلُّ شيءٍ يزول.. الله يبقى.. الله وحده يكفي..." إذا كانت القداسة تشبّه بالله القدوس (1بط1/15-16)، هي أيضاً تشبّه بيسوع القدوس. إن لفظة "قدوس" أُطلقت على يسوع أيضاً، فهو "قدوس الله" (مر1/24، يو6/69) و"فتاه القدوس" (رسل4/27،30)، وبالرغم أنه من ذات كيان الله القدوس نراه يستمدُّ من أبيه القداسة، كما رأينا سابقاً حين تأملنا كيف كان يسوع يصلي. وبالمقابل، إذا كانت القداسة حركة "تشبّه" بالله القدوس وبابنه القدوس، هي أيضاً تشبّه بمن تلقى الروح القدوس، يقول بولس الرسول: "اقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح" (1كور11/1).. "لست أنا الحي إنما المسيح حيٌّ فيَّ" (غلا2/20). لقد استطاعت الكنيسة عبر تاريخها، وبالإصغاء المرهَف للروح القدس، أن تعلن بعض الشخصيات التي حاولت مواصلة الانسجام والتجاوب مع مبادرة الله المحبة. أولئك الذين حاولوا تقبل سخاء الله ونعمه الغير المحدودة، فتلقوا "الروح القدس"، فنجحوا، فتقدّسوا، فكانوا ذلك ?السحاب الكثير الكثيف من الشهود" (عب12/1) الممتلئ من محبة الله وقداسته. سوف استعرض إليكم في هذه الأمسية المباركة نماذج من الذين صيّروا الأرض سماء. وأمام سخاء الله في قديسيه، لا يمكنني إلا أن اختار الغيض من الفيض. سوف أتكلم عن بعض القديسين الذين كان لهم صدى في تاريخ الروحانيات المسيحية. خصوصاً تلك التي استأثرت التزام الكثير إلى حياة الإيمان والشهادة أو التكريس والرهبنة. فالمنهج الروحي للقديس ليس هو فقط لأتباعه أو لأهل زمانه إنما هو كنز للكنيسة الجامعة تُثقفه حسب المكان والزمان. |
||||
27 - 08 - 2014, 03:11 PM | رقم المشاركة : ( 5533 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
القداسة طموح الشهداء.. لقد رأى المسيحيون الأوائل أن قمة حياة القداسة هي الاستشهاد، خصوصاً أن المسيحية انتشرت في عصر الاضطهاد، لذلك نرى أن معظم تلاميذ يسوع سفكوا دمائهم تمسكاً بإيمانهم (تأمّل: رو8/35-00). فكانوا حقاً "زرع الكنيسة"، حسب تعبير ترتليانوس. فاقتدوا بيسوع في حياته وموته لتستمر الكنيسة بمجدهم "فلا تقوى عليها أبواب الجحيم" (مت16/18). هكذا وُصفت الشهادة على أنها الشكل الأعلى والأسمى للقداسة. فالشهداء هم الذين غسلوا حُللهم وبيّضوها بدم الحمل" (رؤ7/15). ولدينا المثال على ذلك القديس اغناطيوس الانطاكي. فلنصغِ إلى ما يقول: "لن تتاح لي فرصة كهذه للذهاب إلى الله.. إني لا أطلب منكم شيئاً. أطلب فقط أن تتركوني أن أقدّم دمي فدية على مذبح الرب، مادام المذبح معدّاً.. إني أموت بمحض اختياري من أجل المسيح.. اتركوني فريسة للوحوش. هي التي توصلني سريعاً إلى الله. أنا قمح أُطحَن تحت أضراسها، لأُعدّ خبزاً نقياً للمسيح.. لقد ابتدأت أكون تلميذاً للمسيح.. لا شيء يمنعني عن المسيح.. ماذا تفيد ملذات العالم، مالي وفتنة هذا العالم. إني أفضل أن أموت مع المسيح من أملك أطراف المسكونة.. قرُبت الساعة التي أولد فيها. اغفروا لي يا اخوتي.. دعوني أحيا حقاً.. اتركوني أصل إلى النور النقي. إذ ذاك أصبح إنساناً حقيقياً. اقتدوا بي فأنا اقتدي بآلام ربي.. إن رغبتي الأرضية قد صلبت ولم تبقَ فيّ أي نار لأحب المادة، لا يوجد غير ماء حي يدمدم في أعماقي ويقول تعال إلي أيها الآب" (رسالته إلى أهل رومة). ليس الموت طريقاً لحياة القداسة ولكن إن كان لا بدّ منه فأهلاً به. إن الشهيد، حسب القديس اكليمنضوس الإسكندري، هو "دعوة الإنسان إلى الكمال". والشهادة ليس نهاية حياته ولكنّها تُظهر "كمال المحبة". فلا يحمل الشهيد القداسة لإخوته فقط "بل لكل الكنيسة والعالم والكون". وكما يقول أحد الفلاسفة الوجوديين: عندما تكون كنيسة قديسة يصدر عنها قديسون، وبالمثل القديسون يجعلون من كنيستهم قديسة. |
||||
27 - 08 - 2014, 03:12 PM | رقم المشاركة : ( 5534 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
القداسة مسيرة صحراء بعد أن أعلن السلام القسطنطيني مرسوم ميلانو سنة 313 م الذي سمح بحرية انتشار المسيحية وأنهى زمن الاضطهاد. خيّم على الكنيسة بعض مظاهر الرخاء والتملّق والمحاباة، وازداد ذلك كلما نعمت الكنيسة بالهدوء والاستقرار، وكادت الروحانية المسيحية، التي أعلنت ملء مصداقيتها بدم الشهداء، تفقد عمقها لولا أن الله افتقدها ليأتي بها "إلى البرية ليخاطب قلبها" (هو2/16)، ويدعوها مجدداً إلى نوع آخر من الشهادة، إنها شهادة الصحراء. لقد نشأت الحياة الرهبانية في صحراء مصر أولاً، ثم في سورية وفلسطين، و"حتى أقصى الأرض"، احتجاجاً على أن الزمن، وإن كان زمن قيصر، هو أولاً زمن ملكوت الله. فلا بدَّ من الصحراء، حيث يضعف ملكوت قيصر. فالرهبنة ليست بدعة في حياة الكنيسة، بل العكس تماماً. فكما كانت شهادة الدم هي ملء حياة القداسة زمن الاضطهاد، تكون الرهبنة نموذج للقداسة في زمن سطوة العالم .يتكلّم القديس إيرنيموس عن عطش كنيسة زمانه إلى الصحراء، فيقول: "أيتها الصحراء حيث سطعت أزهار المسيح الفتيّة. أيتها الخلوة حيث ولدت تلك الأحجار التي تبنى منها مدينة الملك العظيم حسب سفر الرؤيا.." ويتحدث إلى أحد أصدقاءه فيقول: "ماذا تعمل أيها الأخ العزيز في هذا العالم هل ستبقى محبوساً تحت الأَسقف.. وإلى متى؟.. إلى متى ستبقى في سجن المدن المدخنة؟.. صدقني، لا أستطيع أن أصف لك النور الغير الموصوف الذي يقع تحت عيني. ما أشد سروري أن أخلع ثوب الجسد الثقيل لأطير في طهارة الإشعاع الساطع.." إن الصحراء ترمز إلى حاجة الإنسان إلى الخلوة الداخلية. حيث المؤمن يكتشف صورته الأصلية في رؤيا الحبيب (أُنظر: نشيد الأناشيد 4) فيتحوّل العالم المليء بالقحط والأنانية والعنف إلى سلام وهدوء (أُنظر: أشعيا 35) والاستسلام لله هو أهم ما تقدمه الصحراء (رؤ3/20) وبه يستطيع المؤمن الانتصار على كل سطوة إبليس (مت4/1-11) إذ أنه في عمق الصمت يمكن الإصغاء، والإصغاء لله يُحقق الانتصار. |
||||
27 - 08 - 2014, 03:13 PM | رقم المشاركة : ( 5535 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
القداسة.. صحراءٌ في قلب العالم لقد أكد القديس أنطونيوس الكبير على ضرورة النزوح إلى الصحراء المكانية لتحقيق ذروات في حياة القداسة. ليأتي بعده القديس أفرام السرياني (373- 306) ليطوّر هذه الحقيقة. فيعتبر أن حياة التأمل هي ضرورة ملحة للالتزام العميق بالمسيحية. ويطلق قولاً للمسيح غير موجود في الإنجيل: "حيث يكون متوحد فأنا أكون".. ويضيف: "إن المسيح هو معنا.. هو فرحنا". ولكن التوحد والتأمل لا يتنافى مطلقاً مع الالتزامات الإنسانية الأخرى. فمع القليل من قوة الروح، يمكن عيش الشهادة في زحمة الحياة، فلا ضرورة، برأي القديس أفرام، للهرب من العالم. ويتكلم أفرام عن البتولية وعن إمكانيتها في حياة المجتمع، لا بل يشدد على ضرورتها لتعلن للمؤمنين رؤى الحياة الأبدية. ويتكلم أيضاً عن ضرورة ممارسة حياة الفقر والصوم والسهر والصلاة المستمرة ليتمكن المؤمن من إعلان حضور الله في حياته. لقد كان أفرام شاعراً فرتل في قلب العالم ما تمجد به أباء الصحراء. ويأتي أيضاً القديس باسيليوس الكبير (330- 370) ليؤكد أن للالتزام بحياة القداسة في عمق التأمل لا يتكرّس إلا "بالعمل" و"المشاركة". فنراه ينظم الحياة الرهبانية ويدعمها بالمشاريع الاجتماعية التي تنسجم مع اندماج يسوع باخوته الصغار الذي فيهم يكون جائعاً وعطشاناً ومريضاً وغريباً.. (مت25). فلا يمكن الفصل في حياة القداسة بين التأمل والخدمة، بين الصحراء والمجتمع. وتأخذ الصحراء في قلب العالم بُعداً مميّزاً مع القديس فرنسيس الأسيزي (1182) حيث تبدأ خبرته الروحية بلقاءه مع المسيح المصلوب، ومن خلال مسيرة داخلية طويلة أخرجت فرنسيس من بيئته البرجوازية. لتنطلق به وتضعه في نور الرب مقدماً له ذاته في أعمال فقير وأخ صغير للفقراء والبرص والهامشيين. ففي كنيسة سان داميان طلب المصلوب من فرنسيس: "يا فرنسيس، اذهب وأصلح كنيستي التي تنهار". لم يفهم مباشرة معنى هذا النداء. ولكنّه شعر برغبة عميقة للتخلي. فترك كل شيء له وتوجه للتأمل بالمصلوب ملتزماً بحياته بكل ما تحمل من فقر وتواضع ووداعة ومحبة، وعلاقة الخالق بالخليقة. إن الإقتداء بالمسيح والتشبّه بحياته وخصوصاً بفقره وتواضعه هو أساس بناء الروحانية الحقة. والمؤمن الذي يتخلى عن كل شيء وعن ذاته إقتداء بالمسيح يغتني بالمسيح في آخر المسيرة. فالله يؤلهه متقبلاً تقدمة ذاته. إن تنازل الله نحونا يرفعنا ويمنحنا الكرامة الحقة. وكان القديس فرنسيس يرجع دوماً إلى "التوبة"، وحتى، وهو على فراش الموت، يتذكر كيف قاده الله إلى التوبة. فالتوبة هي حركة مستمرة في حياة المؤمن. وتأخذ حياة التأمل المندمجة فيقلب العالم وجهاً معاصراً مع الأخ شارل دو فوكو (1858- 1916) فتمنح النور الأوفر لحياة يسوع في الناصرة. فقد شعر بأنه مدعو إلى أن يكرز بالإنجيل لا بالكلام والنشاطات الخارجية، بل بالحياة: "يهتف بالإنجيل بحياته". بحسب عبارته الشهيرة. ولا ننسَ كم غرف هذا الأخ ليسوع قبل اهتدائه من ينابيع القوة العبثية واللهو والمجون. لقد كان ابن عائلة غنية وحاكمة في الجيش الفرنسي آنذاك. يترك كل شيء ليعيش حياة الاندماج بالمجتمع متخفٍ كيسوع العامل البسيط في الناصرة، كل ما لديه من غنى هو فقط يسوع. يقول الأخ شارل في يومياته: "يجب أن تكون رسالتي رسالة صلاح. ينبغي أن يقول الناظر لي.. بما أن هذا الرجل صالح، لابد أن يكون إيمانه حسناً. وإذا ما طُلب إلي لماذا أنا لطيف ووديع علّي أن أقول.. لأنني خادم لسيد يفوقني جداً بصلاحه، فيا ليتكم علمتم أن سيدي يسوع هو صالح.. وأني لأتمنى أن أكون صالحاً بالكفاية كي يقال.. إن هذا العبد هكذا، فماذا عن السيد.. علّي أن أكون كلا للكل.. أضحك مع الضاحكين وأبكي مع الباكين.." |
||||
27 - 08 - 2014, 03:14 PM | رقم المشاركة : ( 5536 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
القداسة "لمجد الله الأعظم.." "لمجد الله الأعظم" نغمة رتلها إذ كان بعد في العالم، وأصرّ أن تكون أنشودة حياة الروح. فكان كذلك له ولقلوب كثيرة.. إنه القديس أغناطيوس دي لويولا (1556) مؤسس الرهبنة اليسوعية. إن هذا المعلم الكبير الذي قادت روحانيته، خصوصاً من خلال "الرياضات الروحية"، الكثير إلى النهوض والقداسة. والرياضة الروحية هي أهم ما يميز هذه الروحانية. وهي عبارة عن تمارين تنتقل بممارسها (وبإشراف مرشد) إلى اكتشاف حب الله القوي واعتلان مجده الأعظم في هذا الحب. فتحاول أن تقرأ حياة الإنسان على صفحات الكتاب المقدس. فالكتاب المقدس هو اختبار روحي، يمكن للمتريض أن يكتشف فيه خبرة علاقته بالله القدوس القوي في حبه. وهكذا ينتقل المتريض بين الأمجاد في حياته والكبوات أيضاً، ولكن ليس بحركة العقل وحسب، بل بالإصغاء لهمسات الروح القدس، لاكتشاف "مشيئة الله" وتمييز إرادته واختيار القرار المناسب لوضع ذلك في الحياة والعمل.. فمهما تنوّعت التعدديات، لابدّ من الاختيار، ولابدّ من الالتزام به. ونجد القديس أغناطيوس رغم ذلك يمنح المكانة للقلب. فنراه ساعات طويلة في حوار عميق مع الحبيب حتى أن الدموع تنهمر سخية من عينيه.. دموع التوبة.. ودموع الفرح في الرؤيا. فرجل الإرادة والعزم والعمل تغذي دموع التوبة والرغبة في رؤيا الله والاتحاد به. لقد تفرعت من هذه الروحانية تيارات عديدة اتسم بعضها "بالعملية"، وبعضها الآخر "بالنظرية". ولمعت عنها شخصيات كان لها شأناً مهماً في التاريخ ولا يزال. وقد أحببت أن ألتقي إليكم في هذه الأمسية المباركة، الأب تيار دو شاردان (1955) الراهب اليسوعي العالم المعروف في أوساط علماء الجيولوجيا والطبيعة والانثروبولوجيا، وأيضاً علم المستحاثات ونظرية التطور... ولدي قول له يعبر أصدق تعبير عما يدور في فلك سماءه: "إذا كنت منذ حداثتي أحببت وسبرت الطبيعة والكون باكتمال وبعقيدة متزايدة، فأني لا أستطيع القول ما فعلت ذلك كعالم بل كمتعبد، ويبدو لي أن كل جهد لدي وحتى لو تناول شيئاً طبيعياً صرفاً، كان أبداً جهداً دينياً ووحيد بجوهره وإني لمدرك بأني سموت في كل شيء إلى المطلق. ولو كان هدفي غير هذا الهدف لما كانت لي الشجاعة على العمل، حسبما أعتقد. إن العلم (أي كل أشكال النشاط البشري) والدين ما كانا في نظري إلا شيئاً واحداً. كلاهما بالنسبة إلي سعي إلى غاية واحدة". (عن نشرة "عالمي" 14/4/ 1918). حقاً إن مجد الله الأعظم هو الإنسان الحي، كما يقول القديس إيرناوس. |
||||
27 - 08 - 2014, 03:15 PM | رقم المشاركة : ( 5537 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
القداسة مسيرة واقعية.. إن الطموح الأول والأخير للمسيحي الحق، كما رأينا، هو القداسة. وهكذا كانت تيريز ليزيو (الطفل يسوع) تعلن باستمرار عن هذا الطموح. فتقول بشجاعة: "إن الشوق إلى القداسة، لازمني حياتي كلّها". لذلك سوف نتأمل روحانيتها بشكل أعمق لعلنا نشاهد فيها وجها نموذجياً ومعاصراً (1897) للقداسة، خصوصاً بعد أعلنتها الكنيسة "معلمة" فيها.. إن تيريز، بالرغم من وعيها إن القداسة هي دعوةٌ للجميع بفضل نعمة المعمودية، اكتشَفَتْ سرَّ دعوتها الخاصة. فقد كتبت في باكورة رسائلها في "السيرة الذاتية" لأختها "الأم أنييس يسوع" مُفسِّرةً قول الإنجيل: "صعد يسوع إلى الجبل، ودعا إليه الذين أرادهم، فأقبلوا إليه" (مر3/13)، لتحدثها عن "سرّ دعوتها، بل سرّ حياتها كلها، وسرّ ما خصَّ به يسوع نفسها"، فتقول: "لقد طالما تساءلتُ: ترى لماذا نجد لدى الله خصائص تتناول هذا أو ذاك؟ لماذا لا تتساوى النفوس كلها في نِعَم الله؟ وكان يأخذني العجب لدى رؤيته يغمر بعطايا خارقة، قديسين حَفَلتْ فترة من حياتهم بالخطيئة، كالقديس بولس والقديس أغسطينوس، بل إنه كان يُرغمهم على قبول نِعَمِه. وعندما أقرأ سيرة بعض القديسين، وكنت أرى أن الرب قد طاب له أن يداعبهم من المهد إلى اللحد، وكان يُبادر هذه النفوس بمواهب خاصة، دون أن تخبو إشراقة حلّة العماد فيها... لقد تنازل يسوع وكشف لي هذا السر. لقد وضع أمام عينيَّ كتاب الطبيعة ، وأفهمني أن الزهور التي أبدعها، كلها جميلة، وأن روعة الوردة ونقاء الزنبقة لا يقضيان على أريج البنفسجة الصغيرة، والبساطة الأخّاذة في الأُقحوانة... وفهمت أن الزهرات الصغيرة، لو كانت كلّها وروداً، لفقَدَتْ الطبيعة حلّتها الربيعية، وحُرِمَت الحقول تنوُّع الزهور فيها. تلك هي الحال في دنيا النفوس، أعني بستان يسوع. فقد شاء أن يغرس القديسين العظام، على غرار الورود والزنابق، وشاء أن يغرس زهرات صغيرة، لابدَّ لها أن تكتفي بأن تكون أقحوانات أو بنفسجات يتمتع بها نظر الله.. فالكمال هو في الأمانة لإرادته، وفي أن نكون ما يشاء لنا أن نكون". تؤكد هذه الراهبة الصغيرة، التي ما تعلَّمت يوماً في مدارس اللاهوت، بل الطبيعة وكلمة الله كانتا مدرستها، أنَّ محبة يسوع تشمل جميع البشر دون استثناء، فهي "تتجلّى في النفس الأكثر وضاعة، تلك التي تتجاوب كلياً مع نعمته، كما تتجلّى في النفس الأكثر سموّاً. ذلك "أن ميزة الحب أن يتنازل.. وفي تنازل يسوع، تتجلّى عظمته اللامحدودة". فالطفل "الذي لا علم له بشيء.. وساكن الأدغال الذي ليس له ما يقود مسيرته إلا الناموس الطبيعي.."، هما أيضاً مدعوان إلى القداسة!.. هكذا "يعتني الرب يسوع بكل نفس ، كما لو كانت فريدة". ويمنح كلَّ إنسان التطلع إلى اللقاء به. إذ "لا يمكن لله، تقول تيريز في نفسها، أن يبعث فينا أشواقاً يستحيل تحقيقها. فبوسعي، إذن، وبالرغم من صِغَري، أن أصبو إلى القداسة". وما يميِّز دعوة تيريز إلى القداسة هو رغبتها السريعة في تحقيقها، رغم إدراكها لحقيقة الضعف المتأصلة في الإنسان، تقول: "لابدَّ لي من أن أقبل واقعي كما هو، بكلِّ ما فيه من نواقص. إني أريد أن أذهب إلى السماء، سالكةً طريقاً مستقيمة وقصيرة المدى، طريقاً صغيرة وجديدة. فنحن في عصر الاختراعات، ولم يَعُد ضرورياً أن نتسلَّق السلالم درجة درجة.. هناك المِصعَد!.. أنا أريد أن أجد مصعداً يرفعني إلى يسوع، فأنا أصغر من أن أتسلَّق سلّم الكمال، وهي سلّم شاقة". ولكن، ما هو المِصعَد في نظر صغيرتنا القديسة؟!.. الطبيعة..؟ أم الكتب المقدَّسة؟.. أم كلاهما معاً؟.. لقد وجدت تيريز في تأملها الكتب المقدسة "ما كانت تسعى إليه". فكانت تعتبر أن كلمة الله هي دائماً واقعية، بشكل أن تكون موّجهة إلينا مباشرة، وشخصيّاً، ولقد كانت باستمرار "موضوع أشواقها". فحين تتأمل مثلاً نصاً إنجيلياً يتحدَّث عن مريم العذراء، تقول: "يجب ألا نذكر عن مريم أموراً مجهولة أو يصعب تصديقها. مثلاً، أنها ذهبت صغيرة إلى الهيكل لتقدّم ذاتها للرب بعواطف حب مضطرمة وحرارة خارقة العادة، في حين أنه ذهبت ربما لمجرّد طاعة والديها. فلكي يأتي بثمر تأمل عن العذراء، يجب أن يظهر هذا التأمل حياتها الواقعية كما تستشف من الإنجيل، لا حياتها المفترضة. ومنه ندرك أن حياتها الواقعية في الناصرة، شأنها فيما بعد كانت حياة عادية... يروننا العذراء بعيدة عن متناولنا. يجب أن يرونا إياها كمن يمكن الإقتداء به، أي أنها كانت تمارس الفضائل خفية. وأن يقولوا أنها عاشت نظيرنا من الإيمان، مستندين إلى براهين مأخوذة من الإنجيل". ولَكَم كانت الطبيعة أيضاً مصدر إطلالة حبِّ الله عليها، حتى أكثرت من الاستعارات والتشابيه المستمّدة من الطبيعة كالورود والطيور والشمس والعاصفة والمطر والضباب، تقول: "يا يسوع، يا أول صديق، يا صديقي الأوحد، أنت الذي أحبك وحدك، فَسِّر لي هذا السر.. . لماذا لا تحصر التطلعات الوسيعة في النفوس الكبيرة، في النسور التي تُحلِّق فوق القمم؟.. أنا أحسب ذاتي عصفوراً صغيراً.. لست نسراً، إلا أنَّ لي عينا النسر وقلبه، لأني برغم صغري، أجرؤ على التحديق بالشمس الإلهية ، شمس الحب، وقلبي يشعر في أعماقه ، بكل ما للنسر من تطلعات.. يا يسوع إني أتفهَّم حبك للعصفور الصغير.. ولكني على عِلمٍ أيضاً ، وكذلك أنت، أن هذا المخلوق الناقص ، مع التزامه أن يبقى تحت أشعة الشمس، قد يسهو قليلاً عن اهتمامه الأوحد، فيلتفت تارةً إلى اليمين، وطوراً إلى اليسار، ليلتقط حبة صغيرة، أو يسعى وراء دودة صغيرة... وإذا ما لحظ قليلاً من الماء قد تجمَّع على الأرض، عدا إليه ليُبلِّل ريشه الطري؛ وإذا وقع نطره على زهرة تحلو له، مال إليها تفكيراً واهتماماً.. . ولأنه لا يستطيع أن يُحلِّق كالنسور، يعكف العصفور الصغير على توافه الأرض، ويوليها اهتمامه. مع ذلك، وفي أعقاب هذه النقائص، وبدلاً من أن يندُب فيها شقاءه ويموت ندماً، يلتفت العصفور الصغير صَوْب شمسه الحبيبة، ويعرض لأشعتها المُحيية، جناحيه الصغيرين المُبلّلين، ويتنهَّد على مثال السنونوة ويُغني، وعبر نشيده الشجي، يسرد تفاصيل إساءاته ويستودعها من يستمع له.. ويستجلب عطاء أغزر من حب ذاك الذي لم يأتِ ليدعوَ الصديقين بل الخطأة..." لم تتردَّد تيريز مطلقاً أن تظهر في سيرتها نقائصها التي كان يسوع ساهراً على تجاوزها، لذلك "لا تجد صعوبةً في النهوض عندما تكبو"، على حدِّ قولها. فحين يكتشف الإنسان ضعفه، تقول تيريز: "يتحمَّل نقائص الغير، ولا تصدمه مواطن الضعف فيه". فلا يكفي أن نقول أننا نحبُّ الآخرين، "بل علينا أن نقيم الدليل على هذا الحب". وكما قالت القديسة تيريزيا الأفيلية: "ينبغي أن نتعامل بفن مع ضعفنا"، عاشت تيريز الصغيرة هذا الفن، ليس مع ضعفها وحسب، بل ومع ضعف الآخرين أيضاً. ولقد اقتبست هذا الفن، كما تقول، من يسوع نفسه الذي هو "فنّان النفوس". لم تتأخر تيريز في إظهار عفويتها، ومواقفها المرحة، كأن تذكر مثلاً أن أمها كانت تنعتها بالـ"عفريته".. وأنها حين كانت تمازح أباها تتمنى له أن يموت لكي يذهب إلى السماء. وعندما تهددها الوالدة بأنها ستذهب إلى جهنم حين لا تكون "عاقلة"، تردُّ عليها أنها سوف تتعلّق بها لتذهب معها إلى السماء، "إذ كيف يمكن للرب، تقول تيريز لها، أن يُبعدني؟ ألا تضميني إلى ذراعيكِ بشدة". كأنها كانت على قناعة أن الله "لن يستطيع حيالها شيئاً" طالما هي بين ذراعي الأم! التي هي بدورها، تصف صغيرتها، أنها، رغم صراحتها وشفافيتها و"قلبها الذهبي"، "طائشة"، "عنادها لا يقهر.. عندما تقول "لا"، لا يمكن لأي شيءٍ أن يُزعزعها". وتحتار الأم حول مستقبلها وتتساءل عنها "ماذا ستكون"؟.. ليتكِ علمتِ أيتها الأم الفاضلة التي قدَّمَتْ للكرمل أربع زهرات من بناتها، أن الصغيرة منهن ستكون قديسة!! تختار تيريز الطفولة الروحية طريقةً لقداستها التي طالما تشوَّقت إليها، تقول: "لستُ في حاجةٍ لأن أكبر، بل بالعكس، لابدَّ لي من أن أظلّ صغيرة، وصغيرة جداً، وأن أصغر أكثر فأكثر". ولكن، كيف تفهم قديستنا الطفولة الروحية: "سوف أبقى أبداً طفلةً، ابنة سنتين أمامه تعالى كي يضاعف اهتمامه بي.. فالطفل يرتضي بصغره وضعفه، ويقبل أن يكون بحاجة إلى المعونة.. سأتوكَّل على الله أبي في كلِّ شيء، وأطلب إليه كلَّ شيء، وأرجو منه كلَّ شيء. سأترك له الماضي مع ما فيه من المتاعب والمآثم ليغفرها.. وسأقبل الحاضر والمستقبل منه مسبقاً كما تشاء يده الحنون أن تنسجها لي.. سوف أبقى أبداً طفلةً أمامه، وأحاول دوماً أن أرتفع إليه بالرغم من ضعفي ووهَني.. الطفل الصغير يستطيع المرور بكلِّ مكان لصغره.. كم أتوق إلى السماء، حيث نحبُّ يسوع دون تحفظ أو حدود.. في قلب يسوع، سأكون دوماً سعيدة.. الشيء الوحيد الذي أرغب في أن تطلبه نفسي، هو نعمة حبِّ يسوع، وأن أجعل، قدر إمكاني، كلَّ إنسان يحبه.. سوف أعكف دائما على التغني بمراحمك.. " تطمح تيريز في طفولتها الروحية إلى النبوءة، وإلى الكهنوت. وتتشوّق، كبولس الرسول، إلى المواهب العظمى، لتكتشف في النهاية، أن الحب هو غاية المواهب والدعوات، تقول: "يا يسوع، سامحني واشفِ نفسي بمنحها ما تصبو إليه!!.. أن أكون عروستك.. أن أكون كرميلية.. أن أكون، باتحادي بك، أماً للنفوس.. كان يجب أن أكتفي بهذا... ولكن الواقع غير هذا.. لأني أشعر في ذاتي بدعوات أخرى.. أشعر بدعوة إلى الكهنوت والرسالة والتعليم والاستشهاد.. أشعر في نفسي بالحاجة والشوق، إلى أن أقوم في سبيلك، يا يسوع، بكلِّ الأعمال الأكثر بطولة!.. مع أني صغيرة، أتشوّق إلى أن أنير النفوس، على غرار الأنبياء والمعلمين. إني مدعوَّة إلى الرسالة... ورغبتي أن أجتاز الأرض، وأنادي باسمك، وأغرس في الأرض النائية، صليبك المجيد. ولكنَّ رسالةٌ واحدة لا تكفيني. يا حبيبي، أنا أريد، في الوقت نفسه، أن أحمل بشارة الإنجيل ، إلى القارات الخمس، وحتى الجُزُر القاصية.. وأريد أن أكون مرسلة، ليس على عدد من السنين وحسب، بل منذ خلق العالم، وحتى اليوم الأخير.. ولكني أصبو، فوق كل شيء، يا مخلصي الحبيب، إلى أن يُراق دمي لأجلك، حتى النقطة الأخيرة".. ولكنها، ولشدة واقعيتها تختار دعوتها في المسيح أن تكون الحب، فتقول: "أجل، وجدتُ موقعي في الكنيسة. وهذا الموقع، قد أعطيتنيه أنت، يا إلهي.. في قلب الكنيسة، أمي، سأكون الحب.. وسأكون بهذا الحب كلَّ شيء.. . لقد وعيت أن الحب يحوي في ذاته، جميع الدعوات، وأن الحب هو كلّ شيء، وأنه يَلُفُّ جميع الأزمنة والأمكنة، وبكلمة، إنَّ للحبِّ الخلود.. يا يسوع، يا حبي، لقد اهتديتُ أخيراً إلى دعوتي ، إنَّ دعوتي هي الحب!". لذلك نجدها، وبهذا الحب، تصلّي من أجل جميع الناس، خصوصاً الذي يحملون دعوة التكريس الكامل لله والخدمة، ولعلها كانت تحمل الكهنة في كلِّ صلاةٍ لها. هكذا، تتجلى قداسة تيريز في واقعيتها الطموحة. تعرف حدودها، تسرُّ بصغرها، ولكن لا تمنع نفسها التطلع إلى العظائم. لعل القدير الذي ينظر إلى ضعتها، يمنحها كفتاة الناصرة عظائمه، وهكذا فعل، تقول: "إنَّ كلَّ شيء يؤول في النهاية إلى خلاصي وسعادتي ومجده تعالى.. الله يعلم كلَّ شيء، وهو قادرٌ على كلِّ شيء.. ويُحبني.. إن أصغر لحظة حب خالص، لأكثر فائدة لها ، من جميع ما عداها من نشاطات مجتمعة.. " "يا يسوع، كن لي كلَّ شيء. هب لي ألا تتمكن أشياء الأرض من أن تلقي الاضطراب في نفسي، وألا يُقلق سلام نفسي أي شيء . يا يسوع لست أسألك إلا السلام، والحب أيضاً، ذاك الحب اللامتناهي، الذي لا يحده غيرك... الحب الذي يُحوِّلني من ذاتي إليك.. أعطني أن أموت شهيدة.. يا يسوع لتكمُل مشيئتك فيَّ بكمالها.. إن مسرتك وعزاءك، هما محور ما أريد". |
||||
27 - 08 - 2014, 03:17 PM | رقم المشاركة : ( 5538 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
البَرَكة واللعنة
الكلام على البَرَكة، في الكتاب المقدّس، كثير. ثمّة تسع وسبعون وثلاثمائة مرة استُعملت فيها اللفظة أو مشتقّاتها. وجوه استعمالها عديدة. منها البَرَكة الأرضية ومنها البرَكَة السمائية. أول ما خلق الله الإنسان كان أن "باركهم... وقال لهم أثمروا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلّطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض" (تك 1: 28). وآخر ما يُنجز به الله الإنسانَ قوله: "تعالوا يا مبارَكي أبي رِثُوا الملكوت المعدّ لكم منذ تأسيس العالم" (مت 25: 34).في الأول كانت البَرَكة دلالتُها النماء والزيادة والإرث والسيادة بنعمة الله. وفي الأخير ستكون ميراثاً جديداً، إقامةً، بابن الله المتجسّد، في الله الآب، إلى حياة أبديّة. لذا ورد في سفر الرؤيا "رأيت سماء جديدة وارضاً جديدة لأنّ السماء الأولى والأرض الأولى مضتا والبحرُ لا يوجد في ما بعد" (رؤ 21: 1). ثمّة مَن يعيد جذر لفظة "البَرَكة" إلى الركوع وإلى إناخة البعير في موضع ما. فإن بَرَك البعيرُ في المكان لَزِمه. في البَرَكة، إذاً، ملازمة. يلزم الإنسان الله ويَلزمه الله. لذا كُتب عن الحال في أواخر الدهور أنّي "سمعتُ صوتاً عظيماً من السماء قائلاً هوذا مسكن الله مع الناس وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعباً والله نفسه يكون معهم إلهاً لهم. وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم والموتُ لا يكون في ما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد لأنّ الأمور الأولى قد مضت" (رؤ 21: 3 ? 4). وإذا كان الله مبارِكَ الإنسان فالإنسانُ أيضاً يُبارِك الله. "كذلك أباركك في حياتي وباسمك أرفع يديّ" (مز 62: 4). كأنّنا بالإنسان، إذ ذاك، متى بارك الله، يكون مقتبلاً لبَرَكة الله، متفاعلاً معها، مُقِرّاً بها، مذيعاً لها. هذا يفترض أن يأخذ الإنسان على عاتقه أن لا يتعاطى أمراً إلاّ ببركة الله في روح القول: "التي لكَ مما لك نقدّمها لك على كل شيء ومن جهة كل شيء". يقدِّس كل شيء بكلمة الله. يردّ كل شيء إلى سيادة الله. يشكر الله على كل شيء من حيث إنّنا "به نحيا ونتحرّك ونوجَد" (أع 17: 28) ومن حيث إن "به كان كلُّ شيء وبغيره لم يكن شيء مما كُوِّن" (يو 1: 3). بَرَكة الله للإنسان لا تتفعّل فيه ولا تثبت إلاّ بمباركة الإنسان لله في كل حين وفي كل حال. طبعاً الله يبارِك أولاً، هو المبادر، لكن الإنسان يستجيب أيضاً بالبَرَكة. يقول لله "الآمين". "لجّة تُنادي لجّة". الإنسان متعلِّمٌ أبداً لغةَ الله. يكلِّمه بكلامه. مآل الناس أن يكونوا لله أمّة أنبياء. "ها قد جعلتُ كلامي في فمك" (إر 1: 9). يسلك الإنسان في وصايا إلهه ويكرز بها. هكذا يبقى عشير الله. كلامه من دون كلام الله لغوٌ. لذا لا تثبت بَرَكة الله بين الناس إلاّ بالطاعة من حيث هي الاستجابة للبَرَكة بالبَرَكة. من هنا القول العزيز في سفر التثنية: "إن سمعتَ سَمْعاً لصوت إلهك لتحرصَ أن تعمل جميع وصاياه... تأتي عليك جميع هذه البَرَكات... مبارَكاً تكون في دخولك ومبارَكاً تكون في خروجك..." (تث 28). كان الإنسان في الفردوس متمتّعاً ببَرَكة الله. كل ما في الفردوس كان يقتبله كَمِن يد الله. كل شيء كان أداة وصال مع الله، كان رسْمَ محبّة الله. كل الخليقة وشوشت في أذنيه محبّة الله. وردّ الإنسان بالطاعة والشكْران على نحو ما قيل، فيما بعد، في المسيح: "اشكروا في كل شيء لأن هذه هي مشيئة الله في المسيح يسوع من جهتكم" (1 تسا 5: 18). ثمّ بطاعة الإنسان لله خضعت له الخليقة. في سفر التكوين، قبل السقوط، أحضر الله حيوانات البرّية وكلَّ طيور السماء إلى آدم ليرى ماذا يدعوها وكل ما دعا به آدم ذات نفس حيّة فهو اسمها (تك 2). هكذا اعتُلنت سيادة الإنسان على الأرض، بالطاعة لله التي استتبعت رعايته لخليقة الله بمحبّة الله. مَن تعطيه اسماً تكون سيِّداً عليه. كل شيء كان، في هذا السياق، بأمر الله، في خدمة آدم. العناصر أيضاً كانت تطيعه، بنعمة الله، كما أطاعت الربّ يسوع في إنسانيته الفردوسية لمّا زجر البحر والرياح (مت 8: 27). ولكنْ، حالما خرج الإنسان عن طاعة الله حلّت به اللعنة. اللعنة هي الخروج من نطاق الله، سقوط نعمة الله منه. اذا كان كل شيء لينتظم بالبَرَكة فكل شيء ينفرط باللعنة. لذا قال كاتب سفر الحكمة: "الإثم يجعل من الأرض كلِّها قفراً" (حك 5: 23). "تقوم أمّة على أمّة ومملكة على مملكة". "إن لم تسمع لصوت الربّ إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه... ملعونةً تكون سلّتك ومعجنك. ملعونةً تكون ثمرة بطنك... ملعوناً تكون في دخولك وملعوناً تكون في خروجك..." (تث 28: 15 - ). يدخل الإنسان، إذ ذاك، نطاق لعنة قايين. كل أيام حياته يكون هروباً من لعنة إلى لعنة، ولا هروب من المصير. الكل يكون، في هذه الحال، في انقسام، في تفكّك، في تضاد، في صراع. حكمة الإنسان غباء بإزاء حكمة الله ومآلُها الإنحلال والموت. لذا قالت الحكمة في سفر الأمثال: "مَن يخطئ عني يضرّ نفسه. كل مبغضيّ يحبّون الموت" (أم 8: 36). أما بعد فإنّ المؤمن بيسوع دأبُه أن يبارك كل شيء. لا يتعاطى شيئاً إلاّ بالبَرَكة. هذا فِعْلُ إيمان لديه. وكل شيء قابل للبَرَكة إلاّ الخطيئة. لذا نتروّض، في المسيح، على الإقامة في نطاق الله. كل شيء نقدّمه لله، نرفعه قرباناً إلى الله، نتعاطاه أداة وصال مع الله. همّنا لا ما هو بين أيدينا بل الذي أعطانا ويعطي الجميع بسخاء (يع 1: 5). كل شيء نقتنيه أو نؤدّيه قيمتُه أنّه برسم البَرَكة، ولا يليق بنا أن نتعاطاه، كمؤمنين، إلاّ بالبَرَكة، الطعام والشراب واللباس والدواء. لا نباشر عملاً إلاّ بالبَرَكة ولا ننهيه إلاّ بالشكران. نبارك الله في كل حال ونشكر على كل شيء، على ما يريحنا وعلى ما يزعجنا، على ما نرغب فيه وعلى ما نرغب عنه إذا ما حصل لنا. نسأل برَكَة الكنيسة على بيوتنا وعلى أرزاقنا. ونذكر الله على كل صغيرة وكبيرة. لا شيء في هذه الدنيا مهمّ في ذاته ولا عين المؤمن فيه. نطلب معاينة يسوع في كل شيء. نستدعي يسوع على كلّ شيء. بذا يكون لكل شيء اعتبار. يعطينا الربّ الإله القليل أو الكثير، هذا ليس ما يشغلنا. ما يشغلني في شأن القنية أمران عبّر عنهما كاتب سفر الأمثال بالقول: "أبعد عنّي الباطل والكذب. لا تعطني فقراً ولا غنى. أطعمني خبز فريضتي. لئلا أشبع وأكفر وأقول مَن هو الربّ. أو لئلا أفتقر وأسرق وأتّخذ اسم إلهي باطلاً" (أم 30: 7 ? 9). والله معطيَّ لأن "أعين الكل إيّاك تترجّى وأنتَ تعطيهم طعامهم في حينه". ليست حياة الإنسان مما لديه ولا بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله. هذا هو الخبز النازل من فوق الذي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أن ندخل في نطاق الله، أن نلتمسه، أن نلتمس كلمته، شخصه، حضوره، بَرَكته في القليل وفي الكثير، في ما لنا وفي ما ليس لنا طالما الوصيّة هي: "اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية الذي يعطيكموه ابن الإنسان" (يو 6: 27). نصيبي وقع لي في أفضل الأراضي. نصيبي هو الربّ. أرضي جسدُه. ليس همّنا أن نستقي ماء أو شبه ماء في هذا الدهر، هذا نحصّله بطريقة أو بأخرىِ، في أوانه ووفق الحاجة. الله يعطي كل شيء بزيادة. المهم أن نلتمس التسليم الكامل لمَن قال: "مَن آمن بي تجري من بطنه أنهار ماء حيّ". عينك ليست في ما هو ههنا بل في الملكوت. ليست لنا ههنا مدينة باقية بل نطلب الآتية. لذلك نطلب الملكوت أولاً. نطلب وصيّة الله، نطلب حضوره، نطلب محبّته، نطلب رضاه. بالقليل القليل ههنا نحظى بالكثير الكثير هناك. المهم أن يكون هو قِبلة العين لنحظى بمَن كانت الخليقة من أجله، أن يكون هو نَفَس أنوفنا، أن نراه مرتسماً إيقونةً في كل وجه، أن نميّز محبّته في آلامنا وأفراحنا سواء بسواء، في يُسرنا وفي عسرنا. كل شيء جعله يسوع للبَرَكة حتى الألم والموت إلاّ الخطيئة. لذلك كل شيء نقتبله، من الآن فصاعداً، بالبَرَكة. المهم أن نَلقى يسوع في كل شيء، أن نطالع وجهه في كل شيء. كل شيء للمؤمن يسوع، فيه يستشفّه لأنّه مقيم بالنعمة فيه. هذا لسان حال المؤمن في كل حال: "لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلاّ يسوع المسيح وإيّاه مصلوباً" (1 كو 2: 2). "الحياة لي هي المسيح والموت ربح". ما يصدح به طالب البَرَكة، الموجوع المتيَّم بمحبّة يسوع، هو هذا: "في ما بعد لا يجلب أحد عليّ أتعاباً لانّي حاملٌ في جسدي سمات الربّ يسوع" (غلا 6: 7). |
||||
27 - 08 - 2014, 03:19 PM | رقم المشاركة : ( 5539 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
هل الله موجود مقدمة لم يعرف التاريخ سؤالاً أهمّ من هذا السؤال، ولا أبعد منه أثراً. إنّه سؤال العصور كلّها منذ أن وُجد الإنسان إلى يومنا هذا. وسيبقى هكذا ما بقي الزمان. وهذا السؤال يطرحه القلب البشريّ محاطاً بالتوق إلى معرفةٍ يأمل أن يجد فيها النور والاشراق والسعادة وشبع السرور في عالم مليء بالمآسي والأحزان. ولعلّه السؤال الأهمّ الواجب الإجابة عليه قبل مناقشة الإيمان نفسه. ثلاثة مواقف من الله أمّا أجوبة الناس على مختلف ميولهم ومذاهبهم فيمكن حصرها في ثلاثة: أ-جواب الملحدين: هؤلاء يقولون إنّ الله غير موجود. وقد نعتهم الكتاب المقدّس بالجهلاء، إذ يقول »قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: »لَيْسَ إِلهٌ« (مزمور 14:1). وقد وُصفوا بالجهالة لأنّهم يستندون في إلحادهم إلى حجّة سلبيّة، قوامها إنكار الأشياء، دون أن يقدّموا مبرّراً معقولاً أو سنداً واضحاً. ولا نعرف أنّ أحداً منهم حاول أن يبرّر عدم إيمانه بالله تبريراً إيجابيّاً معقولاً. ب-جواب اللا أدريّين: هؤلاء يقفون في الوسط بين الإلحاد والإيمان، دون أن يقطعوا بهذا أو ذاك. ومصيبتهم أنّ ضباب الشكّ يغشى قلوبهم، وأنّ عواطفهم شُحنت بالقلق والاضطراب. ولعلّهم في فقدهم دوافع الإيمان صاروا أقرب إلى الإلحاد منهم إلى الإيمان. قال بعضهم إنّ الديانة في كلّ أبوابها لغز لا يُحَلّ وسِرّ لا يُكشَف. وجلّ ما نحصل عليه بالبحث في الدين هو شكّ وعدم تأكيد! ويقيناً أنّ اللاأدريّة عقم في التفكير، ينزل بالإنسان إلى درجة مؤسفة من الجهل. لأنّها تقتل فيه الشعور بالمسؤوليّة والكرامة، وتجعله في حالة إحجام عن مواجهة الأمور التي تتطلّب الإيمان. ج-جواب المؤمنين: هؤلاء يعلنون إيمانهم بوجود الله، وإنّما لا يُخضِعون إيمانهم للتحليل المادّيّ أو العقليّ أو الحسّيّ، لأنّ الله الذي يؤمنون به روح ولا يمكن إدراكه بالعقل أو الحسّ، لأنّه لو أُدرك الله بالمحسوسات لأصبحت المحسوسات أعظم من ذاته الإلهيّة. هذا أوّلاً. وثانياً لو استطاعت الحواس أن تدركه لانتفت كلمة »إيمان« من معاجم اللغة، لأنّ الإيمان كما عرّفه بولس هو »الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالْإِيقَانُ بِأُمُورٍ لَا تُرَى« (عبرانيّين 11:1). الأدلّة على وجود الله قبل البدء بتقديم الأدلّة، يجب أن نضع في أفكارنا كحقيقة أوليّة أنّه لا ينبغي أن ننتظر دليلاً مادّيّاً على وجود الله. فالله غير منظور، والديانات السماويّة تعلّم بذلك. لذلك ليس من الحقّ في شيء أن نسأل مؤمناً أن يرينا الله لكي يثبت لنا وجوده فنؤمن به. كلّ ما ينبغي علينا أن نفهمه هو أنّ الإيمان بالله خير من عدم الإيمان. وقديماً قال أحد شعراء العرب الحكماء: قال المعلّم والطبيب كلاهما أنْ لا إله، فقلت ذاك إليكما إن صحّ ظنّكما فلستُ بخاسرٍ أو صحّ ظنّي فالوبال عليكما! إليك في ما يلي بعض الأدلّة على وجود الله، والتي استطعت أن أجمعها من بعض المصادر. وجود الكون: من المسلّم به أنّ كلّ معلول لا بدّ له من علّة سابقة وكافية لإحداثه. فالكون أو العالم غير أزليّ، ولا هو كوّن نفسه. لذلك فهو معلول، أي له علّة خارجيّة عنه، كافية لإحداثه. وهذا بالطبع يستلزم الاعتراف بأنّ للعلّة وجوداً حقيقيّاً دائماً. فاللاشيء لا يمكنه أن يوجد شيئاً. والأدلّة على عدم أزليّة الكون متعدّدة نكتفي بذكر اثنتَين منها: (أ)إنّ العالم على هيئته الحاضرة متغيّر باستمرار. وكلّ متغيّر مُحدَث، أي أنّ لديه بداية. (ب)إنّ الانقلابات الجيولوجيّة التي توالت على العالم وأحدثت فيه تغييرات عظيمة وكثيرة تبيّن أنّه غير أزليّ. أمّا القول بأنّ الكون واجب الوجود فمخالف لحكم العقل السليم، لأنّ العالم مركّب من عناصر عديدة. وكلّ مركّب معلول أي حادث، وشهادة الاكتشافات الطبيعيّة الجديدة تبيّن أنّ العالم صنعته يد واحدة، لأن ما فيه من المخلوقات مركّب ومنظّم بقوّة عقل واحد، ممّا يؤكّد كلّ التأكيد وجود خالق عظيم هو علّة العلل. هناك بعض أقوال علماء الجيولوجيا والطبيعة التي تبرهن أنّ الأرض التي نعيش عليها محدَثة: (1)إنّ كلّ أنواع الحيوانات والنباتات المعروفة الآن حديثة العهد بالنسبة لمدّة وجود العالم. (2)إنّ الموادّ الخالية من الحياة لا يمكن أن تولّد حياةً في نفسها ولا في غيرها. وإنّما الحياة وحدها تحدث الحياة. وفي تعبير آخر أنّه لا حيّ إلاّ من حيّ. (3)لم يتبرهن بعد الفحص الكافي أنّ نوعاً من المخلوقات الحيّة استحال إلى آخر. فيلزم من هذا المبدأ أنّ لكلّ حيوان ونبات بداءة. وكلّ ما له بداءة فهو مخلوق، والمخلوق لا بدّ له من خالق. علامات القصد في الكون: هذا الدليل من أصدق الأدلّة على وجود الله. وصورته الإجماليّة، هي أنّ التنظيم يستلزم بالضرورة وجود منظّم نظّمه. والكون منتظم جدّاً لأنّ فيه يظهر حُسْن الترتيب والتركيب والقصد في كلّ شيء. ممّا يدلّ على وجود كائن عاقل قد نظّمه. وهذا الكائن هو الله. الواقع أنّ علامات القصد في الكون تدلّ حتماً على وجود قاصد عاقل جدّاً، قادر أن يصنع كلّ شيء. ولذلك يجب التسليم بوجود خالق عاقل. وقد تبيّن أنّ علامات القصد ظاهرة في الكون على حالات مختلفة، كالترتيب الدقيق في أنواع المخلوقات، وأجزاء كلّ شيء وفقاً لنواميس طبيعيّة محكمة ومرتبطة معاً، وارتقاء أحوال الخلائق بالتدرّج في سلّم النظام وموافقة البنية الآليّة لإتمام وظائفها ونموّها وتقدّمها، وموافقتها عند اكتمالها للغاية المقصودة من خلقها، وموافقة كلّ ما سبق لغايات أدبيّة في ذهن الخالق، الذي يستخدم خلائقه لتمجيد اسمه ولتربية مخلوقاته العاقلة الناطقة في الأدبيّات والروحيّات. فلولا القاصد الحكيم وتنظيمه العالم لعمّ التشويش الخليقة كلّها. وعلامات القصد تظهر في أمور كثيرة منها: (أ)علامات القصد في أعضاء الجسد: فليس عند البشر من المصنوعات ما يستحقّ أن يُقابَل بأعضاء جسد الإنسان في الكمال والدقّة والإتقان. فالعين مثلاً أكمل من جميع آلات النظر التي صُنعت، في مطابقتها لقوانين الضوء، لأنّ فيها عصباً منتشراً في شبكتها يشعر بالنور والألوان. ويدخل النور العين من الحدقة، وهذه تضيق إذا كثر وتتّسع إذا قلّ. وفعلها هذا ضروريّ لتعديل البصر وهو يعمل آليّاً دون خضوع للإرادة. مجرّد دخول النور من ثقب ما لا يكفي لرسم صور المرئيّات رسماً واضحاً، بل لا بدّ من مروره في بلّورة محدّبة لكي تنكسر أشعّته وتتجمّع في بؤرة. وهذان الشرطان متوفّران في العين. ثمّ لو كان باطن العين أبيض، لانعكست أشعّة النور، وتشوّش البصر. فدفعاً لذلك، بُطِّنت العين ببطانة سوداء. وفي العين فضلاً عن ذلك عضلات مخصوصة تحكمها لنظر ما هو قريب وما هو بعيد، بسرعة مدهشة. كلّ هذا يظهر حكمة الله الفائقة في إعداد الوسائط لنوال الغاية المقصودة على منوالٍ يفوق كلّ ما في أعمال البشر. وكذلك الأذن، آلة عجيبة في كمالها. ففيها عصب السمع من الباطن، وآلة مموّجة اسمها الصماخ. هذه تحمل الموجات الهوائيّة إلى غشاء رقيق يُسمّى الطبلة. وهذا الغشاء يهتّز بتموّج الهواء. وداخلها عظيمات دقاق تنقل التموّجات إلى العصب السمعيّ، فينقلها هذا إلى عقدة السمع في الدماغ. ومن المعلوم أنّ معظم معاملات الناس تتمّ بواسطة هذه الآلة العجيبة، التي يتوقّف عليها السمع وتعلّم النطق. ولو أخذنا أعضاء جسد الإنسان واحداً فواحداً، لوجدنا أنّها رُكِّبت بصورة عجيبة، بالغة الدقّة والكمال للقيام بوظائفها، ممّا يدلّ على حكمة الخالق العظيم وقدرته في صنع الأشياء. (ب)علامات القصد عند الطفل حين ولادته: فحياة الإنسان تتوقّف على الأوكسجين الذي يتنفّسه، وبحسب ذلك، يولد الطفل مجهّزاً بآلة التنفّس مع أنّه لم يكن في حاجة إليها قبل ولادته. وهي في غاية الدقّة والإتقان، لتنقية الدم قبل توزيعه في كلّ أعضاء الجسم. وأيضاً قبل الولادة لا يحتاج الجنين إلى طعام ولكنّه حين يولد يصير محتاجاً إليه، ولذلك صنع الخالق جهاز الهضم، بأجزائه الكاملة. وكذلك قبل ولادته، لا يحتاج الطفل إلى أعضاء للمشي والعمل. ولكنّ الخالق كوّنها له قبل أن يولد، وفقاً لحاجته بعد الولادة، وهي مكوّنة من عظام ومفاصل متنوّعة، لكي تتحرّك تمشّياً مع حاجته في المستقبل. ممّا يدلّ على حكمة هذا الخالق العظيم. (ج)التناسب في أعضاء الجسد: في كلّ حيوان تتناسب الأعضاء مع أحواله الخاصّة به، فأجهزة السمع والبصر والهضم والتنفّس والحركة مرتّبة ترتيباً دقيقاً تمكّنه من القيام بوظيفتها على أحسن وجه. و نرى في خصائصها من الاختلاف ما يوافق الاحتياج الخاصّ لكلّ جنس أو نوع من الحيوان. فالبرّيّ منها مجهّز بأجهزة توافق السكنى في البرّيّة. وكذلك المائيّ والهوائيّ. و يستطيع العالم المدقّق بواسطة بعض الخصائص أن يعرف من عظم واحد جنس الحيوان ونوعه. فالطيور التي تخوض المياه وتتغذّى بالأسماك مجهّزة بأعناق وسيقان طويلة جدّاً، لتمسك فريستها من تحت الماء، والطيور التي تسبح على وجه المياه، مجهّزة بأصابع ملتحمة لها شكل المجذاف، والتي تطير في الأجواء مجهّزة بأجنحة طويلة وعظام فارغة لتصبح خفيفة الوزن بالنسبة لأحجامها. والتي تعيش على الأشجار، لها مخالب ومناقير حادّة ولسان طويل للوصول إلى طعامها من قلب الأشجار، وغير ذلك من الخصائص التي جهّزها بها الخالق الحكيم. ولعلّ أعجب الخصائص ما وُجد عند الحرباء، فهذا الحيوان الصغير تنتشر على جسمه غدد تتأثّر بألوان الوسط المحيط به، فيتغيّر لون جلد الحرباء تبعاً لذلك الوسط. فحينما تقف على فرع شجرة أخضر يتغيّر لونها إلى الأخضر. وحينما تصل إلى زهرة زاهية اللون تتّخذ لون الزهرة، وإذا وجدت بين الأحجار تتّخذ لون الأحجار. وهي تستخدم هذه الميزة للتمويه دفاعاً عن نفسها إذ يتوهم عدوّها أنّها فرع من الشجرة أو زهرة من الأزهار أو حجر بين الأحجار. فكلّ هذه الخصائص عند هذه الحيوانات مكوّنة وفقاً لحاجتها. وهي تؤكّد حكمة الله صانعها. (د)الإعداد السابق: ولعلّه أقوى الأدلّة على تدبير الخالق، وعالمنا مليء بالشواهد على ذلك. خذ مثلاً إعداد الطعام للمواليد قبل ولادتها، ففي ذوات الثديّ تكبر الأثداء قبل الولادة ويعدّ فيها الحليب، حتّى متى دخل المولود العالم، يجد طعاماً على غاية الملائمة لتغذيته. أمّا في الحيوانات التي تبيض فجرثومة الجنين محاطة بالمحّ والبياض، فيتغذّى بهما وينمو إلى أن يبلغ التكوين الكافي. وحينئذٍ يخرج من البيضة مجهّزاً بكلّ ما يلزمه من الأعضاء للسعي والحصول على طعامه، وقد كان هذا التدبير من الله وليس من أمّه. (ه)موافقة العناصر لحاجات المخلوقات الحيّة: نرى علامات القصد في تركيب عالم الجماد بصورة موافقة لحفظ حياة النبات والحيوان، فإنّ هاتين المملكتَين لا تستطيعان أن تعيشا بدون نور وهواء وحرارة. فمن أبدع لهما النور والحرارة والماء والهواء ونشرها في كلّ العالم؟ مَن أوجد الشمس مصدر النور والحرارة؟ ومن جهّز الهواء بعناصره على نسبة ثابتة موافقة لحفظ الحياة وأحاط أرضنا به؟ ومن جعل الماء يتحوّل إلى بخار ثمّ يتجمّع في السحب ويُساق بالرياح ويهطل مطراً لإرواء وجه الأرض، إلاّ ذلك الإله الحكيم القدير؟ نظام الكون: أورد العالِم ا. كرسي موريسون، رئيس أكاديميّة العلوم في نيويورك، طائفة من الأدلّة العلميّة تؤيّد الإيمان بوجود الله، منها: (أ)تدور الأرض حول محورها بسرعة ألف ميل في الساعة ولو أنّها دارت بسرعة ماية ميل في الساعة، لأصبح الليل والنهار عشرة أضعاف ممّا هما عليه. وتبعاً لذلك تحرق الحرارة النباتات في النهار، أو يقتل الجليد الكائنات الحيّة في الليل. (ب)تبلغ درجة حرارة سطح الشمس 12 ألف درجة بمقياس فهرنهايت، و الأرض قائمة في الوضع المناسب بالنسبة لهذه الحرارة، بحيث لو هبطت حرارة الشمس إلى النصف لتجمدنا. وعلى العكس لو تضاعفت لكنّا احترقنا. (ج)إنّ انحراف كرويّة الارض بمقدار 23 درجة أوجد لنا الفصول الأربعة. ولو لم تكن منحرفة هكذا لتحرّكت أبخرة المحيطات شمالاً وجنوباً وقذفتنا بكمّيّات لا تُقدَّر من الجليد. (د)لو أنّ القمر على بعد خمسين ألف ميل فقط لتعرّضنا للغرق مرّتَين كلّ يوم ولتفتّتت الجبال. (ه)لو أنّ قشرة الأرض أكثر سماكة ممّا هي بعشرة أقدام لانعدم الأوكسجين، وتبعاً لذلك تنعدم الحياة. (و)لو أنّ المحيطات أعمق ممّا هي الآن بأقدام قليلة لامتُصّ ثاني أوكسيد الكربون والأوكسجين، وماتت الحياة النباتيّة. (ز)لو أنّ الجوّ المحيط بالأرض أقلّ سمكاً ممّا هو لتعرّضت الأرض للحرائق بسبب النيازك التي ترتطم بسطحها كلّ يوم. وينهي العالم الكبير ملاحظاته بالقول إنّ هذه الحقائق والكثيرة من أمثالها تقنعني بأنّ الكوكب الذي نعيش عليه لم يأتِ بمحض المصادفة بل هو من صنع إله حكيم، قادر على كلّ شيء. شهادة بلوغ وسائل الحياة أغراضها : إنّ في وسائل الحياة لبلوغ أغراضها دليل واضح على حكمة شاملة عند موجدها. فمع أنّه لا يستطيع أحد أن يحلّلها، لأن لا وزن لها ولا قياس، فهي تمتلك القوّة على تحطيم الصخر وقهر الماء والهواء، وتسود على العناصر وتحلّلها أو تركّبها كما تشاء. وكذلك الحياة هي المثال البارع الذي يصوغ الكائنات الحيّة، والفنّان المبدع الذي يرسم كلّ ورقة في كلّ شجرة ويلوّن كلّ زهرة، وهي الموسيقيُّ الذوّاق الذي يعلّم الطير شدوها العذب الجميل، ويعلّم الحشرات أن تنادي بعضها بعضاً بالإيقاع البديع المفهوم في ما بينها، وهي الكيمائيّ الماهر الذي يعطي الأثمار والتوابل مذاقها المستساغ، ويعطّر الورود بالشذى الطيّب، الذي ينعش النفس ويحوّل حامض الكربونيك إلى سكّر. وهناك حقيقة ذكرها العلماء وهي أنّ نقطة البروتوبلازم، المادّة الحيّة التي تتكوّن منها جميع الكائنات الحيّة، والتي هي شفّافة متخثّرة لا تُرى بالعين المجرّدة، والتي تأخذ نشاطها من الشمس، تحمل في طيّاتها جرثومة الحياة. ولها القدرة على توزيع الحياة على الكائنات الحيّة كبيرها وصغيرها. وهي بقوّتها هذه أعظم من الحيوانات والنباتات حتّى من البشر أنفسهم، لأنّ كلّ حياة تنبثق منها. فالطبيعة أعجز من أن توجِد الحياة كما يدّعي البعض. وكذلك الصخور البركانيّة والمياه العذبة لا يمكن أن توجدها الطبيعة. فمن هو الذي أوجدها إذاً؟ إنّه ذلك الخالق العظيم ذو العقل العجيب »الذي كلّ شيء بحكمة صنع«! شهادة غرائز الحيوانات: إنّ حكمة الحيوان تتحدّث بصورة لا تجادَل عن الخالق الصالح، الذي زوّد هذه المخلوقات العجماء بالغرائز اللازمة لحياتها. خذ السالومون مثلاً، فهذا الحيوان المائيّ الصغير الذي يقضي أعواماً في البحار، يعود في آخر الأمر إلى المكان الذي وُلد فيه عند روافد الأنهار. فمن الذي أرجعه إلى مهده الأوّل؟ بل ما الذي يجعله يجاهد في سبيل الرجوع إلى ذلك المكان؟ إنّها الغريزة التي جهّزه الله بها! وكذلك طير »البارتروج« حينما تكتشف أنّ عدوّاً يريد أن يداهم صغارها تسقط أمامه إلى الأرض ثمّ تطير قليلاً على ارتفاع منخفض وتسقط ثانية متظاهرة بأنّها كسيرة الجناح، فإذا ما اقترب منها العدوّ تعيد الكرّة مبتعدة عن منطقة صغارها. أليست هذه غريزة تدلّ على حكمة الخالق الوهاب؟ ولعلّ أدقّ الألغاز وأصعبها عند الحنكليس، فهذه المخلوقات تخرج عند اكتمال نموّها من الأنهار والبحار لتتجمّع عند نقطة معيّنة عميقة بالقرب من برمودا، حيث تلد صغارها وتموت. والعجيب في أمرها أنّ أولادها التي وُلدت هناك ترحل كلّ مجموعة منها إلى المكان الذي جاء منه آباؤها. وهذه الحيوانات وأمثالها التي تفعل بدافع الغريزة أموراً يعجز عقلنا عن تحليلها، ألا توجّه أفكارنا إلى الخالق العظيم الذي زوّدها بالغريزة اللازمة لحياتها ولحفظ جنسها؟! شهادة عقل الإنسان: لقد زوّد الله الإنسان بعقل من دون سائر المخلوقات الحيّة، والثابت أنّه لم يوجد مخلوق حيّ غير الإنسان يستطيع أن يعدّ من واحد إلى عشرة، لذلك يجب أن نشكر الله لأنّه منحنا العقل، الذي بواسطته ندرك الأشياء ونحلّلها، وبه نستطيع أيضاً أن نفكّر بأنّ لنا إلهاً كلّيّ الحكمة والقدرة. و من البديهيّ أنّ قدرة عقل الإنسان على تصوّر ما هو غير منظور لدليل على وجود الله، لأنّ تصوّر الله ينبعث في الإنسان عن طريق مَلَكة إلهيّة كامنة فيه، لا يشاطره فيها مخلوق آخر على الأرض. وبما أنّ التصوّر عند الإنسان، يصبح في سموّه حقيقة روحيّة في البشر، صار ميسوراً للإنسان أن يرى من الكون وما فيه أنّ الله موجود وأنّه مالئ الوجود لكلّ زمان ومكان، وأنّه أقرب الكلّ إلى قلوبنا. هذه الحقيقة تكشّفت يوماً لداود الملك فسبّح الله قائلاً »اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللّهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلَاماً، وَلَيْلٌ إِلَى لَيْلٍ يُبْدِي عِلْماً« (مزمور 19:1،2). شهادة الوجدان: من المسلّم به أنّ الإنسان ينفرد عن سائر المخلوقات الحيّة بوجود الوجدان في نفسه، فهذا الشعور الكامن في أعماق الإنسان كان وما زال يتحدّث عن وجود الله. ومهما اختلف الناس في أحوالهم المعيشيّة والاجتماعيّة والفكريّة، فممّا لا شكّ فيه أنّ وجدانهم الدينيّ ملازم لهم ولا يمكن أن يزول. وقد قال أحدهم: قد تجد بلداً بدون عملات وبدون مدارس وبدون مسارح وبدون فنادق، ولكنّك لن تجد بلداً بدون هيكل للعبادة. هذه الحقيقة تذكّرنا بقول سليمان الحكيم »قَدْ رَأَيْتُ الشُّغْلَ الَّذِي أَعْطَاهُ اللّهُ بَنِي الْبَشَرِ لِيَشْتَغِلُوا بِهِ. صَنَعَ الْكُلَّ حَسَناً فِي وَقْتِهِ، وَأَيْضاً جَعَلَ الْأَبَدِيَّةَ فِي قَلْبِهِمِ، الَّتِي بِلَاهَا لَا يُدْرِكُ الْإِنْسَانُ الْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُهُ اللّهُ مِنَ الْبِدَايَةِ إِلَى النِّهَايَةِ« (جامعة 3:10 ، 11). شهادة الضمير: الضمير مستقلّ في حكمه، بحيث لا يخضع للعقل والإرادة. فإذا كان مستقيماً لا يرى الحرام حلالاً ولا الحلال حراماً، ولو أنّه حاول ذلك. مثله كالعقل الذي لا يقدر أن يرى الأسود أبيض ولو حاول ذلك. ويلزم عن حكم الضمير وجود شريعة أدبيّة، سلطانها من فوق، وتحكم بما هو واجب علينا. وممّا لا ريب فيه أنّ وجود الضمير والشريعة الأدبيّة يشعرنا بأنّنا مسؤولون عن حالنا وأعمالنا، لا لأنفسنا ولا للبشر فقط، بل أيضاً لكائن عظيم هو مصدر الشريعة ومنشئ الضمير فينا. هذا الكائن العظيم يسرّ بالصلاح ويكره الشرّ ويجازي كلّ واحد حسب استحقاقه. فيلزم ممّا تقدّم وجود مَن نحن مفتقرون إليه ومسؤولون له وهو الله. شهادة النظام الفلكيّ: البيّنات من النظام الفلكيّ على وجود خالق عظيم حكيم عاقل قدير كثيرة جدّاً يضيق مجال هذه الرسالة لذكرها. وإنّما أذكر أنّ المتأمّل في عظمة هذا الكون وأجرامه السماويّة التي لا تحصى، ودورانها في أفلاك نسق واحد قرناً بعد قرن وسرعتها، وما بين القوّتين الدافعة والجاذبة من توازن مدهش، لا يسعه إلاّ أن يهتف مع داود قائلاً »مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ. مَلْآنَةٌ الْأَرْضُ مِنْ غِنَاكَ« (مزمور 104:24). قال الرسول بولس لأهل لسترة »الْإِلهِ الْحَيِّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، الَّذِي فِي الْأَجْيَالِ الْمَاضِيَةِ تَرَكَ جَمِيعَ الْأُمَمِ يَسْلُكُونَ فِي طُرُقِهِمْ - مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلَا شَاهِدٍ - وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْراً، يُعْطِينَا مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَاراً وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً، وَيَمْلَأُ قُلُوبَنَا طَعَاماً وَسُرُوراً« (أعمال الرسل 14:15-17). شهادة اقتصاديّات الطبيعة: تلزمنا اقتصاديّات الطبيعة أن ندرك أنّ الحكمة الإلهيّة سبقت فرأت وأعدّت كلّ شيء في الطبيعة بتدبير حكيم. مثلاً أشجار الصبّير التي زُرعت في أستراليا لتحصين المزارع. فلمّا كانت أستراليا خالية يومئذٍ من الحشرات المضادّة لهذا النوع من الشجر أخذ يتكاثر بكيفيّة مذهلة، حتّى مساحات شاسعة من الحقول والمزارع. وإذ فشلت كلّ الوسائل للحدّ من انتشاره السريع، لم يجد العلماء بدّاً من الإتيان بالحشرات التي تعيش على الصبّير، وأطلقوها عليه. عندئذٍ توقّف عن اجتياح الأراضي وقُضى نهائيّاً على خطره. ومن هنا نرى أنّ هذا التعادل بين القوّة والمقاومة في عالم النبات لا يمكن أن يوجدها سوى خالق مدبّر هو الله. شهادة الكتاب المقدّس: قال الدكتور العلاّمة فاندايك » ليس في العالم كلّه كتاب كالكتاب المقدّس، يحفظ لنفسه هذه الحيويّة الغريبة والأثر المتزايد والإيحاء القويّ! فإنّه لم يعطِ الممالك فقط مُثلاً جديدة للمدنيّة، ومبادئ سامية للأخلاق، وأفكاراً جديدة عن الفضائل وآمال السعادة، بل أيضاً أعطى دوافع وصوراً للخيال الإنسانيّ، ليبدع في الآداب والفنون. الواقع أنّه أوحى روائع الفنّ لميشيل أنجيلو ورفائيل وموريلا وليوناردو دافينشي وغيرهم، وألهم روائع الألحان لباخ وبيتهوفن وهاندل، وروائع الأدب لدانتي ومارتن لوثر وفكتور هيجو وجبران خليل جبران«. وهذا الكتاب العزيز يحتوي بين دفّتَيه الإعلانات السماويّة والتعاليم الإلهيّة التي تشكّل أدلّة قاطعة على وجود الله. ومن لا يقف مندهشاً وهو يقرأ الأحداث التاريخيّة التي ورد ذكرها في كتاب الله، وكانت تتمّة لنبوّات سابقة أعلن عنها رجال الله قبل حدوثها بعدّة قرون! وقد عرفوها من إعلانات الله التي صارت إليهم. و لو نظرنا إلى كياننا الروحيّ وبحثنا عن احتياجاته لوجدنا أنّ محتويات الكتاب المقدّس على غاية الموافقة لسدّها، فإنّ فيه إعلان الخالق بأنّه ليس فقط حاكماً عادلاً، بل هو لنا أيضاً أب رؤوف يحفظنا ويعتني بنا. وأنّه لأجل خيرنا وضع في الكتاب الإلهيّ الوصايا والنواهي الموافقة لأحوالنا، ولامتناعنا عن كلّ ما هو مضرّ لنا ومهين لشأننا وشأن خالقنا العظيم، وأنّ وصاياه المقدّسة تؤول إلى خيرنا ولا سيما سعادتنا. وكذلك في الكتاب المقدّس، التعليم والارشاد وترقية الأفكار وتربية الآداب وإعدادنا للحياة الأبديّة. لذلك حقَّ أن نعتقد بأنّ الكتاب المقدّس هو الكتاب الوحيد الذي يرشدنا إلى الحقّ، وبواسطة إرشاده ننال السعادة في هذا العالم وفي العالم الآتي. هذا السفر العظيم ناشئ عن عقل سامٍ وكائن عالم بكلّ شيء وقدّوس وعادل هو الله العظيم الذي ألهم رجاله القدّيسين، فكتبوا لنا هذا السفر الجليل. شهادة التجسّد: إن كان الله قد ظهر في القديم بهيئة منظورة لأشخاص متعدّدين، كهاجر وإبراهيم ويعقوب وموسى ومنوح وغيرهم فإنّ التجسّد هو سيّد الأدلّة، إذ به ظهر الله في المسيح ظهوراً واضحاً وملموساً وفقاً لقول الإنجيل »فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللّهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللّهَ... وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الْآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً« (الإنجيل بحسب يوحنا 1:1 ، 14). وإذا تأمّلنا في شخص المسيح من خلال الإنجيل، نرى أنّه لم يكن دعيّاً ولا مختلساً حين قال »أَنَا وَالْآبُ وَاحِدٌ« (الإنجيل بحسب يوحنّا 10:30). »اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْآبَ« (الإنجيل بحسب يوحنّا 14:9). »أَنِّي فِي الْآبِ وَالْآبَ فِيَّ« (الإنجيل بحسب يوحنّا 14:11). لأنّ المسيح بأقواله وأعماله العجيبة برهن أنّه فعلاً »اللّهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ« (1 تيموثاوس 3:16). وكذلك في الإنجيل شهادات مسجّلة للذين عاشوا معه، وسمعوا تعليمه وشاهدوا عجائبه ورأوا مجده، فقد قال يوحنّا »اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا« (1 يوحنّا 1:1 ، 2). »وَنَحْنُ فِي الْحَقِّ فِي ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. هذَا هُوَ الْإِلهُ الْحَقُّ وَالْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ« (1 يوحنّا 5:20). وقال بطرس »لِأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ« (2 بطرس 1:16). وقال بولس »الَّذِي لَنَا فِيهِ الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا، الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللّهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ. فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الْأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لَا يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلَاطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. اَلَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ« (كولوسي 1: 14-17). فهذه الشهادات وأمثالها كثير ممّا لا يتحدّث عن لاهوت المسيح وحسب، بل عن وجود الله، الذي أظهر هذا التجسّد بأفصح وأجمل أسلوب. شهادة الاختبار الشخصيّ: هذا هو أصدق دليل على وجود الله، فنحن لا نستطيع أن ننكر هذه الشهادة التي تصدر من أعماق القلب. وكما قال ذلك الشابّ الذي وُلد أعمى، حين شفاه يسوع »أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالْآنَ أُبْصِرُ« (يوحنا 9:25). هكذا يقول كلّ إنسان وجد الله وعرفه كحقيقة قويّة دافعة في اختباره الذاتيّ. والتاريخ حمل إلينا شهادة الكثيرين في كلّ جيل وعصر ممّن عاشوا مع الله واختبروا اختبارات حيّة قويّة ملموسة، لا يمكن أن توصف بأنّها تخيّلات أو أضغاث أحلام. وإذا كان من الحماقة أن ينكر أحد شهادة المختبرين في شؤون الحياة لأنّه لم يختبرها شخصيّاً، فكم بالحريّ تكون الحماقة أشدّ إن أهملنا شهادة الملايين الذين عاشوا قبلنا أو يعيشون معنا والذين يشهدون كلّ يوم عن عجائب أجراها الله معهم، وكانت سبباً في تغيير مجرى حياتهم، وذلك نتيجة لإيمانهم وثقتهم في الله. كان العالِم الشهير فراداي لا يؤمن بشيء قبل درسه وفحصه بدقّة. ولكن حين سُئل وهو على فراش الموت إن كان يؤمن بالله والأبديّة والخلود، أجاب وقد تألّقت على وجهه ابتسامة مشرقة »لستُ نائماً على وسادة تخمينات«. وفراداي ليس إلاّ واحداً من أعلام الفكر الذين آمنوا بالله واختبروا عنايته وعاشوا معه ورقدوا في حضن محبّته. شهادة التاريخ: قال كرمويل »ليس التاريخ إلاّ ظهور الله في قيام وسقوط الممالك«. الواقع أنّه لو أحسن الناس قراءة التاريخ وتأمّلوا في أحداثه لأدركوا أنّ الله فيها. وأنّ الشرّ قد يكسب معاركه الأولى إلاّ أنّه يخسر الحرب في النهاية. حين تنظر ببصيرة المدقّق إلى الحضارات الغابرة والمدنيّات السالفة والأمم الماضية وهي ترتفع حيناً وتنخفض حيناً آخر، لا بدّ أن تهتف مع دانيال النبيّ »لِيَكُنِ اسْمُ اللّهِ مُبَارَكاً مِنَ الْأَزَلِ وَإِلَى الْأَبَدِ، لِأَنَّ لَهُ الْحِكْمَةَ وَالْجَبَرُوتَ. وَهُوَ يُغَيِّرُ الْأَوْقَاتَ وَالْأَزْمِنَةَ. يَعْزِلُ مُلُوكاً وَيُنَصِّبُ مُلُوكاً. يُعْطِي الْحُكَمَاءَ حِكْمَةً، وَيُعَلِّمُ الْعَارِفِينَ فَهْماً« (دانيال 2:20 ، 21). أجل! إنّ كلّ من يلاحظ تاريخ الجنس البشريّ يرى فيه ما يدعو إلى الاعتقاد بوجود كائن عظيم ذي سلطان مطلق، يدير كلّ شؤون البشر وأعمالهم على ما يوافق مشيئته ويؤول إلى إتمام مقاصده الفائقة، وذلك لما يُرى فيه من حوادث وعِبَر واختراعات وانقلابات أدّت أخيراً إلى تقدّم البشر وارتقائهم، من جيل إلى جيل في كل معارج المعيشة والتمدّن والمعرفة والبنيان الدينيّ.. ألا ترى في ذلك دليلاً قاطعاً على وجود مرشد حكيم، يهدي البشر إلى سبل البرّ والفلاح بوسائط خاصّة سبق فعيّنها؟ شهادة العقل: آمن جمهور من أهل العلم والفلسفة الأفاضل الذين نبغوا في هذا العصر وما قبله من العصور الخالية، بوجود الله من خلال الأدلّة التي وردت آنفاً. صحيح أنّ هذه الأدلّة ليست من الموادّ التي يمكن أن توزن بموازين البشر أو أن تُفحص بالامتحانات المادّيّة المنظورة، بل هي أدلّة معقولة جدّاً، لأنّها بُنيت على حقائق ظاهرة لعين الإنسان وعقله، نظير ما هو مدرك بالحواسّ الخمس. فإنّ العقل السليم متى نظر إلى الكون وميّز ما فيه من علامات النظام والقصد التي لا تُحصى، يحكم طبعاً بوجود علّة له، وأنّ تلك العلّة عاقلة وحكيمة وقادرة على إيجاد ما يُرى فيه من الغرائب والبدائع. لأنّ نسبة الكون وكلّ غرائبه وما فيه من كائنات حيّة إلى الطبيعة بدون خالق، مخالف للعقل السليم، ولشهادة الطبيعة نفسها التي يصرخ لسان حالها بأنّها مصنوعة لا صانعة. وَأنّ ما حوته من العناصر والحياة وغرائب التركيب والنظام وخواصّ النموّ والتقدّم التدريجيّ إنّما هو صادر عن قوّة خارجيّة ومستقلّة عنها. ولا ريب في أنّ هذه الأدلّة تجد قبولاً عند كلّ المؤمنين، وأنّ كلّ واحد منهم متيقّن ومقتنع ومتمتّع بما له من الأدلّة اليقينيّة على وجود الله. أوّلاً من الكون وما فيه من علامات القصد والقدرة والحكمة. وثانياً من بنية الإنسان الأدبيّة والروحيّة ومن شهادة الضمير. وثالثاً من الكتاب المقدّس وإعلان اللاهوت في شخص يسوع المسيح المتجسّد. شهادة العلماء: لقد جاء على الناس حين من الدهر ظنّ فيه البعض أنّ تقدّم العلم والاكتشاف سيكسر شوكة الدين، وبالتالي سيهزّ الإيمان بوجود الله. ولكنّ رياح العلم الصحيح جرت بما لا تشتهي سفن الإلحاد، فالعلم النزيه أتى بتأييدات وشهادات جديدة في صالح الإيمان »المسلّم مرّة للقدّيسين«. وإليك طائفة من أقوال العلماء التي تؤيّد الإيمان: (ا)قال الدكتور كارل يونج، وهو أعظم الأطبّاء النفسيّين في كتابه (الرجل العصريّ يبحث عن روح): »استشارني خلال الأعوام الثلاثين الماضية أشخاص من مختلف شعوب العالم المتحضّرة، وعالجْتُ مئات المرضى، فلم أجد مشكلة من مشكلات أولئك الذين بلغوا منتصف العمر إلاّ وكان سببها ضياع الإيمان والخروج على تعاليم الدين. ويصحّ القول بأنّ كلّ واحد من هؤلاء المرضى وقع فريسة المرض لأنّه حُرم سكينة النفس التي يوفّرها الإيمان بالله. ولم يبرأ واحد منهم إلاّ حين استعاد إيمانه واستعان بوصايا الله ونواهيه على مواجهة الحياة«. (ب)قال العالم ديل كارنيجي، مدير معهد كارنيجي للعلاقات الإنسانيّة في كتابه (دع القلق وابدأ الحياة) » الإيمان بالله يمدّني بالثقة والأمل والشجاعة، ويُقصي عنّي المخاوف والاكتئاب والقلق ويزّودني بأهداف وغايات في الحياة، ويفسح أمامي آفاق السعادة، ويعينني على إنشاء واحة خصبة وسط صحراء حياتي«. (ج)قال الطبيب النفسانيّ المشهور الدكتور هنري لنك في كتابه (العودة إلى الإيمان): »وضعت جمعيّة مساعدة العمّال في نيويورك 200 ألف دولاراً تحت تصرّفي لمراقبة الدراسات الإحصائيّة المستخلصة لعشرة آلاف نفس ممّن أجري عليهم 73226 اختباراً نفسيّاً. وسجّلتُ تقريراً شخصيّاً شاملاً لكلّ فرد منهم. وفي هذا الوقت بالذات بدأ إدراكي للعقيدة الدينيّة بالنسبة لحياة الإنسان، ووجدت من نفسي استعداداً لمضاهاة تجاربي السابقة على مرضاي بالنتائج الباهرة التي أتت بها تلك الاختبارات العظيمة التي تولّيت الاشراف عليها. وقد استخلصنا من هذه الاختبارات نتيجة هامّة، هي أنّ كلّ من يؤمن بالله يتمتّع بشخصيّة أقوى وأفضل ممّن لا يؤمن بالله ولا يزاول أيّة عبادة. وأنا مثلاً أؤمن بصدق رواية مولد الربّ يسوع، ولكن ليس تصديقي هذا نتيجةً لمقارنة عقيدتي بغيرها من العقائد، ولكنّه إيمان خالص جاء في أعقاب اهتدائي إلى المزايا الصحيحة في ديني، الذي سبق أن نبذته لمّا كنت عاجزاً عن اكتشاف ما فيه من الخير«. (د)قال الدكتور النفسيّ العلاّمة ا. بريل » أحدث العلوم، وهو الطبّ النفسيّ، يبشّر بمبادئ الدين. أطبّاء النفس يدركون أنّ الإيمان بالله والصلاة كفيلان بأن يقهرا القلق والمخاوف والتوتّر العصبيّ، وبأن يشفيا أكثر من نِصف الأمراض التي نشكو منها. وقد تأكّد لديّ أنّ المؤمن حقّاً لا يعاني قطّ مرضاً نفسيّاً«. (ه)قال الفيلسوف فرانسيس بيكون: » قليل من الفلسفة يجنح بالعقل إلى الإلحاد، ولكنّ التعمّق في الفلسفة خليق بأن يعود بالمرء إلى الإيمان بالله«. (و)قال الدكتور شارل مالك في كتابه (لماذا أؤمن بيسوع المسيح؟) »في العهد القديم، الله يخلق ويختار ويعدّ ويرشد ويجرّب ويمتحن، وبالتدريج يعلن عن نفسه وإرادته. وإذ تصغي إصغاءً تامّاً لهذا الإعلان، يتّضح لك مع الزمن أنّ ما يعلن عنه من ذات وإرادة هو بالفعل موجود كما هو معلن عنه. هذه الطبيعة الموجودة الثابتة الأكيدة هي الله الخالق«. (ز)سُئل العالِم الفلكيّ الشهير لابلاس »لماذا لم يذكر الله في أبحاثه الفلكيّة؟« فأجاب »لأنّني لم أجد حاجة إلى ذلك، لأنّ الله خلف كلّ بحث تناولته أو أيّ رأي أبديته. الله خلف كلّ ظاهرة في الكون والطبيعة والحياة«. (ح)قال جونثان إدوردس الذي حُسب أعظم عقل بعد أرسطو »لقد بدا جلال الله البارع في كلّ شيء: في الشمس والقمر والنجوم وفي الطبيعة كلّها. لقد خلقها ليُظهر بواسطتها بعض أمجاده وعظمته. فحين نتأمّل في الروض النضير وفي النسيم العليل، نرى إحساناته الحلوة وجوده الرقيق. وحين نرى الزهرة الفوّاحة، أو الزنبقة العطرة، نرى محبّته وطهارته ونقاوته. وماذا أقول عن الأفنان الخضراء التي هي انبثاق فرحه العظيم؟! وعن الأنهار البلّوريّة المتدفّقة التي هي وقع أقدامه؟! وهل الشروق الورديّ، والشمس اللامعة، والغروب الذهبيّ وقوس قزح، إلا ظلال آتية من مجده؟«. (ط)قال عمّانوئيل كنْت: »من غير الممكن أن نتأمّل في صنع هذا العالم دون أن نرى يد الله الطاهرة البارزة في كمال تناسقه. و حين يفكّر العقل ويؤخذ بما فيه من روعة وجمال لا يملك إلا أن يشعر بالسخط على الجهالة التي جَسُرت أن تنسب كلّ ما في الكون إلى محض المصادفة، لأنّ روائع هذا الكون هي وليدة حكمة سامية عجيبة وضعت فكرته«. نعم، إنّ هذا الانسجام المتبادل بين الكائنات يدلّ على وجود خالق ذي حكمة فائقة استمدّت الطبيعة وجودها وتناسقها منه، وليس ثمّة ما يدعو إلى الظنّ أنّ نشاط الطبيعة لا يتّفق مع وجود إله قادر على كلّ شيء. (ي)قال اللورد كالفن الذي يُعدّ من أبرع علماء زمنه »إنّ العالم ليؤكّد جازماً وجود الخالق، لأنّنا لا نحيا ونوجد بالمادّة الميّتة بل بالقوّة الخالقة التي توجّه حياتنا والتي يفرض العلم علينا قبولها كموضوع لإيماننا. ولا ريب في أنّنا نستطيع أن نعرف الله عن طريق أعماله. والعلم يلزمنا أن نؤمن بيقين بوجود قوّة خالقة موجِّهة«. (ك)عرف الأدميرال بيرد معنى ربط النفس بالقوّ ة العظمى المهيمنة على الكون. ومعرفته تلك هي التي مكّنته من الخروج من المحنة القاسية التي خاضها والتي روى أحداثها في كتابه (وحيد). لقد قضى خمسة أشهر في كوخ مطمور بالثلج في المنطقة المتجمّدة الجنوبيّة. كان العون الذي ينشده على بعد 123 ميلاً من مكانه. ولن يتسنّى لأحد أن يصل إليه قبل مضيّ أشهر عديدة. كانت العواصف الثلجيّة الهوجاء تزأر في الخارج، والظلام يضرب حول المكان نطاقاً موحشاً. وقد شعر بأنّه يتسمّم تدريجيّاً بغاز أوّل أوكسيد الكربون المتصاعد من موقده. فحاول إصلاح الموقد وجهاز التهوية ولكنّه لم يستطع. وأصابه من الوهن ما أعجزه عن الحركة وتناول الطعام. وطالما استشعر بأنّه لن يأتي عليه اليوم التالي إلاّ وهو في عداد الأموات. ولكن ما الذي أنقذ حياته؟ يخبرنا هو نفسه أنّه في غمرة اليأس الذي غزا قلبه، تناول مذكّراته، وحاول أن يدوّن فلسفته في الحياة. فكتب »ليس الجنس البشريّ وحيداً في هذا الكون« وكان وهو يكتب تلك العبارة يفكّر في النجوم المنتشرة في السماء، وفي الكواكب والأَجْرام الدوّارة في أفلاكها بدقّة ونظام، وفي الشمس التي لا تحرم شبراً من الأرض من نورها ودفئها، والتي لن تلبث أن تشرق على تلك البقعة النائية الموحشة في أقصى جنوب الأرض. وذلك الأحساس بأنّه ليس وحيداً أنقذ حياته. وإلهه الذي لن يشكّ مطلقاً بعنايته أرسل أشعّة شمسه عليه على تلك البقعة، ممّا أتاح لفرقة الإنقاذ الوصول إليه قبل فوات الأوان. (ل)سُئل العالم وليم جيمس » لماذا يجب الإيمان بالله والاعتماد عليه وطلب الأمان والسلام والأطمئنان؟«، فقال »إنّ أمواج المحيط الصاخبة المتقلّبة لا تعكّر قطّ هدوء القاع العميق ولا تقلق أمنه. وكذلك المرء إذا عمّق إيمانه بالله خليق بألاّ تعكّر طمأنينته التقلّبات السطحيّة الموقّتة. فالرجل المؤمن حقّاً، عصِيٌ على القلق، محتفظ دائماً باتّزانه، مستعدّ دائماً لمواجهة ما عسى أن تأتي به ظروف الأيّام. فلماذا لا نتّجه إلى الله إذا استشعرنا القلق؟ ولماذا لا نؤمن بالله ونحن في أشدّ الحاجة إلى هذا الإيمان؟ ولماذا لا نربط أنفسنا بالقوّة العظمى المهيمنة على هذا الكون؟ وخلاصة القول في وجود الله، هي أنّنا نجد أنفسنا في كون عظيم جدّاً، نحن جزء منه. وعقولنا تسأل دائماً: ما هو مصدر هذا الكون؟ وما هو القصد منه؟ وكيف يُحفَظ؟ ومن أين أتينا؟ وإلى أين نمضي؟ ولا يمكن الجواب على هذه الأسئلة بدون التسليم بوجود كائن سرمديّ قادر على كلّ شيء، علّة العلل، واجب الوجود، عاقل، حكيم، ذو إرادة وصفات أدبيّة، وإنّنا لنجد الأجوبة فعلاً في قول الكتاب المقدّس »فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. وَكَانَتِ الْأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللّهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ« (تكوبن 1:1 و2). (اقرأ سفر التكوين 1:3-24) |
||||
27 - 08 - 2014, 03:20 PM | رقم المشاركة : ( 5540 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
المعرفة الروحية القديس سمعان اللاهوتي الحديث تعريب الأب أنطوان ملكي المعرفة الروحية هي مثل بيت مبني في وسط المعرفة الوثنية وفي وسطه صندوق يحتوي كنوز الكتاب المقدس التي لا تُقدّر. لا يكفي دخول هذا المنزل لرؤية هذه الثروات إنما ينبغي فتح الصندوق، وهذا ليس بالحكمة الإنسانية كي تبقى ثروات الروح الموضوعة فيه مجهولة للأرضيين. إن مَن يحفظ الكتابات جميعاً عن ظهر قلب كما يحفظ مزموراً واحداً، في حين يجهل عطايا الروح القدس المخبأة فيها، هو مثل مَن يحمل الصندوق على كتفيه دون أن يعرف ما في داخله. إذا ما رأيت صندوقاً صغيراً مغلقاً بإحكام قد تحزر أن فيه كنزاً من وزنه ومظهره وربما مما سمعت عنه، فلهذا تلتقطه وتهرب به. ولكن ما المنفعة إذا حملتَه إلى الأبد مغلقاً دون أن تفتحه وترى الثروة التي يحتويها: تلألؤ الأحجار الثمينة، بريق المجوهرات ولمعان الذهب؟ ماذا تنتفع إن لم تكن قادراً على أخذ بعض منه لشراء طعام أو كساء؟ إذا حملت هذا الصندوق مغلقاً فلن تربح شيئا بالرغم من امتلائه بالثروات وستبقى معرضاً للجوع والعطش والعري. انتبه لي يا أخي، ولنطبّق هذا على الأمور الروحية. لنتصور أن هذا الصندوق هو إنجيل ربنا يسوع المسيح وغيره من الكتابات المقدسة. الحياة الأبدية والبركات التي لا تُوصف موجودة في هذا الكتاب مختوماً عليها بطريقة لا تُرى. يقول السيد: ?فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية?. الرجل الذي يحمل الصندوق هو مَن حَفِظ الكتاب عن ظهر قلب وردده دائماً في فمه حافظاً إياه في ذاكرته كما في صندوق حجارة كريمة. ولأن كلام المسيح هو النور والحياة كما يقول هو ?الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة?، هذا الصندوق يحتوي الفضائل والوصايا كالجواهر. من الوصايا تفيض الفضائل ومنها إظهار الأسرار المخبأة في الحروف. من إتمام الوصايا يأتي تطبيق الفضائل، وبتطبيق الفضائل إتمام الوصايا. إذاً بهذه فُتح لنا باب المعرفة. والأصح انه ليس بهذه فُتح لنا الباب إنما بالقائل : ?إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي.. وأظهر له ذاتي?. وعندما ?يسكن الله فينا ويسكن بيننا? يظهِر لنا نفسه ونعاين بوعي محتوى الصندوق والكنوز المخبأة في الكتاب المقدس. لا نخدعنّ أنفسنا، ليس من طريقة أخرى لفتح صندوق المعرفة والتمتع بالأشياء الحسنة المحتواة فيه والمشاركة فيها ومعاينتها. ولكن ما هي هذه الأشياء الحسنة التي أتكلم عنها؟ إنها المحبة اللامتناهية نحو الله والقريب، وازدراء كل المرئيات، وكبح الجسد وكل أعضائنا التي على الأرض بما فيها الشهوة الرديئة. وكما الرجل الميت ليس له فكر يجب أن نكون دائماً بلا أفكار شريرة وشهوات وأحاسيس هوى. يجب أن لا نحس طغيان واضطهاد الشر بل أن نعي فقط وصايا مخلصنا المسيح. يجب أن نفتكر فقط بخلود المجد الإلهي وعدم انتهائه، وبمملكة السماء وبتبني الله لنا من خلال الروح القدس. نحن أصبحنا أبناءً بالتبني والنعمة نحن ?ورثة الله ووارثون مع المسيح? ونحن نكتسب فكر المسيح ومن خلاله نرى الله والمسيح نفسه ساكناً فينا وسائراً معنا بطريقة ممكنة المعرفة. كل هذه الأشياء ممنوحة للذين يسمعون وصايا الله ويعملون بها. انهم يتمتعون لا نهائياً بهذه الأشياء الثمينة التي فوق الوصف من خلال فتح الصندوق الذي تكلمنا عنه، أي رفع الغطاء عن أعين فكرنا ومعاينة الأشياء المخبأة في الكتاب المقدس. أما الآخرون الذين تنقصهم معرفة واختبار الأشياء التي تكلمنا عنها فلن يتذوقوا حلاوة ما في الكتاب المقدس ولا الحياة الأبدية الصادرة منه لأنهم يتكلون فقط على دراسة الكتاب. إضافة إلى ذلك، هذه الدراسة سوف تدينهم عند انتقالهم من هذه الأرض أكثر من الذين لم يسمعوا بالكتاب المقدس مطلقاً. بعض أولئك يخطئ بجهله ويحرّف الكتاب المقدس عندما يفسره بحسب شهواته. هم يريدون أن يمدحوا أنفسهم كأنهم قادرون على الخلاص بدون التقيد الصحيح بوصايا المسيح وهكذا ينكرون قوة الكتاب المقدس. |
||||